يا بلوجر ربنا يهديك لدين الاسلام الرافض قطعا لسلوكك بالتعدي علي المدونين وسيدخل نار جهنم ان لم تتب

يا بلوجر متي يهدك ربنا وتتوب عن تدخلك السافر في روابط المدونات وتحويلها الي صفحة المشاركات في كل مدوناتك –اعلم ان جوجل لن يحاسبك عن هذه التجاوزات الخطيرة للمصالح المشتركة بينكما لكن لا اعلم اين غابت عنكم  ضمائركم ونخوات المروءة والشهامة والحفاظ علي الامانة عندكم فهذا الرابط موضوع في كلمة   .Bloggerدرافتك المشؤوم الملوث{المظهر: Awesome Inc.. يتم التشغيل بواسطة Blogger. } اوف لك ولفعلك

4 دقائق مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هود

دقائق4 مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هو

الأربعاء، 26 أكتوبر 2022

ج3وج4 المغازي للواقدي

 

ج3وج4 المغازي للواقدي

ج3.كتاب : المغازي الواقدي 
قال ابن أنيس: وكنت رجلاً أعشى لا أبصر بالليل إلا بصراً ضعيفاً. قال: فتأملته كأنه قمر. قال: فأتكىء بسيفي على بطنه حتى سمعت خشه في الفراش وعرفت أنه قد قضى. قال: وجعل القوم يضربونه جميعاً، ثم نزلنا ونسى أبو قتادة قوسه فذكرها بعد ما نزل، فقال أصحابه دع القوس. فأبى فرجع فأخذ قوسه، وانفكت رجله فاحتملوه بينهم، فصاحت امرأته، فتصايح أهل الدار بعد ما قتل. فلم يفتح أهل البيوت عن أنفسهم ليلاً طويلاً، واختبأ القوم في بعض مناهر خيبر. وأقبلت اليهود وأقبل الحارث أبو زينب، فخرجت إليه امرأته فقالت: خرج القوم الآن. فخرج الحارث في ثلاثة آلاف في آثارنا، يطلبوننا بالنيران في شعل السعف، ولربما وطئوا في النهر، فنحن في بطنه وهم على ظهره فلا يرونا، فلما أوعبوا في الطلب فلم يروا شيئاً رجعوا إلى امرأته فقالوا لها: هل تعرفين منهم أحداً؟ قالت: سمعت منهم كلام عبد الله بن عتيك، فإن كان في بلادنا هذه فهو معهم. فكروا الطلب الثانية، وقال القوم فيما بينهم: لو أن بعضنا أتاهم فنظر هل مات الرجل أم لا. فخرج الأسود بن خزاعي حتى دخل مع القوم وتشبه بهم، فجعل في يده شعلةً كشعلهم حتى كر القوم الثانية إلى القصر وكر معهم، ويجد الدار قد شحنت. قال: فأقبلوا جميعاً ينظرون إلى أبي رافع ما فعل. قال: فأقبلت امرأته معها شعلةٌ من نار ثم أحنت عليه تنظر أحي أم ميت هو، فقالت: فاظ وإله موسى! قال: ثم كرهت أن أرجع إلا بأمر بين. قال: فدخلت الثانية معهم، فإذا الرجل لا يتحرك منه عرق. قال: فخرجت اليهود في صيحةٍ واحدة. قال: وأخذوا في جهازه يدفنونه. قال: وخرجت معهم وقد أبطأت على أصحابي بعض الإبطاء. قال: فانحدرت عليهم في النهر فخبرتهم، فمكثنا في مكاننا بعض الإبطاء. قال: فانحدرت عليهم في النهر فخبرتهم، فمكثنا في مكاننا يومين حتى سكن عنا الطلب، ثم خرجنا مقبلين إلى المدينة، كلنا يدعي قتله، فقدمنا على النبي صلى الله عليه وسلّم وهوعلى المنبر، فلما رآنا قال: أفلحت الوجوه! فقلنا أفلح وجهك يا رسول الله! قال: أقتلتموه؟ قلنا: نعم، وكلنا يدعي قتله. قال: عجلوا علي بأسيافكم. فأتينا بأسيافنا ثم قال: هذا قتله، هذا أثر الطعام في سيف عبد الله بن أنيس. قال: وكان ابن أبي الحقيق قد أجلب في غطفان ومن حوله من مشركي العرب، وجعل لهم الجعل العظيم لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلّم إليه هؤلاء النفر.
فحدثني أيوب بن النعمان قال: حدثني خارجة بن عبد الله قال: لما انتهوا إلى أبي رافع تشاجروا في قتله. قال: فاستهموا عليه فخرح سهم عبد الله بن أنيس. وكان رجلاً أعشى فقال لأصحابه: أين موضعه؟ قالوا: ترى بياضة كأنه قمر. قال: قد رأيت. قال: وأقبل عبدالله بن أنيس، وقام النفر مع المرأة يفرقون أن تصيح، قد شهروا سيوفهم عليها، ودخل عبد الله بن أنيس، فضرب بالسيف، فرجع السيف عليه لقصر السمك فاتكأ عليه وهو ممتلىءٌ خمراً حتى سمع خش السيف وهو في الفراش.
ويقال كانت السرية في شهر رمضان سنة ست.
غزوة ذات الرقاعفإنما سميت ذات الرقاع لأنه جبلٌ فيه بقع حمر وسواد وبياض خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم ليلة السبت لعشرٍ خلون من المحرم على رأس سبعة وأربعين شهراً. وقدم صراراً يوم الأحد لخمس بقين من المحرم وغاب خمس عشرة.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن جابر، وعن عبد الكريم بن أبي حفصة، عن جابر، وعبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله ابن أبي بكر، ومالك بن أنس، وعبدالله بن عمر، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبدالله، وقد زاد بعضهم على بعضٍ في الحديث، وغيرهم قد حدثني به، قالوا: قدم قادم بجلبٍ له فاشترى بسوق النبط، وقالوا: من أين جلبت جلبك؟ قال: جئت من نجد وقد رأيت أنماراً وثعلبة قد جمعوا لكم جموعاً، وأراكم هادين عنهم. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلّم قوله، فخرج في اربعمائة من أصحابه، وقال قائل: كانوا سبعمائة أو ثمانمائة. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم من المدينة، حتى سلك على المضيق ثم أفضى إلى وادي الشقرة فأقام به يوماً، وبث السرايا فرجعوا إليه مع الليل، وخبروه أنهم لم يروا أحداً وقد وطئوا آثاراً حديثة. ثم سار رسول الله صلى الله عليه وسلّم في اصحابه حتى أتى محالهم، فيجدون المحال ليس فيها أحد، وقد ذهبت الأعراب إلى رءوس الجبال وهم مطلون على النبي صلى الله عليه وسلّم. وقد خاف الناس بعضهم بعضاً، والمشركون منهم قريب وخاف المسلمون أن يغيروا عليهم وهم غارون. وخافت الأعراب ألا يبرح رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى يستأصلهم.
وفيها صلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم صلاة الخوف. فحدثني ربيعة ابن عثمان، عن أبي نعيم، عن جابر بن عبد الله، قال: فكان أول ما صلى يومئذٍ صلاة الخوف، وخاف أن يغيروا عليه وهم في الصلاة وهم صفوفٌ.
فحدثني عبد الله بن عثمان، عن أخيه، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه، قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم يومئذٍ صلاة الخوف، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلّم القبلة وطائفةٌ خلفه وطائفةٌ مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعةً وسجدتين، ثم ثتب قائماً فصلوا خلفه ركعةً وسجدتين، ثم سلموا، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم ركعةً وسجدتين، والطائفة الأولى مقبلة على العدو، فلما صلى بهم ركعةً ثبت جالساً حتى أتموا لأنفسهم ركعةً وسجدتين ثم سلم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أصاب في محالهم نسوة، وكان في السبى جاريةٌ وضيئةٌ كان زوجها يحبها، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلّم راجعاً إلى المدينة حلف زوجها ليطلبن محمداً، ولا يرجع إلى قومه حتى يصيب محمداً، أو يهريق فيهم دماً، أو تتخلص صاحبته. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في مسيره عشيةً ذات ريح، فنزل في شعبس استقبله فقال: من رجلٌ يكلونا الليلة؟ فقام رجلان، عمار بن ياسر وعباد بن بشر، فقالا: نحن يا رسول الله نكلؤك. وجعلت الريح لا تسكن، وجلس الرجلان على فم الشعب، فقال أحدهما لصاحبه: أي الليل أحب إليك، أن أكفيك أوله فتكفيني آخره؟ قال: اكفني أوله. فنام عمار بن ياسر، وقام عباد بن بشر يصلي، وأقبل عدو الله يطلب غرةً وقد سكنت الريح، فلما رأى سوادة من قريبٍ قال: يعلم الله إن هذا لربيئة القوم! ففوق له سهماً فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه بآخر فوضعه فيه فانتزعه فوضعه، ثم رماه الثالث فوضعه فيه، فلما غلب عليه الدم ركع الأعرابي أن عماراً قد قام علم أنهم قد نذروا به. فقال عمار: أي أخي، ما منعك أن توقظني به في أول سهم رمى به؟ قال: كنت في سورة أقرأها وهي سورة الكهف، فكرهت أن أقطعها حتى أفرغ منها، ولولا أني خشيت أن اضيع ثغراً أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما انصرفت ولو أتى على نفسي. ويقال: الأنصاري عمارة بن حزم. قال ابن واقد: وأثبتهما عندنا عمار بن ياسر.
فكان جابر يقول: إنا لمع النبي صلى الله عليه وسلّم إذ جاء رجلٌ من أصحابه بفرخ طائرٍ ورسول الله صلى الله عليه وسلّم ينظر إليه، فأقبل أبواه أو أحدهما حتى طرح نفسه في يدي الذي أخذ فرخه. فرأيت الناس عجبوا من ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتعجبون من هذا الطائر؟ أخذتم فرخه فطرح نفسه رحمةً لفرخه! والله لربكم أرحم بكم من هذا الطائر بفرخه! قال الواقدي: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يصلي على راحلته نحو المشرق في غزوته.

قال جابر: فإنا لفي منصرفنا أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأنا تحت ظل شجرة فقلت: هلم إلى الظل يا رسول الله. فدنا إلى الظل فاستظل، فذهبت لأقرب إليه شيئاً، فما وجدت إلا جرواً من قثاء في أسفل الغرارة. قال: فكسرته كسراً ثم قربته إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: من أين لكم هذا؟ فقلنا: شيء فضل من زاد المدينة. فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وقد جهرنا صاحباً لنا، يرعى ظهرنا وعليه ثوبٌ متخرق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أما له غير هذا؟ فقلنا: بلى يا رسول الله، إن له ثوبين جديدين في العيبة. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: خذ ثوبيك. فأخذ ثوبه فلبسهما ثم أدبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أليس هذا أحسن؟ ما له ضرب الله عنقه؟ فسمع ذلك الرجل فقال: في سبيل الله يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: في سبيل الله. قال جابر: فضربت عنقه بعد ذلك في سبيل الله.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم يتحدث عندنا إلى أن جاءنا علبة بن زيد الحارثي بثلاث بيضات أداحي. فقال: يا رسول الله، وجدت هذه البيضات في مفحص نعام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: دونك يا جابر، فاعمل هذه البيضات! فوثبت فعملتهن، ثم جئت بالبيض في قصعة، وجعلت أطلب خبراً فلا أجده. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير خبز. قال جابر: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أمسك يده وأنا أظن أنه قد انتهى إلى حاجته، والبيض في القصعة كما هو. قال: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأكل منه عامة أصحابنا، ثم رحنا مبردين. قال جابر: وإنا لنسير إلى أن أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: ما لك يا جابر؟ فقلت: أي رسول الله جدى أن يكون لي بعير سوء، وقد مضى الناس وتركوني! قال: فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعيره فقال: أمعك ماء؟ فقلت: نعم. فجئته بقعبٍ من ماء، فنفث فيه ثم نضح على رأسه وظهره وعلى عجزه، ثم قال: أعطني عصاً. فأعطيته عصاً معي أو قال قطعت له عصاً من شجرة. قال: ثم نخسه، ثم قرعه بالعصا، ثم قال: اركب يا جابر. قال: فركبت. قال: فخرج، والذي بعثه بالحق، يواهق ناقته مواهقةً ما تفوته ناقته.
قال: وجعلت أتحدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: يا أبا عبد الله، أتزوجت؟ قلت: نعم. قال: بكراً أم ثيباً؟ فقلت: ثيباً. فقال: ألا جارية تلاعبها وتلاعبك! فقلت: يا رسول الله، بأبي وأمي إن أبي أصيب يوم أحد وترك تسع بنات، تزوجت امرأةً جامعةً تلم شعثهن وتقوم عليهن. قال: أصبت. ثم قال: إنا لو قدمنا صراراً أمرنا بجزور فنحرت، وأقمنا عليها يومنا ذلك، وسمعت بنا فنفضت نمارقها. قال، قلت: والله يا رسول الله، ما لنا نمارق. قال: أما إنها ستكون، فإذا قدمت فاعمل عملاً كيساً. قال: قلت: أفعل ما استطعت. قال: ثم قال: بعنى جملك هذا يا جابر. قلت: بل هولك يا رسول الله. قال: لا، بل بعنيه. قال: قلت نعم، سمني به. قال: فإني آخذه بدرهم. قال قلت: تغبنني يا رسول الله، قال: لا، لعمري! قال جابر: فما زال يزيدني درهماً درهماً حتى بلغ به أربعين درهماً أوقية فقال: أما رضيت؟ فقلت: هو لك. فقال: فظهره لك حتى تقدم المدينة. قال: ويقال إنه قال آخذه منك بأوقيةٍ وظهره لك فباعه على ذلك. قال: فلما قدمنا صراراً أمر بجزور فنحرت، فأقام به يومه ثم دخلنا المدينة.
قال جابر: فقلت للمرأة: قد أمرني النبي صلى الله عليه وسلّم أن أعمل عملاً كيساً. قالت: سمعاً وطاعةً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فدونك فافعل. قال: ثم أصبحت فأخذت برأس الجمل فانطلقت حتى أنخته عند حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجلست حتى خرج، فلما خرج قال: أهذا الجمل؟ قلت: نعم يا رسول الله الذي اشتريت. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بلالاً فقال: اذهب فأعطه أوقية، وخذ برأس جملك يا ابن أخي فهو لك. فانطلقت مع بلالٍ فقال بلال: أنت ابن صاحب الشعب؟ فقلت: نعم. فقال: والله لأعطينك ولأزيدينك. فزادني قيراطاً أو قراطين. قال: فما زال ذلك يثمر ويزيدنا الله به، ونعرف موضعه حتى أصيب ها هنا قريباً عندكم يعني الجمل.

قال الواقدي: وحدثني إسماعيل بن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، عن جابر بن عبد الله، قال: لما انصرفنا راجعين، فكنا بالشقرة، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: يا جبر، ما فعل دين أبيك؟ فقلت: عليه انتظرت يا رسول لله أن يجذ نخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إذا جذذت فأحضرني. قال، قلت: نعم. ثم قال: من صاحب دين أبيك؟ فقلت: أبو الشحم اليهودي، له على أبي سقة تمر. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فمتى تجذها؟ قلت: غداً. قال: يا جابر، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان التمر على حدتها. قال: ففعلت، فجعلت الصحياني على حدة، وأمهات الجرادين على حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جماع من التمر مثل نخبة وقرن شقحة وغيرها من الأنواع، وهو أقل التمر، فجعلته حبلاً واحداً، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فخبرته، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلّم ومعه علية أصحابه، فدخلوا الحائط وحضر أبو الشحم. قال: فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى التمر مصنفاً قال: اللهم بارك له! ثم انتهى إلى العجوة فمسها بيده وأصناف التمر، ثم جلس وسطها ثم قال: ادع غريمك. فجاء أبو الشحم فقال: اكتل! فاكتال حقه كله من حبلٍ واحدٍ وهو العجوة، وبقية التمر كما هو. ثم قال: يا جابر، هل بقي على أبيك شيء؟ قال، قلت: لا. قالت: وبقى سائر التمر، فأكلنا منه دهراً وبعنا منه حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين، فقضى الله ما كان على أبي من الدين. فلقد رأيتني والنبي صلى الله عليه وسلّم ليقول: ما فعل دين أبيك؟ فقلت: قد قضاه الله عز وجل. فقال: اللهم اغفر لجابر! فاستغفر لي في ليلةٍ خمساً وعشرين مرة.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلّم على المدينة عثمان بن عفان رضي الله عنه.
غزوة دومة الجندلفي ربيع الأول على رأس تسعة وأربعين شهراً. خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم لخمس ليالٍ بقين من ربيع الأول، وقدم لعشرٍ بقين من ربيع الأخر.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الله بن لبيد، عن أبي سلمة بن عبد الله. وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر، فكلاهما قد حدثنا بهذا الحديث، وأحدهما يزيد على صاحبه، وغيرهما قد حدثنا أيضاً.
قالوا: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن يدنو إلى أدنى الشام، وقيل له إنها طرف من أفواه الشام، فلو دنوت لها كان ذلك مما يفزع قيصر. وقد ذكر له أن بدومة الجندل جمعاً كثيراً، وأنهم يظلمون من مر بهم من الضافطة، وكان بها سوقٌ عظيمٌ وتجار، وضوى إليهم قومٌ من العرب كثير، وهم يريدون أن يدنوا من المدينة. فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس، فخرج في ألفٍ من المسلمين، فكان يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليلٌ له من بني عذرة يقال له مذكورٌ، هادٍ خريت، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم مغذاً للسير، ونكب عن طريقهم، ولما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم من دومة الجندل وكان بينه وبينها يوم أو ليلة سير الراكب المعتق قال له الدليل: يا رسول الله، إن سوائمهم ترعى فأقم لي حتى أطلع لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: نعم. فخرج العذرى طليعةً حتى وجد آثار النعم والشاء وهم مغربون، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبره وقد عرف مواضعهم، فسار النبي صلى الله عليه وسلّم حتى هجم على ماشيتهم ورعائهم، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم من أصاب، وهرب من هرب في كل وجه. وجاء الخبر أهل دومة الجندل فتفرقوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم بساحتهم، فلم يجد بها أحداً، فأقام بها أياماً وبث السرايا وفرقها حتى غابوا عنه يوماً ثم رجعوا إليه. ولم يصادفوا منهم أحداً، وترجع السرية بالقطعة من الإبل، إلا إن محمد بن مسلمة أخذ رجلاً منهم، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلّم فسأله عن أصحابه فقال: هربوا أمس حيث سمعوا بأنك قد أخذت نعمهم. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم الإسلام أياماً فأسلم، فرجع النبي صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم استعمل على المدينة سباع بن عرفطة.
غزوة المريسيع

في سنة خمسٍ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان، وقدم المدينة لهلال رمضان وغاب شهراً إلا ليلتين.
حدثنا الواقدي قال: حدثني محمد بن عبد الله، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، ومحمد بن صالح، وعبد الحميد بن جعفر، وابن أبي حبيبة، وهشام بن سعد، ومعمر بن راشد، وأبو معشر، وخالد بن إلياس وعائذ بن يحيى، وعمر بن عثمان المخزومي، وعبد الله بن يزيد بن قسيط، وعبد الله بن يزيد الهذلي، وكل قد حدثني بطائفةٍ، وغير هؤلاء قد حدثني قالوا: إن بلمصطلق من خزاعة كانا ينزلون ناحية الفرع، وهم حلفاء في بني مدلج، وكان رأسهم وسيدهم الحارث بن أبي ضرار، وكان قد سار في قومه ومن قدر عليه من العرب، فدعاهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وجعلت الركبان تقدم من ناحيتهم فيخبرون بمسيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فبعث بريدة بن الحصيب الأسلمي يعلم علم ذلك، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلّم أن يقول فأذن له، فخرج حتى ورد عليهم ماءهم، فوجد قوماً مغرورين قد تألبوا وجمعوا الجموع، فقالوا: من الرجل؟ قال: رجلٌ منكم، قدمت لما بلغني عن جمعكم لهذا الرجل، فأسير في قومي ومن أطاعني فتكون يدنا واحدةً حتى نستأصله. قال الحارث بن أبي ضرار: فنحن على ذلك، فعجل علينا. قال بريدة: أركب الآن فآتيكم بجمعٍ كثيفٍ من قومي ومن أطاعني. فسروا بذلك منه، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره خبر القوم، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلّم الناس، وأخبرهم خبر عدوهم فأسرع الناس للخروج، وقادوا الخيول وهي ثلاثون فرساً، في المهاجرين منها عشرةٌ وفي الأنصار عشرون، ولرسول الله صلى الله عليه وسلّم فرسان، وكان علي عليه السلام فارساً، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والمقداد بن عمرو، وفي الأنصار سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو عبس بن جبر، وقتادة بن النعمان، وعويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وسعد بن زيد الأشهلي، والحارث بن حزمة، ومعاذ بن جبل، وأبو قتادة، وأبي بن كعب، والحباب بن المنذر، وزياد بن لبيد، وفروة بن عمرو، ومعاذ بن رفاعة بن رافع.
قالوا: وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشرٌ كثيرٌ من المنافقين لم يخرجوا في غزاةٍ قط مثلها، ليس بهم رغبةٌ في الجهاد إلا أن يصيبوا من عرض الدنيا. وقرب عليهم السفر فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى سلك على الحلائق فنزل بها. فأتى يومئذٍ برجلٍ من عبد القيس، فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم أين أهلك؟ قال: بالروحاء. قال: أين تريد؟ قال: إياك جئت لأومن بك وأشهد أن ما جئت به الحق، وأقاتل معك عدوك. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلّم: الحمد لله الذي هذاك للإسلام. قال: يا رسول الله، أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: الصلاة في أول وقتها. قال: فكان الرجل بعد ذلك يصلي حين تزيغ الشمس، وحين يدخل وقت العصر، حين تغرب الشمس، لا يؤخر الصلاة إلى الوقت الآخر.
قال: فلما نزل ببقعاء أصاب عيناً للمشركين فقالوا له: ما وراءك؟ أين الناس؟ قال: لا علم لي بهم.
فحدثني هشام بن سعد، عن يعقوب، عن زيد بن طلحة، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لتصدقن أو لأضربن عنقك. قال: فأنا رجلٌ من بلمصطلق، تركت الحارث بن أبي ضرار قد جمع لكم الجموع، وتجلب إليه ناسٌ كثير، وبعثني إليكم لآتيه بخبركم وهل تحركتم من المدينة. فأتى عمر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى الإسلام وعرضه عليه، فأبى وقال: لست بمتبع دينكم حتى أنظر ما يصنع قومي، إن دخلوا في دينكم كنت كأحدهم، وإن ثبتوا على دينهم فأنا رجلٌ منهم. فقال عمر: يا رسول الله، أضرب عنقه! فقدمه رسول الله صلى الله عليه وسلّم فضرب عنقه، فذهب الخبر إلى بلمصطلق. فكانت جويرية بنت الحارث تقول بعد أن أسلمت: جاءنا خبره ومقتله ومسير رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يقدم علينا النبي صلى الله عليه وسلّم فسىء أبي ومن معه وخافوا خوفاً شديداً، وتفرق عنهم من كان قد اجتمع إليهم من أفناء العرب، فما بقى منهم أحدٌ سواهم.

ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى المريسيع وهو الماء فنزله، وضرب لرسول الله صلى الله عليه وسلّم قبةٌ من أدم، ومعه من نسائه عائشة وأم سلمة. وقد اجتمعوا على الماء وأعدوا وتهيأوا للقتال، فصف رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه، ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويقال كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنه راية المهاجرين. ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم. ففعل عمر رضي الله عنه فأبوا. فكان أول من رمى رجلٌ منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعةً بالنبل، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا حملة رجلٍ واحدٍ فما أفلت منهم إنسان، وقتل عشرةٌ منهم وأسر سائرهم. وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلّم الرجال والنساء والذرية، وغنمت النعم والشاء، وما قتل أحدٌ من المسلمين إلا رجلٌ واحد.
وكان أبو قتادة يحدث قال: حمل لواء المشركين يومئذٍ صفوان ذو الشقر، فلم تكن لي بأهبةٍ حتى شددت عليه وكان الفتح، وكان شعارهم: يا منصور، أمت، أمت! وكان ابن عمر يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلّم أغار على بني المصطلق وهم غارون، ونعمهم تسقى على الماء، فقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم. والحديث الأول أثبت عندنا.
وكان هاشم بن ضبابة قد خرج في طلب العدو، فرجع في ريحٍ شديدةٍ وعجاج، فتلقى رجلاً من رهط عبادة بن الصامت يقال له أوس، فظن أنه من المشركين فحمل عليه فقتله، فعلم بعد أنه مسلم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تخرج ديته. ويقال قتله رجلٌ من بني عمرو ابن عوف، فقدم أخوه مقيس على النبي صلى الله عليه وسلّم، فأمر له بالدية فقبضها، ثم عدا على قاتل أخيه فقتله، ثم خرج إلى قريش مرتداً وهو يقول:
شفى النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... يضرج ثوبيه دماء الأخادع
ثأرت به فهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع
حللت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت إلى الأوثان أول راجع
سمعت عبد الرحمن يقول: أنشدنيها أبي فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلّم دمه حتى قتله نميلة يوم الفتح.
وحدثني سعيد بن عبد الله بن أبي الأبيض، عن أبيه، عن جدته، وهي مولاة جويرية قالت: سمعت جويرية بنت الحارث تقول: أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ونحن على المريسيع فأسمع أبي يقول: أتانا ما لا قبل لنا به. قالت: فكنت أرى من الناس والخيل مالا أصف من الكثرة، فلما أن أسلمت وتزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلّم ورجعنا جعلت أنظر إلى المسلمين فليسوا كما كنت أرى، فعلمت أنه رعب من الله تعالى يلقيه في قلوب المشركين. فكان رجلٌ منهم قد أسلم فحسن إسلامه يقول: لقد كنا نرى رجالاً بيضاً على خيلٍ بلق، ما كنا نراهم قبل ولا بعد.

حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: حدثني ابن مسعود بن هنيدة، عن أبيه، قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم ببقعاء فقال: أين تريد يا مسعود؟ فقلت: جئت لأن أسلم عليك وقد أعتقني أبو تميم. قال: بارك الله عليك، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم بموضعٍ يعرف بالخذوات، والناس صالحون، وقد رغب الناس في الإسلام وكثر حولنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: فلله الحمد الذي هداهم! ثم قال مسعود: يا رسول الله، قد رأيتني أمس ولقيت رجلاً من عبد القيس فدعوته إلى الإسلام فرغبته فيه فأسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: لإسلامه على يديك كان خيراً لك مما طلعت عليه الشمس أو غربت. ثم قال: كن معنا حتى نلقى عدونا، فإني أرجو أن ينفلنا الله أموالهم. قال: فسرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم حتى غنمه الله أموالهم وذراريهم، فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلّم قطعةً من إبلٍ، وقطعةً من غنم، فقلت: يا رسول الله، كيف أقدر أن أسوق الإبل ومعي الغنم؟ اجعلها غنماً كلها أو إبلاً كلها. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلّم ثم قال: أي ذلك أحب إليك؟ قلت: تجعلها إبلاً. قال: أعطه عشراً من الإبل. قال: فأعطيتها. فيقال له: قارعه من المال أو من الخمس؟ قال: والله ما أدرى، فرجعت إلى أهلي، فوالله ما زلنا في خيرٍ منها إلى يومنا هذا.
فحدثني أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي جهم، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالأسرى فكتفوا وجعلوا ناحيةً، واستعمل عليهم بريدة بن الحصيب وأمر بما وجد في رحالهم من رثة المتاع والسلاح فجمع، وعمد إلى النعم والشاء فسيق. واستعمل عليهم شقران مولاه، وجمع الذرية ناحية، واستعمل على المقسم مقسم الخمس وسهمان المسلمين ومحمية بن جزء الزبيدي، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلّم الخمس من جميع المغنم، فكان يليه محمية بن جزء الزبيدي.
وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، وعبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، قالا: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلّم على خمس المسلمين محمية بن جزء الزبيدي. قالا: وكان يجمع الأخماس وكانت الصدقات على حدتها، أهل الفىء بمعزلٍ عن الصدقة، وأهل الصدقة بمعزلٍ عن الفىء، وكان يعطى من الصدقة اليتيم والمسكين والضعيف. فإذا احتلم اليتيم نقل إلى الفىء وأخرج من الصدقة، ووجب عليه الجهاد، فإن كره الجهاد وأباه لم يعط من الصدقة شيئاً، وخلوا بينه وبين أن يكسب لنفسه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم لا يمنع سائلاً. فأتاه رجلان يسألانه من الخمس فقال: إن شئتما أعطيتكما منه، ولاحظ فيها لغنىٍّ ولا لقوىٍّ مكتسب. قالوا: فاقتسم السبى وفرق، فصار في أيدي الرجال، وقسمت الرثة وقسم النعم والشاء، وعدلت الجزور بعشرٍ من الغنم وبيعت الرثة فيمن يريد وأسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهم، وللراجل سهم. وكانت الإبل ألفى بعيرٍ وخمسة آلاف شاة، وكان السبى مائتي أهل بيت. فصارت جويرية بنت الحارث في سهم ثابت بن قيس وابن عم له، فكاتبها على تسع أواق ذهب.

فحدثني عبدالله بن يزيد بن قسيط عن أبيه، عن ثوبان، عن عائشة رضي الله عنه، قالت: كانت جويرية جاريةً حلوة، لا يكاد يراها أحدٌ إلا ذهبت بنفسه، فبينا النبي صلى الله عليه وسلّم عندي ونحن على الماء إذ دخلت عليه جويرية تسأله في كتابتها. قالت عائشة: فوالله ما هو إلا أن رأيتها فكرهت دخولها على النبي صلى الله عليه وسلّم، وعرفت أنه سيري منها مثل الذي رأيت، فقالت: يا رسول الله، إني امرأةٌ مسلمةٌ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأنا جويرية بنت الحارث ابن أبي ضرار سيد قومه، أصابنا من الأمر ما قد علمت، ووقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس وابن عم له، فتخلصني من ابن عمه بنخلات له بالمدينة، فكاتبني ثابت على مالا طاقة لي به ولا يدان، وما أكرهني على ذلك إلا أني رجوتك صلى الله عليك فأعنى في مكاتبتي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أو خيرٌ من ذلك؟ فقالت: ما هو يا رسول الله؟ قال: أؤدي عنك كتابتك وأتزوجك. قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت! فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى ثابت فطلبها منه، فقال ثابت: هي لك يا رسول اله بأبي وأمي. فأدى رسول الله صلى الله عليه وسلّم ما كان عليها من كتابتها، وأعتقها وتزوجها. وخرج الخبر إلى الناس، ورجال بني المصطلق قد اقتسموا وملكوا ووطى نساوهم، فقالوا: أصهار النبي صلى الله عليه وسلّم! فأعتنقوا ما بأيديهم من ذلك السبى.قالت عائشة رضي الله عنها: فأعتق مائة أهل بيت بتزويج رسول الله صلى الله عليه وسلّم إياها، فلا اعلم امرأةً أعظم بركةً على قومها منها.
فحدثني حزام بن هشام، عن أبيه، قال: قالت جويرية: رأيت قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلّم بثلاث ليالٍ كأن القمر يسير من يثرب حتى وقع في حجري، فكرهت أن أخبرها أحداً من الناس، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فلما سبينا رجوت الرؤيا، فلما أعتقني وتزوجني والله ما كلمته في قومي حتى كان المسلمون هم الذين أرسلوهم، وما شعرت إلا بجاريةٍ من بنات عمي تخبرني الخبر، فحمدت الله عز وجل. ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلّم جعل صداقها عتق كل أسيرٍ من بني المصطلق، ويقال جعل صداقها عتق أربعين من قومها.
فحدثني ابن أبي سبرة عن عمارة بن غزية، قال: كان السبى منهم من من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير فداء، ومنهم من افتدى، وذلك بعد ما صار السبى في أيدي الرجال، فافتديت المرأة والذرية بست فرائض. وكانوا قدموا المدينة ببعض السبى، فقدم عليهم أهلوهم فافتدوهم، فلم تبق امرأةٌ من بني المصطلق إلا رجعت إلى قومها. وهذا الثبت.
فحدثني عمر بن عثمان، عن عبد الملك بن عبيد، عن عبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع، عن عمران بن حصين، قال: قدم الوفد المدينة فافتدوا السبى بعد السهمان.
وحدثني عبد الله بن أبي الأبيض، عن جدته وهي مولاة جويرية كان عالماً بحديثهم، قالت: سمعت جويرية تقول: افتداني أبي من ثابت بن قيس بن شماس بما افتدى به امرأةٌ من السبى، ثم خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلّم إلى أبي فأنكحني. قالت: وكان اسمها بر فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلّم جويرية، وكان يكره أن يقال خرج من بيت برة. قال ابن واقد: وأثبت من هذا عندنا حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلّم قضى عنها كتابتها وأعنقها وتزوجها.
وحدثني إسحاق بن يحيى، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يقسم لها كما كان يقسم لنسائه، وضرب عليها الحجاب.
وحدثني الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن أبي محيرير، وأبي ضمرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبايا، وبنا شهوة النساء، واشتدت علينا العزبة، وأحببنا الفداء فأردنا العزل فقلنا: نعزل. ورسول الله صلى الله عليه وسلّم بين أظهرنا قبل أن نسأله عن ذلك، فسألناه فقال: ما عليكم ألا تفعلوا، ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلا هي كائنة. وكان أبو سعيد يقول: فقدم علينا وفودهم فافتدوا الذرية والنساء، ورجعوا بهن إلى بلادهم، وخير من خير منهن أن تقيم عند من صارت في سهمه، فأبين إلا الرجوع.

قال الضحاك: فحدثت هذا الحديث أبا النضر فقال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رجلٌ، من اليهود، وخرجت بجارية لي أبيعها في السوق، فقال لي: يا أبا سعيد، لعلك تريد بيعها وفي بطنها منك سخلة! قال: فقلت كلا، إني كنت أعزل عنها. فقال: تلك الموءودة الصغرى. قال: فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأخبرته ذلك. فقال: كذبت اليهود! كذبت اليهود!
الجزء الثاني
ذكر ما كان من أمر ابن أبيقالوا: فبينا المسلمون على ماء المريسيع قد انقطعت الحرب، وهو ماءٌ ظنون ، إنما يخرج في الدلو نصفه، أقبل سنان بن وبر الجهني - وهو حليفٌ في بني سالم - ومعه فتيان من بني سالم يستقون، فيجدون على الماء جمعاً من العسكر من المهاجرين والأنصار؛ وكان جهجا بن سعيد الغفاري أجيراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأدلى سنان وأدلى جهجا دلوه، وكان جهجا أقرب السقاء إلى سنان بن وبر، فالتبست دلو سنان ودلو جهجا، فخرجت إحدى الدلوين وهي دلو سنان بن وبر. قال سنان: فقلت: دلوي. فقال جهجا: والله، ما هي إلا دلوي. فتنازعا إلى أن رفع جهجا يده فضرب سناناً فسال الدم، فنادى: يا آل خزرج ! وثارت الرجال. قال سنان: وأعجزني جهجا هرباً وأعجز أصحابي، وجعل ينادي في العسكر: يا آل قريش! يا آل كنانة! فأقبلت إليه قريشٌ سراعاً. قال سنان: فلما رأيت ما رأيت ناديت بالأنصار. قال: فأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى خشيت أن تكون فتنةٌ عظيمة، حتى جاءني ناسٌ من المهاجرين يقولون: اترك حقك! قال سنان: وإذا ضربته لم يضررني شيئاً. قال سنان: فجعلت لا أستطيع أفتات على حلفائي بالعفو لكلام المهاجرين، وقومي يأبون أن أعفو إلا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أقتص من جهجا. ثم إن المهاجرين كلموا حلفائي، فكلموا عبادة بن الصامت وناساً من حلفائي، فكلمني حلفائي فتركت ذلك ولم أرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

وكان ابن أبي جالساً في عشرة من المنافقين: ابن أبي، ومالك، وداعس، وسويد، وأوس بن قيظي، ومعتب بن قشير ، وزيد بن اللصيت ، وعبد الله بن نبتل - وفي القوم زيد بن أرقم، غلام لم يبلغ أو قد بلغ - فبلغه صياح جهجا: يا آل قريش! فغضب ابن أبي غضباً شديداً، وكان مما ظهر من كلامه وسمع منه أن قال: والله، ما رأيت كاليوم مذلة! والله، إن كنت لكارهاً لوجهي هذا ولكن قومي غلبوني! قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا . والله، ما صرنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال القائل " سمن كلبك يأكلك " . والله، لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفاً يهتف بما هتف به جهجا وأنا حاضر، لا يكون لذلك مني غيرٌ. والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل! ثم أقبل على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم؛ أحللتموهم بلادكم فنزلوا منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا! أما والله، لو أمسكتم بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم يرضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضاً للمنايا، فقتلتم دونه، فأيتمتم أولادكم وققلتم وكثروا فقام زيد بن أرقم بهذا الحديث كله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجد عنده نفراً من أصحابه من المهاجرين والأنصار - أبا بكر، وعثمان، وسعداً، ومحمد بن مسلمة، وأوس بن خولي، وعباد بن بشر - فأخبره الخبر. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وتغير وجهه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا غلام، لعلك غضبت عليه! قال: لا والله، لقد سمعته منه. قال: لعله أخطأ سمعك! قال: لا يا نبي الله! قال: لعله شبه عليك! قال: لا والله، لقد سمعته منه يا رسول الله! وشاع في العسكر ما قال ابن أبي، وليس للناس حديثٌ إلا ما قال ابن أبي، وجعل الرهط من الأنصار يؤنبون الغلام ويقولون: عمدت إلى سيد قومك تقول عليه ما لم يقل، وقد ظلمت وقطعت الرحم! فقال زيد: والله لقد سمعت منه! قال: ووالله، ما كان في الخزرج رجلٌ واحدٌ أحب إلي من عبد الله بن أبي؛ والله، لو سمعت هذه المقالة من أبي لنقلتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني لأرجو أن ينزل الله تعالى على نبيه حتى يعلموا أنا كاذبٌ أم غيري، أو يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق قولي. وجعل زيد يقول: اللهم، أنزل على نبيك ما يصدق حديثي! فقال قائل: يا رسول الله، مر عباد بن بشر فليأتك برأسه. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المقالة. ويقال قال: قل لمحمد بن مسلمة، يأتك برأسه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم، وأعرض عنه: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه. وقام النفر من الأنصار الذين سمعوا قول النبي صلى الله عليه وسلم ورده على الغلام، فجاءوا إلى ابن أبي فأخبروه، وقال أوس بن خولي: يا أبا الحباب، إن كنت قلته فأخبر النبي يستغفر لك، ولا تجحده فينزل ما يكذبك. وإن كنت لم تقله فأت رسول الله فاعتذر إليه واحلف لرسول الله ما قلته. فحلف بالله العظيم ما قال من ذلك شيئاً. ثم إن ابن أبي أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أبي، إن كانت سلفت منك مقالة فتب. فجعل يحلف بالله: ما قلت ما قال زيد، ولا تكلمت به! وكان في قومه شريفاً، فكان يظن أنه قد صدق، وكان يظن به سوء الظن.

فحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب، قال: لما كان من قول ابن أبي ما كان أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم السير، وأسرعت معه؛ وكان معي أجيرٌ استأجرته يقوم على فرسي، فاحتبس علي فوقفت له على الطريق أنتظره حتى جاء، فلما جاء ورأى ما بي من الغضب أشفق أن أقع به، فقال: أيها الرجل، على رسلك، فإنه قد كان في الناس أمرٌ من بعدك، فحدثني بمقالة ابن أبي. قال عمر: فأقبلت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فيء شجرة، عنده غليمٌ أسيود يغمز ظهره، فقلت: يا رسول الله، كأنك تشتكي ظهرك. فقال: تقحمت بي الناقة الليلة. فقلت: يا رسول الله، إيذن لي أن أضرب عنق ابن أبي في مقالته. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو كنت فاعلاً؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذاً لأرعدت له آنفٌ بيثرب كثيرة؛ لو أمرتهم بقتله قتلوه. قلت: يا رسول الله، فمر محمد بن مسلمة يقتله. قال: لا يتحدث الناس أن محمداً قتل أصحابه. قال، فقلت: فمر الناس بالرحيل. قال: نعم. فأذنت بالرحيل في الناس.
ويقال: لم يشعر أهل العسكر إلا برسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلع على راحلته القصواء، وكانوا في حرٍ شديد، وكان لا يروح حتى يبرد، إلا أنه لما جاءه خبر ابن أبي رحل في تلك الساعة. فكان أول من لقيه سعد بن عبادة، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعليك السلام! فقال: يا رسول الله، قد رحلت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت ترحل فيها! ويقال لقيه أسيد بن حضير - قال ابن واقد: وهو أثبت عندنا - فقال: يا رسول الله، خرجت في ساعةٍ منكرةٍ ما كنت تروح فيها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو لم يبلغكم ما قال صاحبكم؟ قال: أي صاحب يا رسول الله؟ قال: ابن أبي، زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل! قال: فأنت يا رسول الله تخرجه إن شئت، فهو الأذل وأنت الأعز، والعزة لله ولك وللمؤمنين. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به فوالله لقد جاء الله بك؛ وإن قومه لينظمون له الخرز، ما بقيت عليهم إلا خرزةٌ واحدةٌ عند يوشع اليهودي، قد أرب بهم فيها لمعرفته بحاجتهم إليها ليتوجوه، فجاء الله بك على هذا الحديث، فما يرى إلا قد سلبته ملكه.
قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير من يومه ذلك، وزيد ابن أرقم يعارض النبي صلى الله عليه وسلم براحلته، يريه وجهه في المسير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث راحلته فهو مغذٌّ في السير، إذ نزل عليه الوحي. قال زيد بن أرقم: فما هو إلا أن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تأخذه البرحاء ويعرق جبينه، وتثقل يدا راحلته حتى ما كاد ينقلها، عرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوحى إليه، ورجوت أن يكون ينزل عليه تصديق خبري. قال زيد بن أرقم: فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ بأذني وأنا على راحلتي حتى ارتفعت من مقعدي ويرفعها إلى السماء، وهو يقول: وفت أذنك يا غلام، وصدق الله حديثك! ونزل في ابن أبي السورة من أولها إلى آخرها وحده " إذا جاءك المنافقون... " فحدثني عبيد الله بن الهرير، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: سمعت عبادة بن الصامت يقول يومئذٍ لابن أبي قبل أن ينزل فيه القرآن: إيت رسول الله، يستغفر لك. قال: فرأيته يلوي رأسه معرضاً. يقول عبادة: أما والله لينزلن في لي رأسك قرآنٌ يصلى به.

وحدثني يونس بن محمد الظفري، عن أبيه، عن عبادة بن الوليد ابن عبادة بن الصامت، قال: مر عبادة بن الصامت بعبد الله بن أبي عشية راح النبي صلى الله عليه وسلم من المريسيع، وقد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم سورة المنافقون فلم يسلم عليه، ثم مر أوس بن خولي فلم يسلم عليه، فقال ابن أبي: إن هذا الأمر قد تمالأتما عليه. فرجعا إليه فأنباه وبكتاه بما صنع، وبما نزل من القرآن إكذاباً لحديثه، وجعل أوس بن خولي يقول: لا أكذب عنك أبداً حتى أعلم أن قد تركت ما أنت عليه وتبت إلى الله، إنا أقبلنا على زيد بن أرقم نلومه ونقول له " كذبت على رجل من قومك " حتى نزل القرآن بتصديق حديث زيد وإكذاب حديثك. وجعل ابن أبي يقول: لا أعود أبداً! وبلغ ابنه عبد الله ابن عبد الله بن أبي مقالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم " مر محمد بن مسلمة يأتك برأسه " فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن كنت تريد أن تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا. والله، لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالدٍ مني، وما أكل طعاماً منذ كذا وكذا من الدهر، ولا يشرب شراباً إلا بيدي، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي في الناس، فأقتله فأدخل النار، وعفوك أفضل، ومنك أعظم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الله، ما أردت قتله وما أمرت به، ولنحسنن صحبته ما كان بين أظهرنا. فقال عبد الله: يا رسول الله، إن أبي كانت هذه البحرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه عليهم، فجاء الله بك، فوضعه الله ورفعنا بك، ومعه قومٌ يطيفون به ويذكرون أموراً قد غلب الله عليها. قال: فلما انصرف من عند النبي صلى الله عليه وسلم وعرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تركه ولم يأمر بقتله، قال:
ألا إنما الدنيا حوادث تنتظر ... ومن أعجب الأحداث ما قاله عمر
يشير على من عنده الوحي هكذا ... ولم يستشره بالتي تحلق الشعر
ولو كان للخطاب ذنبٌ كذنبه ... فقلت له ما قال في والدي كشر
غداة يقول ابعث إليه محمداً ... ليقتله بئس لعمرك ما أمر
فقلت رسول الله إن كنت فاعلاً ... كفيتك عبد الله لمحك بالبصر
تساعدني كفٌّ ونفسٌ سخيةٌ ... وقلبٌ على البلوى أشد من الحجر
وفي ذاك ما فيه والأخرى غضاضةٌ ... وفي العين مني نحو صاحبها عور
فقال ألا لا يقتل المرء طائعاً ... أباه وقد كادت تطير بها مضر
أنشدنيها إسماعيل بن مصعب بن إسماعيل بن زيد بن ثابت، قال: أخذتها في الكتاب. وإبراهيم بن جعفر بن محمود، عن محمد بن مسلمة.

فحدثني عبيد الله بن الهرير، عن أبيه، عن رافع بن خديج، قال: لما رحنا من المريسيع قبل الزوال كان الجهد بنا يومنا وليلتنا، ما أناخ منا رجلٌ إلا لحاجته أو لصلاةٍ يصليها. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحث راحلته، ويخلف بالسوط في مراقها حتى أصبحنا، ومددنا يومنا حتى انتصف النهار أو كرب، ولقد راح الناس وهم يتحدثون بمقالة ابن أبي وما كان منه، فما هو إلا أن أخذهم السهر والتعب بالمسير، فما نزلوا حتى ما يسمع لقول ابن أبي في أفواههم - يعني ذكراً. وإنما أسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس ليدعوا حديث ابن أبي، فلما نزلوا وجدوا مس الأرض فوقعوا نياماً. ثم راح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس مبرداً، فنزل من الغد ماءً يقال له بقعاء فوق النقيع، وسرح الناس ظهرهم، فأخذتهم ريحٌ شديدةٌ حتى أشفق الناس منها، وسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخافوا أن يكون عيينة بن حصن خالف إلى المدينة، وقالوا: لم تهج هذه الريح إلا من حدثٍ! وإنما بالمدينة الذراري والصبيان. وكانت بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين عيينة مدة، فكان ذلك حين انقضائها فدخلهم أشد الخوف، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عليكم بأس منها، ما بالمدينة من نقبٍ إلا عليه ملكٌ يحرسه، وما كان ليدخلها عدوٌّ حتى تأتوها؛ ولكنه مات اليوم منافقٌ عظيم النفاق بالمدينة، فلذلك عصفت الريح. وكان موته للمنافقين غيظاً شديداً، وهو زيد بن رفاعة بن التابوت، مات ذلك اليوم.
فحدثني خارجة بن الحارث، عن عباس بن سهل، عن جابر بن عبد الله، قال: كانت الريح يومئذٍ أشد ما كانت قط إلى أن زالت الشمس، ثم سكنت آخر النهار. قال جابر: فسألت حين قدمت قبل أن أدخل بيتي: من مات؟ فقالوا: زيد بن رفاعة بن التابوت. وذكر أهل المدينة أنهم وجدوا مثل ذلك من شدة الريح حين دفن عدو الله فسكنت الريح.
وحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عبادة بن الصامت يومئذٍ لابن أبي: أبا حباب، مات خليلك! قال: أي أخلائي؟ قال: من موته فتحٌ للإسلام وأهله. قال: من؟ قال: زيد بن رفاعة بن التابوت. قال: يا ويلاه، كان والله وكان! فجعل يذكر، فقلت: اعتصمت بالذنب الأبتر . قال: من أخبرك يا أبا الوليد بموته؟ قلت: رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا الساعة أنه مات هذه الساعة. قال: فأسقط في يديه وانصرف كئيباً حزيناً. قالوا: وسكنت الريح آخر النهار فجمع الناس ظهورهم.

فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن ابن رومان، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قالا: وفقدت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء من بين الإبل، فجعل المسلمون يطلبونها في كل وجه، فقال زيد بن اللصيت - وكان منافقاً وهو في رفقة قومٍ من الأنصار، منهم عباد ابن بشر بن وقش، وسلمة بن سلامة بن وقش، وأسيد بن حضير - فقال: أين يذهب هؤلاء في كل وجه؟ قالوا: يطلبون ناقة رسول الله، قد ضلت. قال: أفلا يخبره الله بمكان ناقته؟ فأنكر القوم ذلك عليه فقالوا: قاتلك الله يا عدو الله، نافقت! ثم أقبل عليه أسيد بن حضير فقال: والله، لولا أني لا أدري ما يوافق رسول اللهمن ذلك لأنفذت خصيتك بالرمح يا عدو الله، فلم خرجت معنا وهذا في نفسك؟ قال: خرجت لأطلب من عرض الدنيا، ولعمري إن محمداً ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة، يخبرنا عن أمر السماء. فوقعوا به جميعاً وقالوا: والله، لا يكون منك سبيل أبداً ولا يظلنا وإياك ظلٌّ أبداً؛ ولو علمنا ما في نفسك ما صحبتنا ساعةً من نهار. ثم وثب هارباً منهزماً منهم أن يقعوا به ونبذوا متاعه، فعمد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس معه فراراً من أصحابه متعوذاً به. وقد جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر ما قال من السماء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنافق يسمع: إن رجلاً من المنافقين شمت أن ضلت ناقة رسول اللهوقال " ألا يخبره الله بمكانها؟ فلعمري إن محمداً ليخبرنا بأعظم من شأن الناقة! " ولا يعلم الغيب إلا الله، وإن رسول الله قد أخبرني بمكانها، وإنها في هذا الشعب مقابلكم، قد تعلق زمامها بشجرة، فاعمدوا عمدها. فذهبوا فأتوا بها من حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر المنافق إليها قام سريعاً إلى رفقائه الذين كانوا معه، فإذا رحله منبوذ، وإذا هم جلوسٌ لم يقم رجلٌ من مجلسه، فقالوا له حين دنا: لا تدن منا! قال: أكلمكم! فدنا فقال: أذكركم بالله، هل أتى أحدٌ منكم محمداً فأخبره بالذي قلت؟ قالوا: لا والله، ولا قمنا من مجلسنا هذا. قال: فإني قد وجدت عند القوم ما تكلمت به، وتكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه قد أتي بناقته، وإني قد كنت في شكٍ من شأن محمدٍ فأشهد أنه رسول الله، والله لكأني لم أسلم إلا اليوم. قالوا له: فاذهب إلى رسول الله يستغفر لك. فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستغفر له واعترف بذنبه. ويقال إنه لم يزل فسلاً حتى مات، وصنع مثل هذا في غزوة تبوك.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن شعيب بن شداد، قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقيع منصرفه من المريسيع ورأى سعةً، وكلأً، وغدراً كثيرةً تتناخس ، وخبر بمراءته وبراءته ، فسأل عن الماء فقيل: يا رسول الله، إذا صفنا قلت المياه وذهبت الغدر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطب بن أبي بلتعة أن يحفر بئراً، وأمر بالنقيع أن يحمى، واستعمل عليه بلال بن الحارث المزني، فقال بلال: يا رسول الله، وكم أحمي منه؟ قال: أقم رجلاً صيتاً إذا طلع الفجر على هذا الجبل - يعني مقملاً - فحيث انتهى صوته فاحمه لخيل المسلمين وإبلهم التي يغزون عليها. قال بلال: يا رسول الله، أفرأيت ما كان من سوائم المسلمين؟ فقال: لا يدخلها. قلت: يا رسول الله، ارأيت المرأة والرجل الضعيف تكون له الماشية اليسيرة وهو يضعف عن التحول؟ قال: دعه يرعى. فلما كان زمان أبي بكر رضي الله عنه حماه على ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حماه، ثم كان عمر فكثرت به الخيل، وكان عثمان فحماه أيضاً. وسبق النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بين الخيل وبين الإبل، فسبقت القصواء الإبل، وسبق فرسه - وكان معه فرسان، لزاز وآخر يقال له الظرب - فسبق يومئذٍ على الظرب، وكان الذي سبق عليه أبو أسيد الساعدي، والذي سبق على ناقته بلال.
ذكر عائشة رضي الله عنها وأصحاب الإفك

حدثني يعقوب بن يحيى بن عباد، عن عيسى بن معمر، عن عباد ابن عبد الله بن الزبير قال، قلت لعائشة رضي الله عنها: حدثينا يا أمه حديثك في غزوة المريسيع. قالت: يا ابن أخي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج في سفرٍ أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها، وكان يحب ألا أفارقه في سفر ولا حضر. فلما أراد غزوة المريسيع أقرع بيننا فخرج سهمي وسهم أم سلمة، فخرجنا معه، فغنمه الله أموالهم وأنفسهم، ثم انصرفنا راجعين. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً ليس معه ماءٌ ولم ينزل على ماء. وقد سقط عقد لي من عنقي، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقام بالناس حتى أصبحوا؛ وضج الناس وتكلموا وقالوا: احتبستنا عائشة. وأتى الناس أبا بكر رضي الله عنه فقالوا: ألا ترى إلى ما صنعت عائشة؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس على غير ماءٍ وليس معهم ماء. فضاق بذلك أبو بكر رضي الله عنه فجاءني مغيظاً فقال: ألا ترين ما صنعت بالناس؟ حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس على غير ماءٍ وليس معهم ماءٌ. قالت عائشة: فعاتبني عتاباً شديداً وجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأسه على فخذي وهو نائم. فقال أسيد ابن حضير: والله، إني لأرجو أن تنزل لنا رخصة؛ ونزلت آية التيمم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان من قبلكم لا يصلون إلا في بيعهم وكنائسهم، وجعلت لي الأرض طهوراً حيثما أدركتني الصلاة. فقال أسيد ابن حضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: وكان أسيد رجلاً صالحاً في بيتٍ من الأوس عظيم. ثم إنا سرنا مع العسكر حتى إذا نزلنا موضعاً دمثاً طيباً ذا أراك، قال: يا عائشة، هل لك في السباق؟ قلت: نعم. فتحزمت بثيابي وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم استبقنا فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة التي كنت سبقتيني. وكان جاء إلى منزل أبي ومعي شيءٌ فقال: هلميه! فأبيت فسعيت وسعى على أثري فسبقته. وكانت هذه الغزوة بعد أن ضرب الحجاب.
قالت: وكان النساء إذ ذاك إلى الخفة، هن إنما يأكلن العلق! من الطعام، لم يهيجن باللحم فيثقلن. وكان اللذان يرحلان بعيري رجلين، أحدهما مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له أبو موهبة، وكان رجلاً صالحاً. وكان الذي يقود بي البعير.

وإنما كنت أقعد في الهودج فيأتي فيحمل الهودج فيضعه على البعير، ثم يشده بالحبال ويبعث بالبعير، ويأخذ بزمام البعير فيقود بي البعير. وكانت أم سلمة يقاد بها هكذا فكنا نكون حاشيةً من الناس، يذب عنا من يدنو منا، فربما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنبي وربما سار إلى جنب أم سلمة. قالت: فلما دنونا من المدينة نزلنا منزلاً فبات به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الليل، ثم ادلج وأذن للناس بالرحيل فارتحل العسكر. وذهبت لحاجتي فمشيت حتى جاوزت العسكر وفي عنقي عقدٌ في من جزع ظفار ، وكانت أمي أدخلتني فيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما قضيت حاجتي انسل من عنقي فلا أدري به، فلما رجعت إلى الرحل ذهبت ألتمسه في عنقي فلم أجده؛ وإذا العسكر قد نغضوا إلا عيرات ، وكنت أظن أني لو اقمت شهراً لم يبعث بعيري حتى أكون في هودجي، فرجعت في التماسه فوجدته في المكان الذي ظننت أنه فيه، فحبسني ابتغاؤه وأتى الرجلان خلافي، فرحلوا البعير وحملوا الهودج وهم يظنون أني فيه، فوضعوه على البعير ولا يشكون أني فيه - وكنت قبل لا أتكلم إذ أكون عليه فلم ينكروا شيئاً - وبعثوا البعير فقادوا بالزمام وانطلقوا، فرجعت إلى العسكر وليس فيه داعٍ ولا مجيب، ولا أسمع صوتاً ولا زجراً. قالت: فألتفع بثوبي واضطجعت وعلمت أني إن افتقدت رجع إلي. قالت: فوالله، إني لمضطجعة في منزلي، قد غلبتني عيني فنمت. وكان صفوان ابن معطل السلمي ثم الذكواني على ساقة الناس من ورائهم، فادلج فأصبح عند منزلي في عماية الصبح، فيرى سواد إنسان فأتاني، وكان يراني قبل أن ينزل الحجاب، وأنا متلفعة، فأثبتني فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني. فخمرت وجهي بملحفتي، فوالله إن كلمني كلمةً غير أني سمعت استرجاعه حين أناخ بعيره. ثم وطي على يده مولياً عني، فركبت على رحله، وانطلق يقود بي حتى جئنا العسكر شد الضحا، فارتعج العسكر وقال أصحاب الإفك الذين قالوا - وتولى كبره عبد الله بن أبي - ولا أشعر من ذلك بشيء والناس يخوضون في قول أصحاب الإفك.
ثم قدمنا فلم أنشب أن اشتكيت شكوى شديدة، ولا يبلغني من ذلك شيء، وقد انتهى ذلك إلى أبوي، وأبواي لا يذكران لي من ذلك شيئاً، إلا أني قد أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لطفه بي ورحمته، فلا أعرف منه اللطف الذي كنت أعرف حين اشتكيت، إنما يدخل فيسلم فيقول: كيف تيكم؟ فكنت إذا اشتكيت لطف بي ورحمني وجلس عندي. وكنا قوماً عرباً لا نعرف الوضوء في البيوت، نعافها ونقذرها، وكنا نخرج إلى المناصع بين المغرب والعشاء لحاجتنا. فذهبت ليلةً ومعي أم مسطح ملتفعة في مرطها، فتعلقت به فقالت: تعس مسطح! فقلت: بئس لعمر الله ما قلت، تقولين هذا لرجلٍ من أهل بدر؟ فقالت لي مجيبة: ما تدرين وقد سال بك السيل. قلت: ماذا تقولين؟ فأخبرتني قول أصحاب الإفك، فقلص ذلك مني، وما قدرت على أن أذهب لحاجتي، وزادني مرضاً على مرضي، فما زلت أبكي ليلي ويومي. قالت: ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فقلت: ائذن لي أذهب إلى أبوي، وأنا أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما. فأذن لي فأتيت أبوي فقلت لأمي: يغفر الله لك، تحدث الناس بما تحدثوا به وذكروا ما ذكروا ولا تذكرين لي من ذلك شيئاً! فقالت: يا بنية، خفضي عليك الشأن، فوالله ما كانت جارية حسناء عند رجلٍ يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها القالة وكثر الناس عليها. فقلت: سبحان الله، وقد تحدث الناس بهذا كله؟ قالت: فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم.
قالت: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وأسامة فاستشارهما في فراق أهله.

قالت: وكان أحد الرجلين ألين قولاً من الآخر. قال أسامة: يا رسول الله، هذا الباطل والكذب، ولا نعلم إلا خيراً، وإن بريرة تصدقك. وقال عليٌّ رضي الله عنه: لم يضيق الله عليك، النساء كثيرٌ وقد أحل الله لك وأطاب، فطلقها وانكح غيرها. قالت: فانصرفا، وخلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببريرة فقال: يا بريرة، أي امرأةٍ تعلمين عائشة؟ قالت: هي أطيب من طيب الذهب، والله ما أعلم عليها إلا خيراً، والله يا رسول الله، لئن كانت علي غير ذلك ليخبرنك الله عز وجل بذلك، إلا أنها جاريةٌ ترقد عن العجين حتى تأتي الشاة فتأكل عجينها، وقد لمتها في ذلك غير مرة. وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ولم تكن امرأة تضاهي عائشة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرها. قالت عائشة رضي الله عنها: ولقد كنت أخاف عليها أن تهلك للغيرة علي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: يا زينب، ماذا علمت على عائشة؟ قالت: يا رسول الله، حاشى سمعي وبصري، ما علمت عليها إلا خيراً. والله، ما أكلمها وإني لمهاجرتها، وما كنت أقول إلا الحق. قالت عائشة رضي الله عنها: أما زينب، فعصمها الله، وأما غيرها فهلك مع من هلك. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن فقالت: حاشى سمعي وبصري أن أكون علمت أو ظننت بها قط إلا خيراً. ثم صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: من يعذرني مما يؤذيني في أهلي؟ ويقولون لرجل، والله ما علمت على ذلك الرجل إلا خيراً، وما كان يدخل بيتاً من بيوتي إلا معي، ويقولون عليه غير الحق. فقام سعد بن معاذ فقال: أنا أعذرك منه يا رسول الله؛ إن يك من الأوس آتك برأسه، وإن يك من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك نمضي لك. فقام سعد بن عبادة - وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن الغضب بلغ منه، وعلى ذلك ما غمص عليه في نفاق ولا غير ذلك إلا أن الغضب يبلغ من أهله - فقال: كذبت لعمر الله، لا تقتله ولا تقدر على قتله. والله، ما قلت هذه المقالة إلا أنك قد عرفت أنه من الخزرج؛ ولو كان من الأوس ما قلت ذلك، ولكنك تأخذنا بالذخول كانت بيننا وبينك في الجاهلية، وقد محا الله ذلك! فقال أسيد بن حضير: كذبت والله، لنقتلنه وأنفك راغمٌ، فإنك منافقٌ تجادل عن المنافقين! والله، لو نعلم ما يهوى رسول الله من ذلك في رهطي الأدنين ما رام رسول الله مكانه حتى آتيه برأسه؛ ولكني لا أدري ما يهوى رسول الله! قال سعد بن عبادة: تأبون يا آل أوس إلا أن تأخذونا بذحولٍ كانت في الجاهلية. والله، ما لكم بذكرها حاجة، وإنكم لتعرفون لمن الغلبة فيها، وقد محا الله بالإسلام ذلك كله. فقام أسيد بن حضير فقال: قد رأيت موطننا يوم بعاث! ثم تغالظوا، وغضب سعد بن عبادة فنادى: يا آل خزرج! فانحازت الخزرج كلها إلى سعد بن عبادة. ونادى سعد بن معاذ: يال أوس! فانحازت الأوس كلها إلى سعد بن معاذ. وخرج الحارث بن حزمة مغيراً حتى أتى بالسيف يقول: أضرب به رأس النفاق وكهفه. فلقيه أسيد بن حضير وهو في رهطه وقال: ارم به، يحمل السلاح من غير أمر رسول الله! لو علمنا أن لرسول الله في هذا هوىً أو طاعةً ما سبقتنا إليه. فرجع الحارث! واصطفت الأوس والخزرج، وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحيين جميعاً أن اسكتوا، ونزل عن المنبر فهدأهم وخفضهم حتى انصرفوا.

قالت عائشة رضي الله عنها: وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل علي فجلس عندي، وقد مكث شهراً قبل ذلك لا يوحى إليه في شأني. قالت: فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني كذا وكذا، فإن كنت بريئةً يبرئك الله، وإن كنت ألممت بشيءٍ مما يقول الناس فاستغفري الله عز وجل، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله تاب الله عليه. قالت: فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذهب دمعي حتى ما أجد منه شيئاً، وقلت لأبي: أجب رسول الله. فقال: والله، ما أدري ما أقول وما أجيب به عنك. قالت: فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله. فقالت: والله، ما أدري ما أجيب عنك لرسول الله. وأنا جاريةٌ حديثة السن، لا أقرأ كثيراً من القرآن. قالت: فقلت: إني والله قد علمت أنكم سمعتم بهذا الحديث، فوقع في أنفسكم فصدقتم به، فلئن قلت لكم إني بريئة لا تصدقوني، ولئن اعترفت لكم بأمرٍ يعلم الله أني منه بريئة لتصدقوني. وإني والله ما أجد لي مثلاً إلا أبا يوسف إذ يقول: " بل سولت لكم أنفسكم أمراً فصبرٌ جميلٌ والله المستعان على ما تصفون " والله ما يحضرني ذكر يعقوب، وما أهتدي من الغيظ الذي أنا فيه. ثم تحولت فاضطجعت على فراشي وقلت: والله يعلم أني بريئة، وأنا بالله واثقةٌ أن يبرئني الله ببراءتي. فقال أبو بكر رضي الله عنه: فما أعلم أهل بيت من العرب دخل عليهم ما دخل على آل أبي بكر. والله، ما قيل لنا هذا في الجاهلية حيث لا نعبد الله ولا ندع له شيئاً، فيقال لنا في الإسلام! قالت: وأقبل علي أبي مغضباً. قالت: فاستعبرت فقلت في نفسي: " والله لا أتوب إلى الله مما ذكرتم أبداً " ، وأيم الله لأنا كنت أحقر في نفسي وأصغر شأناً من أن ينزل في قرآنٌ يقرأه الناس في صلاتهم، ولكن قد كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه شيئاً يكذبهم الله عنى به لما يعلم من براءتي، أو يخبر خبراً؛ فأما قرآن، فلا والله ما ظننته! قالت: فوالله، ما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم من مجلسه، ولا خرج أحدٌ من أهل البيت حتى يغشاه من أمر الله ما كان يغشاه. قالت: فسجى بثوبه وجمعت وسادةٌ من أدمٍ تحت رأسه؛ فأما أنا حين رأيت ما رأيت فوالله لقد فرحت به وعلمت أني بريئة، وأن الله تعالى غير ظالمٍ لي. قالت: وأما ابواي فوالذي نفسي بيده ما سري عن النبي صلى الله عليه وسلم حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقاً أن يأتي أمرٌ من الله تحقيق ما قال الناس. ثم كشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه وهو يضحك، وإنه ليتحدر منه مثل الجمان، وهو يمسح جبينه، فكانت أول كلمة قالها " يا عائشة، إن الله قد أنزل براءتك " قالت: وسري عن أبوي وقالت أمي: قومي إلى رسول الله. فقلت: والله، لا أقوم إلا بحمد الله لا بحمدك، فأنزل الله هذه الآية: " إن الذين جاءوا بالإفك عصبةٌ منكم لا تحسبوه " الآية. قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس مسروراً فصعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله،، ثم تلا عليهم بما نزل عليه في براءة عائشة. قالت: فضربهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد، وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي، وكان مسطح بن أثاثة، وحسان ابن ثابت. قال أبو عبد الله: ويقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يضربهم - وهو أثبت عندنا.
وكان سعيد بن جبير يقول في هذه الآية: من رمى محصنة لعنه الله في الدنيا والآخرة. فقال: إنما ذاك لأم المؤمنين خاصة.
فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن أفلح مولى أبي أيوب، أن أم أيوب قالت لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: بلى، وذلك الكذب، أفكنت يا أم أيوب فاعلة ذلك؟ فقالت: لا والله. قال: فعائشة والله خير منك. فلما نزل القرآن وذكر أهل الإفك قال الله تعالى: " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفكٌ مبينٌ " ، يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب، ويقال إنما قالها أبي بن كعب.

فحدثني خارجة بن عبد الله بن سليمان، عن إبراهيم بن يحيى. عن أم سعد بنت سعد بن ربيع، قالت: قالت أم الطفيل لأبي بن كعب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: أي ذلك؟ قالت: ما يقولون. قال: هو والله الكذب، أو كنت تفعلين ذلك؟ قالت: أعوذ بالله. قال: فهي والله خير منك. قالت: وأنا أشهد، فنزلت هذه الآية.
قالوا: ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم أياماً، ثم أخذ بيد سعد ابن معاذ في نفر، فخرج يقود به حتى دخل به على سعد بن عبادة ومن معه، فتحدثا عنده ساعة، وقرب سعد بن عبادة طعاماً، فأصاب منه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن معاذ ومن معه، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فمكث أياماً، ثم أخذ بيد سعد بن عبادة، ونفرٌ معه. فانطلق به حتى دخل منزل سعد بن معاذ، فتحدثا ساعةً وقرب سعد بن معاذ طعاماً. فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعد بن عبادة ومن معهم، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن يذهب ما كان في أنفسهم من ذلك القول الذي تقاولا.
فحدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس. عن عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبس على قلادة عائشة رضي الله عنها بذات الجيش، فلما طلع الفجر أو كاد نزلت آية التيمم، فمسحنا الأرض بالأيدي ثم مسحنا الأيدي إلى المناكب ظهراً وبطناً، وكان يجمع بين الصلاتين في سفره.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن ابنن رومان، ومحمد بن صالح، عن عاصم بن عمر، وعبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أمه؛ فكل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وعماد الحديث عن ابن رومان، وعاصم وغيرهم، قالوا: لما قال ابن أبي ما قال، وذكر جعيل بن سراقة وجهجا، وكانا من فقراء المهاجرين، قال: ومثل هذين يكثر على قومي، وقد أنزلنا محمداً في دور كنانة وعزها! والله، لقد كان جعيل يرضى أن يسكت فلا يتكلم، فصار اليوم يتكلم. وقول ابن أبي أيضاً في صفوان ابن معطل وما رماه به، فقال حسان بن ثابت:
أمسى الجلابيب قد راوا وقد كثروا ... وابن الفريعة أمسى بيضة البلد

فلما قدموا المدينة جاء صفوان إلى جعيل بن سراقة فقال: انطلق بنا، نضرب حسان، فوالله ما أراد غيرك وغيري، ولنحن أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه. فأبى جعيل أن يذهب، فقال له: لا أفعل إلا أن يأمرني رسول الله، ولا تفعل أنت حتى تؤامر رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأبى صفوان عليه، فخرج مصلتاً السيف حتى ضرب حسان ابن ثابتٍ في نادي قومه، فوثبت الأنصار إليه فأوثقوه رباطاً - وكان الذي ولي ذلك منه ثابت بن قيس بن شماس - وأسروه أسراً قبيحاً. فمر بهم عمارة بن حزم فقال: ما تصنعون؟ أمن أمر رسول الله ورضائه أم من أمرٍ فعلتموه؟ قالوا: ما علم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال : لقد اجترأت، خل عنه! ثم جاء به وبثابتٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسوقهم، فأراد ثابتٌ أن ينصرف، فأبى عمارة حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال حسان: يا رسول الله، شهر علي السيف في نادي قومي، ثم ضربني لأن أموت، ولا أراني إلا ميتاً من جراحتي. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على صفوان فقال: ولم ضربته وحملت السلاح عليه؟ وتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله آذاني وهجاني وسفه علي وحسدني على الإسلام. ثم أقبل على حسان فقال: أسفهت على قومٍ أسلموا؟ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احبسوا صفوان، فإن مات حسان فاقتلوه به. فخرجوا بصفوان ، فبلغ سعد بن عبادة ما صنع صفوان، فخرج في قومه من الخزرج حتى أتاهم، فقال: عمدتم إلى رجلٍ من أصحاب رسول الله تؤذونه وتهجونه بالشعر وتشتمونه، فغضب لما قيل له، ثم أسرتموه أقبح الإسار ورسول الله بين أظهركم! قالوا: فإن رسول الله أمرنا بحبسه وقال: إن مات صاحبكم فاقتلوه. قال سعد: والله، إن أحب إلى رسول الله للعفو، ولكن رسول الله قد قضى بينكم بالحق، وإن رسول الله يعني ليحب أن يترك صفوان. والله، لا أبرح حتى يطلق! فقال حسان: ما كان لي من حق فهو لك يا أبا ثابت. وأبى قومه، فغضب قيس ابنه غضباً شديداً فقال: عجباً لكم، ما رأيت كاليوم! إن حسان قد ترك حقه وتأبون أنتم! ما ظننت أن أحداً من الخزرج يرد أبا ثابتٍ في أمرٍ يهواه. فاستحيا القوم وأطلقوه من الوثاق؛ فذهب به سعدٌ إلى بيته فكساه حلة، ثم خرج صفوان حتى دخل المسجد ليصلي فيه، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صفوان؟ قالوا: نعم يا رسول الله. قال: من كساه؟ قالوا: سعد بن عبادة، فالله تعالىكساه الله من حلل الجنة. ثم كلم سعد بن عبادة حسان بن ثابت فقال: لا أكلمك أبداً إن لم تذهب إلى رسول الله فتقول: كل حقٍّ لي قبل صفوان فهو لك يا رسول الله. فأقبل حسان في قومه حتى وقف بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كل حقٍّ لي قبل صفوان بن معطل فهو لك. قال: قد أحسنت وقبلت ذلك. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً براحاً وهي بيرحاء وما حولها وسيرين، وأعطاه سعد بن عبادة حائطاً كان يجد مالاً كثيراً عوضاً له مما عفا عن حقه.
قال أبو عبد الله: فحدث هذا الحديث ابن أبي سبرة فقال: أخبرني سليمان بن سحيم، عن نافع بن جبير، أن حسان بن ثابت حبس صفوان، فلما برىء حسان أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فقال: يا حسان، أحسن فيما أصابك. فقال: هو لك يا رسول الله. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم براحاً وأعطاه سيرين عوضاً.
فحدثني أفلح بن حميد، عن أبيه، قال: ما كانت عائشة رضي الله عنها تذكر حسان إلا بخير. ولقد سمعت عروة بن الزبير يوماً يسبه لما كان منه، فقالت: لا تسبه يا بني، أليس هو الذي يقول:
فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمدٍ منكم وقاء
وحدثني سعيد بن أبي زيد الأنصاري قال: حدثني من سمع أبا عبيدة ابن عبد الله بن زمعة الأسدي يخبر أنه سمع حمزة بن عبد الله بن عمر، أنه سمع عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: حسان حجازٌ بين المؤمنين والمنافقين، لا يحبه منافقٌ ولا يبغضه مؤمن. وقال حسان يمدح عائشة رضي الله عنها:
حصانٌ رزانٌ لا تزن بريبةٍ ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فإن كان ما قد جاء عني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
هي أبيات أنشدنيها ابن أبي الزناد وابن جعفر

حدثني عبد الله بن جعفر بن مسلم، عن أبي عتيق، عن دابر بن عبد الله، قال: كنت رفيق عبد الله بن رواحة في غزوة المريسيع، فاقبلنا حتى انتهينا إلى وادي العقيق في وسط الليل فإذا الناس معرسون . قلنا: فأين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: في مقدم الناس، قد نام فقال لي عبد الله بن رواحة: يا جابر، هل لك بنا في التقدم والدخول على أهلنا؟ فقلت: يا أبا محمد، لا أحب أن أخالف الناس، لا أرى أحداً تقدم. قال ابن رواحة: والله، ما نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تقدم. قال جابر: أما أنا فلست ببارح. فودعني وانطلق إلى المدينة، فأنظر إليه على ظهر الطريق ليس معه أحد، فطرق أهله بلحارث بن الخزرج، فإذا مصباحٌ في وسط بيته وإذا مع امرأته إنسانٌ طويل، فظن أنه رجل، وسقط في يديه وندم على تقدمه. وجعل يقول، الشيطان مع الغر، فاقتحم البيت رافعاً سيفه، قد جرده من غمده يريد أن يضربهما. ثم فكر واذكر، فغمز امرأته برجله فاستيقظت فصاحت وهي توسن، فقال: أنا عبد الله، فمن هذا؟ قالت: رجيلة ماشطتي ، سمعنا بمقدمكم فدعوتها تمشطني فباتت عندي. فبات فلما أصبح خرج معترضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه ببئر أبي عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسير بين أبي بكر وبشير بن سعد، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بشير فقال: يا أبا النعمان. فقال: لبيك. قال: إن وجه عبد الله ليخبرك أنه قد كره طروق أهله. فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله: خبرك يا ابن رواحة. فأخبره كيف كان تقدم وما كان من لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطرقوا النساء ليلاً. قال جابر: فكان ذلك أول ما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال جابر: فلم أر مثل العسكر ولزومه والجماعة، لقد أقبلنا من خيبر، وكنا مررنا على وادي القرى فانتهينا إلى الجرف ليلاً، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تطرقوا النساء ليلاً. قال جابر: فانطلق رجلان فعصيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأيا جميعاً ما يكرهان.
غزوة الخندقعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الثلاثاء لثمانٍ مضت من ذي القعدة، فحاصروه خمس عشرة، وانصرف يوم الأربعاء لسبعٍ بقين سنة خمس؛ واستعمل على المدينة ابن أم مكتوم.

فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه، وربيعة ابن عثمان، ومحمد عن الزهري، وعبد الصمد بن محمد، ويونس بن محمد الظفري، وعبد الله بن جعفر، ومعمر بن راشد، وحزام بن هشام، ومحمد بن يحيى بن سهل، وأيوب بن النعمان بن عبد الله بن كعب بن مالك، وموسى بن عبيدة، وقدامة بن موسى، وعائذ بن يحيى الزرقي، ومحمد بن صالح، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وهشام بن سعد، ومجمع ابن يعقوب، وأبو معشر، والضحاك بن عثمان، وعبد الرحمن بن محمد ابن أبي بكر، وابن أبي حبيبة، وابن أبي الزناد، وأسامة بن زيد؛ فكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء قد حدثني، فكتبت كل ما حدثوني، قالوا: لما أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير ساروا إلى خيبر، وكان بها من اليهود قومٌ أهل عددٍ وجلدٍ، وليست لهم من البيوت والأحساب ما لبني النضير - كان بنو النضير سرهم، وقريظة من ولد الكاهن من بني هارون - فلما قدموا خيبر خرج حيي بن أخطب، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي من الأوس من بني خطمة، وأبو عامر الراهب في بضعة عشر رجلاً إلى مكة يدعون قريشاً وأتباعها إلى حرب محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا لقريش: نحن معكم حتى نستأصل محمداً. قال أبو سفيان: هذا الذي أقدمكم ونزعكم ؟ قالوا: نعم، جئنا لنحافلكم على عداوة محمدٍ وقتاله. قال أبو سفيان: مرحباً وأهلاً، أحب الناس إلينا من أعاننا على عداوة محمد. قال النفر: فأخرج خمسين رجلاً من بطون قريشٍ كلها أنت فيهم، وندخل نحن وأنتم بين أستار الكعبة حتى نلصق أكبادنا بها، ثم نحلف بالله جميعاً لا يخذل بعضنا بعضاً، ولتكونن كلمتنا واحدةً على هذا الرجل ما بقي منا رجل. ففعلوا فتحالفوا على ذلك وتعاقدوا، ثم قالت قريش بعضها لبعض: قد جاءكم رؤساء أهل يثرب وأهل العلم والكتاب الأول، فسلوهم عما نحن عليه ومحمدٌ؛ ديننا خيرٌ أم دين محمد؟ فنحن عمار البيت، وننحر الكوم، ونسقي الحجيج، ونعبد الأصنام. قالوا: اللهم، أنتم أولى بالحق منه؛ إنكم لتعظمون هذا البيت، وتقومون على السقاية، وتنحرون البدن، وتعبدون ما كان عليه آباؤكم، فأنتم أولى بالحق منه. فأنزل الله تعالى في ذلك: " ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً " . فاتعدوا لوقتٍ وقتوه، فقال صفوان بن أمية: يا معشر قريش، إنكم قد وعدتم هؤلاء القوم لهذا الوقت وفارقوكم عليه، ففوا لهم به! لا يكون هذا كما كان، وعدنا محمداً بدر الصفراء فلم نف بموعده، واجترأ علينا بذلك، وقد كنت كارهاً لميعاد أبي سفيان يومئذ. فخرجت اليهود حتى أتت غطفان، وأخذت قريشٌ في الجهاز، وسيرت في العرب تدعوهم إلى نصرها، وألبوا أحابيشهم ومن تبعهم. ثم خرجت اليهود حتى جاءوا بني سليم، فوعدوهم يخرجون معهم إذا سارت قريش. ثم ساروا في غطفان، فجعلوا لهم تمر خيبر سنة، وينصرونهم ويسيرون مع قريشٍ إلى محمدٍ إذا ساروا. فأنعمت بذلك غطفان، ولم يكن أحدٌ أسرع إلى ذلك من عيينة بن حصن.
وخرجت قريش ومن تبعها من أحابيشها أربعة آلاف، وعقدوا اللواء في دار الندوة، وقادوا معهم ثلاثمائة فرس، وكان معهم من الظهر ألف بعيرٍ وخمسمائة بعير. وأقبلت سليم فلاقوهم بمر الظهران، وبنو سليم يومئذٍ سبعمائة؛ يقودهم سفيان بن عبد شمس حليف حرب بن أمية، وهو أبو أبي الأعور الذي كان مع معاوية بن أبي سفيان بصفين. وخرجت قريش يقودها أبو سفيان بن حرب، وخرجت بنو أسد وقائدها طلحة بن خويلد الأسدي، وخرجت بنو فزارة وأوعبت ، وهم ألفٌ يقودهم عيينة بن حصن، وخرجت أشجع وقائدها مسعود بن رخيلة وهم أربعمائة - لم توعب أشجع. وخرج الحارث بن عوف يقود قومه بني مرة وهم أربعمائة. لما أجمعت غطفان السير أبي الحارث بن عوف المسير وقال لقومه: تفرقوا في بلادكم ولا تسيروا إلى محمد، فإني أرى أن محمداً أمر ظاهر، لو ناوأه من بين المشرق والمغرب لكانت له العاقبة. فتفرقوا في بلادهم ولم يحضر واحدٌ منهم؛ وهكذا روى الزهري وروت بنو مرة.

حدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، وعاصم بن عمر بن قتادة قالا: شهدت بنو مرة الخندق وهم أربعمائة وقائدهم الحارث بن عوف المري، وهجاه حسان وأنشد شعراً، وذكروا مجاورة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ. فكان هذا أثبت عندنا أنه شهد الخندق في قومه، ولكنه كان أمثل تقيةً من عيينة.
قالوا: وكان القوم جميعاً الذين وافوا الخندق من قريش، وسليم، وغطفان، وأسد، عشرة آلاف؛ فهي عساكر ثلاثة، وعناج الأمر إلى أبي سفيان. فأقبلوا فنزلت قريش برومة وادي العقيق في أحابيشها ومن ضوى إليها من العرب، وأقبلت غطفان في قادتها حتى نزلوا بالزغابة إلى جانب أحد. وجعلت قريشٌ تسرح ركابها في وادي العقيق في عضاهه، وليس هناك شيءٌ للخيل غلا ما حملوه معهم من علف - وكان علفهم الذرة - وسرحت غطفان إبلها إلى الغابة في أثلها وطرفائها في عضاه الجرف. وقدموا في زمان ليس في العرض زرع، فقد حصد الناس قبل ذلك بشهر، فأدخلوا حصادهم وأتبانهم. وكانت غطفان ترسل خليها في أثر الحصاد - وكان خيل غطفان ثلاثمائة - بالعرض فيمسك ذلك من خيلهم ، وكادت إبلهم تهلك من الهزال. وكانت المدينة ليالي قدموا جديبة.
فلما فصلت قريشٌ من مكة إلى المدينة خرج ركبٌ من خزاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بفصول قريش، فساروا من مكة إلى المدينة أربعاً، فذلك حين ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم، وشاورهم في أمرهم بالجد والجهاد، ووعدهم النصر إن هم صبروا واتقوا، وأمرهم بطاعة الله وطاعة رسوله. وشاورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله يكثر مشاورتهم في الحرب، فقال: أنبرز لهم من المدينة، أم نكون فيها ونخندقها علينا، أم نكون قريباً ونجعل ظهورنا إلى هذا الجبل؟ فاختلفوا، فقالت طائفة: نكون مما يلي بعاث إلى ثنية الوداع إلى الجرف. فقال قائل: ندع المدينة خلوفاً! فقال سلمان: يا رسول الله، إنا إذ كنا بأرض فارس وتخوفنا الخيل خندقنا علينا؛ فهل لك يا رسول الله أن نخندق؟ فأعجب رأي سلمان المسلمين، وذكروا حين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد أن يقيموا ولا يخرجوا، فكره المسلمون الخروج وأحبوا الثبات في المدينة.
فحدثني أبو بكر بن أبي سبرة قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله بن جهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب فرساً له ومعه نفرٌ من أصحابه من المهاجرين والأنصار، فارتاد موضعاً ينزله، فكان أعجب المنازل إليه أن يجعل سلعاً خلف ظهره، ويخندق من المذاذ إلى ذباب إلى راتج . فعمل يومئذٍ في الخندق، وندب الناس، فخبرهم بدنو عدوهم، وعسكرهم إلى سفح سلع، وجعل المسلمون يعملون مستعجلين يبادرون قدوم العدو عليهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل معهم في الخندق لينشط المسلمين؛ وعملوا، واستعاروا من بني قريظة آلةً كثيرةً من مساحي، وكرازين ومكاتل، يحفرون به الخندق - وهم يومئذٍ سلمٌ للنبي صلى الله عليه وسلم يكرهون قدوم قريش. ووكل رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل جانبٍ من الخندق قوماً يحفرونه، فكان المهاجرون يحفرون من جانب راتج إلى ذباب، وكانت الأنصار تحفر من ذباب إلى جبل بني عبيد، وكان سائر المدينة مشبكاً بالبنيان.
فحدثني محمد بن يحيى بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كنت أنظر إلى المسلمين والشباب ينقلون التراب، والخندق بسطة أو نحوها، وكان المهاجرون والأنصار ينقلون على رؤوسهم في المكاتل، وكانوا إذا رجعوا بالمكاتل جعلوا فيها الحجارة يأتون بها من جبل سلع، وكانوا يجعلون التراب مما يلي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكانوا يسطرون الحجارة مما يليهم كأنها حبال التمر - وكانت الحجارة من أعظم سلاحهم يرمونهم بها.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يحمل التراب في المكاتل ويطرحه، والقوم يرتجزون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
هذا الجمال لا جمال خيبر ... هذا أبر ربنا وأطهر

وجعل المسلمون يومئذٍ إذا رأوا من الرجل فتوراً ضحكوا منه. وتنافس الناس يومئذٍ في سلمان الفارسي، فقال المهاجرون: سلمان منا!.. وكان قوياً عارفاً بحفر الخنادق. وقالت الأنصار: هو منا ونحن أحق به! فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قولهم فقال: سلمان رجلٌ منا أهل البيت. ولقد كان يومئذٍ يعمل عمل عشرة رجالٍ حتى عانه يومئذٍ قيس بن أبي صعصعة، فلبط به ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مروه فليتوضأ له، وليغتسل به. ويكفإ الإناء خلفه. ففعل فكأنما حل من عقال.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر قال: سمعت جابر ابن عبد الله يقول: لقد كنت أرى سلمان يومئذٍ، وقد جعلوا له خمسة أذرعٍ طولاً وخمساً في الأرض، فما تحينته حتى فرغ وحده، وهو يقول: اللهم، لا عيش إلا عيش الآخرة.
وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، عن جده، عن كعب بن مالك قال: جعلنا يوم الخندق نرتجز ونحفر، وكنا - بني سلمة - ناحيةً، فعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا أقول شيئاً، فقلت: هل عزم على غيري؟ قالوا: حسان بن ثابت. قال: فعرفت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهانا لوجدنا له وقلته على غيرنا، فما تكلمت بحرفٍ حتى فرغنا من الخندق. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لا يغضب أحدٌ مما قال صاحبه، لا يريد بذلك سوءاً، إلا ما قال كعب وحسان فإنهما يجدان ذلك.
وحدثني يحيى بن عبد العزيز، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: كان جعيل بن سراقة رجلاً صالحاً، وكان ذميماً قبيحاً، وكان يعمل مع المسلمين يومئذٍ في الخندق، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غير اسمه يومئذٍ فسماه عمراً، فجعل المسلمون يرتجزون ويقولون:
سماه من بعد جعيلٍ عمرا ... وكان للبائس يوماً ظهرا
قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول من ذلك شيئاً غلا أن يقول عمرا .
فبينا المسلمون يحفرون، وكان زيد بن ثابت فيمن ينقل التراب مع المسلمين، فنظر إليه سعد بن معاذ وهو جالسٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الحمد لله يا رسول الله الذي أبقاني حتى آمنت بك؛ إني عانقت أبا هذا يوم بعاث، ثابت بن الضحاك، فكانت اللبجة به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنه نعم الغلام! وكان زيد بن ثابت قد رقد في الخندق، غلبته عيناه حتى أخذ سلاحه وهو لا يشعر، وهو في قر شديدٍ - ترسه، وقوسه، وسيفه - وهو على شفير الخندق مع المسلمين، فانكشف المسلمون يريدون يطيفون بالخندق ويحرسونه، وتركوا زيداً نائماً، ولا يشعرون به حتى جاءه عمارة بن حزم فأخذ سلاحه، ولا يشعر حتى فزع بعد فقد سلاحه، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا زيداً فقال: يا أبا رقاد، نمت حتى ذهب سلاحك! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من له علمٌ بسلاح هذا الغلام؟ فقال عمارة بن حزم: أنا يا رسول الله، وهو عندي. فقال: فرده عليه، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يروع المسلم أو يؤخذ متاعه لاعباً جاداً .
حدثني علي بن عيسى، عن أبيه، ما كان في المسلمين يومئذٍ أحدٌ إلا يحفر في الخندق أو ينقل التراب، ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر - وكان أبو بكر وعمر لا يتفرقان في عمل، ولا مسير، ولا منزل - ينقلان التراب في ثيابهما يومئذٍ من العجلة، إذ لم يجدا مكاتل لعجلة المسلمين.
وكان البراء بن عازب يقول: ما رأيت أحداً أحسن في حلةٍ حمراء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أبيض شديد البياض، كثير الشعر، يضرب الشعر منكبيه. ولقد رأيته يومئذٍ يحمل التراب على ظهره حتى حال الغبار بيني وبينه، وإني لأنظر إلى بياض بطنه.
وقال أبو سعيد الخدري: لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق مع المسلمين، والتراب على صدره وبين عكنه ، وإنه ليقول:
اللهم لولا أنت ما هتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
يردد ذلك.

وحدثني أبي بن عباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، فأخذ الكرزن وضرب به رسول الله صلى الله عليه وسلم حجراً فصل الحجر، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله، مم تضحك؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أضحك من قوم يؤتى بهم من المشرق في الكبول ، يساقون إلى الجنة وهم كارهون.
فحدثني عاصم بن عبد الله الحكمي، عن عمر بن الحكم، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب يومئذٍ بالمعول، فصادف حجراً صلداً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منه المعول، وهو عند جبل بني عبيد، فضرب ضربةً فذهبت أولها برقةً إلى اليمن، ثم ضرب أخرى فذهبت برقةً إلى الشام، ثم ضرب أخرى فذهبت برقةً نحو المشرق، وكسر الحجر عند الثالثة. فكان عمر بن الخطاب يقول: والذي بعثه بالحق، لصار كأنه سهلة وكان كلما ضرب ضربةً يتبعه سلمان ببصره ، فيبصر عند كل ضربةٍ برقة، فقال سلمان: يا رسول الله، رأيت المعول كلما ضربت به أضاء ما تحته. فقال: أليس قد رأيت ذلك؟ قال: نعم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في الأولى قصور الشام، ثم رأيت في الثانية قصور اليمن، ورأيت في الثالثة قصر كسرى الأبيض بالمدائن. وجعل يصفه لسلمان فقال: صدقت والذي بعثك بالحق، إن هذه لصفته، واشهد أنك لرسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذه فتوحٌ يفتحها الله عليكم بعدي يا سلمان، لتفتحن الشام، ويهرب هرقل إلى أقصى مملكته، وتظهرون على الشام فلا ينازعكم أحد، ولتفتحن اليمن، وليفتحن هذا المشرق، ويقتل كسرى بعده. قال سلمان: فكل هذا قد رأيت.
قالوا: وكان الخندق ما بين جبل بني عبيد بخربي إلى راتج، فكان للمهاجرين من ذباب إلى راتج، وكان للأنصار ما بين ذباب إلى خربى، فهذا الذي حفر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وشبكوا المدينة بالبنيان من كل ناحيةٍ وهي كالحصن. وخندقت بنو عبد الأشهل عليها بما يلي راتج إلى خلفها، حتى جاء الخندق من وراء المسجد، وخندقت بنو دينار من عند خربى إلى موضع دار ابن أبي الجنوب اليوم. ورفع المسلمون النساء والصبيان في الآطام، ورفعت بنو حارثة الذراري في أطمهم، وكان أطماً منيعاً، وكانت عائشة يومئذٍ فيه. ورفع بنو عمرو بن عوف النساء والذرية في الآطام، وخندق بعضهم حول الآطام بقباء، وحصن بنو عمرو بن عوف ولفها ، وخطمة، وبنو أمية، ووائل، وواقف، فكان ذراريهم في آطامهم.
فحدثني عبد الرحمن بن أبجر ، عن صالح بن أبي حسان، قال: أخبرني شيوخ بني واقف أنهم حدثوه أن بني واقف جعلوا ذراريهم ونساءهم في أطمهم، وكانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا يتعاهدون أهليهم بأنصاف النهار بإذن النبي صلى الله عليه وسلم، فينهاهم النبي صلى الله عليه وسلم، فغذا ألحوا أمرهم أن يأخذوا السلاح خوفاً عليهم من بني قريظة.
فكان هلال بن أمية يقول: اقبلت في نفرٍ من قومي وبني عمرو بن عوف، وقد نكبنا عن الجس وصفنة فأخذنا على قباء، حتى إذا كنا بعوسا إذا نفرٌ منهم فيهم نباش بن قيس القرظي، فنضحونا بالنبل ساعة، ورميناهم بالنبل، وكانت بيننا جراحة، ثم انكشفوا على حاميتهم ورجعنا إلى أهلنا، فلم نر لهم جمعاً بعد.
وحدثني أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، قال: كان الخندق الذي خندق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين جبل بني عبيد إلى راتج - وهذا أثبت الأحاديث عندنا. وذكروا أن الخندق له أبواب، فلسنا ندري أين موضعها.

فحدثني محمد بن زياد بن أبي هنيدة، عن محمد بن إبرايهم بن الحارث، عن جابر بن عبد الله، قال: أصاب الناس كديةً يوم الخندق فضربوا فيها بمعاولهم حتى انكسرت، فدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاء بماءٍ فصبه عليها فعادت كثيباً. قال جابر بن عبد الله: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحفر، ورأيته خميصاً، ورأيته بين عكنه الغبار، فأتيت امرأتي فأخبرتها ما رأيت من خمص بطن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: والله، ما عندنا شيءٌ إلا هذه الشاة ومدٌّ من شعي. قال جابر: فاطحني وأصلحي. قالت: فطبخنا بعضها وشوينا بعضها، وخبز الشعير. قال جابر: ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمكثت حتى رأيت أن الطعام قد بلغ، فقلت: يا رسول الله، قد صنعت لك طعاماً فأت أنت ومن أحببت من أصحابك. فشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابعه في أصابعي، ثم قال: أجيبوا، جابر يدعوكم! فأقبلوا معه فقلت: والله، إنها لفضيحة! فأتيت المرأة فأخبرتها فقالت: أنت دعوتهم أو هو دعاهم؟ فقلت: بل هو دعاهم! قالت: دعهم، هو أعلم. قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه، فكانوا فرقاً، عشرةً عشرةً، ثم قال لنا: اغرفوا وغطوا البرمة، وأخرجوا من التنور الخبز ثم غطوه. ففعلنا فجعلنا نغرف ونغطي البرمة ثم نفتحها، فما نراها نقصت شيئاً، ونخرج الخبز من التنور ثم نغطيه، فما نراه ينقص شيئاً. فأكلوا حتى شبعوا، وأكلنا وأهدينا، فعمل الناس يومئذٍ كلهم والنبي صلى الله عليه وسلم. وجعلت الأنصار ترتجز وتقول:
نحن الذين بايعوا محمدا ... على الجهاد ما بقينا أبدا
فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
اللهم لا خير إلا خير الآخرة ... فاغفر للأنصار والمهاجره
وحدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن محمد بن زائدة، عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي واقد الليثي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض الغلمان وهو يحفر الخندق، فأجاز من أجاز ورد من رد، وكان الغلمان يعملون معه، الذين لم يبلغوا ولم يجزهم، ولكنه لما لحم الأمر أمر من لم يبلغ أن يرجع إلى أهله إلى الآطام مع الذراري. وكان المسلمون يومئذٍ ثلاثة آلاف، فلقد كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه ليضرب مرةً بالمعول، ومرةً يغرف بالمسحاة التراب، ومرةً يحمل التراب في المكتل. ولقد رأيته يوماً بلغ منه، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم اتكأ على حجرٍ على شقه الأيسر، فذهب به النوم. فرأيت أبا بكر وعمر واقفين على رأسه ينحيان الناس أن يمروا به فينبهوه، وأنا قربت منه، ففزع ووثب، فقال: ألا أفزعتموني! فأخذ الكرزن يضرب به، وإنه ليقول:
اللهم إن العيش عيش الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره
اللهم العن عضلاً والقاره ... فهم كلفوني أنقل الحجاره
فكان ممن أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ابن عمر؛ وهو ابن خمس عشرة، وزيد بن ثابت؛ وهو ابن خمس عشرة، والبراء بن عازب؛ وهو ابن خمس عشرة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق، وكان حفره ستة أيام وحصنه، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم دبر سلع، فجعله خلف ظهره والخندق أمامه، وكان عسكره هنالك. وضرب قبة من أدم، وكانت القبة عند المسجد الأعلى الذي بأصل الجبل - جبل الأحزاب - وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعقب بين نسائه، فتكون عائشة اياماً، ثم تكون أم سلمة، ثم تكون زينب بنت جحش، فكان هؤلاء الثلاث اللاتي يعقب بينهن في الخندق، وسائر نسائه في أطم بني حارثة. ويقال: كن في المسير ، أطم في بني زريق، وكان حصيناً. ويقال: كان بعضهن في فارع - وكل هذا قد سمعناه.

فحدثني أبو أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: كان حيي بن أخطب يقول لأبي سفيان بن حرب ولقريشٍ في مسيره معهم: إن قومي قريظة معكم، وهم أهل حلقةٍ وافرة، هم سبعمائة مقاتلٍ وخمسون مقاتلاً. فلما نوا قال أبو سفيان لحيي بن أخطب: ائت قومك، حتى ينقضوا العهد الذي بينهم وبين محمد. فذهب حيي حتى أتى بني قريظة؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم صالح قريظة والنضير ومن بالمدينة من اليهود ألا يكونوا معه ولا عليه. ويقال: صالحهم على أن ينصروه ممن دهمه منهم، ويقيموا على معاقلهم الأولى التي بين الأوس والخزرج. ويقال إن حيي عدل من ذي الحليفة فسلك على العصبة حتى طرق كعب بن أسد، وكان كعب صاحب عقد بني قريظة وعهدها.
فكان محمد بن كعب القرظي يحدث يقول: كان حيي بن أخطب رجلاً مشئوماً؛ هو شأم بني النضير قومه، وشأم قريظة حتى قتلوا، وكان يحب الرئاسة والشرف عليهم، وله في قريشٍ شبهٌ - أبو جهل بن هشام. فلما أتى حيي إلى بني قريظة كرهت بنو قريظة دخوله دارهم، فكان أول من لقيه غزال بن سموأل، فقال له حيي: قد جئتك بما تستريح به من محمد، هذه قريشٌ قد حلت وادي العقيق، وغطفان بالزغابة. قال غزال: جئتنا والله بذل الدهر! قال حيي: لا تقل هذا! ثم وجه إلى باب كعب بن أسد فدق عليه، فعرفه كعب وقال: ما أصنع بدخول حيي علي، رجل مشئوم قد شأم قومه، وهو الآن يدعوني إلى نقض العهد! قال: فدق عليه، فقال كعب: إنك امرؤ مشئومٌ قد شأمت قومك حتى أهلكتهم، فارجع عنا فإنك إنما تريد هلاكي وهلاك قومي! فأبى حيي أن يرجع، فقال كعب: يا حيي، إني عاقدت محمداً وعاهدته، فلم نر منه إلا صدقاً؛ والله، ما أخفر لنا ذمةً ولا هتك لنا ستراً، ولقد أحسن جوارنا. فقال حيي: ويحك! إني قد جئتك ببحرٍ طامٍ وبعز الدهر، جئتك بقريشٍ على قادتها وسادتها، وجئتك بكنانة حتى أنزلتهم برومة، وجئتك بغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بالزغابة إلى نقمي ، قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل، والعدد عشرة آلاف، والخيل ألف فرس، وسلاح كثير، ومحمدٌ لا يفلت في فورنا هذا، وقد تعاقدوا وتعاهدوا ألا يرجعوا حتى يستأصلوا محمداً ومن معه. قال كعب: ويحك! جئتني والله بذل الدهر وبسحابٍ يبرق ويرعد ليس فيه شيء. وأنا في بحرٍ لجيٍّ، لا أقدر على أن أريم داري، ومالي معي والصبيان والنساء؛ فارجع عني، فإنه لا حاجة لي فيما جئتني به. قال حيي: ويحك! أكلمك. قال كعب: ما أنا بفاعل. قال: والله، ما أغلقت دوني إلا لجشيشتك أن آكل معك منها، فلك ألا أدخل يدي فيها. قال: فأحفظه ، ففتح الباب فدخل عليه، فلم يزل يفتله في الذروة والغارب حتى لان له، وقال: ارجع عني يومك هذا حتى أشاور رؤساء اليهود. فقال: قد جعلوا العهد والعقد إليك فأنت ترى لهم. وجعل يلح عليه حتى فتله عن رأيه، فقال كعب بن أسد: يا حيي، قد دخلت فيما ترى كارهاً له، وأنا أخشى ألا يقتل محمد، وتنصرف قريشٌ إلى بلادها، وترجع أنت إلى أهلك، وأبقى في عقر الدار وأقتل ومن معي. فقال حيي: لك ما في التوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء، لئن لم يقتل محمدٌ في هذه الفورة ورجعت قريشٌ وغطفان قبل أن يصيبوا محمداً، لأدخلن معك حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب العهد الذي كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا حيي بالكتاب الذي كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فشقه حيي، فلما شقه حيي علم أن الأمر قد لحم وفسد، فخرج على بني قريظة وهم حلقٌ حول منزل كعب بن أسد، فخبرهم الخبر. يقول الزبير بن باطا: واهلاك اليهود! تولى قريش وغطفان ويتركوننا في عقر دارنا وأموالنا وذرارينا، ولا قوة لنا بمحمد! ما بات يهوديٌّ على حزم قط، ولا قامت يهوديةٌ بيثرب أبداً. ثم أرسل كعب بن أسد إلى نفرٍ من رؤساء اليهود خمسة - الزبير بن باطا، ونباش بن قيس، وغزال ابن سموأل، وعقبة بن زيد، وكعب بن زيد، فخبرهم خبر حيي، وما أعطاه حيي أن يرجع إليه فيدخل معه فيصيبه ما أصابه. يقول الزبير ابن باطا: وما حاجتك إلى أن تقتل ويقتل معك حيي! قال: فأسكت كعب وقال القوم: نحن نكره نزري برأيك أو نخالفك، وحيي من قد عرفت شومه. وندم كعب بن أسد على ما صنع من نقض العهد، ولحم الأمر لما أراد الله تعالى من حربهم وهلاكهم.

فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في الخندق أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته - وقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم مضروبة من أدمٍ في أصل الجبل عند المسجد الذي في أسفل الجبل - معه أبو بكر رضي الله عنه والمسلمون على خندقهم يتناوبون، معهم بضعةٌ وثلاثون فرساً، والفرسان يطوفون على الخندق ما بين طرفيه، يتعاهدون رجالاً وضعوهم في مواضع منه، إلى أن جاء عمر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، بلغني أن بني قريظة قد نقضت العهد وحاربت. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من نبعث يعلم لنا علمهم؟ فقال عمر: الزبير بن العوام. فكان أول الناس بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام، فقال: اذهب إلى بني قريظة. فذهب الزبير فنظر، ثم رجع فقال: يا رسول الله، رأيتهم يصلحون حصونهم ويدربون طرقهم، وقد جمعوا ماشيتهم. فذلك حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبي حوارياً، وحواري الزبير وابن عمتي.
ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقال: إنه قد بلغني أن بني قريظة قد نقضوا العهد الذي بيننا وبينهم وحاربوا، فاذهبوا فانظروا إن كان ما بلغني حقاً؛ فإن كان باطلاً فأظهروا القول، وإن كان حقاً فتكلموا بكلامٍ تلحنون به أعرفه؛ لا تفتوا أعضاد المسلمين. فلما انتهوا إلى كعب بن أسد وجدوا القوم قد نقضوا العهد، فناشدوهم الله والعهد الذي كان بينهم، أن يرجعوا إلى ما كانوا عليه قبل ذلك قبل أن يلتحم الأمر، وألا يطيعوا حيي بن أخطب. فقال كعب: لا نرده أبداً؛ قد قطعته كما قطعت هذا القبال لقبال نعله. ووقع كعب بسعد بن معاذ يسبه، فقال أسيد بن حضير: تسب سيدك يا عدو الله؟ ما أنت له بكفء! أما والله يا ابن اليهود ، لتولين قريشٌ إن شاء الله منهزمةً وتتركك في عقر دارك، فنسير إليك فتنزل من جحرك هذا على حكمنا. وإنك لتعلم النضير؛ كانوا أعز منك وأعظم بهذه البلدة، ديتك نصف ديتهم، وقد رأيت ما صنع الله بهم. وقبل ذلك بنو قينقاع، نزلوا على حكمنا. قال كعب: يا ابن الحضير، تخوفونني بالمسير إلي؟ أما والتوراة، لقد رآني أبوك يوم بعاث - لولا نحن لأجلته الخزرج منها. إنكم والله ما لقيتم أحداً يحسن القتال ولا يعرفه؛ نحن والله نحسن قتالكم! ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن المسلمين أقبح الكلام، وشتموا سعد بن عبادة شتماً قبيحاً حتى أغضبوه. فقال سعد بن معاذ: دعهم فإنا لم نأت لهذا، ما بيننا أشد من المشاتمة - السيف! وكان الذي يشتم سعد بن عبادة نباش بن قيس فقال: غضضت ببظر أمك! فانتفض سعد بن عبادة غضباً، فقال سعد بن معاذ: إني أخاف عليكم مثل يوم بني النضير. قال غزال بن سموأل: أكلت أير أبيك! قال سعد بن معاذ غير هذا القول أحسن منه. قال: ثم رجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال سعد بن عبادة: عضل والقارة. وسكت الرجلان - يريد بعضل والقارة غدرهم بخبيب وأصحاب الرجيع - ثم جلسوا. فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أبشروا يا معشر المسلمين بنصر الله وعونه. وانتهى الخبر إلى المسلمين بنقض بني قريظة العهد، فاشتد الخوف وعظم البلاء.
قرىء على ابن أبي حبيبة وأنا أسمع، قال: حدثنا محمد بن الثلجي قال: حدثنا الواقدي، قال: فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبيد الله بن أبي بكر بن حزم قال: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ، وعبد الله بن رواحة، وخوات بن جبير إلى بني قريظة. قال ابن واقد: والأول أثبت عندنا.
قالوا: ونجم النفاق، وفشل الناس، وعظم البلاء، واشتد الخوف، وخيف على الذراري والنساء، وكانوا كما قال الله تعالى: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر " ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وجاه العدو، لا يستطيعون الزوال عن مكانهم، يعتقبون خندقهم ويحرسونه. وتكلم قومٌ بكلامٍ قبيح، فقال معتب بن قشير: يعدنا محمدٌ كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى حاجته، وما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً!

فحدثني صالح بن جعفر، عن ابن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق وآخذ المفتاح، وليهلكن الله كسرى وقيصر، ولتنفقن أموالهم في سبيل الله - يقول ذلك حين رأى ما بالمسلمين من الكرب. فسمعه معتب فقال ما قال.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل قال: همت بنو قريظة أن يغيروا على بيضة المدينة ليلاً، فأرسلوا حيي بن أخطب إلى قريشٍ أن يأتيهم منهم ألف رجلٍ، ومن غطفان ألف، فيغيروا بهم . فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر بذلك فعظم البلاء، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث سلمة بن أسلم بن حريش الأشهلي في مائتي رجل، وزيد بن حارثة في ثلاثمائة يحرسون المدينة ويظهرون التكبير، ومعهم خيل المسلمين، فإذا أصبحوا أمنوا. فكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: لقد خفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريشٍ وغطفان، ولقد كنت أوفى على سلع فأنظر إلى بيوت المدينة، فإذا رأيتهم هادين حمدت الله عز وجل، فكان مما رد الله به قريظة عما أرادوا أن المدينة كانت تحرس.
حدثني صالح بن خوات، عن ابن كعب، قال: قال خوات بن جبير: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن محاصرو الخندق، فقال: انطلق إلى بني قريظة فانظر هل ترى لهم غرةً أو خللاً من موضعٍ فتخبرني. قال: فخرجت من عنده عند غروب الشمس، فتدليت من سلعٍ وغربت لي الشمس فصليت المغرب، ثم خرجت حتى أخذت في راتج، ثم على عبد الأشهل، ثم في زهرة، ثم على بعاث. فلما دنوت من القوم قلت: أكمن لهم. فكمنت ورمقت الحصون ساعة، ثم ذهب بي النوم فلم أشعر إلا برجلٍ قد احتملني وأنا نائم، فوضعني على عنقه ثم انطلق يمشي. قال: ففزعت ورجلٌ يمشي بي على عاتقه، فعرفت أنه طليعة من قريظة واستحييت تلك الساعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً شديداً، حيث ضيعت ثغراً أمرني به، ثم ذكرت غلبة النوم. قال: والرجل يرقل بي إلى حصونهم، فتكلم باليهودية فعرفته، قال: أبشر بجزرةٍ سمينة! قال: وذكرت وجعلت أرب بيدي - وعهدي بهم لا يخرجم منهم أحدٌ أبداً إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خبرك. فأخبرته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هكذا أخبرني جبريل. وقال القوم: هكذا حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خوات: فكان ليلنا بالخندق نهاراً. قال غير صالح: قال خوات: رأيتني وأنا أتذكر صسوء أثري عندهم بعد ممالحةٍ وخلصيةٍ مني لهم، فقلت: هم يمثلون بي كل المثل حتى ذكرت المعول.
حدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: خرج نباش بن قيس ليلةً من حصنهم يريد المدينة، ومعه عشرةٌ من اليهود من أشدائهم وهم يقولون: عسى أن نصيب منهم غرة. فانتهوا إلى بقيع الغرقد، فيجدون نفراً من المسلمين من أصحاب سلمة بن أسلم بن حريش، فناهضوهم فراموهم ساعةً بالنبل، ثم انكشف القريظيون مولين. وبلغ سلمة بن أسلم وهم بناحية بني حارثة، فأقبل في أصحابه حتى انتهوا إلى حصونهم، فجعلوا يطيفون بحصونهم حتى خافت اليهود، وأوقدوا النيران على آطامهم وقالوا: البيات! وهدموا قرني بئر لهم وهوروها عليهم، فلم يقدروا يطلعوا من حصنهم وخافوا خوفاً شديداً.

وحدثني شيخٌ من قريش، قال ابن أبي الزناد وابن جعفر هذا أثبت من الذي في أحد، قال: كان حسان بن ثابت رجلاً جباناً، فكان قد رفع مع النساء في الآطام، فكانت صفية في أطم فارع، ومعها جماعةٌ وحسان معهم. فأقبل عشرةٌ من اليهود ورأسهم غزال بن سموأل من بني قريظة نهاراً، فجعلوا ينقمعون ويرمون الحصن، فقالت صفية لحسان: دونك يا أبا الوليد! قال: لا والله، لا أعرض نفسي لهؤلاء اليهود. ودنا أحدهم إلى باب الحصن يريد أن يدخل، فاحتجزت صفية بثوبها، ثم أخذت خشبةً فنزلت إليه فضربته ضربةً شدخت رأسه فقتلته، فهرب من بقي منهم.
واجتمعت بنو حارثة فبعثوا أوس بن قيظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله. إن بيوتنا عورة؛ وليس دارٌ من دور الأنصار مثل دارنا. ليس بيننا وبين غطفان أحد يردهم عنا، فأذن لنا فلنرجع إلى دورنا فنمنع ذرارينا ونساءنا. فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجعوا بذلك وتهيئوا للانصراف. فبلغ سعد بن معاذ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، لا تأذن لهم؛ إنا والله ما أصابنا وإياهم شدةٌ قط إلا صنعوا هكذا. ثم أقبل عليهم فقال لبني حارثة: هذا لنا منكم أبداً؛ ما أصابنا وإياكم شدةٌ إلا صنعتم هكذا. فردهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: لقد رأيت لسعد ابن أبي وقاص ليلةً ونحن بالخندق لا أزاله أحبه أبداً. قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يختلف إلى ثلمةٍ في الخندق يحرسها، حتى إذا آذاه البرد جاءني فأدفأته في حضني. فإذا دفىء خرج إلى تلك الثلمة يحرسها ويقول: ما أخشى أن يؤتى الناس إلا منها. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضني قد دفىء وهو يقول: ليت رجلاً صالحاً يحرسني ! قالت: إلى أن سمعت صوت السلاح وقعقعة الحديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: سعد بن أبي وقاص. قال: عليك بهذه الثلمة، فاحرسها. قالت: ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه.
قال الواقدي: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله ابن أبي بكر بن حزم قال: قالت أم سلمة: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق فلم أفارقه مقامه كله، وكان يحرس نفسه في الخندق، وكنا في قرٍ شديد، فإني لأنظر إليه قام فصلى ما شاء أن يصلي في قبته، ثم خرج فنظر ساعةً فأسمعه يقول: هذه خيل المشركين تطيف بالخندق، من لهم؟ ثم نادى: يا عباد بن بشر. فقال عباد: لبيك! قال: أمعك أحد؟ قال: نعم، أنا في نفرٍ من اصحابي كنا حول قبتك. قال: فانطلق في أصحابك فأطف بالخندق، فهذه خيلٌ من خيلهم تطيف بكم يطمعون أن يصيبوا منكم غرة. اللهم ادفع عنا شرهم وانصرنا عليهم واغلبهم، لا يغلبهم غيرك! فخرج عباد بن بشر في أصحابه، فإذا بأبي سفيان في خيلٍ من المشركين يطيفون بمضيق الخندق. وقد نذر بهم المسلمون، فرموهم بالحجارة والنبل. فوقفنا معهم فرميناهم حتى أذلقناهم بالرمي فانكشفوا راجعين إلى منزلهم. ورجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده يصلي فأخبرته. قالت أم سلمة: فنام حتى سمعت غطيطه فما تحرك حتى سمعت بلالاً يؤذن بالصبح وبياض الفجر، فخرج فصلى بالمسلمين. فكانت تقول: يرحم الله عباد بن بشر، فإنه كان ألزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقبة رسول الله يحرسها أبداً.
فحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: كان أسيد بن حضير يحرس الخندق في أصحابه، فانتهوا إلى مكان من الخندق تطفره الخيل، فإذا طليعةٌ من المشركين، مائة فارس أو نحوها، عليهم عمرو بن العاص يريدون أن يغيروا إلى المسلمين، فقام أسيد بن حضير عليها بأصحابه، فرموهم بالحجارة والنبل حتى أجهضوا عنا وولوا. وكان في المسلمين تلك الليلة سلمان الفارسي، فقال لأسيد: إن هذا مكان من الخندق متقارب، ونحن نخاف تطفره خيلهم - وكان الناس عجلوا في حفره. وبادروا فباتوا يوسعونه حتى صار كهيئة الخندق وأمنوا أن تطفره خيلهم. وكان المسلمون يتناوبون الحراسة، وكانوا في قر شديدٍ وجوع.

فحدثني خارجة بن الحارث، عن أبي عتيق السلمي، عن جابر بن عبد الله قال: لقد رأيتني أحرس الخندق، وخيل المشركين تطيف بالخندق وتطلب غرةً ومضيقاً من الخندق فتقتحم فيه، وكان عمرو بن العاص وخالد ابن الوليد هما اللذان يفعلان ذلك، يطلبان الغفلة من المسلمين. فلقينا خالد بن الوليد في مائة فارس، قد جال بخيله يريد مضيقاً من الخندق يريد أن يعبر فرسانه، فنضحناهم بالنبل حتى انصرف .
فحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال محمد بن مسلمة: أقبل خالد بن الوليد تلك الليلة في مائة فارس. فأقبلوا من العقيق حتى وقفوا بالمذاد وجاه قبة النبي صلى الله عليه وسلم. فنذرت بالقوم فقلت لعباد بن بشر، وكان على حرس قبة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قائماً يصلي، فقلت: أتيت! فركع ثم سجد، وأقبل خالد في ثلاثة نفرٍ هو رابعهم، فأسمعهم يقولون: هذه قبة محمد، ارموا! فرموا، فناهضناهم حتى وقفنا على شفير الخندق، وهم بشفير الخندق من الجانب الآخر، فترامينا، وثاب إلينا أصحابنا، وثاب إليهم أصحابهم، وكثرت الجراحة بيننا وبينهم. ثم اتبعوا الخندق على حافتيه وتبعناهم والمسلمون على محارسهم، فكلما نمر بمحرس نهض معنا طائفةٌ وثبت طائفة، حتى انتهينا إلى راتجٍ فوقفوا وقفةً طويلة، وهم ينتظرون قريظة يريدون أن يغيروا على بيضة المدينة، فما شعرنا إلا بخيل سلمة بن أسلم بن حريش يحرس، فيأتون من خلف راتج، فلاقوا خالد بن الوليد فاقتتلوا واختلطوا، فما كان إلا حلب شاةٍ حتى نظرت إلى خيل خالد مولية، وتبعه سلمة بن أسلم حتى رده من حيث جاء. فأصبح خالد وقريشٌ وغطفان تزري عليه وتقول: ما صنعت شيئاً فيمن في الخندق ولا فيمن أصحر لك . فقال خالد: أنا أقعد الليلة، وابعثوا خيلاً حتى أنظر أي شيءٍ تصنع.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: والله، إني لفي جوف الليل في قبة النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، إلى أن سمعت الهيعة ، وقائلٌ يقول: يا خيل الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل شعار المهاجرين " يا خيل الله " ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوته فخرج من القبة، فإذا نفرٌ من الصحابة عند قبته يحرسونها، منهم عباد بن بشر، فقال: ما بال الناس؟ قال عباد: يا رسول الله، هذا صوت عمر بن الخطاب؛ الليلة نوبته ينادي: يا خيل الله والناس يثوبون إليه، وهو من ناحية حسيكة ما بين ذباب ومسجد الفتح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعباد بن بشر: اذهب فانظر، ثم ارجع إلي إن شاء الله فأخبرني! قالت أم سلمة: فقمت على باب القبة أسمع كل ما يتكلمان به. قالت: فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً حتى جاءه عباد بن بشر فقال: يا رسول الله، هذا عمرو بن عبد في خيل المشركين، معه مسعود بن رخية ابن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع ابن ريث بن غطفان، في خيل غطفان، والمسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة. قالت: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبس درعه ومغفره، وركب فرسه. وخرج معه أصحابه، حتى أتى تلك الثغرة، فلم يلبث أن رجع وهو مسرورٌ فقال: صرفهم الله، وقد كثرت فيهم الجراحة. قالت: فنام حتى سمعت غطيطه، وسمعت هائعةً أخرى، ففزع فوثب فصاح: يا عباد ابن بشر! قال: لبيك! قال: انظر ما هذا. فذهب ثم رجع فقال: هذا ضرار بن الخطاب في خيلٍ من المشركين، معه عيينة بن حصن في خيل غطفان عند جبل بني عبيد، والمسلمون يرامونهم بالحجارة والنبل. فعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس درعه وركب فرسه، ثم خرج معه أصحابه إلى تلك الثغرة. فلم يأتنا حتى كان السحر، فرجع وهو يقول: رجعوا مفلولين، قد كثرت فيهم الجراحة. ثم صلى بأصحابه الصبح وجلس. فكانت أم سلمة تقول: قد شهدت معه مشاهد فيها قتالٌ وخوف - المريسيع، وخيبر، وكنا بالحديبية، وفي الفتح، وحنين - لم يكن من ذلك شيءٌ أتعب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أخوف عندنا من الخندق. وذلك أن المسلمين كانوا في مثل الحرجة ، وأن قريظة لا نأمنها على الذراري، والمدينة تحرس حتى الصباح، يسمع تكبير المسلمين فيها حتى يصبحوا خوفاً، حتى ردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال .

حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، عن محمد بن مسلمة. قال: كنا حول قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرسه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائمٌ نسمع غطيطه، إذ وافت أفراسٌ على سلع، فبصر بهم عباد بن بشر فأخبرنا بهم، قال: فأمضى إلى الخيل، وقام عباد على باب قبة النبي صلى الله عليه وسلم آخذاً بقائم السيف ينظرني، فرجعت فقلت: خيل المسلمين أشرفت، عليها سلمة بن أسلم بن حريش، فرجعت إلى موضعنا. ثم يقول محمد بن مسلمة: كان ليلنا بالخندق نهاراً حتى فرجه الله.
حدثني خارجة بن الحارث، عن أبي عتيق، عن جابر، وحدثني الضحاك ابن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله، قال: كان خوفنا على الذراري بالمدينة من بني قريظة أشد من خوفنا من قريشٍ حتى فرج الله ذلك.
قالوا: فكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يوماً، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يوماً، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يوماً، وضرار بن الخطاب يوماً، فلا يزالون يجيلون خيلهم ما بين المذاذ إلى راتج، وهم في نشرٍ من أصحابهم، يتفرقون مرة ويجتمعون أخرى، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفاً شديداً. ويقدمون رماتهم - وكان معهم رماة؛ حبان بن العرقة، وأبو أسامة الجشمي، وغيرهم من أفناء العرب - فعمدوا يوماً من ذلك فتناوشوا بالنبل ساعة، وهم جميعاً في وجهٍ واحد وجاه قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم، عليه الدرع والمغفر، ويقال على فرسه. فيرمي حبان بن العرقة سعد بن معاذ بسهم فأصاب أكحله ، فقال: خذها وأنا ابن العرقة! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عرق الله وجهك في النار! ويقال أبو أسامة الجشمي رماه، وكان دارعاً. فكانت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول: كنا في أطم بني حارثة قبل الحجاب ومعنا أم سعد بن معاذ، فمر سعد بن معاذ يومئذٍ عليه ردع خلوقٍ ما رأيت أحداً في الخلوق مثله، وعليه درعٌ له، مشمرة عن ذراعيه؛ والله، إني لأخاف عليه يومئذٍ من تشميرة درعه ما أصابه، فمر يرفل في يده الحربة، وهو يقول:
لبث قليلاً يدرك الهيجا حمل ... ما أحسن الموت إذا حان الأجل
وأمه تقول: الحق برسول الله يا بني! وقد والله تأخرت، فقلت: والله يا أم سعد، لوددت أن درع سعد أسبغ على بنانه. قالت أم سعد: يقضي الله ما هو قاض! فقضى له أن أصيب يومئذٍ، ولقد جاء الخبر بأنه قد رمي، تقول أمه: واجبلاه! ثم إن روساءهم أجمعوا أن يغدوا جميعاً، فغدا أبو سفيان بن حرب، وعكرمة بن أبي جهل، وضرار بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، ونوفل بن عبد الله المخزومي، وعمرو بن عبد، ونوفل بن معاوية الديلي، في عدة، فجعلوا يطيفون بالخندق؛ ومعه روساء غطفان - عيينة بن حصن، ومسعود بن رخيلة، والحارث بن عوف؛ ومن سليم رؤساوهم؛ ومن بني أسد طليحة بن خويلد. وتركوا الرجال منهم خلوفاً، يطلبون مضيقاً يريدون يقتحمون خيلهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فانتهوا إلى مكانٍ قد أغفله المسلمون، فجعلوا يكرهون خيلهم ويقولون: هذه المكيدة، ما كانت العرب تصنعها ولا تكيدها. قالوا : إن معه رجلاً فارسياً، فهو الذي أشار عليهم بهذا. قالوا: فمن هناك إذاً؟ فعبر عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبد الله، وضرار ابن الخطاب، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن عبد، وقام سائر المشركين من وراء الخندق لا يعبرون، وقيل لأبي سفيان: ألا تعبر؟ قال: قد عبرتم، فإن احتجتم إلينا عبرنا. فجعل عمرو بن عبدٍ يدعو إلى البراز ويقول:
ولقد بححت من الندا ... ء لجمعكم هل من مبارز

وعمرو يومئذٍ ثائر، قد شهد بدراً فارتث جريحاً فلم يشهد أحداً، وحرم الدهن حتى يثأر من محمدٍ وأصحابه، وهو يومئذٍ كبير - يقال بلغ تسعين سنة. فلما دعا إلى البراز قال علي كرم الله وجهه: أنا أبارزه يا رسول الله! ثلاث مرات. وإن المسلمين يومئذٍ كأن على رءوسهم الطير، لمكان عمرو وشجاعته. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، وعممه وقال: اللهم أعنه عليه! قال: وأقبل عمرو يومئذٍ وهو فارسٌ وعليٌّ راجل، فقال له عليٌ رضي الله عنه: إنك كنت تقول في الجاهلية: لا يدعوني أحدٌ إلى واحدةٍ من ثلاثٍ إلا قبلتها! قال: أجل! قال عليٌ: فإني أدعوك أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتسلم لله رب العالمين. قال: يا ابن أخي، أخر هذا عني. قال: فأخرى؛ ترجع إلى بلادك، فإن يكن محمدٌ صادقاً كنت أسعد الناس به، وإن غير ذلك كان الذي تريد. قال: هذا ما لا تتحدث به نساء قريشٍ أبداً، وقد نذرت ما نذرت وحرمت الدهن. قال: فالثالثة؟ قال: البراز. قال فضحك عمرو ثم قال: إن هذه الخصلة ما كنت أظن أن أحداً من العرب يرومني عليها! إني لأكره أن أقتل مثلك، وكان أبوك لي نديماً؛ فارجع، فأنت غلامٌ حدث، إنما أردت شيخي قريش! أبا بكر وعمر. قال فقال عليٌّ رضي الله عنه: فإني أدعوك إلى المبارزة فأنا أحب أن أقتلك. فأسف عمرو ونزل وعقل فرسه فكان جابر يحدث يقول: فدنا أحدهما من صاحبه وثارت بينهما غبرةٌ فما نراهما، فسمعنا التكبير تحتها فعرفنا أن علياً قتله. فانكشف أصحابه الذين في الخندق هاربين، وطفرت بهم خيلهم، إلا أن نوفل ابن عبد الله وقع به فرسه في الخندق، فرمي بالحجارة حتى قتل. ورجعوا هاربين، وخرج في أثرهم الزبير بن العوام وعمر بن الخطاب، فناوشوهم ساعة. وحمل ضرار بن الخطاب على عمر بن الخطاب بالرمح، حتى إذا وجد عمر مس الرمح رفعه عنه وقال: هذه نعمة مشكورة، فاحفظها يا ابن الخطاب! إني قد كنت حلفت لا تمكنني يداي من رجلٍ من قريشٍ ابداً. فانصرف ضرار راجعاً إلى أبي سفيان وأصحابه وهم قيامٌ عند جبل بني عبيد. ويقال: حمل الزبير على نوفل بن عبد الله بن المغيرة بالسيف حتى شقه باثنين وقطع أندوج سرجه - والأندوج: اللبد الذي يكون تحت السرج - ويقال إلى كاهل الفرس. فقيل: يا أبا عبد الله، ما رأينا سيفاً مثل سيفك! فيقول: والله، ما هو بالسيف ولكنها الساعد وهرب عكرمة وهبيرة فلحقا بأبي سفيان، وحمل الزبير على هبيرة فضرب ثفر فرسه فقطع ثفر فرسه وسقطت درعٌ كان محقبها الفرس، فأخذ الزبير الدرع، وفر عكرمة وألقى رمحه. فلما رجعوا إلى أبي سفيان قال: هذا يومٌ لم يكن لنا فيه شيء، ارجعوا! فنفرت قريشٌ فرجعت إلى العقيق، ورجعت غطفان إلى منازلها، واتعدوا يغدون جميعاً ولا يتخلف منهم أحد. فباتت قريش يعبئون أصحابهم، وباتت غطفان يعبئون أصحابهم، ووافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق قبل طلوع الشمس. وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه وحضهم على القتال، ووعدهم النصر إن صبروا، والمشركون قد جعلوا المسلمين في مثل الحصن من كتائبهم فأخذوا بكل وجهٍ من الخندق.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر بن عبد الله قال: قاتلونا يومهم وفرقوا كتائبهم، ونحوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبةً غليظةً فيها خالد بن الوليد، فقاتلهم يومه ذلك إلى هويٍ من الليل، ما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدٌ من المسلمين أن يزولوا من مواضعهم، وما يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء، فجعل أصحابه يقولون: يا رسول الله، ما صلينا! فيقول: ولا أنا والله ما صليت! حتى كشفهم الله تعالى فرجعوا متفرقين. فرجعت قريشٌ إلى منزلها، ورجعت غطفان إلى منزلها، وانصرف المسلمون إلى قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقام أسيد بن حضير على الخندق في مائتين من المسلمين، فهم على شفير الخندق إذ كرت خيلٌ من الشمركين يطلبون غرةً، عليهم خالد بن الوليد؛ فناوشوهم ساعةً ومع المشركين وحشي، فزرق الطفيل بن النعمان من بني سلمة بمزراقه فقتله، فكان يقول: أكرم الله تعالى حمزة والطفيل بحربتي ولم يهنى بأيديهما. فلما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضع قبته أمر بلالاً فأذن. وكان عبد الله بن مسعود يقول: أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فاذن وأقام للظهر، وأقام بعد لكل صلاةٍ إقامةً إقامةً.
وقد حدثني ابن أبي ذئب - وهو أثبت الحديثين عندنا - قال: أخبرني المقبري، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه قال: جلسنا يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بهويٍ من الليل حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: " وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قوياً عزيزاً " . فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأمره، فأقام صلاة الظهر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها. ثم أقام صلاة العصر فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها، ثم أقام المغرب فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها، ثم أقام العشاء فصلاها كأحسن ما كان يصليها في وقتها. قال: وذلك قبل أن ينزل الله صلاة الخوف: " فرجالاً أو ركباناً " .
وكان ابن عباس يحدث يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ: شغلنا المشركون عن صلاة الوسطى - يعني العصر - ملأ الله أجوافهم وقبورهم ناراً! وأرسلت بنو مخزوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون جيفة نوفل ابن عبد الله يشترونها بالدية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي جيفة حمار! وكره ثمنه. فلما انصرف المشركون تلك الليلة لم يكن لهم قتالٌ جميعاً حتى انصرفوا، إلا أنهم لا يدعون يبعثون الطلائع بالليل، يطمعون في الغارة. وخرجت بعد ذلك طليعتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً، فالتقيا ولا يشعر بعضهم ببعض، ولا يظنون إلا أنهم العدو، فكانت بينهم جراحةٌ وقتلٌ؛ ولسنا نعرف من قتل ولم يسم لنا. ثم نادوا بشعار الإسلام، وكف بعضهم عن بعض، وكان شعارهم: حم لا ينصرون! فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جراحكم في سبيل الله، ومن قتل منكم فإنه شهيد. فكانوا بعد ذلك إذا دنا المسلمون بعضهم من بعضٍ نادوا بشعارهم؛ لأن يكف بعضهم عن بعض، فلا يرمون بنبلٍ ولا بحجر. كانوا يطيفون بالخندق بالليل حتى الصباح يتناوبون، وكذلك يفعل المشركون أيضاً، يطيفون بالخندق حتى يصبحوا. قال: فكان رجالٌ من أهل العوالي يطلعون إلى أهليهم، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليكم بني قريظة. فإذا ألحوا في كثرة ما يستأذنونه يقول: من ذهب منكم فليأخذ سلاحه فإني لا آمن بني قريظة، هم على طريقكم. وكان كل من يذهب منهم إنما يسلكون على سلعٍ حتى يدخلوا المدينة، ثم يذهبون إلى العالية.

فحدثني مالك بن أنس، عن صيفي مولى ابن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري في بيته فوجده يصلي، قال: فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته. قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته فإذا حية، فقمت لأقتلها فأشار إلي أن اجلس. فلما جلست سلم وأشار إلى بيتٍ في الدار، فقال لي: أترى هذا البيت؟ فقلت: نعم فقال: إنه كان فيه فتىً حديث عهدٍ بعرس، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الخندق فكان يستأذنه بأنصاف النهار ليطلع إلى أهله، فاستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ سلاحك فإني أخشى عليك بني قريظة. قال: فأخذ الرجل سلاحه وذهب فإذا امرأته قائمةٌ بين البابين، فهيأ لها الرمح ليطعنها، وأصابته غيرةٌ فقالت: اكفف عليك رمحك حتى ترى ما في بيتك! فكف ودخل فإذا هو بحيةٍ منطوية على فراشه، فركز فيها رمحه فانتظمها فيه، ثم خرج به فنصبه في الدار، فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً، الفتى أو الحية. قال أبو سعيد: فجئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له فقلنا: يا رسول الله، ادع الله أن يحييه. فقال: استغفروا لصاحبكم. ثم قال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.
فحدثني قدامة بن موسى، عن عائشة بنت قدامة، عن أبيها، قال: بعثنا ابن أختنا ابن عمر يأتينا بطعامٍ ولحفٍ وقد بلغنا من الجوع والبرد، فخرج ابن عمر حتى إذا هبط من سلع - وذلك ليلاً - غلبته عيناه فنام حتى أصبح. فاهتممنا به فخرجت أطلبه فأجده نائماً، والشمس قد ضحته، فقلت: الصلاة، أصليت اليوم؟ قال: لا. قلت: فصل. فقام سريعاً إلى الماء، وذهبت إلى منزلنا بالمدينة فجئت بتمرٍ ولحاف واحد، فكنا نلبس ذلك اللحاف جميعاً - من قام منا في المحرس ذهب مقروراً ثم رجع حتى يدخل في اللحاف، حتى فرج الله ذلك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت بالصبا وأهلكت عادٌ بالدبور.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: جاءت الجنوب إلى الشمال فقالت: انطلقي بنصر الله ورسوله فقالت الشمال: إن الحرة لا تسري بليل. فبعث الله عز وجل الصبا، فأطفأت نيرانهم وقطعت أطناب فساطيطهم.
حدثني عمر بن عبد الله بن رياح الأنصاري، عن القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، من بني عدي بن النجار، قال: كان المسلمون قد أصابتهم مجاعةٌ شديدة، فكان أهلوهم يبعثون إليهم بما قدروا عليه، فأرسلت عمرة بنت رواحة ابنتها بجفنة تمرٍ عجوةٍ في ثوبها، فقالت: يا بنية، اذهبي إلى أبيك بشير بن سعد، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما. فانطلقت الجارية حتى تأتي الخندق، فتجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في أصحابه وهي تلتمسهما، فقال: تعالي يا بنية، ما هذا معك؟ قالت: بعثتني أمي إلى أبي وخالي بغدائهما. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هاتيه! قالت: فأعطيته فأخذه في كفيه، ثم أمر بثوبٍ فبسط له، وجاء بالتمر فنشره عليه فوق الثوب، فقال لجعال بن سراقة: ناد بأهل الخندق أن هلم إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه يأكلون منه، حتى صدر أهل الخندق وإنه ليفيض من أطراف الثوب.
وحدثني شعيب بن عبادة، عن عبد الله بن معتب، قال: أرسلت أم عامر الأشهلية بقعبةٍ فيها حيسٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبته وهو عند أم سلمة، فأكلت أم سلمة حاجتها، ثم خرج بالبقية فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عشائه، فأكل أهل الخندق حتى نهلوا وهي كما هي.

حدثنا محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، قال: حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضع عشرة حتى حلص إلى كل امرىءٍ منهم الكرب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إنك أن تشأ لا تعبد! فبينا هم على ذلك من الحال أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وإلى الحارث بن عوف - ولم يحضر الخندق الحارث بن عوف ولا قومه، ويقال حضرها الحارث بن عوف. قال ابن واقد: وهو أثبت القولين عندنا. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه وإلى عيينة: أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر المدينة ترجعان بمن معكم وتخذلان بين الأعراب؟ قالا: تعطينا نصف تمر المدينة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزيدهما على الثلث، فرضيا بذلك وجاءا في عشرةٍ من قومهما حين تقارب الأمر، فجاءوا وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحضر الصحيفة والدواة، وأحضر عثمان بن عفان فأعطاه الصحيفة وهو يريد أن يكتب الصلح بينهم. وعباد بن بشر قائمٌ على راس رسول الله صلى الله عليه وسلم مقنعٌ في الحديد. فأقبل أسيد بن حضير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدري بما كان من الكلام، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء عيينة ماداً رجليه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم ما يريدون، فقال: يا عين الهجرس ، اقبض رجليك! أتمد رجليك بين يدي رسول الله؟ ومعه الرمح. والله، لولا رسول الله لأنفذت خصيتيك بالرمح! ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن كان أمراً من السماء فامض له، وإن كان غير ذلك فوالله لا نعطيهم إلا السيف! متى طمعوا بهذا منا؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشارهما في ذلك، وهو متكىءٌ عليهما، والقوم جلوسٌ، فتكلم بكلامٍ يخفيه، وأخبرهما بما قد أراد من الصلح. فقالا: إن كان هذا أمراً من السماء فامض له، وإن كان أمراً لم تؤمر فيه ولك فيه هوىً فامض لما كان لك فيه هوىً، فسمعاً وطاعةً، وإن كان إنما هو الرأي فما لهم عندنا إلا السيف. وأخذ سعد بن معاذ الكتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني رأيت العرب رمتكم عن قوسٍ واحدةٍ فقلت أرضيهم ولا أقاتلهم. فقالا: يا رسول الله، إن كانوا ليأكلون العلهز في الجاهلية من الجهد، ما طمعوا بهذا منا قط، أن يأخذوا تمرةً إلا بشرى أو قرى! فحين أتانا الله تعالى بك، وأكرمنا بك، وهدانا بك نعطي الدنية! لا نعطيهم أبداً إلا السيف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شق الكتاب. فتفل سعد فيه، ثم شقه وقال: بيننا السيف! فقام عيينة وهو يقول: أما والله للتي تركتم خيرٌ لكم من الخطة التي أخذتم، وما لكم بالقوم طاقة. فقال عباد بن بشر: يا عيينة، أبالسيف تخوفنا؟ ستعلم أينا أجزع! وإلا فوالله لقد كنت أنت وقومك تأكلون العلهز والرمة من الجهد فتأتون هاهنا ما تطمعون بهذا منا إلا قرىً أو شرىً، ونحن لا نعبد شيئاً. فلما هدانا الله وأيدنا بمحمد صلى الله عليه وسلم سألتمونا هذه الخطة! أما والله، لولا مكان رسول الله ما وصلتم إلى قومكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا، بيننا السيف! رافعاً صوته. فرجع عيينة والحارث وهما يقولان: والله، ما نرى أن ندرك منهم شيئاً. ولقد أنهجت للقوم بصائرهم! والله، ما حضرت إلا كرهاً لقوم غلبوني. وما مقامنا بشيءٍ. مع أن قريشاً إن علمت بما عرضنا على محمدٍ عرفت أنا قد خذلناها ولم ننصرها. قال عيينة: هو والله ذلك! قال الحارث: أما إنا لم نصب بتعرضنا لنصر قريشٍ على محمد، والله لئن ظهرت قريشٌ على محمد ليكونن الأمر فيها دون سائر العرب، مع أني أرى أمر محمد أمراً ظاهراً. والله، لقد كان أحبار يهود خيبر وإنهم يحدثون أنهم يجدون في كتبهم أنه يبعث نبي من الحرم على صفته. قال عيينة: إنا والله ما جئنا ننصر قريشاً، ولو استنصرنا قريشاً ما نصرتنا ولا خرجت معنا من حرمها. ولكني كنت أطمع أن تأخذ تمر المدينة فيكون لنا به ذكرٌ مع ما لنا فيه من منفعة الغنيمة. مع أنا ننصر حلفاءنا من اليهود فهم جلبونا إلى ما ها هنا. قال الحارث: قد والله أبت الأوس والخزرج إلا السيف؛ والله لتقاتلن عن هذا السعف. ما بقي منها رجلٌ مقيم وقد أجدب الجناب وهلك الخف والكراع. قال عيينة: لا شيء. فلما

أتيا منزلهما جاءتهما غطفان فقالوا: ما وراءكم؟ قالوا: لم يتم الأمر؛ رأينا قوماً على بصيرةٍ وبذل أنفسهم دون صاحبهم، وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريشٌ تنصرف ولا تكلم محمداً! وإنما يقع حر محمدٍ ببني قريظة؛ إذا ولينا جثم عليهم فحصرهم جمعةً حتى يعطوا بأيديهم. قال الحارث: بعداً وسحقاً! محمدٌ أحب إلينا من اليهود. منزلهما جاءتهما غطفان فقالوا: ما وراءكم؟ قالوا: لم يتم الأمر؛ رأينا قوماً على بصيرةٍ وبذل أنفسهم دون صاحبهم، وقد هلكنا وهلكت قريش، وقريشٌ تنصرف ولا تكلم محمداً! وإنما يقع حر محمدٍ ببني قريظة؛ إذا ولينا جثم عليهم فحصرهم جمعةً حتى يعطوا بأيديهم. قال الحارث: بعداً وسحقاً! محمدٌ أحب إلينا من اليهود.
ذكر نعيم بن مسعود

حدثنا عبد الله بن عاصم الأشجعي، عن أبيه قال: قال نعيم بن مسعود: كانت بنو قريظة أهل شرف وأموال، وكنا قوماً عرباً، لا نخل لنا ولا كرم، وإنما نحن أهل شاةٍ وبعير. فكنت أقدم على كعب بن أسد، فأقيم عندهم الأيام، أشرب من شرابهم وآكل من طعامهم، ثم يحملونني تمراً على ركابي ما كانت، فأرجع إلى أهلي. فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي، وأنا على ديني، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً، فاقامت الأحزاب ما أقامت حتى أجدب الجناب وهلك الخف والكراع، وقذف الله عز وجل في قلبي الإسلام. وكتمت قومي إسلامي، فأخرج حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء وأجده يصلي، فلما رآني جلس ثم قال: ما جاء بك يا نعيم؟ قلت: إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمرني بما شئت يا رسول الله، فوالله لا تأمرني إلا مضيت له؛ قومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم. قال: ما استطعت أن تخذل الناس فخذل! قال، قلت: أفعل، ولكن يا رسول الله أقول فأذن لي، قال: قل ما بدا لك فأنت في حل. قال: فذهبت حتى جئت بني قريظة، فلما رأوني رحبوا وأكرموا وحيوا وعرضوا علي الطعام والشراب، فقلت: إني لم آت لشيءٍ من هذا؛ إنما جئتكم نصباً بأمركم، وتخوفاً عليكم؛ لأشير عليكم برأي، وقد عرفتم ودي إياكم وخاصةً ما بيني وبينكم. فقالوا: قد عرفنا ذلك وأنت عنندنا على ما تحب من الصدق والبر. قال: فاكتموا عني. قالوا: نفعل. قال: إن أمر هذا الرجل بلاء - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - صنع ما قد رأيتم ببني قينقاع وبني النضير، وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال. وكان ابن أبي الحقيق قد سار فينا فاجتمعنا معه لنصركم، وأرى الأمر قد تطاول كما ترون، وإنكم والله، ما أنتم وقريشٌ وغطفان من محمدٍ بمنزلةٍ واحدة؛ أما قريشٌ وغطفان فهم قومٌ جاءوا سيارةً حتى نزلوا حيث رأيتم، فإن وجدوا فرصةً انتهزوها، وإن كانت الحرب، أو أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم. وأنتم لا تقدرون على ذلك، البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وقد غلظ عليهم جانب محمد، أجلبوا عليه أمس إلى الليل، فقتل رأسهم عمرو بن عبد، وهربوا منه ، مجرحين وهم لا غناء بهم عنكم؛ لما تعرفون عندكم. فلا تقاتلوا مع قريشٍ ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم تستوثقون به منهم ألا يناجزوا محمداً. قالوا: أشرت بالرأي علينا والنصح. ودعوا له وتشكروا، وقالوا: نحن فاعلون. قال: ولكن اكتموا عني. قالوا: نعم، نفعل. ثم خرج إلى أبي سفيان بن حرب في رجالٍ من قريشٍ فقال: يا أبا سفيان، قد جئتك بنصيحةٍ فاكتم عني. قال: أفعل. قال: تعلم أن قريظة قد ندموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وأرادوا إصلاحه ومراجعته. أرسلوا إليه وأنا عندهم: إنا سنأخذ من قريشٍ وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم - يعنون بني النضير - ونكون معك على قريشٍ حتى نردهم عنك. فإن بعثوا إليكم يسألونكم رهناً فلا تدفعوا إليهم أحداً واحذروهم على أشرافكم، ولكن اكتموا عني ولا تذكروا من هذا حرفاً. قالوا: لا نذكره. ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان، إني رجلٌ منكم فاكتموا عني، واعلموا أن قريظة بعثوا إلى محمد - وقال لهم مثل ما قال لقريش - فاحذروا أن تدفعوا إليههم أحداً من رجالكم. وكان رجلاً منهم فصدقوه، وأرسلت اليهود غزال بن سموأل إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف قريش: إن ثواءكم قد طال ولم تصنعوا شيئاً وليس الذي تصنعون برأي، إنكم لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد، فتأتون من وجهٍ وتأتي غطفان من وجهٍ ونخرج نحن من وجهٍ آخر، لم يفلت من بعضنا. ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برهان من أشرافكم يكونون عندنا، فإنا نخاف إن مستكم الحرب وأصابكم ما تكرهون شمرتم وتركتمونا في عقر دارنا وقد نابذنا محمداً بالعداوة. فانصر الرسول إلى بني قريظة ولم يرجعوا إليهم شيئاً، وقال أبو سفيان: هذا ما قال نعمي. فخرج نعيم إلى بني قريظة فقال: يا معشر بني قريظة، أنا عند أبي سفيان حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرهان، فلم يرد عليه شيئاً فلما ولى قال: لو طلبوا مني عناقاً ما رهنتها! أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعونهم إلى محمدٍ يقتلهم! فارتأوا آراءكم حتى تأخذوا الرهن، فإنكم إن لم

تقاتلوا محمداً وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا: ترجو ذلك يا نعيم؟ قال: نعم. قال كعب بن أسد: فإنا لا نقاتله. والله، لقد كنت لهذا كارهاً ولكن حيي رجلٌ مشئوم. قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمدٍ لم يقبل منا إلا السيف. قال نعيم: لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال الزبير: بلى والتوراة، ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر لتخرجن إلى محمدٍ ولا يطلبون من قريشٍ رهناً، فإن قريشاً لا تعطينا رهناً أبداً، وعلى أي وجهٍ تعطينا قريشٌ الرهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم كراعٌ ولا كراع معنا، وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه؟ وهذه غطفان تطلب إلى محمدٍ أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف، فأبى محمدٌ إلا السيف، فهم ينصرفون بغير شيء. فلما كان ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إن الجناب قد أجدب، وهلك الكراع والخف، وغدرت اليهود وكذبت، وليس هذا بحين مقامٍ فانصرفوا! قالت قريش: فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم. فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب، وإنا لسنا بدار مقامة، اخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة. قالوا: غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري والنساء والأموال. فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا: ما وراءك؟ قال: أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حقٌّ، لقد غدر أعداء الله. وارسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجالٍ منهم بمثل رسالة أبي سفيان، فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان. وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم: نحلف بالله إن الخبر الذي قال نعيم لحقٌّ. وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسقط في أيديهم، فكر أبو سفيان إليهم وقال: إنا والله لا نفعل، إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت اليهود مثل قولهم الأول، وجعلت اليهود تقول: الخبر ما قال نعيم. وجعلت قريشٌ وغطفان تقول: الخبر ما قال نعيم. ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واختلف أمرهم، فكان نعيمٌ يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره. فكان صحيح الإسلام بعداتلوا محمداً وانصرف أبو سفيان تكونوا على مواعدتكم الأولى. قالوا: ترجو ذلك يا نعيم؟ قال: نعم. قال كعب بن أسد: فإنا لا نقاتله. والله، لقد كنت لهذا كارهاً ولكن حيي رجلٌ مشئوم. قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمدٍ لم يقبل منا إلا السيف. قال نعيم: لا تخش ذلك يا أبا عبد الرحمن. قال الزبير: بلى والتوراة، ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر لتخرجن إلى محمدٍ ولا يطلبون من قريشٍ رهناً، فإن قريشاً لا تعطينا رهناً أبداً، وعلى أي وجهٍ تعطينا قريشٌ الرهن وعددهم أكثر من عددنا، ومعهم كراعٌ ولا كراع معنا، وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه؟ وهذه غطفان تطلب إلى محمدٍ أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف، فأبى محمدٌ إلا السيف، فهم ينصرفون بغير شيء. فلما كان ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إن الجناب قد أجدب، وهلك الكراع والخف، وغدرت اليهود وكذبت، وليس هذا بحين مقامٍ فانصرفوا! قالت قريش: فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم. فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب، وإنا لسنا بدار مقامة، اخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة. قالوا: غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً، وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري والنساء والأموال. فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا: ما وراءك؟ قال: أحلف بالله إن الخبر الذي جاء به نعيم حقٌّ، لقد غدر أعداء الله. وارسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجالٍ منهم بمثل رسالة أبي سفيان، فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان. وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم: نحلف بالله إن الخبر الذي قال نعيم لحقٌّ. وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسقط في أيديهم، فكر أبو سفيان إليهم وقال: إنا والله لا نفعل، إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا. فقالت اليهود مثل قولهم الأول، وجعلت اليهود تقول: الخبر ما قال نعيم. وجعلت قريشٌ وغطفان تقول: الخبر ما قال نعيم. ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، ويئس هؤلاء من نصر هؤلاء، واختلف أمرهم، فكان نعيمٌ يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفرقوا في كل وجه، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره. فكان صحيح الإسلام بعد

فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما قالت قريظة لعكرمة بن أبي جهل ما قالت، قال أبو سفيان بن حرب لحيي ابن أخطب: أين ما وعدتنا من نصر قومك؟ قد خلونا وهم يريدون الغدر بنا! قال حيي: كلا والتوراة، ولكن السبت قد حضر ونحن لا نكسر السبت، فكيف ننصر على محمدٍ إذا كسرنا السبت؟ فإذا كان يوم الأحد اغدوا على محمدٍ وأصحابه بمثل حرق النار. وخرج حيي بن أخطب حتى أتى بني قريظة فقال: فداءكم أبي وأمي، إن قريشاً قد اتهمتكم بالغدر واتهموني معكم، وما السبت لو كسرتموه لما قد حضر من أمر عدوكم؟ قال: فغضب كعب بن أسد، ثم قال: لو قتلهم محمدٌ حتى لا يبقى منهم أحدٌ ما كسرنا سبتنا. فرجع حيي إلى أبي سفيان بن حرب فقال: ألم أخبرك يا يهودي أن قومك يريدون الغدر؟ قال حيي: لا والله، ما يريدون الغدر، ولكنهم يريدون الخروج يوم الأحد. فقال أبو سفيان: وما السبت؟ قال: يوم من أيامهم يعظمون القتال فيه، وذلك أن سبطاً منا أكلوا الحيتان يوم السبت فمسخهم الله قردةً وخنازير. قال أبو سفيان: لا أراني أستنصر بأخوة القردة والخنازير! ثم قال أبو سفيان: قد بعثت عكرمة بن أبي جهل وأصحابه إليهم فقالوا: لا نقاتل حتى تبعثوا لنا بالرهان من أشرافكم. وقبل ذلك ما جاءنا غزال بن سموأل برسالتهم. قال أبو سفيان: أحلف باللات إن هو إلا غدركم، وإني لأحسب أنك قد دخلت في غدر القوم! قال حيي: والتوراة التي أنزلت على موسى يوم طور سيناء ما غدرت! ولقد جئتك من عند قومٍ هم أعدى الناس لمحمدٍ وأحرصهم على قتاله، ولكن ما مقام يومٍ واحدٍ حتى يخرجوا معك! قال أبو سفيان: لا والله ولا ساعة، لا أقيم بالناس انتظار غدركم. حتى خاف حيي ابن أخطب على نفسه من أبي سفيان، فخرج معهم من الخوف حتى بلغ الروحاء، فما رجع إلا متسرقاً لما أعطى كعب بن أسد من نفسه ليرجعن إليه، فدخل مع بني قريظة حصنهم ليلاً ويجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زحف إليهم ساعة ولت الأحزاب.
فحدثني صالح بن جعفر، عن أبي كعب القرظي، قال: كان حيي بن أخطب قال لكعب بن أسد حين جاءه، وجعل كعب يأبى فقال حيي: لا تقاتل حتى تأخذ سبعين رجلاً من قريشٍ وغطفان رهاناً عندكم. وذلك من حيي خديعة لكعب حتى ينقض العهد، وعرف أنه إذا نقض العهد لحم الأمر. ولم يخبر حيي قريشاً بالذي قال لبني قريظة، فلما جاءهم عكرمة يطلب منهم أن يخرجوا معه السبت قالوا: لا نكسر السبت، ولكن يوم الأحد، ولا نخرج حتى تعطونا الرهان. فقال عكرمة: أي رهان؟ قال كعب: الذي شرطتم لنا. قال: ومن شرطها لكم؟ قالوا: حيي بن أخطب. فأخبر أبا سفيان ذلك فقال لحيي: يا يهودي، نحن قلنا لك كذا وكذا؟ قال: لا والتوراة، ما قلت ذلك. قال أبو سفيان: بل هو الغدر من حيي. فجعل حيي يحلف بالتوراة ما قال ذلك.
حدثني موسى بن يعقوب، عن عمه قال، قال كعب: يا حيي لا نخرج حتى نأخذ من كل أصحابك من كل بطن سبعين رجلاً رهناً في أيدينا. فذكر ذلك حيي لقريشٍ ولغطفان وقيس. ففعلوا وعقدوا بينهم عقداً بذلك حتى شق كعبٌ الكتاب. فلما أرسلت إليه قريشٌ تستنصره قال: الرهن! فأنكروا ذلك واختلفوا؛ لما أراد الله عز وجل.

وحدثني معمر، عن الزهري قال، سمعته يقول: أرسلت بنو قريظة إلى أبي سفيان أن ائتوا فإنا سنغير على بيضة المسلمين من ورائهم. فسمع ذلك نعيم بن مسعود، وكان موادعاً للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عند عيينة حين ارسلت بذلك بنو قريظة إلى أبي سفيان وأصحابه. فأقبل نعيم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها وما ارسلت به قريظة إلى الأحزاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلعلنا أمرناهم بذلك. فقام نعيم بكلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك من عند رسول الله. قال: وكان نعيم رجلاً لا يكتم الحديث، فلما ولى من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاهباً إلى غطفان قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله، ما هذا الذي قلت؟ إن كان أمرٌ من الله تعالى فامضه، وإن كان هذا راياً من قبل نفسك فإن شأن بني قريظة هو أهون من أن تقول شيئاً يؤثر عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو رأي رأيته الحرب خدعة. ثم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثر نعيم، فدعاه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيت الذي سمعتني قلت آنفاً؟ اسكت عنه فلا تذكره! فانصرف من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء عيينة بن حصن ومن معه من غطفان، فقال لهم: هل علمتم محمداً قال شيئاً قط إلا كان حقاً؟ قالوا: لا. قال: فإنه قال لي فيما ارسلت به إليكم بنو قريظة: " فلعلنا نحن أمرناهم بذلك " ، ثم نهاني أذكره لكم. فانطلق عيينة حتى لقي أبا سفيان بن حرب، فأخبره خبر نعيم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: إنما أنتم في مكر بني قريظة. فقال أبو سفيان: نرسل إليهم الآن فنسألهم الرهن، فإن دفعوا الرهن إلينا فقد صدقونا، وإن أبوا ذلك فنحن منهم في مكر. فجاءهم رسول أبي سفيان فسألهم الرهن ليلة السبت فقالوا: هذه ليلة السبت ولسنا نقضي فيها ولا في يومها أمراً، فأمهل حتى يذهب السبت. فخرج الرسول إلى أبي سفيان فقال أبو سفيان، ورءوس الأحزاب معه هذا مكر من بني قريظة، فارتحلوا فقد طالت إقامتكم. فآذنوا الرحيل، وبعث الله تعالى عليهم الريح، حتى ما يكاد أحدهم يهتدي لموضع رحله، فارتحلوا فولوا منهزمين.
ويقال إن حيي بن أخطب قال لأبي سفيان: أنا آخذ لك من بني قريظة سبعين رجلاً رهناً عندك حتى يخرجوا فيقاتلوا، فهم أعرف بقتال محمدٍ وأصحابه. فكان هذا الذي قال إن أبا سفيان طلب الرهن. قال ابن واقد: وأثبت الأشياء عندنا قول نعيم الأول.
وكان عبد الله بن أبي أوفى يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على الأحزاب فقال: اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب! اللهم اهزمهم! فحدثني كثير بن زيد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن جابر بن عبد الله، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب في مسجد الأحزاب يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، فاستجيب له بين الظهر والعصر يوم الأربعاء. قال: فعرفنا السرور في وجهه. قال جابر: فما نزل بي أمرٌ غائظٌ مهمٌّ إلا تحينت تلك الساعة من ذلك اليوم، فأدعو الله فأعرف الإجابة.
وكان ابن أبي ذئب يحدث، عن رجلٍ من بني سلمة، عن جابر بن عبد الله، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجبل الذي عليه المسجد، فدعا في إزارٍ ورفع يديه مداً، ثم جاءه مرةً أخرى فصلى ودعا.
وكان عبد الله بن عمر يقول: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخريق القابل الصاب على أرض بني النضير، وهو اليوم موضع المسجد الذي بأسفل الجبل. ويقال إنه صلى في تلك المساجد كلها التي حول المسجد الذي فوق الجبل. قال ابن واقد: وهذا أثبت الأحاديث.

وقالوا: لما كان ليلة السبت بعث الله الريح فقلعت وتركت وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى أن ذهب ثلث الليل، وكذلك فعل ليلة قتل ابن الأشرف، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه الأمر أكثر الصلاة. قالوا: وكان حصار الخندق في قرٍ شديدٍ وجوع، فكان حذيفة بن اليمان يقول: لقد رأيتنا في الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلةٍ شديدة البرد، قد اجتمع علينا البرد والجوع والخوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنة. فقال حذيفة: يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والرجوع، فما قام منا رجلٌ! ثم عاد يقول ذلك ثلاث مرات، وما قام رجلٌ واحدٌ من شدة الجوع والقر والخوف. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لا يقوم أحد، دعاني فقال: يا حذيفة! قال: فلم أجد بداً من القيام حين فوه باسمي، فجئته ولقلبي وجبان في صدري، فقال: تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟ فقلت: لا، والذي بعثك بالحق، إن قدرت على ما بي من الجوع والبرد. فقال: اذهب فانظر ما فعل القوم، ولا ترمين بسهمٍ ولا بحجر، ولا تطعن برمح، ولا تضربن بسيفٍ حتى ترجع إلي. فقلت: يا رسول الله، ما بي يقتلوني ولكني أخاف أن يمثلوا بي. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عليك بأس! فعرفت أنه لابأس علي مع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول. ثم قال: اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يقولون. فلما ولى حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم، احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته! فدخل عسكرهم فإذا هم يصطلون على نيرانهم؛ وإن الريح تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قراراً ولا بناء. فاقبلت فجلست على نارٍ مع قوم، فقام أبو سفيان فقال: احذروا الجواسيس والعيون، ولينظر كل رجلٍ جليسه. قال، فالتفت إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت؟ وهو عن يميني. فقال: عمرو بن العاص. والتفت إلى معاوية بن أبي سفيان فقلت: من أنت؟ فقال: معاوية بن أبي سفيان. ثم قال أبو سفيان: إنكم والله لستم بدار مقام؛ لقد هلك الخف والكراع، وأجدب الجناب، وأخلفتنا بنو قريظة، وبلغنا عنهم الذي نكره، وقد لقينا من الريح ما ترون! والله، ما يثبت لنا بناءٌ ولا تطمئن لنا قدر، فارتحلوا فإني مرتحل. وقام أبو سفيان، وجلس على بعيره وهو معقول، ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم، فما أطلق عقاله إلا بعد ما قام. ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي: " لا تحدث شيئاً حتى تأتي " ثم شئت، لقتلته. فناداه عكرمة ابن أبي جهل: إنك رأس القوم وقائدهم، تقشع وتترك الناس؟ فاستحيى أبو سفيان فأناخ جمله ونزل عنه، وأخذ بزمامه وهو يقوده، وقال: ارحلوا! قال: فجعل الناس يرتحلون وهو قائمٌ حتى خف العسكر، ثم قال لعمرو ابن العاص: يا أبا عبد الله، لابد لي ولك أن نقيم في جريدةٍ من خيلٍ بإزاء محمدٍ وأصحابه، فإنا لا نأمن أن نطلب حتى ينفذ العسكر. فقال عمرو: أنا أقيم. وقال لخالد بن الوليد: ما ترى يا أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضاً أقيم. فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس، وسار العسكر إلا هذه الجريدة على متون الخيل.
قالوا: وذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم قد ارتحلوا، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره. وأقامت الخيل حتى كان السحر، ثم مضوا فلحقوا الأثقال والعسكر مع ارتفاع النهار بملل، فغدوا إلى السيالة. وكانت غطفان لما ارتحلت وقف مسعود بن رخيلة في خيلٍ من أصحابه، ووقف الحارث بن عوف في خيلٍ من أصحابه، ووقف فرسان من بني سليم في أصحابهم، ثم تحملوا جميعاً في طريقٍ واحدة، وكرهوا أن يتفرقوا حتى أتوا على المراض ، ثم تفرقت كل قبيلةٍ إلى محالها.
حدثني عبد الله بن جعفر، عن عثمان - يعني ابن محمد الأخنسي - قال: لما انصرف عمرو بن العاص قال: قد علم كل ذي عقلٍ أن محمداً لم يكذب. فقال عكرمة بن أبي جهل: أنت أحق الناس ألا يقول هذا. قال عمرو: لم؟ قال: لأنه نزل على شرف ابيك وقتل سيد قومك. ويقال: الذي تكلم به خالد بن الوليد، ولا ندري، لعلهما قد تكلما بذلك جميعاً. قال خالد بن الوليد: قد علم كل حليمٍ أن محمداً لم يكذب قط. قال أبو سفيان بن حرب: إن أحق الناس ألا يقول هذا أنت. قال: ولم؟ قال: نزل على شرف أبيك، وقتل سيد قومك أبا جهل.

حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان محاصرة المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق بضعة عشر يوماً. وحدثني الضحاك بن عثمان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر ابن عبد الله، قال: عشرين يوماً. ويقال خمسة عشر يوماً، وهذا أثبت ذلك عندنا. فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق أصبح وليس بحضرته أحدٌ من العساكر، قد هربوا وذهبوا. وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، الثبت أنهم انقشعوا إلى بلادهم، ولما أصبحوا أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين في الانصراف إلى منازلهم، فخرجوا مبادرين مسرورين بذلك. وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعلم بنو قريظة رجعتهم إلى منازلهم، فأمر بردهم، وبعث من ينادي في أثرهم، فما رجع رجلٌ واحد. فكان ممن يردهم عبد الله بن عمر، أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عبد الله: فجعلت أصيح في أثرهم في كل ناحية: إن رسول الله أمركم أن ترجعوا، فما رجع رجلٌ واحدٌ منههم من القر والجوع. فكان يقول: كره رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى سرعتهم، وكره أن يكون لقريشٍ عيون. قال جابر بن عبد الله: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أردهم، فجعلت أصيح بهم فما يرجع أحد، فانطلقت في أثر بني حارثة، فوالله ما أدركتهم حتى دخلوا بيوتهم، ولقد صحت فما يخرج إلي أحدٌ من جهد الجوع والقر، فرجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فألقاه في بني حرام منصرفاً، فاخبرته فضحك صلى الله عليه وسلم.
حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبي وجزة، قال: لما ملت قريش المقام، وأجدب الجناب، وضاقوا بالخندق، وكان أبو سفيان على طمعٍ أن يغير على بيضة المدينة، كتب كتاباً فيه: باسمك اللهم، فإني أحلف باللات والعزى، لقد سرت إليك في جمعنا، وإنا نريد ألا نعود إليك أبداً حتى نستأصلك، فرأيتك قد كرهت لقاءنا، وجعلت مضايق وخنادق، فليت شعري من علمك هذا؟ فإن نرجع عنكم فلكم منا يومٌ كيوم أحد، تبقر فيه النساء. وبعث بالكتاب مع أبي أسامة الجشمي، فلما أتى بالكتاب دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فدخل معه قبته، فقرأ عليه كتاب أبي سفيان. وكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله إلى أبي سفيان بن حرب... أما بعد، فقديماً غرك بالله الغرور، أما ما ذكرت أنك سرت إلينا في جمعكم، وأنك لا تريد أن تعود حتى تستأصلنا، فذلك أمرٌ الله يحول بينك وبينه، ويجعل لنا العاقبة حتى لا تذكر اللات والعزى. وأما قولك: من علمك الذي صنعنا من الخندق، فإن رسول الله ألهمني ذلك لما اراد من غيظك به وغيظ أصحابك، وليأتين عليك يومٌ تدافعني بالراح، وليأتين عليك يومٌ أكسر فيه اللات، والعزى، وإساف، ونائلة، وهبل، حتى أذكرك ذلك. قال أبو عبد الله: فذكرت ذلك لإبراهيم بن جعفر فقال: أخبرني أبي أن في الكتاب ولقد علمت أني لقيت أصحابك بأحياء وأنا في عيرٍ لقريش، فما حصر أصحابك منا شعرةً، ورضوا بمدافعتنا بالراح. ثم أقبلت في عير قريش حتى لقيت قومي، فلم تلقنا، فأوقعت بقومي ولم أشهدها من وقعة. ثم غزوتكم في عقر داركم فقتلت وحرقت - يعني غزوة السويق - ثم غزوتك في جمعنا يوم أحد، فكانت وقعتنا فيكم مثل وقعتكم بنا ببدر، ثم سرنا إليكم في جمعنا ومن تألب إلينا يوم الخندق، فلزمتم الصياصي وخندقتم الخنادق.
باب ما أنزل الله من القرآن في الخندق

حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: وأنزل الله عز وجل في شأن الخندق يذكر نعمته وكفايته عدوهم بعد سوء الظن منهم ومقالة من تكلم بالنفاق، فقال: " يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنودٌ فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها " . قال: وكانت الجنود التي أتت المؤمنين قريشاً وغطفان وأسداً وسليماً، وكانت الجنود التي بعث رسول الله عليهم الريح. وذكر: " إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا " وكان الذين جاءوههم من فوقهم بنو قريظة، والذين جاءوا من أسلف منهم قريش وأسد وغطفان وسليم. " هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً " . " وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً " ، قول معتب بن قشير ومن كان معه على مثل رأيه. " وإذ قالت طائفةٌ منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورةٌ وما هي بعورةٍ إن يريدون إلا فراراً " ، يقول أوس بن قيظي ومن كان معه من قومه على مثل رأيه. " ولو دخلت عليهم من أقطارها " من نواحيها؛ " ثم سئلوا الفتنة لآتوها وما تلبثوا بها إلا يسيراً " ، يعني المنافقين. " ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار " إلى قوله تعالى " وإذاً لا تمتعون إلا قليلاً " كان ثعلبة عاهد الله يوم أحد لا يولي دبراً أدباً بعد أحد. ثم ذكر أهل الإيمان حين أتاهم الأحزاب فحصروهم، وظاهرتهم بنو قريظة في الخندق فاشتد عليهم البلاء، فقالوا لما رأوا ذلك: " هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله " ، وذلك قوله في البقرة: " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريبٌ " ، وفي قوله: " رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه " ، يقول قتل أو أبلى؛ " ومنهم من ينتظر " ، أن يقتل أو يبلى؛ " وما بدلوا تبديلاً " ، ما تغيرت نياتهم. " ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفوراً رحيماً " حدثني إسحاق بن يحيى، عن مجاهد، قال: نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبيد الله فقال: هذا ممن قضى نحبه.
ذكر من قتل من المسلمين يوم الخندقمن بني عبد الأشهل: سعد بن معاذ، رماه حبان بن العرقة فمات، ويقال رماه أبو أسامة الجشمي؛ وأنس بن أوس بن عتيك بن عمرو بن عبد الأعلم بن زعوراء بن جشم بن عبد الأشهر، قتله خالد بن الوليد، رماه بسهم؛ وعبد الله بن سهل الأشهلي، رماه رجلٌ من بني عويف فقتله. ومن بني سلمة: الطفيل بن النعمان. قتله وحشي، وكان وحشي يقول: أكرم الله بحربتي حمزة والطفيل؛ وثعلبة بن غنمة بن عدي بن نابي، قتله هبيرة بن ابي وهب المخزومي. ومن بني دينار: كعب بن زيد، وكان قد ارتث يوم بئر معونة فصح حتى قتل في الخندق، قتله ضرار بن الخطاب. فجميع من استشهد من المسلمين ستة نفر.
ذكر من قتل من المشركينوقتل من المشركين: عمرو بن عبد بن أبي قيس بن عبد ود، قتله علي بن أبي طالب كرم الله وجهه؛ ونوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي، قتله الزبير بن العوام، ويقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ومن بني عبد الدار: عثمان بن منبه بن عبيد بن السباق، مات بمكة من رميةٍ رميها يوم الخندق؛ وهم ثلاثة نفر.
ذكر ما قيل من الشعر في الخندققال ضرار بن الخطاب: هكذا كان....
باب غزوة بني قريظةسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأربعاء لسبعٍ بقين من ذي القعدة، فحاصرهم خمسة عشر يوماً، ثم انصرف يوم الخميس لسبعٍ خلون من ذي الحجة سنة خمس. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم.

قالوا: لما انصرف المشركون عن الخندق، وخافت بنو قريظة خوفاً شديداً، وقالوا: محمدٌ يزحف إلينا! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بقتالهم حتى جاء جبريل عليه السلام. وكانت امرأة نباش بن قيس قد رأت، والمسلمون في حصار الخندق، قالت: أرى الخندق ليس به أحد، وأرى الناس تحولوا إلينا ونحن في حصوننا قد ذبحنا ذبح الغنم. فذكرت ذلك لزوجها، فخرج زوجها فذكرها للزبير بن باطا، فقال الزبير: ما لها لا نامت عينها، تولي قريشٌ ويحصرنا محمد! والتوراة، ولما بعد الحصار أشد منه! قالوا: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخندق دخل بيت عائشة رضي الله عنها فغسل رأسه واغتسل، ودعا بالمجمرة ليجمر، وقد صلى الظهر، وأتاه جبريل على بغلةٍ عليها رحالة وعليها قطيفة، على ثناياه النقع، فوقف عند موضع الجنائز فنادى: عذيرك من محارب! قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فزعاً فقال : ألا أراك وضعت اللأمة ولم تضعها الملائكة بعد؟ لقد طردناهم إلى حمراء الأسد؛ إن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة، فإني عامد إليهم فمزلزلٌ بهم حصونهم. ويقال جاءه على فرسٍ أبلق. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه فدفع إليه لواء، وكان اللواء على حاله لم يحل من مرجعه من الخندق، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأذن في الناس: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم ألا تصلوا العصر إلا ببني قريظة. ولبس رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والمغفر والدرع والبيضة، وأخذ قناةً بيده، وتقلد الترس وركب فرسه، وحف به أصحابه وتلبسوا السلاح وركبوا الخيل، وكانت ستةً وثلاثين فرساً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد فرسين وركب واحداً، يقال له اللحيف، فكانت ثلاثة أفراس معه. وعليٌّ رضي الله عنه فارس، ومرثد بن أبي مرثد. وفي بني عبد مناف: عثمان بن عفان رضي الله عنه فارس، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وعكاشة بن محصن فارس، وسالم مولى أبي حذيفة، والزبير بن العوام. ومن بني زهرة: عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص. ومن بني تيم: أبو بكر الصديق، وطلحة بن عبيد الله. ومن بني عدي: عمر بن الخطاب. ومن بني عامر بن لؤي: عبد الله بن مخرمة. ومن بني فهر: أبو عبيدة بن الجراح. ومن الأوس: سعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، ومحمد بن مسلمة، وأبو نائلة، وسعد بن زيد. ومن بني ظفر: قتادة ابن النعمان. ومن بني عمرو بن عوف: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، وثابت بن أقرم، وعبد الله بن سلمة. ومن بني سلمة: الحباب بن المنذر بن الجموح، ومعاذ بن جبل، وقطبة بن عامر بن حديدة. ومن بني مالك بن النجار: عبد الله بن عبد الله بن أبي. وفي بني زريق: رقاد بن لبيد، وفروة بن عمرو، وأبو عياش، ومعاذ بن رفاعة. ومن بني ساعدة: سعد ابن عبادة.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، قال: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والخيل والرجالة حوله، فمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفرٍ من بني النجار بالصورين فيهم حارثة بن النعمان، قد صفوا عليهم السلاح، فقال: هل مر بكم أحد؟ قالوا: نعم، دحية الكلبي مر على بغلةٍ عليها رحالةٌ، عليها قطيفةٌ من إستبرق، فأمرنا بلبس السلاح، فأخذنا سلاحنا وصففنا، وقال لنا: هذا رسول الله يطلع عليكم الآن. قال حارثة بن النعمان: فكنا صفين، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك جبريل! فكان حارثة بن النعمان يقول: رايت جبريل من الدهر مرتين - يوم الصورين ويوم موضع الجنائز حين رجعنا من حنين. وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فنزل على بئر لنا أسفل حرة بني قريظة، وكان علي رضي الله عنه قد سبق في نفرٍ من المهاجرين والأنصار فيهم أبو قتادة.

فحدثني ابن ابي سبرة، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: انتهينا إليهم فلما رأونا أيقنوا بالشر، وغرز عليٌّ رضي الله عنه الراية عند أصل الحصن، فاستقبلونا في صياصيهم يشتمون رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه. قال أبو قتادة: وسكتنا وقلنا: السيف بيننا وبينكم! وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه عليٌّ رضي الله عنه رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمرني أن ألزم اللواء فلزمته، وكره أن يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أذاهم وشتمهم. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وتقدمه أسيد بن حضير فقال: يا أعداء الله، لا نبرح حصنكم حتى تموتوا جوعاً. إنما أنتم بمنزلة ثعلبٍ في جحر. قالوا: يا ابن الحضير، نحن مواليكم دون الخزرج! وخاروا ، وقال: لا عهد بيني وبينكم ولا إل . ودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم، وترسنا عنه، فقال: يا إخوة القردة والخنازير وعبدة الطواغيت، أتشتمونني؟ قال: فجعلوا يحلفون بالتوراة التي أنزلت على موسى: ما فعلنا! ويقولون: يا أبا القاسم، ما كنت جهولاً! ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة من أصحابه.
فحدثني فروة بن زبيد، عن عائشة بنت سعد، عن أبيها، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا سعد، تقدم فارمهم! فتقدمت حيث تبلغهم نبلي، ومعي نيفٌ على الخمسين، فرميناهم ساعةً وكأن نبلنا مثل جراد، فانجحروا فلم يطلع منهم أحد. وأشفقنا على نبلنا أن يذهب، فجعلنا نرمي بعضها ونمسك البعض. فكان كعب بن عمرو المازني - وكان رامياً - يقول: رميت يومئذٍ بما في كنانتي، حتى أمسكنا عنهم بعد أن ذهبت ساعةٌ من الليل. قال: وقد رمونا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ على فرسه عليه السلاح، وأصحاب الخيل حوله، ثم أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرفنا إلى منزلنا وعسكرنا فبتنا، وكان طعامنا تمراً بعث به سعد بن عبادة، أحمال تمر، فبتنا نأكل منها، ولقد رئي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر يأكلون من ذلك التمر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نعم الطعام التمر! واجتمع المسلمون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاءً، فمنهم من لم يصل حتى جاء بني قريظة، ومنهم من قد صلى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فما عاب على أحدٍ صلى، ولا على أحد لم يصل حتى بلغ بني قريظة. ثم غدونا عليهم بسحرة، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الرماة، وعبأ أصحابه فأحاطوا بحصونهم من كل ناحية، فجعل المسلمون يرامونهم بالنبل والحجارة، وجعل المسلمون يعتقبون فيعقب بعضهم بعضاً، فما برح رسول الله صلى الله عليه وسلم يراميهم حتى أيقنوا بالهلكة.
فحدثني الضحاك بن عثمان، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا يراموننا من حصونهم بالنبل والحجارة أشد الرمي، وكنا نقوم حيث تبلغهم نبلنا

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مسلمة: حصرناهم أشد الحصار، فلقد رأيتنا يوم غدونا عليهم قبل الفجر، فجعلنا ندنو من الحصن ونرميهم من كثب، ولزمنا حصونهم فلم نفارقها حتى أمسينا، وحضنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجهاد والصبر. ثم بتنا على حصونهم، ما رجعنا إلى معسكرنا حتى تركوا قتالنا وأمسكوا عنه وقالوا: نكلمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فأنزلوا نباش بن قيس، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً وقال: يا محمد، ننزل على ما نزلت عليه بنو النضير؛ لك الأموال والحلقة وتحقن دماءنا، ونخرج من بلادكم بالنساء والذراري، ولنا ما حملت الإبل إلا الحلقة. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فتحقن دماءنا وتسلم لنا النساء والذرية، ولا حاجة لنا فيما حملت الإبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، إلا أن تنزلوا على حكمي. فرجع نباش إلى أصحابه بمقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال كعب ابن أسد: يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أن محمداً نبي الله، وما منعنا من الدخول معه إلا الحسد للعرب، حيث لم يكن نبياً من بني إسرائيل فهو حيث جعله الله. ولقد كنت كارهاً لنقض العهد والعقد، ولكن البلاء وشؤم هذا الجالس علينا وعلى قومه، وقومه كانوا أسوأ منا. لا يستبقي محمدٌ رجلاً واحداً إلا من تبعه. أتذكرون ما قال لكم ابن خراش حين قدم عليكم فقال: تركت الخمر والخمير والتأمير، وجئت إلى السقاء والتمر والشعير؟ قالوا: وما ذلك؟ قال: يخرج من هذه القرية نبي، فإن خرج وأنا حيٌّ اتبعته ونصرته، وإن خرج بعدي فإياكم أن تخدعوا عنه، فاتبعوه وكونوا أنصاره وأولياءه، وقد آمنتم بالكتابين كليهما الأول والآخر. قال كعب: فتعالوا فلنتابعه ولنصدقه ولنؤمن به، فنأمن على دمائنا وأبنائنا ونسائنا وأموالنا، فنكون بمنزلة من معه. قالوا: لا نكون تبعاً لغيرنا، نحن أهل الكتاب والنبوة، ونكون تبعاً لغيرنا؟ فجعل كعب يرد عليهم الكلام بالنصيحة لهم. قالوا: لا نفارق التوراة ولا ندع ما كنا عليه من أمر موسى. قال: فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج في أيدينا السيوف إلى محمدٍ وأصحابه. فإن قتلنا قتلنا وما وراءنا أمرٌ نهتم به، وإن ظفرنا فلعمري لنتخذن النساء والأبناء. فتضاحك حيي بن أخطب ثم قال: ما ذنب هؤلاء المساكين؟ وقالت رؤساء اليهود، الزبير بن باطا وذووه: ما في العيش خيرٌ بعد هؤلاء. قال: فواحدةٌ قد بقيت من الرأي لم يبق غيرها، فإن لم تقبلوها فأنتم بنو إستها. قالوا: ما هي؟ قال: الليلة السبت، وبالحري أن يكون محمدٌ وأصحابه آمنين لنا فيها أن نقاتله، فنخرج فلعلنا أن نصيب منه غرة. قالوا: نفسد سبتنا، وقد عرفت ما أصابنا فيه؟ قال حيي: قد دعوتك إلى هذا وقريشٌ وغطفان حضورٌ فأبيت أن تكسر السبت، فإن أطاعتني اليهود فعلوا. فصاحت اليهود: لا نكسر السبت. قال نباش بن قيس: وكيف نصيب منهم غرة وأنت ترى أن أمرهم كل يوم يشتد. كانوا أول ما يحاصروننا إنما يقاتلون بالنهار ويرجعون الليل، فكان هذا لك قولاً لو بيتناهم. فهم الآن يبيتون الليل ويظلون النهار، فأي غرةٍ نصيب منهم؟ هي ملحمة وبلاء كتب علينا. فاختلفوا وسقط في أيديهم، وندموا على ما صنعوا، ورقوا على النساء والصبيان، وذلك أن النساء والصبيان لما رأوا ضعف أنفسهم هلكوا، فبكى النساء والصبيان، فرقوا عليهم.
فحدثني صالح بن جعفر، عن محمد بن عقبة، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: قال ثعلبة وأسيد ابنا سعية ، واسد بن عبيد عمهم : يا معشر بني قريظة، والله إنكم لتعلمون أنه رسول الله وأن صفته عندنا، حدثنا بها علماونا وعلماء بني النضير. هذا أولهم - يعني حيي بن أخطب - مع جبير بن الهيبان أصدق الناس عندنا، هو خبرنا بصفته عن موته. قالوا: لا نفارق التوراة! فلما رأى هؤلاء النفر إباءهم، نزلوا في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة، فأسلموا فأمنوا على أنفسهم وأهلهم وأموالهم.

فحدثني الضحاك بن عثمان، عن محمد بن يحيى بن حبان، قال عمرو بن سعدى، وهو رجلٌ منهم: يا معشر اليهود، إنكم قد حالفتم محمداً على ما حالفتموه عليه، الا تنصروا عليه أحداً من عدوه، وأن تنصروه ممن دهمه؛ فنضتم ذلك العهد الذي كان بينكم وبينه، فلم أدخل فيه ولم أشرككم في غدركم، فإن أبيتم أن تدخلوا معه فاثبتوا على اليهودية وأعطوا الجزية، فوالله ما أدري يقبلها أم لا. قالوا: نحن لا نقر للعرب بخرجٍ في رقابنا يأخذوننا به، القتل خير من ذلك! قال: فإني بريءٌ منكم. وخرج في تلك الليلة مع بني سعية فمر بحرس النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم محمد بن مسلمة، فقال محمد بن مسلمة: من هذا؟ فقال: عمرو بن سعدى. فقال محمد: مر! اللهم، لا تحرمني إقالة عثرات الكرام. فخلى سبيله وخرج حتى أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فبات به حتى أصبح، فلما أصبح غدا فلم يدر أين هو حتى الساعة، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذلك رجلٌ نجاه الله بوفائه. ويقال إنه لم يطلع أحدٌ منهم ولم يبادر للقتال، في روايتنا.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: مر عمرو بن سعدى على الحرس، فناداه محمد بن مسلمة: من هذا؟ قال: عمرو بن سعدى. قال محمد: قد عرفناك. ثم قال محمد: اللهم، لا تحرمني إقالة عثرات الكرام.
حدثني الثوري، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، قال: لما كان يوم بني قريظة قال رجلٌ من اليهود: من يبارز؟ فقام إليه الزبير فبارزه. فقالت صفية: واجدي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيهما علا صاحبه قتله. فعلاه الزبير فقتله، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه.
قال ابن واقد: ولم يسمع بهذا الحديث في قتالهم وأراه وهل - هذا في خيبر.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: كان أول شيء عتب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي لبابة بن عبد المنذر أنه خاصم يتيماً له في عذق. فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعذق لأبي لبابة، فصيح اليتيم واشتكى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي لبابة: هب لي العذق يا أبا لبابة - لكي يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليتيم. فأبى أبو لبابة أن يهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا لبابة، أعطه اليتيم ولك مثله في الجنة. فأبى أبو لبابة أن يعطيه.
قال الزهري: فحدثني رجلٌ من الأنصار قال: لما أبى أن يعطيه قال ابن الدحداحة - وهو رجلٌ من الأنصار: أرأيت يا سرول الله إن ابتعت هذا العذق فأعطيته هذا اليتيم، ألي مثله في الجنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فانطلق ابن الدحداحة حتى لقي أبا لبابة فقال: أبتاع منك عذقك بحديقتي - وكانت له حديقة نخل. قال أبو لبابة: نعم. فابتاع ابن الدحداحة العذق بحديقةٍ من نخل، فأعطاه اليتيم. فلم يلبث ابن الدحداحة أن جاء كفار قريش إلى أحد، فخرج ابن الدحداحة فقتل شهيداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رب عذقٍ مذللٍ لابن الدحداحة في الجنة.
قالوا: فلما اشتد عليهم الحصار أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر.

فحدثني ربيعة بن الحارث، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن السائب بن أبي لبابة بن عبد المنذر، عن أبيه، قال: لما أرسلت بنو قريظة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن يرسلني إليهم، دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اذهب إلى حلفائك، فإنهم أرسلوا إليك من بني الأوس. قال: فدخلت عليهم وقد اشتد عليهم الحصار، فبهشوا إلي وقالوا: يا أبا لبابة، نحن مواليك دون الناس كلهم. فقام كعب بن أسد فقال: أبا بشير، قد علمت ما صنعنا في أمرك وأمر قومك يوم الحدائق وبعاث، وكل حربٍ كنتم فيها. وقد اشتد علينا الحصار وهلكنا، ومحمدً يأبى يفارق حصننا حتى ننزل على حكمه. فلو زال عنا لحقنا بأرض الشام أو خيبر، ولم نطأ له حرا أبداً، ولم نكثر عليه جمعاً أبداً. قال أبو لبابة: أما ما كان هذا معكم، فلا يدع هلاككم - وأشرت إلى حيي بن أخطب. قال كعب: هو والله أوردني ثم لم يصدرني. فقال حيي: فما أصنع؟ كنت أطمع في أمره، فلما أخطأني آسيتك بنفسي، يصيبني ما أصابك. قال كعب: وما حاجتي إلى أن أقتل أنا وأنت وتسبى ذرارينا؟ قال حيي: ملحمةٌ وبلاءٌ كتب علينا. ثم قال كعب: ما ترى، فإنا قد اخترناك على غيرك؟ إن محمداً قد أبى إلا أن ننزل على حكمه، أفننزل ؟ قال: نعم، فانزلوا - وأومأ إلى حلقه، هو الذبح. قال: فندمت فاسترجعت، فقال لي كعب: ما لك يا أبا لبابة؟ فقلت: خنت الله ورسوله. فنزلت وإن لحيتي لمبتلةٌ من الدموع، والناس ينتظرون رجوعي إليهم. حتى أخذت من وراء الحصن طريقاً آخر حتى جئت إلى المسجد فارتبطت، فكان ارتباطي إلى الأسطوانة المخلقة التي تقال أسطوانة التوبة - ويقال ليس تلك، إنما ارتبط إلى أسطوانةٍ كانت وجاه المنبر عند باب أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أثبت القولين - وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهابي وما صنعت فقال: دعوه حتى يحدث الله فيه ما يشاء. لو جاءني استغفرت له؛ فإما إذ لم يأتني وذهب فدعوه! قال أبو لبابة: فكنت في أمرٍ عظيمٍ خمس عشرة ليلة. وأذكر رؤيا رأيتها.
فحدثني موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد: قال، قال أبو لبابة: رأيت في النوم ونحن محاصرو بني قريظة كأني في حمأةٍ آسنة، فلم أخرج منها حتى كدت أموت من ريحها. ثم أرى نهراً جارياً، فأراني اغتسلت منه حتى استنقيت، وأراني أجد ريحاً طيبة. فاستعبرها أبا بكر فقال: لتدخلن في أمرٍ تغتم له، ثم يفرج عنك. فكنت أذكر قول أبي بكر رضي الله عنه وأنا مرتبط، فأرجو أن تنزل توبتي.
فحدثني معمر، عن الزهري، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استعمل أبا لبابة سبعاً بين يومٍ وليلةٍ عند الأسطوانة التي عند باب أم سلمة في حرٍّ شديد، لا يأكل فيهن ولا يشرب، وقال: لا أزال هكذا حتى أفارق الدنيا أو يتوب الله علي. قال: فلم يزل كذلك حتى ما يسمع الصوت من الجهد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه بكرةً وعشيةً، ثم تاب الله تعالى عليه فنودي: إن الله قد تاب عليك! وارسل النبي صلى الله عليه وسلم إليه ليطلق عنه رباطه، فأبى أن يطلقه عنه أحدٌ غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فأطلقه.
قال الزهري: فحدثتني هند بنت الحارث، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل عنه رباطه، وإن رسول الله ليرفع صوته يكلمه ويخبره بتوبته، وما يدري كثيراً مما يقول من الجهد والضعف. ويقال مكث خمس عشرة مربوطاً، وكانت ابنته تأتيه بتمراتٍ لفطره، فيلوك منهن ويترك ويقول: والله، ما أقدر على أن أسيغها فرقاً ألا تنزل توبتي. وتطلقه عند وقت كل صلاة، فإن كانت له حاجةٌ توضأ، وإلا أعادت الرباط. ولقد كان الرباط حز في ذراعيه، وكان من شعر، وكان يداويه بعد ذلك دهراً، وكان ذلك يبين في ذراعيه بعد مابرىء. وقد سمعنا في توبته وجهاً آخر.

حدثنا عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان ، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: إن توبة أبي لبابة نزلت في بيتي. قالت أم سلمة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك في السحر فقلت: مم تضحك يا رسول الله، أضحك الله سنك؟ قال: تيب على أبي لبابة. قالت، قلت: أوذنه بذلك يا رسول الله؟ قال: ما شئت. قالت: فقمت على باب الحجرة، وذلك قبل أن يضرب الحجاب، فقلت: يا أبا لبابة، أبشر فقد تاب الله عليك فثار الناس إليه ليطلقوه، فقال أبو لبابة: لا، حتى يأتي رسول الله فيكون هو الذي يطلق عني. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصبح أطلقه. ونزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم.. " الآية. ويقال نزلت: " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول " . وحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: نزلت فيه: " يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم " . الآية. وأثبت ذلك عندنا قوله عز وجل: " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً " .
وحدثني معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، قال: جاء أبو لبابة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أهجر دار قومي التي أصبت فيها هذا الذنب، فأخرج من مالي صدقةً إلى الله ورسوله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يجزىء عنك الثلث. فأخرج الثلث، وهجر أبو لبابة دار قومه. ثم تاب الله عليه، فلم يبن في الإسلام منه إلا خيرٌ حتى فارق الدنيا.
قالوا: ولما جهدهم الحصار ونزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رسول الله بأسراهم فكتفوا رباطاً، وجعل على كتافهم محمد بن مسلمة، ونحوا ناحيةً، وأخرجوا النساء والذرية من الحصون فكانوا ناحيةً واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن سلام، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بجمع أمتعتهم وما وجد في حصونهم من الحلقة والأثاث والثياب.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن المسور بن رفاعة، قال: وجد فيها ألف وخمسمائة سيف، وثلثمائة درع، وألفا رمح، وألف وخمسمائة ترس وحجفة . وأخرجوا أثاثاً كثيراً، وآنيةً كثيرة، ووجدوا خمراً وجرار سكرٍن فهريق ذلك كله ولم يخمس. ووجدوا من الجمال النواضح عدة، ومن الماشية، فجمع هذا كله.
حدثني عمر بن محمد، عن أبي سعيد، عن جابر بن عبد الله قال: أنا كنت ممن كسر جرار السكر يومئذٍ.
حدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن محمد بن مسلمة، قال: وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس، ودنت الأوس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، حلفاؤنا دون الخزرج، وقد رأيت ما صنعت ببني قينقاع بالأمس حلفاء ابن أبي، وهبت له ثلثمائة حاسرٍ وأربعمائة دارع. وقد ندم حلفاؤنا على ما كان من نقضهم العهد، فهبهم لنا. ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، لا يتكلم حتى أكثروا عليه وألحوا ونطقت الأوس كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن يكون الحكم فيهم إلى رجلٍ منكم؟ قالوا: بلى. قال: فذلك إلى سعد بن معاذ. وسعد يومئذٍ في المسجد في خيمة كعيبة بنت سعد بن عتبة، وكانت تداوي الجرحى، وتلم الشعث، وتقوم على الضائع والذي لا أحد له. وكان لها خيمة في المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل سعداً فيها. فلما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم إلى سعد بن معاذ خرجت الأوس حتى جاءوه، فحملوه على حمارٍ بشندةٍ من ليفٍ، وعلى الحمار قطيفةٌ فوق الشندة وخطامه حبلٌ من ليفٍ. فخرجوا حوله يقولون: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد ولاك أمر مواليك لتحسن فيهم فأحسن، فقد رأيت ابن أبي وما صنع في حلفائه. والضحاك بن خليفة يقول: يا أبا عمرو، مواليك، مواليك! قد منعوك في المواطن كلها، واختاروك على من سواك ورجوا عياذك ، ولهم جمالٌ وعدد. وقال سلمة بن سلامة بن وقش: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك وحلفائك؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب البقية! نصروك يوم البعاث والحدائق والمواطن، ولا تكن شراً من ابن أبي.

قال إبراهيم بن جعفر، عن أبيه: وجعل قائلهم يقول: يا أبا عمرو، وإنا والله قاتلنا بهم فقتلنا، وعاززنا بهم فعززنا! قالوا: وسعد لا يتكلم، حتى إذا أكثروا عليه قال سعد: قد آن لسعد ألا تأخذه في الله لومة لائم. فقال الضحاك بن خليفة: واقوماه! ثم رجع الضحاك إلى الأوس فنعى لهم بني قريظة. وقال معتب بن قشير: واسوء صباحاه! وقال حاطب بن أمية الظفري: ذهب قومي آخر الدهر. وأقبل سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس حول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس، فلما طلع سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا إلى سيدكم. فكان رجالٌ من بني عبد الأشهل يقولون: فقمنا له على أرجلنا صفين، يحييه كل رجلٍ منا، حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقائل يقول: إنما عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله قوموا إلى سيدكم يعني به الأنصار دون قريش. قالت الأوس الذين بقوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: يا أبا عمرو، إن رسول الله قد ولاك الحكم، فأحسن فيهم واذكر بلاءهم عندك. فقال سعد بن معاذ: أترضون بحكمي لبني قريظة؟ قالوا: نعم، قد رضينا بحكمك وأنت غائبٌ عنا، اختياراً منا لك ورجاء أن تمن علينا كما فعله غيرك في حلفائه من قينقاع، وأثرنا عندك أثرنا، وأحوج ما كنا اليوم إلى مجازاتك. فقال سعد: لا آلوكم جهداً. فقالوا: ما يعني بقوله هذا؟ ثم قال: عليكم عهد الله وميثاقه أن الحكم فيكم ما حكمت؟ قالوا: نعم. فقال سعد للناحية الأخرى التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معرض عنها إجلالاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلى من هاهنا مثل ذلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه: نعم. قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يقتل من جرت عليه الموسى، وتسبى النساء والذرية، وتقسم الأموال. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت بحكم الله عز وجل من فوق سبعة أرقعة . وكان سعد بن معاذ في الليلة التي في صبحها نزلت قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعا فقال: اللهم، إن كنت أبقيت من حرب قريشٍ شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحب إلي أن أقاتل من قومٍ كذبوا رسول الله، وآذوه وأخرجوه! وإن كانت الحرب قد وضعت أوزارها عنا وعنهم فاجعله لي شهادة، ولا تمتنى حتى تقر عيني من بني قريظة! فأقر الله عينه منهم. فأمر بالسبي فسيقوا إلى دار أسامة بن زيد، والنساء والذرية إلى دار ابنة الحارث . وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحمال التمر فنثرت عليهم، فباتوا يكدمونها كدم الحمر، وجعلوا ليلتهم يدرسون التوراة، وأمر بعضهم بعضاً بالثبات على دينه ولزوم التوراة. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح والأثاث والمتاع والثياب، فحمل إلى دار بنت الحارث؛ وأمر بالإبل والغنم، فتركت هناك ترعى في الشجر. قالوا: ثم غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السوق، فأمر بخدودٍ فخدت في السوق ما بين موضع دار أبي جهم العدوي إلى أحجار الزيت بالسوق، فكان أصحابه يحفرون هناك، وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه علية أصحابه، ودعا برجال بني قريظة، فكانوا يخرجون رسلاً رسلاً، تضرب أعناقهم. فقالوا لكعب بن أسد: ما ترى محمداً يصنع بنا؟ قال: مايسوؤكم وما ينوؤكم، ويلكم! على كل حال لا تعقلون! ألا ترون أن الداعي لا ينزع، وأنه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو والله السيف، قد دعوتكم إلى غير هذا فأبيتم! قالوا: ليس هذا بحين عتاب، لولا أنا كرهنا أن نزرى برأيك ما دخلنا في نقض العهد الذي كان بيننا وبين محمد. قال حيي: اتركوا ما ترون من التلاوم فإنه لا يرد عنكم شيئاً، واصبروا للسيف. فلم يزالوا يقتلون بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الذين يلون قتلهم علي والزبير. ثم أتي بحيي بن أخطب مجموعةً يداه إلى عنقه، عليه حلةٌ شقحية قد لبسها للقتل، ثم عمد إليها فشقها أنملةً لئلا يسلبه إياها أحد، وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع: ألم يمكن الله منك يا عدو الله؟ قال: بلى والله، ما لمت نفسي في عداوتك، ولقد التمست العز في مكانه ، وأبى الله إلا أن يمكنك مني، ولقد قلقلت كل مقلقل ، ولكنه من يخذل الله يخذل. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، لابأس بأمر الله! قدرٌ وكتابٌ، ملحمةٌ كتبت على بني إسرائيل! ثم أمر به فضرب عنقه، ثم أتي بغزال بن

سموأل فقال: ألم يمكن الله إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خكان يوماً صائفاً. فقيلوهم وأسقوهم وأطعموهم، فلما أبردوا راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من بقي، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالاته، وكانت قد صلت القبلتين وبايعته، وكان رفاعة بن سموأل له انقطاع إليها وإلى أخيها سليط بن قيس وأهل الدار، وكان حين حبس أرسل إليها أن كلمي محمداً في تركي، فإن لي بكم حرمةً، وأنت إحدى أمهاته، فتكون لكم عندي يداً إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم المنذر؟ قالت: يا رسول الله، رفاعة بن سموأل كان يغشانا وله بنا حرمةٌ فهبه لي. وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هو لك. ثم قالت: يا رسول الله، إنه سيصلي ويأكل لحم الجمل. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن يصل فهو خيرٌ له، وإن يثبت على دينه فهو شرٌّ له. قالت: فأسلم، فكان يقال له مولى أم المنذر، فشق ذلك عليه واجتنب الدار، حتى بلغ أم المنذر ذلك فأرسلت إليه: إني والله ما أنا لك بمولاة، ولكني كلمت رسول الله فوهبك لي، فحقنت دمك وأنت على نسبك. فكان بعد يغشاها، وعاد إلى الدار. فقال: ألم يمكن الله إلا بمعولٍ في وسطه. قال: فأضع يدي على المعول فأنتزعه، وشغل بكلام رجل من فوق الحصن، فانتزعته فوجأت به كبده فاسترخى وصاح: السبع! فأوقدت اليهود النار على آطامها بشعل السعف. ووقع ميتاً وانكشف، فكنت لا أدرك، وأقبل من طريقي التي جئت منها. وجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ظفرت يا خوات! ثم خرج فأخبر أصحابه فقال: كان من أمر خوات كذا وكذا. وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في أصحابه وهم يتحدثون، فلما رآني قال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: أخبرني خكان يوماً صائفاً. فقيلوهم وأسقوهم وأطعموهم، فلما أبردوا راح رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل من بقي، ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سلمى بنت قيس، وكانت إحدى خالاته، وكانت قد صلت القبلتين وبايعته، وكان رفاعة بن سموأل له انقطاع إليها وإلى أخيها سليط بن قيس وأهل الدار، وكان حين حبس أرسل إليها أن كلمي محمداً في تركي، فإن لي بكم حرمةً، وأنت إحدى أمهاته، فتكون لكم عندي يداً إلى يوم القيامة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أم المنذر؟ قالت: يا رسول الله، رفاعة بن سموأل كان يغشانا وله بنا حرمةٌ فهبه لي. وقد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوذ بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، هو لك. ثم قالت: يا رسول الله، إنه سيصلي ويأكل لحم الجمل. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن يصل فهو خيرٌ له، وإن يثبت على دينه فهو شرٌّ له. قالت: فأسلم، فكان يقال له مولى أم المنذر، فشق ذلك عليه واجتنب الدار، حتى بلغ أم المنذر ذلك فأرسلت إليه: إني والله ما أنا لك بمولاة، ولكني كلمت رسول الله فوهبك لي، فحقنت دمك وأنت على نسبك. فكان بعد يغشاها، وعاد إلى الدار.

وجاء سعد بن عبادة، والحباب بن المنذر فقالا: يا رسول الله، إن الأوس كرهت قتل بني قريظة لمكان حلفهم. فقال سعد بن معاذ: يا رسول الله، ما كرهه من الأوس من فيه خير، فمن كرهه من الأوس لا أرضاه الله! فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، لا تبقين داراً من دور الأوس إلا فرقتهم فيها، فمن سخط ذلك فلا يرغم الله إلا أنفه، فابعث إلى داري أول دورهم. فبعث إلى بني عبد الأشهل باثنين، فضر أسيد بن حضير رقبة أحدهما، وضرب أبو نائلة الآخر. وبعث إلى بني حارثة باثنين، فضرب أبو بردة بن النيار رقبة أحدهما، وذفف عليه محيصة، وضرب الآخر أبو عبس بن جبر، ذفف عليه ظهير بن رافع. وبعث إلى بني ظفر بأسيرين.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: قتل أحدهما قتادة بن النعمان، وقتل الآخر نضر بن الحارث. قال عاصم: وحدثني أيوب بن بشير المعاوي قال: أرسل إلينا - بني معاوية - بأسيرين، فقتل أحدهما جبر بن عتيك، وقتل الآخر نعمان بن عصر؛ حليفٌ لهم من بلى. قالوا: وأرسل إلى بني عمرو بن عوف بأسيرين، عقبة بن زيد وأخيه وهب بن زيد، فقتل أحدهما عويم بن ساعدة، والآخر سالم بن عمير. وأرسل إلى بني أمية بن زيد. وأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكعب ابن أسد مجموعةً يداه إلى عنقه، وكان حسن الوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كعب بن أسد؟ قال كعب: نعم يا أبا القاسم. قال: وما انتفعتم بنصح ابن خراش وكان مصدقاً بي، أما أمركم باتباعي وإن رأيتموني تقرئوني منه السلام؟ قال: بلى والتوراة يا أبا القاسم، ولولا أن تعيرني اليهود بالجزع من السيف لاتبعتك، ولكني على دين اليهود. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قدمه فاضرب عنقه. فقدمه فضرب عنقه.
فحدثني عتبة بن جبيرة، عن الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو ابن سعد بن معاذ، قال: لما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيي بن أخطب، ونباش بن قيس، وغزال بن سموأل، وكعب بن أسد وقام، قال لسعد بن معاذ: عليك بمن بقي. فكان سعد يخرجهم رسلاً رسلاً يقتلهم.
قالوا: وكانت امرأةٌ من بني النضير يقال لها نباتة، وكانت تحت رجلٍ من بني قريظة فكان يحبها وتحبه، فلما اشتد عليهم الحصار بكت إليه وقالت: إنك لمفارقي. فقال: هو والتوارة ما ترين، وأنت امرأةٌ فدلي عليهم هذه الرحى، فإنا لم نقتل منهم أحداً بعد، وأنت امرأةٌ، وإن يظهر محمدٌ علينا لا يقتل النساء. وإنما كان يكره أن تسبى، فأحب أن تقتل بجرمها. وكانت في حصن الزبير بن باطا، فدلت رحى فوق الحصن، وكان المسلمون ربما جلسوا تحت الحصن يستظلون في فينه، فأطلعت الرحى، فلما رآها القوم انفضوا، وتدرك خلاد بن سويد فتشدخ رأسه، فحذر المسلمون أصل الحصن. فلما كان اليوم الذي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتلوا، دخلت على عائشة فجعلت تضحك ظهراً لبطنٍ وهي تقول: سراة بني قريظة يقتلون! إذ سمعت صوت قائل يقول: يا نباتة. قالت: أنا والله التي أدعى. قالت عائشة: ولم؟ قالت: قتلني زوجي - وكانت جاريةً حلوة الكلام. فقالت عائشة: وكيف قتلك زوجك؟ قالت: كنت في حصن الزبير بن باطا، فأمرني فدليت رحىً على أصحاب محمد فشدخت رأس رجلٍ منهم فمات وأنا أقتل به. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فقتلت بخلاد بن سويد. قالت عائشة: لاأنسى طيب نفس نباتة وكثرة ضحكها، وقد عرفت أنها تقتل. فكانت عائشة تقول: قتلت بنو قريظة يومهم حتى قتلوا بالليل على شعل السعف.
حدثني إبراهيم بن ثمامة، عن المسور بن رفاعة عن محمد بن كعب القرظي، قال: قتلوا إلى أن غاب الشفق، ثم رد عليهم التراب في الخندق. وكان من شك فيه منهم أن يكون بلغ نظر إلى مؤتزره، إن كان أنبت قتل، وإن كان لم ينبت طرح في السبي.
فحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال: كانوا ستمائة إلا عمرو بن السعدى وجدت رمته ونحا. قال ابن واقد: خروجه من الحصن أثبت.
وحدثني موسى بن عبيدة ، عن محمد بن المنكدر، قال: كانوا ما بين ستمائة إلى سبعمائة. وكان ابن عباس رحمه الله يقول: كانوا سبعمائة وخمسين.

قالوا: وكان نساء بني قريظة حين تحولوا في دار رملة بنت الحارث وفي دار أسامة يقلن: عسى محمدٌ أن يمن على رجالنا أو يقبل منهم فدية. فلما أصبحن وعلمن بقتل رجالهن صحن وشققن الجيوب، ونشرن الشعور، وضربن الخدود على رجالهن، فملأن المدينة. قال، يقول الزبير بن باطا: اسكتن؛ فأنتن أول من سبي من نساء بني إسرائيل منذ كانت الدنيا؟ ولا يرفع السبي عنهم حتى نلتقي نحن وأنتن ، وإن كان في رجالكن خيرٌ فدوكن ، فالزمن دين اليهود فعليه نموت وعليه نحيى.
فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، وحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، وكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، قالا: كان الزبير بن باطا من على ثابت بن قيس يوم بعاث، فأتى ثابت الزبير فقال: يا أبا عبد الرحمن، هل تعرفني؟ قال: وهل يجهل مثلي مثلك؟ قال ثابت: إن لك عندي يداً، وقد أردت أن أجزيك بها. قال الزبير: إن الكريم يجزي الكريم، وأحوج ما كنت إليه اليوم. فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنه كان للزبير عندي يد، جز ناصيتي يوم بعاث فقال: اذكر هذه النعمة عندك. وقد أحببت أن أجزيه بها فهبه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهو لك. فأتها فقال: إن رسول الله قد وهبك لي. قال الزبير: شيخٌ كبير، لا أهل ولا ولد ولا مال بيثرب، ما يصنع بالحياة؟ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أعطني ولده. فأعطاه ولده فقال: يا رسول الله، أعطني ماله وأهله. فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وولده وأهله، فرجع إلى الزبير فقال: إن رسول الله قد أعطاني ولدك وأهلك ومالك. فقال الزبير: يا ثابت، أما أنت فقد كافأتني وقضيت بالذي عليك. يا ثابت، ما فعل الذي كأن وجهه مرآةٌ صينيةٌ تتراءى عذارى الحي في وجهه - كعب بن أسد؟ قال: قتل. قال: فما فعل سيد الحاضر والبادي؛ سيد الحيين كليهما، يحملهم في الحرب ويطعمهم في المحل - حيي بن أخطب؟ قال: قتل. قال: فما فعل أول غادية اليهود إذا حملوا، وحاميتهم إذا ولوا - غزال بن سموأل؟ قال: قتل. قال: فما فعل الحول القلب الذي لايؤم جماعةً إلا فضها ولا عقدةً إلا حلها - نباش بن قيس؟ قال: قتل. قال: فما فعل لواء اليهود في الزحف - وهب بن زيد؟ قال: قتل. قال: فما فعل والي رفادة اليهود وأبو الأيتام والأرامل من اليهود - عقبة بن زيد؟ قال: قتل. قال: فما فعل العمران اللذان كانا يلتقيان بدراسة التوراة؟ قال: قتلا. قال: يا ثابت، فما خيرٌ في العيش بعد هؤلاء! أأرجع إلى دار كانوا فيها حلولاً فأخلد فيها بعدهم؟ لا حاجة لي في ذلك، فإني أسألك بيدي عندك إلا قدمتني إلى هذا القتال الذي يقتل سراة بني قريظة ثم يقدمني إلى مصارع قومي، وخذ سيفي فإنه صارم فاضربني به ضربةً وأجهز، وارفع يدك عن الطعام، وألصق بالرأس واخفض عن الدماغ، فإنه أحسن الجسد أن يبقى فيه العنق. يا ثابت، لا أصبر إفراغ دلوٍ من نضح حتى ألقى الأحبة. قال أبو بكر، وهو يسمع قوله: ويحك يا ابن باطا، إنه ليس إفراغ دلو، ولكنه عذابٌ أبدي. قال: يا ثابت، قدمني فاقتلني! قال ثابت: ما كنت لأقتلك. قال الزبير: ما كنت أبالي من قتلني! ولكن يا ثابت، انظر إلى امرأتي وولدي فإنهم جزعوا من الموت، فاطلب إلى صاحبك أن يطلقهم وأن يرد إليهم أموالهم. وأدناه إلى الزبير بن العوام، فقدمه فضرب عنقه. وطلب ثابت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أهله وماله وولده، فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما كان من ذلك على ولده، وترك امرأته من السبا، ورد عليهم الأموال من النخل والإبل والرثة إلا الحلقة، فإنه لم يردها عليهم. فكانوا مع آل ثابت بن قيس بن شماس.

قالوا: وكانت ريحانة بنت زيدٍ من بني النضير متزوجةً في بني قريظة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخذها لنفسه صفياً، وكانت جميلة، فعرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسلم، فأبت إلا اليهودية. فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجد في نفسه، فأرسل إلى ابن سعية فذكر له ذلك، فقال ابن سعية: فداك أبي وأمي، هي تسلم! فخرج حتى جاءها، فجعل يقول لها: لا تتبعي قومك، فقد رأيت ما أدخل عليهم حيي بن أخطب، فأسلمي يصطفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ سمع وقع نعلين فقال: إن هاتين لنعلا ابن سعية يبشرني بإسلام ريحانة. فجاءه فقال: يا رسول الله، قد أسلمت ريحانة! فسر بذلك.
فحدثني عبد الملك بن سليمان، عن أيوب بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة، عن أيوب بن بشير المعاوي، قال: أرسل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت سلمى بنت قيس أم المنذر، وكانت عندها حتى حاضت حيضةً، ثم طهرت من حيضها، فجاءت أم المنذر فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزل أم المنذر، فقال لها رسول الله: إن أحببت أعتقك وأتزوجك فعلت، وإن أحببت أن تكوني في ملكي أطؤك بالملك فعلت. فقالت: يا رسول الله، إنه أخف عليك وعلي أن أكون في ملكك. فكانت في ملك النبي صلى الله عليه وسلم يطؤها حتى ماتت عنده.
فحدثني ابن أبي ذئب قال: سألت الزهري عن ريحانة فقال: كانت أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقها وتزوجها، وكانت تحتجب في أهلها وتقول: لا يراني أحدٌ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهذا أثبت الحديثين عندنا. وكان زوج ريحانة قبل النبي صلى الله عليه وسلم الحكم.
ذكر قسم المغنم وبيعهقالوا: لما اجتمعت المغانم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمتاع فبيع فيمن يريد، وبيع السبي فيمن يريد، وقسمت النخل. فكان بنو عبد الأشهل، وظفر، وحارثة، وبنو معاوية، وهؤلاء النبيت ، لهم سهم. وكان بنو عمرو بن عوف ومن بقي من الأوس سهماً. وكانت سلمة، وزريق، وبلحارث بن الخزرج، سهماً. وكانت الخيل ستةً وثلاثين فرساً؛ فكانت أول ما أعلمت سهمان الخيل يوم المريسيع، ثم في بني قريظة أيضاً عمل فيها ما عمل في المريسيع. أسهم للفرس سهمان ولصاحبه سهمٌ، وللراجل سهمٌ. وأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لخلاد بن سويد، قتل تحت الحصن، وأسهم لأبي سنان بن محصن، مات ورسول الله صلى الله عليه وسلم محاصرهم، وكان يقاتل مع المسلمين. وكان المسلمون ثلاثة آلاف، والخيل ستةً وثلاثين فرساً، فكانت السهمان على ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، للفرس سهمان ولصاحبه سهم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: كانت الخيل في بني قريظة ستاً وثلاثين فرساً، وقاد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أفراس، فلم يضرب إلا سهماً واحداً، وكانت السهمان ثلاثة آلاف واثنين وسبعين سهماً، وأسهم يومئذٍ على الأموال، فجزئت خمسة أجزاء، وكتب في سهم منها " لله " ، وكانت السهمان يومئذٍ بواء ، فخرجت السهمان، وكذلك الرثة والإبل والغنم والسبي. ثم فض أربعة أسهم على الناس، وأحذى النساء يومئذٍ اللاتي حضرن القتال، وضرب لرجلين - واحد قتل وآخر مات، وأحذى رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءً شهدن بني قريظة ولم يسهم لهن - صفية بنت عبد المطلب، وأم عمارة، وأم سليط، وأم العلاء، والسميراء بنت قيس، وأم سعد بن معاذ فحدثني محمد بن عبد الله بن مالك بن محمد بن إبراهيم بن أسلم بن نجرة الساعدي، عن جده، قال: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع سبي بني قريظة، فاشترى أبو الشحم اليهودي امرأتين، مع كل واحدة منهما ثلاثة أطفالٍ غلمانٍ، وجوارٍ بخمسين ومائة دينار، وجعل يقول: ألستم على دين اليهود؟ فتقول المرأتان: لا نفارق دين قومنا حتى نموت عليه! وهن يبكين.

فحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه، قال: لما سبي بنو قريظة - النساء والذرية - باع رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف طائفةً، وبعث طائفةً إلى نجد، وبعث طائفةً إلى الشام مع سعد بن عبادة، يبيعهم ويشتري بهم سلاحاً وخيلاً، ويقال باعهم بيعاً من عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فاقتسما فسهمه عثمان بمالٍ كثير، وجعل عثمان على كل من جاء من سبيهم شيئاً موفياً ، فكان يوجد عند العجائز المال ولا يوجد عند الشواب، فربح عثمان مالاً كثيراً - وسهم عبد الرحمن - وذلك أن عثمان صار في سهمه العجائز. ويقال: لما قسم جعل الشواب على حدةٍ والعجائز على حدة، ثم خير عبد الرحمن عثمان، فأخذ عثمان العجائز.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: كان السبي ألفاً من النساء والصبيان، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسه قبل بيع المغنم، جزأ السبي خمسة أجزاء؛ فأخذ خمساً، فكان يعتق منه ويهب منه، ويخدم منه من أراد. وكذلك صنع بما أصاب من رثتهم، قسمت قبل أن تباع؛ وكذلك النخل، عزل خمسه. وكل ذلك يسهم عليه صلى الله عليه وسلم خمسة أجزاء، ويكتب في سهمٍ منها " لله " ثم يخرج السهم، فحيث صار سهمه أخذه ولم يتخير. وصار الخمس إلى محمية ابن جزء الزبيدي، وهو الذي قسم المغنم بين المسلمين.
حدثني عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم ولا يتخير.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفرق بين سبي بني قريظة في القسم والبيع والنساء والذرية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذٍ: لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا. فقيل: يا رسول الله، وما بلوغهم؟ قال: تحيض الجارية ويحتلم الغلام.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن يعقوب بن زيد، عن أبيه، قال: كان يومئذٍ يفرق بين الأختين إذا بلغتا، وبين الأم وابنتها إذا بلغت، وكانت الأم تباع، وولدها الصغار، من المشركين من العرب، ومن يهود المدينة وتيماء وخيبر يخرجون بهم، فإذا كان الوليد صغيراً ليس معه أم لم يبع من المشركين ولا من اليهود، إلا من المسلمين.
فحدثني عتبة بن جبيرة، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد ابن مسلمة: ابتعت يومئذٍ من السبي ثلاثة، امرأةً معها ابناها، بخمسة وأربعين ديناراً، وكان ذلك حقي وحق فرسي من السبي والأرض والرثة، وغيري كهيئتي. وكان أسهم للفارس ثلاثة أسهم، له سهم ولفرسه سهمان.
وحدثني المغيرة بن عبد الرحمن الحزامي - وكان يلقب قصياً - عن جعفر بن خارجة قال: قال الزبير بن العوام: شهدت بني قريظة فارساً، فضرب لي سهمٌ، ولفرسي سهم.
وحدثني عبد الملك بن يحيى، عن عيسى بن معمر، قال: كان مع الزبير يومئذٍ فرسان، فأسهم له النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم.
ذكر سعد بن معاذ

قالوا: لما حكم سعد بن معاذ في بني قريظة رجع إلى خيمة كعيبة بنت سعد الأسلمية، وكان رماه حبان بن العرقة - ويقال أبو أسامة الجشمي - فقطع أكحله، فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، وانتفخت يده فتركه فسال الدم، فحسمه أخرى فانتفخت يده، فلما رأى ذلك قال: اللهم، رب السموات والأرضين السبع، فإنه لم يكن في الناس قومٌ أحب إلي أن أقاتل من قومٍ كذبوا رسولك، وأخرجوه من قريش! وإني أظن أن قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، وإن كان بقي بيننا وبينهم فأبقني أقاتلهم فيك! وإن كنت قد وضعت الحرب، فافجر هذا الكلم واجعل موتي فيه. فقد أقررت عيني من بني قريظة، لعداوتهم لك ولنبيك ولأوليائك! ففجره الله. وإنه لراقدٌ بين ظهري الليل وما يدرى به. ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، فأتاه وهو يسوق في نفرٍ من أصحابه، فوجدوه قد سجي بملاءةٍ بيضاء، وكان سعد رجلاً أبيض طويلاً، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأسه وجعل رأسه في حجره ثم قال: اللهم إن سعداً قد جاهد في سبيلك، وصدق رسولك، وقضى الذي عليه، فاقبض روحه بخير ما تقبض فيه أرواح الخلق. ففتح سعد عينيه حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالته. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس سعد من حجره ثم قام وانصرف، ولم يمت بعد ورجع إلى منزله، فمكث ساعةً من نهارٍ أو أكثر من ساعةٍ ومات خلافه. ونزل جبريل عليه السلام حين مات سعد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، معتجراً بعمامة من إستبرق، فقال: يا محمد، من هذا الرجل الصالح الذي مات فيكم؟ فتحت له أبواب السماء، واهتز له عرش الرحمن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام: عهدي بسعد بن معاذ وهو يموت! ثم خرج فزعاً إلى خيمة كعيبة يجر ثوبه مسرعاً، فوجد سعداً قد مات. وأقبلت رجال بني عبد الأشهل، فاحتملوه إلى منزله. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثره، فينقطع لعل أحدهم فلم يعرج عليها، ويسقط رداؤه فلم يلو عليه، وما يعرج أحدٌ على أحد حتى دخلوا على سعد. قال أبو عبد الله: وقد سمعنا أن النبي حضره حين توفي.
وأخبرني معاذ بن محمد، عن عطاء بن أبي مسلم، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما انفجرت يد سعد بالدم قام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتنقه، والدم ينفح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحيته، لا يريد أحدٌ أن يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ازداد منه رسول الله صلى الله عليه وسلم قرباً، حتى قضى.
وحدثني سليمان بن داود، عن الحصين، عن أبيه، عن أبي سفيان، عن سلمة بن خريش، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن على الباب نريد أن ندخل على أثره، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في البيت أحدٌ إلا سعد مسجى. قال: فرأيته من ورائي، وجلس ساعةً ثم خرج فقلت: يا رسول الله، ما رأيت أحداً وقد رأيتك تتخطى! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قدرت على مجلس حتى قبض لي ملكٌ من الملائكة أحد جناحيه، فجلست. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: هنيئاً لك أبا عمرو! هنيئاً لك أبا عمرو!.
حدثني محمد بن صالح، عن سعد بن إبراهيم، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: فانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سعد تبكي وتقول:
ويل أم سعدٍ سعداً ... جلادةً وحداً
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: مهلاً يا أم سعد، لا تذكري سعداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعها يا عمر، فكل باكيةٍ مكثرةٌ إلا أم سعد، ما قالت من خيرٍ فلم تكذب. وأم سعد؛ كبشة بنت عبيد بن معاوية بن عبيد بن الأبجر بن عوف بن الحارث بن الخزرج، وأختها؛ الفارعة بنت عبيد بن معاوية بن عبيد، وهي أم سعد بن زرارة.
قالوا: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يغسل، فغسله الحارث ابن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وسلمة بن سلامة بن وقش يصب الماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم حاضر. فغسل بالماء الأولى، والثانية بالماء والسدر، والثالثة بالماء والكافور، ثم كفن في ثلاثة أثوابٍ صحارية وأدرج فيها إدراجاً، وأتى بسريرٍ كان عند آل سبط، يحمل عليه الموتى، فوضع على السرير، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمله بين عمودي سريره حين رفع من داره إلى أن خرج.

وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن، عن عمرة، عن عائشة، قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي أمام جنازة سعد بن معاذ.
وحدثني سعيد بن أبي زيد، عن ربيح بن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده. قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه موت سعد بن معاذ، فخرج بالناس، فلما برز إلى البقيع قال: خذوا في جهاز صاحبكم! قال أبو سعيد: وكنت أنا ممن حفر له قبره، وكان يفوح علينا المسك كلما حفرنا قبره من تراب، حتى انتهينا إلى اللحد. قال ربيح: ولقد أخبرني محمد بن المنكدر، عن محمد بن شرحبيل ابن حسنة، قال: أخذ إنسانٌ قبضةً من قبر سعد بن معاذ فذهب بها، ثم نظر إليها بعد ذلك فإذا هي مسك.
قالوا: ثم احتمل، فقيل: يا رسول الله، إن كنت لتقطعنا في ذهابك إلى سعد! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خشينا أن تسبقنا الملائكة إليه كما سبقتنا إلى غسل حنظلة . وقالوا: يا رسول الله، كان سعد رجلاً جسيماً فلم نر أخف منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت الملائكة تحمله. قالوا: يا رسول الله، إن المنافقين يقولون إنما خف لأنه حكم في بني قريظة. قال: كذبوا، ولكنه خف لحمل الملائكة.
فكان أبو سعيد الخدري يقول: طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد فرغنا من حفرته، ووضعنا اللبن والماء عند القبر، وحفرنا له عند دار عقيل اليوم، وطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا، فوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم عند قبره ثم صلى عليه، فلقد رأيت من الناس ما ملأ البقيع.
قال الواقدي: حدثني إبراهيم بن الحصين، عن داود بن الحصين، عن عبد الرحمن بن جابر، عن أبيه، قال: لما انتهوا إلى قبره نزل في قبره أربعة نفر: الحارث بن أوس بن معاذ، وأسيد بن حضير، وأبو نائلة، وسلمة بن سلامة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقفٌ على قدميه على قبره؛ فلما وضع في لحده تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبح ثلاثاً، فسبح المسلمون ثلاثاً حين ارتج البقيع. ثم كبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، وكبر أصحابه ثلاثاً حتى ارتج البقيع بتكبيره فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقيل: يا رسول الله، رأينا لوجهك تغيراً وسبحت ثلاثاً! قال: تضايق على صاحبكم قبره، وضم ضمةً لو نجا منها أحدٌ لنجا منها سعد، فم فرج الله عنه.
حدثني إبراهيم بن الحصين، عن المسور بن رفاعة، قال: جاءت أم سعد - وهي كبشة بنت عبيد - تنظر إلى سعد في اللحد، فردها الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها! فأقبلت حتى نظرت إليه، وهو في اللحد قبل أن يبنى عليه اللبن والتراب، فقالت أحتسبك عند الله! وعزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على قبره؛ وجلس ناحيةً، وجعل المسلمون يردون تراب القبر ويسوونه، وتنحى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس حتى سوي على قبره ورش على قبره الماء، ثم أقبل فوقف عليه فدعا له، ثم انصرف.
ذكر من قتل من المسلمين في حصار بني قريظة خلاد بن سويد من بلحارث بن الخزرج، دلت عليه نباتة رحىً فشدخت رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: له أجر شهيدين! وقتلها به. ومات أبو سنان بن محصن، فدفنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك، فهو في مقبرة بني قريظة اليوم.

حدثنا الواقدي قال: حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: لما قتلت بنو قريظة، قدم حسيل بن نويرة الأشجعي خيبر، قد سار يومين، ويهود بني النضير - سلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، ويهود خيبر جلوسٌ في ناديهم يتحسبون خبر قريظة، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصرهم وهم يتوقعون ما هو كائن، فقالوا: ما وراءك؟ قال: الشر! قتلت مقاتلة قريظة صبراً بالسيف! قال كنانة: ما فعل حيي؟ قال حسيل: حيي قد طاح، ضربت عنقه صبراً. وجعل يخبرهم عن سراتهم - كعب بن أسد، وغزال بن سموأل، ونباش بن قيس - أنه حضرهم قتلوا بين يدي محمد. قال سلام بن مشكم: هذا كله عمل حيي بن أخطب، شأمنا أولاً وخالفنا في الرأي، فأخرجنا من أموالنا وشرفنا وقتل إخواننا. واشد من القتل سباء الذرية؛ لا قامت يهودية بالحجاز أبداً، ليس لليهود عزمٌ ولا رأي. قالوا: وبلغ النساء فصيحن، وشققن الجيوب، وجززن الشعور، وأقمن المآتم، وضوى إليهن نساء العرب. وفزعت اليهود إلى سلام بن مشك فقالوا: فما الرأي أبا عمرو؟ ويقال أبا الحكم. قال: وما تصنعون برأي لا تأخذون منه حرفاً. قال كنانة: ليس هذا بحين عتاب، قد صار الأمر إلى ما ترى. قال: محمد قد فرغ من يهود يثرب، وهو سائرٌ غليكم، فنازل بساحتكم، وصانع بكم ما صنع ببني قريظة. قالوا: فما الرأي؟ قال: نسير إليه بمن معنا من يهود خيبر، فلهم عدد، ونستجلب يهود تيماء، وفدك، ووادي القرى؛ ولا نستعين بأحدٍ من العرب، فقد رأيتم في غزوة الخندق ما صنعت بكم العرب بعد أن شرطتم لهم تمر خيبر نقضوا ذلك وخذلوكم، وطلبوا من محمدٍ بعض تمر الأوس والخزرج، وينصرفون عنه، مع أن نعيم بن مسعود هو الذي كادهم بمحمد، ومعروفهم إليه معروفهم! ثم نسير إليه في عقر داره فنقاتل على وترٍ حديثٍ وقديم. فقالت اليهود: هذا الرأي. فقال كنانة: إني قد خبرت العرب فرأيتهم أشداء عليه، وحصوننا هذه ليست مثل ما هناك، ومحمد لا يسير إلينا أبداً لما يعرف. قال سلام بن مشكم: هذا رجلٌ لا يقاتل حتى يؤخذ برقبته. فكان ذلك والله محمود! وقال حسان بن ثابت يرثي سعد بن معاذ
باب شأن سرية عبد الله بن أنيس
إلى سفيان بن خالد بن نبيحقال عبد الله بن أنيس: خرجت من المدينة يوم الإثنين لخمسٍ خلون من المحرم، على رأس أربعةٍ وخمسين شهراً، فغبت اثنتي عشرة ليلة، وقدمت يوم السبت لسبعٍ بقين من المحرم.

قال الواقدي: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن جبير، عن موسى بن جبير، قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سفيان بن خالد بن نبيح الهذلي، ثم اللحياني، وكان نزل عرنة وما حولها في ناسٍ من قومه وغيرهم، فجمع الجموع لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وضوى إليه بشرٌ كثيرٌ من أفناء الناس. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس، فبعثه سريةً وحده إليه ليقتله. وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انتسب إلى خزاعة. فقال عبد الله بن أنيس: يا رسول الله ما أعرفه، فصفه لي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك إذا رأيته هبته وفرقت منه وذكرت الشيطان. وكنت لا أهاب الرجال، فقلت: يا رسول الله، ما فرقت من شيءٍ قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورأيتني أقطر فقلت صدق الله ورسوله! وقد دخلت في وقت العصر حين رأيته، فصليت وأنا أمشي أومىء إيماءً براسي، فلما دنوت منه قال: من الرجل؟ فقلت: رجلٌ من خزاعة، سمعت بجمعك لمحمدٍ فجئتك لأكون معك. قال: أجل، إني لفي الجمع له. فمشيت معه، وحدثته فاستحلى حديثي، وأنشدته شعراً، وقلت: عجباً لما أحدث محمد من هذا الدين المحدث؛ فارق الآباء وسفه أحلامهم! قال: لم يلق محمدٌ أحداً يشبهني! قال: وهو يتوكأ على عصا يهد الأرض، حتى انتهى إلى خبائه، وتفرق عنه أصحابه إلى منازل قريبةٍ منه وهم مطيفون به، فقال: هلم يا أخا خزاعة! فدنوت منه فقال لجاريته: احلبي! فحلبت ثم ناولتني، فمصصت ثم دفعته إليه، فعب كما يعب الجمل حتى غاب أنفه في الرغوة ، ثم قال: اجلس. فجلست معه، حتى إذا هدأ الناس وناموا وهدأ، اغتررته فقتلته وأخذت رأسه؛ ثم أقبلت وتركت نساءه يبكين عليه، وكان النجاء مني حتى صعدت في جبل فدخلت غاراً. وأقبل الطلب من الخيل والرجال توزع في كل وجهٍ، وأنا مختفٍ في غار الجبل، وضربت العنكبوت على الغار، وأقبل رجلٌ ومعه إداوةٌ ضخمةٌ ونعلاه في ديه، وكنت حافياً، وكان أهم أمري عندي العطش، كنت أذكر تهامة وحرها، فوضع إداوته ونعله وجلس يبول على باب الغار، ثم قال لأصحابه: ليس في الغار أحد، فانصرفوا راجعين، وخرجت إلى الإداوة فشربت منها وأخذت النعلين فلبستهما، فكنت أسير الليل وأتوارى النهار حتى جئت المدينة فوجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فلما رآني قال: أفلح الوجه! قلت: أفلح وجهك يا رسول الله! فوضعت رأسه بين يديه، وأخبرته خبري، فدفع إلي عصاً فقال: تخضر بهذه في الجنة، فإن المتخضرين في الجنة قليل. فكانت عند عبد الله بن أنيس حتى إذا حضره الموت أوصى أهله أن يدرجوها في كفنه. وكان قتله في المحرم على رأس أربعة وخمسين شهراً
غزوة القرطاءحدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود، قال: قال محمد مسلمة: خرجت في عشر ليالٍ خلون من المحرم، فغبت تسع عشرة، وقدمت لليلةٍ بقيت من المحرم على رأس خمسة وخمسين شهراً.

حدثني عبد العزيز بن محمد بن أنس الظفري، عن أبيه، وحدثنا عبد العزيز بن سعد، عن جعفر بن محمود، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث، قالا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في ثلاثين رجلاً، فيهم عباد بن بشر، وسلمة بن سلامة بن وقش، والحارث ابن خزمة، إلى بني بكر بن كلاب، وأمره أن يسير الليل ويكمن النهار، حتى إذا كان بالشربة لقي ظعناً، فأرسل رجلاً من أصحابه يسأل من هم. فذهب الرسول ثم رجع إليه فقال: قومٌ من محارب. فنزلوا قريباً منه، وحلوا وروحوا ماشيتهم. فأمهلهم حتى إذا ظعنوا أغار عليهم، فقتل نفراً منهم وهرب سائرهم، فلم يطلب من هرب، واستاق نعماً وشاءً ولم يعرض للظعن. ثم انطلق حتى إذا كان بموضعٍ يطلعه على بني بكرٍ بعث عباد ابن بشر إليهم، فأوفى على الحاضر فأقام، فلما روحوا ماشيتهم وحلبوا وعطنوا جاء إل محمد بن مسلمة فأخبره، فخرج محمد بن مسلمة فشن عليهم الغارة، فقتل منهم عشرةً، واستاقوا النعم والشاء ثم انحدروا إلى المدينة، فما أصبح حين أصبح غلا بضرية ، مسيرة ليلة أو ليلتين. ثم حدرنا النعم، وخفنا الطلب، وطردنا الشاء أشد الطرد، فكانت تجري معنا كأنها الخيل، حتى بلغنا العداسة، فأبطأ علينا الشاء بالربذة ، فخلفناه مع نفرٍ من أصحابي يقصدون به، وطرد النعم فقدم به المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم. وكان محمد يقول: خرجت من ضرية، فما ركبت خطوةً حتى وردت بطن نخل ؛ فقدم بالنعم، خمسين ومائة بعير، والشاء وهي ثلاثة آلاف شاة، فلما قدمنا خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم فض على أصحابه ما قبي، فعدلوا الجزور بعشرٍ من الغنم، فأصاب كل رجلٍ منهم.
غزوة بني لحيانحدثني عبد الملك بن وهب أبو الحسن الأسلمي، عن عطاء بن أبي مروان، قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لهلال ربيع الأول سنة ستٍّ فبلغ غران وعسفان ، وغاب أربع عشرة ليلة.

حدثني معمر، عن الزهري، عن ابن كعب بن مالك، وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وغيرهما قد حدثني، وقد زاد أحدهما على صاحبه، قالوا: وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عاصم بن ثابت وأصحابه وجداً شديداً، فخرج في مائتي رجل ومعهم عشرون فرساً في أصحابه فنزل بمضرب القبة من ناحية الجرف، فعسكر في أول نهاره وهو يظهر أنه يريد الشام، ثم راح مبرداً فمر على غرابات ، ثم على بين ، حتى خرج على صخيرات الثمام ، فلقي الطريق هناك. ثم أسرع السير حتى انتهى إلى بطن غران حيث كان مصابهم، فترحم عليهم وقال: هنيئاً لكم الشهادة! فسمعت به لحيان فهربوا في رءوس الجبال، فلم يقدروا على أحد، ثم خرج حتى أتى عسفان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إن قريشاً قد بلغهم مسيري وأني قد وردت عسفان، وهم يهابون أن آتيهم، فاخرج في عشرة فوارس. فخرج أبو بكر فيهم حتى أتوا الغميم، ثم رجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يلق أحداً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن هذا يبلغ قريشاً فيذعرهم، ويخافون أن نكون نريدهم - وخبيب بن عدي يومئذٍ في أيديهم. فبلغ قريشاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بلغ الغميم، فقالت قريش: ما أتى محمد الغميم إلا يريد أن يخلص خبيباً. وكان خبيب وصاحباه في حديدٍ موثقين، فجعلوا في رقابهم الجوامع، وقالوا: قد بلغ محمد ضجنان وهو داخلٌ علينا! فدخلت ماوية على خبيب فأخبرته الخبر وقالت: هذا صاحبك قد بلغ ضجنان يريدكم. فقال خبيب: وهل؟ قالت: نعم. قال خبيب: يفعل الله ما يشاء! قالت: والله، ما ينتظرون بك إلا أن يخرج الشهر الحرام، ويخرجوك فيقتلوك ويقولون: أترى محمداً غزانا في الشهر الحرام ونحن لا نستحل أن نقتل صاحبه في الشهر الحرام؟ وكان مأسوراً عندهم، وخافوا أن يدخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو يقول: آئبون، تائبون، عابدون، لربنا حامدون! اللهم، أنت الصاحب في السفر، والخليفة على الأهل! اللهم، أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنقلب، وسوء المنظر في الأهل والمال! اللهم، بلغنا بلاغاً صالحاً يبلغ إلى خير. مغفرةً منك ورضواناً! وغاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المدينة أربع عشرة ليلةً، وكان استخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وكانت سنة ست في المحرم، وهذا أول ما قال هذا الدعاء، ذكره أصحابنا كلهم.
غزوة الغابةحدثني عبد العزيز بن عقبة بن سلمة بن الأكوع، عن غياس بن سلمة، عن أبيه، قال: أغار عيينة ليلة الأربعاء لثلاثٍ خلون من ربيع الآخر سنة ستٍّ، وغزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه يوم الأربعاء، فغبنا خمس ليالٍ ورجعنا ليلة الاثنين. واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم.
حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وعلي بن يزيد، وغيرهم، فكلٌّ قد حدثني بطائفة، قالوا: كانت لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرين لقحةً، وكانت من شتى، منها ما أصاب في ذات الرقاع، ومنها ما قدم به محمد بن مسلمة من نجد. وكانت ترعى البيضاء ودون البيضاء، فأجدب ما هناك فقربوها إلى الغابة، تصيب من أثلها وطرفائها وتغدو في الشجر - قال أبو عبد الله: الغادية: تغدو في العضاه، أم غيلان وغيرها؛ والواضعة: الإبل ترعى الحمض؛ والأوارك: التي ترعى الأراك - فكان الراعي يؤوب بلبنها كل ليلةٍ عند المغرب. وكان أبو ذر قد استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف عليك من هذه الضاحية أن تغير عليك، ونحن لا نأمن من عيينة ابن حصن وذويه، هي في طرفٍ من أطرافهم فألح عليه أبو ذر فقال: يا رسول الله: ائذن لي. فلما ألح عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكأني بك، قد قتل ابنك، وأخذت امرأتك، وجئت تتوكأ على عصاك. فكان أبو ذر يقول: عجباً لي! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " لكأني بك " وأنا ألح عليه، فكان والله على ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكان المقداد بن عمرو يقول: لما كانت ليلة السرح جعلت فرسي سبحة لا تقر ضرباً بأيديها وصهيلاً. فيقول أبو معبد: والله، إن لها شأناً! فننظر آريها فإذا هو مملوءٌ علفاً، فيقول: عطشي! فيعرض الماء عليها فلا تريده، فلما طلع الفجر أسرجها ولبس سلاحه، وخرج حتى صلى الصبح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير شيئاً، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته، ورجع المقداد إلى بيته، وفرسه لا تقر، فوضع سرجها وسلاحه واضطجع، وجعل إحدى رجليه على الأخرى، فأتاه آتٍ فقال: إن الخيل قد صيح بها. فكان أبو ذر يقول: والله، إنا لفي منزلنا، ولقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد روحت، وعطنت، وحلبت عتمتها ونمنا، فلما كان في الليل أحدق بنا عيينة في أربعين فارساً، فصاحوا بنا وهم قيامٌ على رءوسنا، فأشرف لهم ابني فقتلوه، وكانت معه امرأته وثلاثة نفرٍ فنجوا، وتنحيت عنهم وشغلهم عني إطلاق عقل اللقاح، ثم صاحوا في أدبارها، فكان آخر العهد بها. وجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته وهو يتبسم. فكان سلمة بن الأكوع يقول: غدوت أريد الغابة للقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أبلغه لبنها، حتى ألقى غلاماً لعبد الرحمن بن عوف كان في إبلٍ لعبد الرحمن بن عوف، فأخطأوا مكانها واهتدوا إلى لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرني أن لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أغار عليها عيينة بن حصن في أربعين فارساً، فأخبرني أنهم قد رأوا مدداً بعد ذلك أمد به عيينة. قال سلمة: فأحضرت فرسي راجعاً إلى المدينة حتى وافيت على ثنية الوداع فصرخت بأعلى صوتي: يا صباحاه! ثلاثاً، أسمع من بين لابتيها.
فحدثني موسى بن محمد، عن عاصم بن عمر، عن محمود بن لبيد، قال: نادى: الفزع! الفزع! ثلاثاً، ثم وقف واقفاً على فرسه حتى طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديد مقنعاً فوقف واقفاً، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو، عليه الدرع والمغفر شاهراً سيفه، فعقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم لواءً في رمحه وقال: امض حتى تلحقك الخيول، إنا على أثرك. قال المقداد: فخرجت وأنا أسأل الله الشهادة، حتى أدرك أخريات العدو، وقد أذم بهم فرسٌ لهم فاقتحم فارسه وردف أحد أصحابه؛ فأخذ الفرس المذم فإذا هو ضرع ، أشقر، عتيق، لم يقو على العدو، وقد غدوا عليه من أقصى الغابة فحسر، فأربط في عنقه قطعة وترٍ وأخليه، وقلت: إن مر به أحد فأخذه جئته بعلامتي فيه. فأدرك مسعدة فأطعنه برمحٍ فيه اللواء، فزل الرمح وعطف علي بوجهه فطعنني وآخذ الرمح بعضدي فكسرته، وأعجزني هرباً، وأنصب لوائي فقلت: يراه أصحابي. ويلحقني أبو قتادة معلماً بعمامة صفراء على فرسٍ له، فسايرته ساعةً ونحن ننظر إلى دبر مسعدة، فاستحث فرسه فتقدم على فرسي، فبان سبقه فكان أجود من فرسي حتى غاب عني فلا أراه. ثم ألحقه فإذا هو ينزع بردته، فصحت: ما تصنع؟ قال: خيراً اصنع كما صنعت بالفرس. فإذا هو قد قتل مسعد وسجاه ببردة. ورجعنا فإذا فرس في يد علبة بن زيد الحارثي، فقلت: فرسي هذا وعلامتي فيه! فقال: تعال إلى النبي، فجعله مغنماً.
وخرج سلمة بن الأكوع على رجليه يعدو ليسبق الخيل مثل السبع. قال سلمة: حتى لحقت القوم فجعلت أرميهم بالنبل، وأقول حين أرمي: خذها مني وأنا ابن الأكوع! فتكر علي خيلٌ من خيلهم، فإذا وجهت نحوي انطلقت هارباً فأسبقها، وأعمد إلى المكان المعور فأشرف عليه وأرمي بالنبل إذا أمكنني الرمي وأقول:
خذها وأنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع
فما زلت أكافحهم وأقول: قفوا قليلاً، يلحقكم أربابكم من المهاجرين والأنصار. فيزدادون علي حنقاً فيكرون علي، فأعجزهم هرباً حتى انتهيت بهم إلى ذي قرد . ولحقنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخيول عشاءً، فقلت: يا رسول الله، إن القوم عطاشٌ وليس لهم ماءٌ دون أحساء كذا وكذا، فلو بعثتني في مائة رجلٍ استنقذت ما بأيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملكت فأسجح . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهم ليقرون في غطفان.
فحدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي جهم، قال: توافت الخيل وهم ثمانية - المقداد، وأبو قتادة، ومعاذ بن معاعص، وسعد بن زيد، وأبو عياش الزرقي، ومحرز بن نضلة، وعكاشة بن محصن، وربيعة بن أكثم.

حدثني موسى بن محمد، عن عاصم بن عمر بن قتادة، قال: من المهاجرين ثلاثة: المقداد، ومحرز بن نضلة، وعكاشة بن محصن. ومن الأنصار: سعد بن زيد، وهو أميرهم، وأبو عياش الزرقي فارس جلوة ، وعباد بن بشر، وأسيد بن حضير، وأبو قتادة.
قال أبو عياش: أطلع على فرسٍ لي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو أعطيت فرسك من هو أفرس منك فتبع الخيول! فقلت: أنا يا رسول الله أفرس الناس. فركضعته، فما جرى بي خمسين ذراعاً حتى صرعني الفرس. فكان أبو عياش يقول: فعجباً! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لو أعطيت فرسك هذا من هو أفرس منك " وأقول: " أنا أفرس الناس " .
قالوا: وذهب الصريخ إلى بني عمرو بن عوف، فجاءت الأمداد، فلم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم، والإبل، والقوم يعتقبون البعير والحمار، حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد؛ فاستنقذوا عشر لقائح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر. وكان محرز بن نضلة حليفاً في عبد الأشهل، فلما نادى الصريخ: الفزع! الفزع! كان فرسٌ لمحمد بن مسلمة يقال له ذو اللمة مربوطاً في الحائط، فلما سمع صاهلة الخيل صهل وجال في الحائط في شطنه، فقال له النساء: هل لك يا محرز في هذا الفرس فإنه كما ترى صنيعٌ جام تركبه فتلحق اللواء؟ وهو يرى راية رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مر بها العقاب يحملها سعد. قالوا: فخجر فجزع وقطع وادي قناة فسبق المقداد، فيدرك القوم بهيقاً فاستوقفهم فوقفوا، فطاعنهم ساعةً بالرمح، ويحمل عليه مسعدة فطعنه بالرمح فدقه في صلبه، وتناول رمح محرز، وعار فرسه حتى رجع إلى آريه، فلما رآه النساء وأهل الدار قالوا قد قتل. ويقال: كان محرز على فرسٍ كان لعكاشة بن محصن يدعى الجناح، قاتل عليه. ويقال: الذي قتل محرز بن نضلة أوثار، وأقبل عباد بن بشر فيدرك أوثاراً، فتواقفا فتطاعنا حتى انكسرت رماحهما، ثم صارا إلى السيفين فشد عليه عباد ابن بشر فعانقه، ثم طعنه بخنجرٍ معه فمات.
وحدثني عمر بن أبي عاتكة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: كان أوثار وعمرو بن أوثار على فرسٍ لهما يقال له الفرط رديفين عليه، قتلهما عكاشة بن محصن.
فحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن أم عامر بنت يزيد بن السكن، قالت: كنت ممن حض محرزاً على اللحوق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله إنا لفي أطمنا ننظر إلى رهج الغبار إذ أقبل ذو اللمة، فرس محمد بن مسلمة، حتى انتهى إلى آريه، فقلت: أصيب والله! فحملنا على الفرس رجلاً من الحي فقلنا: أطلع لنا رسول الله هل أصابه إلا خير، ثم ارجع إلينا سريعاً. قال: فخرج محضراً حتى لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بهيقا في الناس، ثم رجع فأخبرنا بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحمدنا الله تعالى على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فحدثني ابن أبي سبرة، عن صالح بن كيسان قال، قال محرز بن نضلة: قبل أن يلتقي القوم بيومٍ رأيت السماء فرجت لي، فدخلت السماء الدنيا حتى انتهيت إلى السابعة، وانتهيت إلى سدرة المنتهى، فقيل لي: هذا منزلك. فعرضتها على أبي بكر وكان من أعبر الناس، فقال: أبشر بالشهادة! فقتل بعد ذلك بيوم.

وحدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن أمه، عن أبيه، قال: قال أبو قتادة: إني لأغسل رأسي، قد غسلت أحد شقيه، إذ سمعت فرسي جروة تصهل وتبحث بحافرها، فقلت: هذه حرب قد حضرت! فقمت ولم أغسل شق رأسي الآخر، فركبت وعلي بردةٌ لي، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيح: الفزع! الفزع! قال: وأدرك المقداد بن عمرو فسايرته ساعةً، ثم تقدمه فرسي وكانت أجود من فرسه، وقد أخبرني المقداد - وكان سبقني - بقتل مسعدة محرزاً. قال أبو قتادة للمقداد: يا أبا معبد، أنا أموت أو أقتل قاتل محرز. فضرب فرسه فلحقهم أبو قتادة، ووقف له مسعدة، وحمل عليه أبو قتادة بالقناة فدق صلبه ويقول: خذها وأنا الخزرجي! ووقع مسعدة ميتاً، ونزل أبو قتادة فسجاه ببردته، وجنب فرسه معه، وخرج يحضر في أثر القوم حتى تلاحق الناس. قال أبو قتادة: فلما مر الناس ونظروا إلى بردة أبي قتادة عرفوها فقالوا: هذا أبو قتادة قتيل! واسترجع أحدهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكنه قتيل أبي قتادة، وجعل عليه بردته لتعرفوا أنه قتيله. فخلوا بين أبي قتادة وبين قتيله وسلبه وفرسه، فأخذه كله، وكان سعد بن زيد قد أخذ سلبه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا والله! أبو قتادة قتله، ادفعه إليه.
فحدثني عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه أبي قتادة، قال: لما أدركني النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ونظر إلي قال: اللهم بارك له في شعره وبشره! وقال: أفلح وجهك! قلت: ووجهك يا رسول الله! قال: قتلت مسعدة؟ قلت: نعم. قال: فما هذا الذي بوجهك؟ قلت: سهمٌ رميت به يا رسول الله. قال: فادن مني! فدنوت مني فبصق عليه، فما ضرب عليه قط ولا قاح. فمات أبو قتادة وهو ابن سبعين سنة، وكأنه ابن خمس عشرة سنة. قال: وأعطاني يومئذٍ فرس مسعدة وسلاحه، وقال: بارك الله لك فيه! حدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، قال: قال سعد بن زيد الأشهلي: لما كان يوم السرح أتانا الصريخ، فأنا في بني عبد الأشهل، فألبس درعي وأخذت سلاحي، وأستوي على فرس لي جامٍّ حصانٍ، يقال له النجل ، فأنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه الدرع والمغفر لا أرى إلا عيينة، والخيل تعدو قبل قناة، فالتفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا سعد امض، قد استعملتك على الخيل حتى ألحقك إن شاء الله. فقربت فرسي ساعة ثم خليته فمر يحضر، فأمر بفرسٍ حسير، فقلت: ما هذا؟ وأمر بمسعدة قتيل أبي قتادة، وأمر بمحرز قتيلاً فساءني، وألحق المقداد بن عمرو، ومعاذ بن ماعص؛ فأحضرنا ونحن ننظر إلى رهج القوم، وأبو قتادة في أثرهم، وأنظر إلى ابن الأكوع يسبق الخيل أمام القوم يرشقهم بالنبل، فوقفوا وقفةً ونلحق بهم فتناوشنا ساعةً، وأحمل على حبيب بن عيينة بالسيف فأقطع منكبه الأيسر، وخلي العنان، وتتايع فرسه، فيقع لوجهه، واقتحم عليه فقتله، وأخذت فرسه. وكان شعارنا: أمت أمت! وقد سمعنا في قتل حبيب بن عيينة وجهاً آخر.
فحدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: إن المسلمين لما تلاحقوا هم والعدو وقتل منهم محرز بن نضلة، وخرج أبو قتادة في وجهه، فقتل أبو قتادة مسعدة، وقتل أوثار وعمر بن أوثار، قتلهما عكاشة بن محصن، وإن حبيب بن عيينة كان على فرسٍ له، هو وفرقة ابن مالك بن حذيفة بن بدر، قتلهم المقداد بن عمرو. قالوا: وتلاحق الناس بذي قرد، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
فحدثني سفيان بن سعيد، وابن أبي سبرة، عن أبي بكر بن عبد الله ابن أبي جهم، عن عبيد الله بن عتبة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، وصف طائفةً خلفه، وطائفة مواجهة العدو، فصلى بالطائفة التي خلفه ركعةً وسجدتين، ثم انصرفوا فقاموا مقام أصحابهم، وأقبل الآخرون فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعةً وسجدتين، فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتان، ولكل رجلٍ من الطائفتين ركعة.

حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن عمارة بن معمر، قال: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد يوماً وليلةً يتحسب الخبر، وقسم في كل مائةٍ من أصحابه جزوراً ينحرونها، وكانوا خمسمائة، ويقال كانوا سبعمائة. قالوا: واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة ابن أم مكتوم. وأقام سعد بن عبادة في ثلاثمائة من قومه يحرسون المدينة خمس ليالٍ حتى رجع النبي صلى الله عليه وسلم، وبعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأحمال تمر وبعشرة جزائر بذي قرد. وكان في الناس قيس بن سعد على فرس له يقال له الورد، وكان هو الذي قرب الجزر والتمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، بعثك أبوك فارساً، وقوى المجاهدين، وحرس المدينة من العدو؛ اللهم ارحم سعداً وآل سعد! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم المرء سعد بن عبادة! فتكلمت الخزرج فقالت: يا رسول الله، هو بيتنا وسيدنا وابن سيدنا! كانوا يطعمون في المحل، ويحملون الكل ويقرون الضيف، ويعطون في النائبة، ويحملون عن العشيرة! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خيار الناس في الإسلام خيارهم في الجاهلية إذا فقهوا في الدين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بئر هم قالوا: يا رسول الله، ألا تسم بئرهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ولكن يشتريها بعضكم فيتصدق بها. فاشتراها طلحة بن عبيد الله فتصدق بها.
حدثني موسى بن محمد، عن أبيه، قال: كان أمير الفرسان المقداد حتى لحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي قرد.
حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله بن رافع بن خديج، عن المسور ابن رفاعة، عن ثعلبة بن أبي مالك، قال: كان سعيد بن زيد أمير القوم، وقال لحسان بن ثابت: أرأيت حيث جعلت المقداد رأس السرية وأنت تعلم أن رسول الله استعملني على السرية، وإنك لتعلم لقد نادى الصريخ: الفزع! فكان المقداد أول من طلع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: امض حتى تلحقك الخيول. فمضى أول، ثم توافينا بعد عند النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى المقداد أولنا، فاستعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم على السرية. فقال حسان: يا ابن عم، والله ما أردت إلا القافية حيث قلت: غداة فوارس المقداد... فحلف سعد بن زيد ألا يكلم حساناً أبداً. والثبت عندنا أن أميرهم سعد بن زيد الأشهلي.
قالوا: ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقبلت امرأة أبي ذر على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصواء، وكانت في السرح، فكان فيها جمل أبي جهل، فكان مما تخلصه المسلمون، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته من أخبار الناس، ثم قالت: يا رسول الله، إني نذرت إن نجاني الله عليها أن أنحرها فآكل من كبدها وسنامها. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: بئس ما جزيتها أن حملك الله عليها ونجاك ثم تنحرينها! إنه لا نذر في معصية الله ولا فيما لا تملكين، إنما هي ناقةٌ من إبلي فارجعي إلى أهلك على بركة الله.
حدثني فائد مولى عبد الله، عن عبد الله بن علي، عن جدته سلمى، قالت: نظرت إلى لقوح على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال لها السمراء، فعرفتها فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذه لقحتك السمراء على بابك. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مستبشراً، وإذا رأسها بيد ابن أخي عيينة، فلما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها ثم قال: أيم بك؟ فقال: يا رسول الله، أهديت لك هذه اللقحة. فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقبضها منه، ثم أقام يوماً أو يومين، ثم أمر له بثلاث أواقٍ من فضة، فجعل يتسخط. قال، فقلت: يا رسول الله، أتثيبه على ناقةٍ من إبلك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم وهو ساخطٌ علي! ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم صعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الرجل ليهدي لي الناقة من إبلي أعرفها كما أعرف بعض أهلي، ثم أثيبه عليها فيظل يتسخط علي، ولقد هممت ألا أقبل هديةً إلا من قرشي أو أنصاري - وكان أبو هريرة يقول: أو ثقفي أو دوسي .
ذكر من قتل من المسلمين ومن المشركينمن المسلمين واحد: محرز بن نضلة، قتله مسعدة.

وقتل من المشركين: مسعدة بن حكمة، قتله أبو قتادة؛ وأوثار وابنه عمرو بن أوثار، قتلهما عكاشة بن محصن؛ وحبيب بن عيينة، قتله المقداد. وقال حسان بن ثابت...
سرية عكاشة بن محصن إلى الغمر
في شهر ربيع الأول سنة ستحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد ربه بن سعدي، قال: سمعت رجلاً من بني أسد بن خزيمة يحدث القاسم بن محمد يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عكاشة بن محصن في أربعين رجلاً - منهم ثابت بن أقرم، وشجاع بن وهب، ويزيد بن رقيش. فخرج سريعاً يغذ السير، ونذر القوم فهربوا من مائهم فنزلوا علياء بلادهم، فانتهى إلى الماء فوجد الدار خلوفاً، فبعث الطلائع يطلبون خبراً أو يرون أثراً حديثاً، فرجع إليه شجاع بن وهب فأخبره أنه رأى أثر نعمٍ قريباً، فتحملوا فخرجوا حتى يصيبوا ربيئةً لهم قد نظر ليلته يسمع الصوت، فلما أصبح نام فأخذوه وهو نائم، فقالوا: الخبر عن الناس! قال: وأين الناس؟ قد لحقوا بعلياء بلادهم! قالوا: فالنعم؟ قال: معهم. فضربه أحدهم بسوطٍ في يده. قال: تؤمنني على دمي وأطلعك على نعمٍ لبني عمٍّ لهم، لم يعلموا بمسيركم إليهم؟ قالوا: نعم. فانطلقوا معه، فخرج حتى أمعن، وخافوا أن يكونوا معه في غدر، فقربوه فقالوا: والله، لتصدقنا أو لنضربن عنقك! قال: تطلعون عليهم من هذا الظريب . قال: فأوفوا على الظريب فإذا نعمٌ رواتع، فأغاروا عليه فأصابوه، وهربت الأعراب في كل وجه، ونهى عكاشة عن الطلب، واستاقوا مائتي بعير فحدروها إلى المدينة، وأرسلوا الرجل، وقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يصب منهم أحدٌ ولم يلقوا كيداً.
سرية محمد بن مسلمة إلى ذي القصة
إلى بني ثعلبة وعوال في ربيع الآخرحدثني عبد الله بن الحارث، عن أبيه، قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة في عشرة، فورد عليهم ليلاً، فكمن القوم حتى نام ونام أصحابه، فأحدقوا به وهم مائة رجل، فما شعر القوم إلا بالنبل قد خالطتهم. فوثب محمد بن مسلمة وعليه القوس، فصاح بأصحابه: السلاح! فوثبوا فتراموا ساعةً من الليل، ثم حملت الأعراب بالرماح فقتلوا منهم ثلاثة، ثم انحاز أصحاب محمدٍ إليه فقتلوا من القوم رجلاً، ثم حمل القوم فقتلوا من بقي. ووقع محمد بن مسلمة جريحاً، فضرب كعبه فلا يتحرك، وجردوهم من الثياب وانطلقوا، فمر رجلٌ على القتلى فاسترجع، فلما سمعه محمدٌ تحرك له فإذا هو رجلٌ مسلم، فعرض على محمدٍ طعاماً وشراباً وحمله حتى ورد به المدينة. فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً إلى مصارعهم فلم يجد أحداً واستاق نعماً ثم رجع. قال أبو عبد الله: فذكرت هذه السرية لإبراهيم بن جعفر ابن محمود بن محمد بن مسلمة فقال: أخبرني أبي أن محمد بن مسلمة خرج في عشرة نفر: أبو نائلة، والحارث بن أوس، وأبو عبس بن جبر، ونعمان بن عصر، ومحيصة بن مسعود، وحويصة، وأبو بردة ابن نيار، ورجلان من ميزنة، ورجلٌ من غطفان، فقتل المزنيان والغطفاني، وارتث محمد بن مسلمة من القتلى. قال محمد: فلما كانت غزوة خيبر نظرت إلى أحد النفر الذين كانوا ولوا ضربي يوم القصة، فلما رآني قال: أسلمت وجهي لله! فقلت: اولى!
سرية أميرها أبو عبيدة إلى ذي القصةفي ربيع الآخر سنة ستٍ ليلة السبت، وغاب ليلتين.
حدثني عبد الرحمن بن زياد الأشجعي، عن عيسى بن عميلة، وحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضل، عن أبيه، زاد أحدهما على صاحبه، قالا: أجدبت بلاد بني ثعلبة وأنمار، ووقعت سحابةٌ بالمراض إلى تغلمين ، فصارت بنو محارب وثعلبة وأنمار إلى تلك السحابة، وكانوا قد أجمعوا أن يغيروا على سرح المدينة، وسرحهم يومئذٍ يرعى ببطن هيقا، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في أربعين رجلاً من المسلمين حين صلوا صلاة المغرب، فباتوا ليلتهم يمشون حتى وافوا ذي القصة مع عماية الصبح، فأغار عليهم فأعجزهم هرباً في الجبل، وأخذ رجلاً منهم ووجد نعماً من نعمهم فاستاقه، ورثةً من متاع؛ فقدم به المدينة، فأسلم الرجل فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قام عليه خمسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسم ما بقي عليهم.
سرية زيد بن حارثة إلى العيص
في جمادى الأولى سنة ست

حدثني موسى بن إبراهيم، عن أبيه، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الغابة بلغه أن عيراً لقريش أقبلت من الشام، فبعث زيد بن حارثة في سبعين ومائة راكب، فأخذوها وما فيها. وأخذوا يومئذٍ فضةً كثيرةً لصفوان ، وأسروا ناساً ممن كان في العير معهم، منهم أبو العاص بن الربيع، والمغيرة بن معاوية بن أبي العاص. فأما أبو العاص فلم يغد أن جاء المدينة، ثم دخل على زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم سحراً، وهي امرأته، فاستجارها فأجارته. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر قامت زينب على بابها فنادت بأعلى صوتها فقالت: إني قد أجرت أبا العاص! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيها الناس، هل سمعتم ما سمعت؟ قالوا: نعم. قال: فوالذي نفسي بيده، ما علمت بشيءٍ مما كان حتى سمعت الذي سمعتم، المومنون يد على من سواهم، يجير عليهم أدناهم، وقد أجرنا من أجارت. فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم إلى منزله دخلت عليه زينب فسألته أن يرد إلى أبي العاص ما أخذ منه من المال، ففعل وأمرها ألا يقربها، فإنها لا تحل له ما دام مشركاً. ثم كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وكانت معه بضائع لغير واحدٍ من قريش، فأدوا إليه كل شيء؛ حتى إنهم ليردون الإداوة والحبل، حتى لم يبق شيءٌ. ورجع أبو العاص إلى مكة فأدى إلى كل ذي حق حقه. قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحدٍ منكم شيء؟ قالوا: لا والله. قال: فإني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، لقد أسلمت بالمدينة، وما منعني أن أقيم بالمدينة إلا أن خشيت أن تظنوا أني أسلمت لأن أذهب بالذي لكم. ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرد عليه زينب بذلك النكاح. ويقال إن هذه العير كانت أخذت طريق العراق، ودليلها فرات بن حيان العجلي.
قال محمد بن إبراهيم: وأما المغيرة بن معاوية فأفلت، فتوجه تلقاء مكة فأخذ الطريق نفسها، فلقيه سعد بن أبي وقاص قافلاً في سبعة نفر، وكان الذي أسر المغيرة خوات بن جبير، فأقبل به حتى دخلوا المدينة بعد العصر وهم مبردون.
قال محمد بن إبراهيم، فأخبرني ذكوان مولى عائشة، عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: احتفظي بهذا الأسير! وخرج النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فلهوت مع امرأة أتحدث معها، فخرج وما شعرت به، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره فقال: أين الأسير؟ فقلت: والله ما أدري، غفلت عنه، وكان ها هنا آنفاً. فقال: قطع الله يدك! قالت: ثم خرج فصاح بالناس، فخرجوا في طلبه فأخذوه بالصورين، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قالت عائشة: فدخل على النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أقلب بيدي، فقال: مالكِ؟ فقلت: أنظر كيف تقطع يدي؛ قد دعوت علي بدعوتكم! قالت: فاستقبل القبلة فرفع يديه ثم قال: اللهم إنما أنا بشر، أغضب وآسف كما يغضب البشر. فأيما مؤمن أو مؤمنةٍ دعوت عليه بدعوةٍ فاجعلها له رحمة.
سرية زيد بن حارثة إلى الطرف
في جمادى الآخرة سنة ستحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن عمران بن مناح، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة إلى الطرف إلى بني ثعلبة، فخرج في خمسة عشر رجلاً، حتى إذا كانوا بالطرف أصاب نعماً وشاءً. وهربت الأعراب وخافوا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إليهم، فانحدر زيد بن حارثة حتى صبح المدينة بالنعم، وخرجوا في طلبه حتى أعجزهم، فقدم بعشرين بعيراً. ولم يكن قتالٌ فيها، وإنما غاب أربع ليال.
حدثني ابن أبي سبرة، عن أبي رشد، عن حميد بن مالك، عن من حضر السرية، قال: أصابهم بعيران أو حسابهما من الغنم، فكان كل بعير عشراً من الغنم. وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية زيد بن حارثة إلى حسمي
في جمادى الآخرة سنة ست

حدثني موسى بن محمد بن إبراهيم، عن أبيه، قال: أقبل دحية الكلبي من عند قيصر، قد أجاز دحية بمالٍ وكساه كسى. فأقبل حتى كان بحسمي، فلقيه ناسٌ من جذام فقطعوا عليه الطريق، وأصابوا كل شيء معه فلم يصل إلى المدينة إلا بسمل ، فلم يدخل بيته حتى انتهى إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدقه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقال: دحية الكلبي. قال: ادخل. فدخل فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان من هرقل حتى أتى على آخر ذلك، ثم قال: يا رسول الله، أقبلت من عنده حتى كنت بحسمي فأغار علي قومٌ من جذام، فما تركوا معي شيئاً حتى أقبلت بسملي ، هذا الثوب.
فحدثني موسى بن محمد قال: سمعت شيخاً من سعد هذيم كان قديماً يخبر عن أبيه يقول: إن دحية لما أصيب - أصابه الهنيد بن عارض وابنه عارض بن الهنيد، وكانا والله نكدين مشؤومين، فلم يبقوا معه شيئاً، فسمع بذلك نفرٌ من بني الضبيب فنفروا إلى الهنيد وابنه. فكان فيمن نفر منهم النعمان بن أبي جعال في عشرة نفر، وكان نعمان رجل الوادي ذا الجلد والرماية . فارتمى النعمان وقرة بن أبي أصفر الصلعي، فرماه قرة فأصاب كعبه فأقعده إلى الأرض. ثم انتهض النعمان فرماه بسهمٍ عريض السروة ، فقال: خذها من الفتى! فخل السهم في ركبته فشنجه وقعد، فخلصوا لدحية متاعه فرجع به سالماً إلى المدينة.
قال موسى، فسمعت شيخاً آخر يقول: إنما خلص متاع دحية رجلٌ كان صحبه من قضاعة، هو الذي كان استنقذ له كل شيءٍ أخذ منه رده على دحية. ثم إن دحية رجع إلى المدينة فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاستسعى النبي صلى الله عليه وسلم دم الهنيد وابنه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمسير، فخرج زيد بن حارثة معه.
وقد كان رفاعة بن زيد الجذامي قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وافداً، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم وأقام بالمدينة، ثم سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب معه كتاباً، فكتب معه رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم، لرفاعة بن زيد إلى قومه عامةً ومن دخل معهم يدوهم إلى الله وإلى رسوله. فمن أقبل منهم فهو من حزب الله وحزب رسوله، ومن ارتد فله أمان شهرين. فلما قدم رفاعة على قومه بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم قرأه عليهم فأجابوه وأسرعوا، ونفذوا إلى مصاب دحية الكلبي فوجدوا أصحابه قد تفرقوا.

وقدم زيد بن حارثة خلافهم على رسول الله، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسمائة رجل، ورد معه دحية الكلبي. وكان زيد يسير الليل ويكمن النهار، ومعه دليلٌ من بني عذرة. وقد اجتمعت غطفان كلها ووائل ومن كان من سلامات وبهراء حين جاء رفاعة بن زيد بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى نزلوا - الرجال ورفاعة - بكراع رؤية لم يعلم. وأقبل الدليل العذري بزيد بن حارثة حتى هجم بهم، فأغاروا مع الصبح على الهنيد وابنه ومن كان في محلتهم، فأصابوا ما وجدوا، وقتلوا فيهم فأوجعوا ، وقتلوا الهنيد وابنه، وأغاروا على ماشيتهم ونعمهم ونسائهم، فأخذوا من النعم ألف بعير، ومن الشاء خمسة آلاف شاة، ومن السبي مائة من النساء والصبيان. وكان الدليل إنما جاء بهم من قبل الأولاج ، فلما سمعت بذلك الضبيب بما صنع زيد بن حارثة ركبوا، فكان فيمن ركب حبان بن ملة وابنه، فدنوا من الجيش وتواصوا لا يتكلم أحد إلا حبان بن ملة ، وكانت بينهم علامةٌ إذا أراد أحدهم أن يضرب بسيفه قال قودي! فلما طلعوا على العسكر طلعوا على الدهم من السبي والنعم، والنساء والأسارى أقبلوا جميعاً، والذي يتكلم حبان بن ملة يقول: إنا قومٌ مسلمون. وكان أول من لقيهم رجلٌ على فرس، عارضٌ رمحه، فأقبل يسوقهم، فقال رجل منهم: قودي! فقال حبان: مهلاً! فلما وقفوا على زيد بن حارثة قال له حبان: إنا قوم مسلمون. قال له زيد: اقرأ أم الكتاب! وكان زيد إنما يمتحن أحدهم بأم الكتاب لا يزيده. فقرأ حبان، فقال له زيد: نادوا في الجيش إنه قد حرم علينا ما أخذناه منهم بقراءة أم الكتاب. فرجع القوم ونهاهم زيد أن يهبطوا واديهم الذي جاءوا منه، فأمسوا في أهليهم، وهم في رصدٍ لزيد وأصحابه، فاستمعوا حتى نام أصحاب زيد بن حارثة، فلما هدأوا وناموا ركبوا إلى رفاعة بن زيد - وكان في الركب في تلك الليلة أبو زيد بن عمرو، وأبو أسماء بن عمرو، وسويد بن زيد وأخوه، وبرذع بن زيد، وثعلبة بن عدي - حتى صبحوا رفاعة بكراع رؤية، بحرة ليلى ، فقال حبان : إنك لجالسٌ تحلب المعزى ونساء جذام أسارى . فأخبره الخبر فدخل معهم حتى قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم المدينة - ساروا ثلاثاً - فابتداهم رفاعة فدفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابه الذي كتب معه، فلما قرأ كتابه استخبرهم فأخبروه بما صنع زيد بن حارثة. فقال: كيف أصنع بالقتلى؟ فقال رفاعة: يا رسول الله أنت أعلم، لا تحرم علينا حلالاً ولا تحل لنا حراماً. قال أبو زيد : أطلق لنا يا رسول الله من كان حياً، ومن قتل فهو تحت قدمي هاتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: انطلق معهم يا علي! فقال علي: يا رسول الله، لا يطيعني زيدٌ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا سيفي فخذه. فأخذه فقال: ليس معي بعيرٌ أركبه. فقال بعض القوم: هذا بعير! فركب بعير أحدهم وخرج معهم حتى لقوا رافع ابن مكيث بشير زيد بن حارثة على ناقةٍ من إبل القوم، فردها علي على القوم. ورجع رافع بن مكيث مع عليٍّ رضي الله عنه رديفاً حتى لقوا زيد بن حارثة بالفحلتين ، فلقيه عليٌّ وقالك إن رسول الله يأمرك أن ترد على هؤلاء القوم ما كان بيدك من أسيرٍ أو سبيٍ أو مال. فقال زيد: علامة من رسول الله! فقال عليٌّ: هذا سيفه! فعرف زيد السيف فنزل فصاح بالناس فاجتمعوا فقال: من كان بيده شيءٌ من سبيٍ أو مالٍ فليرده، فهذا رسول رسول الله. فرد إلى الناس كل ما أخذ منهم، حتى إن كانوا ليأخذون المرأة من تحت فخذ الرجل.
حدثني أسامة بن زيد بن أسلم، عن يسر بن محجن الديلي، عن أبيه، قال: كنت في تلك السرية، فصار لكل رجلٍ سبعة أبعرةٍ وسبعون شاة، ويصير له من السبي المرأة والمرأتاه، فوطئوا بالملك بعد الاستبراء، حتى رد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى أهله، وكان قد فرق وباع منه.
سريةٌ أميرها عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل
في شعبان سنة ست

حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال: وتجهز فإني باعثك في سريةٍ من يومك هذا، أو من غدٍ إن شاء الله. قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي العداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر، وعمر، وناس من المهاجرين، فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك، وعلي ثياب سفري. قال: وعلى عبد الرحمن ابن عوف عمامةٌ قد لفها على رأسه. قال ابن عمر: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء، فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف! قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغز باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليداً. قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمساً قبل أن يحل بكم؛ ما نقض مكيال قومٍ إلا أخذهم الله بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قومٌ عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قومٌ الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقوا، وما ظهرت الفاحشة في قومٍ إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قومٌ بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعاً، وأذاق بعضهم بأس بعض.
قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام، فمكث بها ثلاثة أيامٍ يدعوهم إلى الإسلام. وقد كانوا أبوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانياً وكان رأسهم. فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك، وبعث رجلاً من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر. فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها، وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عوف، عن صالح بن إبراهيم، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الرحمن بن عوف إلى كلب، وقال: إن استجابوا لك فتزوج ابنة ملكهم أو ابنة سيدهم. فلما قدم دعاهم إلى الإسلام فاستجابوا وأقام على إعطاء الجزية. وتزوج عبد الرحمن بن عوف تماضر بنت الأصبغ بن عمرو ملكهم، ثم قدم بها المدينة، وهي أم أبي سلمة.
سرية علي بن أبي طالب
رضي الله عنه إلى بني سعد، بفدك في شعبان سنة ست

حدثني عبد الله بن جعفر، عن يعقوب بن عتبة، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه في مائة رجلٍِ إلى حي سعد، بفدك، وبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لهم جمعاً يريدون أن يمدوا يهود خيبر، فسار الليل وكمن النهار حتى انتهى إلى الهمج ، فأصاب عيناً فقال: ما أنت؟ هل لك علم بما وراءك من جمع بني سعد؟ قال: لا علم لي به. فشدوا عليه فأقر أنه عينٌ لهم بعثوه إلى خيبر، يعرض على يهود خيبر نصرهم على أن يجعلوا لهم من تمرهم كما جعلوا لغيرهم ويقدمون عليهم، فقالوا له: فأين القوم؟ قال: تركتهم وقد تجمع منهم مائتا رجل، ورأسهم وبر ابن عليم. قالوا: فسر بنا حتى تدلنا. قال: على أن تؤمنوني! قالوا: إن دللتنا عليهم وعلى سرحهم أمناك، وإلا فلا أمان لك. قال: فذاك! فخرج بهم دليلاً لهم حتى ساء ظنهم به، وأوفى بهم على فدافد وآكام، ثم أفضى بهم إلى سهولةٍ فإذا نعمق كثيرٌ وشاءٌ، فقال: هذا نعمهم وشاءهم. فأغاروا عليه فضموا النعم والشاء. قال: أرسلوني! قالوا: لا حتى نأمن الطلب! ونذر بهم الراعي رعاء الغنم والشاء، فهربوا إلى جمعهم فحذروهم، فتفرقوا وهربوا، فقال الدليل: علام تحبسني؟ قد تفرقت الأعراب وأنذرهم الرعاء. قال علي رضي الله عنه: لم نبلغ معسكرهم. فانتهى بهم إليه فلم ير أحداً، فأرسلوه وساقوا النعم والشاء، النعم خمسمائة بعير، وألفا شاة.
حدثني أبير بن العلاء، عن عيسى بن عليلة، عن أبيه، عن جده، قال: إني لبوادي الهمج إلى بديع ، ما شعرت إلا ببني سعد يحملون الظعن وهم هاربون، فقلت: ما دهاهم اليوم؟ فدنوت إليهم فلقيت رأسهم وبر بن عليم، فقلت: ما هذا المسير؟ قال: الشر، سارت إلينا جموع محمدٍ وما لا طاقة لنا به، قبل أن نأخذ للحرب أهبتها، وقد أخذوا رسولاً لنا بعثناه إلى خيبر، فأخبرهم خبرنا وهو صنع بنا ما صنع. قلت: ومن هو؟ قال: ابن أخي، وما كنا نعد في العرب فتىً واحداً أجمع قلبٍ منه. فقلت: إني أرى أمر محمد أمراً قد أمن وغلظ، أوقع بقريشٍ فصنع بهم ما صنع، ثم أوقع بأهل الحصون بيثرب، قينقاع وبني النضير وقريظة، وهو سائر إلى هؤلاء بخيبر. فقال لي وبر: لا تخش ذلك! إن بها رجالاً، وحصوناً منيعة، وماءً واتناً ، لا دنا منهم محمد أبداً، وما أحراهم أن يغزوه في عقر داره. فقلت: وترى ذلك؟ قال: هو الرأي لهم. فمكث علي رضي الله عنه ثلاثاً ثم قسم الغنائم وعزل الخمس وصفى النبي صلى الله عليه وسلم لقوحاً تدعى الحفدة قدم بها.
سرية زيد بن حارثة إلى أم قرفة
في رمضان سنة ست

حدثني أبو عبد الله محمد بن عمر الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الله بن الحسين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قال: خرج زيد بن حارثة في تجارةٍ إلى الشام، ومعه بضائع لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ خصيتي تيس فدبغهما ثم جعل بضائعهم فيهما، ثم خرج حتى إذا كان دون وادي القرى ومعه ناسٌ من أصحابه، لقيه ناسٌ من بني فزارة من بني بدر، فضربوه وضربوا أصحابه حتى ظنوا أن قد قتلوا، وأخذوا ما كان معه؛ ثم استبل زيد فقدم المدينة على النبي صلى الله عليه وسلم فبعثه في سريةٍ فقال لهم: اكمنوا النهار وسيروا الليل. فخرج بهم دليلٌ لهم، ونذرت بهم بنو بدر فكانوا يجعلون ناطوراً لهم حين يصيحون فينظر على جبلٍ لهم مشرفٍ وجه الطريق الذي يرون أنهم يأتون منه، فينظر قدر مسيرة يومٍ فيقول: اسرحوا فلا باس عليكم هذه ليلتكم! فلما كان زيد بن حارثة وأصحابه على نحو مسيرة ليلة أخطأ بهم دليلهم الطريق، فأخذ بهم طريقاً أخرى حتى أمسوا وهم على خطأ، فعرفوا خطأهم، ثم صمدوا لهم في الليل حتى صبحوهم، وكان زيد بن حارثة نهاهم حيث انتهوا عن الطلب. قال: ثم وعز إليهم ألا يفترقوا. وقال: إذا كبرت فكبروا. وأحاطوا بالحاضر ثم كبر وكبروا، فخرج سلمة بن الأكوع فطلب رجلاً منهم حتى قتله، وقد أمعن في طلبه، وأخذ جارية بنت مالك بن حذيفة بن بدر وجدها في بيتٍ من بيوتهم؛ وأمها أم قرفة، وأم قرفة فاطمة بنت ربيعة بن زيد. فغنموا، وأقبل زيد بن حارثة، وأقبل سلمة بن الأكوع بالجارية، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر له جمالها، فقال: يا سلمة، ما جاريةٌ أصبتها؟ قال: جارية يا رسول الله رجوت أن أفتدي بها امرأةً منا من بني فزارة، فأعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أو ثلاثاً يسأله: ما جاريةٌ أصبتها؟ حتى عرف سلمة أنه يريدها فوهبها له، فوهبها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحزن بن أبي وهب، فولدت له امرأةً ليس له منها ولد غيرها.
فحدثني محمد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: وقدم زيد بن حارثة من وجهه ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، فأتى زيد فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يجر ثوبه عرياناً، ما رأيته عرياناً قبلها، حتى اعتنقه وقبله، ثم سأله فأخبره بما ظفره الله.
ذكر من قتل أم قرفةقتلها قيس بن المحسر قتلاً عنيفاً؛ ربط بين رجليها حبلاً ثم ربطها بين بعيرين، وهي عجوزٌ كبيرة. وقتل عبد الله بن مسعدة، وقتل قيس بن النعمان بن مسعدة بن حكمة بن مالك بن بدر.
سريةٌ أميرها عبد الله بن رواحة إلى أسير بن زارم
في شوال سنة ستقال الواقدي: حدثني موسى بن يعقوب، عن أبي الأسود، قال: سمعت عروة بن الزبير قال: غزا عبد الله بن رواحة خيبر مرتين؛ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم البعثة الأولى إلى خيبر في رمضان في ثلاثة نفر ينظر إلى خيبر، وحال أهلها وما يريدون وما يتكلمون به، فأقبل حتى أتى ناحية خيبر فجعل يدخل الحوائط، وفرق أصحابه في النطاة، والشق، والكتيبة ، ووعوا ما سمعوا من أسير وغيره. ثم خرجوا بعد إقامة ثلاثة أيام، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم لليالٍ بقين من رمضان، فخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما رأى وسمع، ثم خرج إلى أسير في شوال.

فحدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن أبي سفيان، عن ابن عباس، قال: كان أسير رجلاً شجاعاً، فلما قتل أبو رافع أمرت اليهود أسير بن زارم، فقام في اليهود فقال: إنه والله ما سار محمد إلى أحدٍ من اليهود إلا بعث أحداً من أصحابه فأصاب منهم ما أراد، ولكني أصنع ما لا يصينع أصحابي. فقالوا: وما عسيت أن تصنع ما لم يصنع أصحابك؟ قال: أسير في غطفان فأجمعهم. فسار في غطفان فجمعها، ثم قال: يا معشر اليهود، نسير إلى محمدٍ في عقر داره، فإنه لم يغز أحدٌ في داره إلا أدرك منه عدوه بعض ما يريد. قالوا: نعم ما رأيت. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وقدم عليه خارجة بن حسيل الأشجعي، فاستخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وراءه فقال: تركت أسير بن زارم يسير إليك في كتائب اليهود. قال ابن عباس رضي الله عنه: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانتدب له ثلاثون رجلاً. قال عبد الله بن أنيس: فكنت فيهم، فاستعمل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة. قال: فخرجنا حتى قدمنا خيبر فأرسلنا إلى أسير: إنا آمنون حتى نأتيك فنعرض عليك ما جئنا له؟ فقال: نعم، ولي مثل ذلك منكم؟ قلنا: نعم. فدخلنا عليه فقلنا: إن رسول الله بعثنا إليك أن تخرج إليه فيستعملك على خيبر ويحسن إليك. فطمع في ذلك، وشاور اليهود فخالفوه في الخروج وقالوا: ما كان محمدٌ يستعمل رجلاً من بني إسرائيل. فقال: بلى، قد مللنا الحرب. قال: فخرج معه ثلاثون رجلاً من اليهود مع كل رجلٍ رديفٌ من المسلمين. قال: فسرنا حتى إذا كنا بقرقرة ثبار ندم أسير حتى عرفنا الندامة فيه. قال عبد الله ابن أنيس: وأهوى بيده إلى سيفي ففطنت له. قال: فدفعت بعيري فقلت: غدراً أي عدو الله! ثم تناومت فدنوت منه لأنظر ما يصنع، فتناول سيفي، فغمزت بعيري وقلت: هل من رجلٍ ينزل فيسوق بنا؟ فلم ينزل أحد، فنزلت عن بعيري فسقت بالقوم حتى انفرد أسير، فضربته بالسيف فقطعت مؤخرة الرجل وأندرت عامة فخذه وساقه، وسقط عن بعيره وفي يده مخرش من شوحط، فضربني فشجني مأمومةً ، وملنا على أصحابه فقتلناهم كلهم غير رجلٍ واحدٍ أعجزنا شداً، ولم يصب من المسلمين أحدٌ، ثم أقبلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث أصحابه إذ قال لهم: تمشوا بنا إلى الثنية نتحسب من أصحابنا خبراً. فخرجوا معه، فلما أشرفوا على الثنية فإذا هم بسرعان أصحابنا. قال: فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه. قال: وانتهينا إليه فحدثناه الحديث، فقال: نجاكم الله من القوم الظالمين! قال عبد الله بن أنيس: فدنوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفث في شجتي، فلم تقح بعد ذلك اليوم ولم تؤذني، وقد كان العظم فل؛ ومسح على وجهي ودعا لي، وقطع قطعةً من عصاه فقال: أمسك هذا معك علامةً بيني وبينك يوم القيامة أعرفك بها، فإنك تأتي يوم القيامة متحخصراً . فلما دفن جعلت معه تلي جسده دون ثيابه.
فحدثني خارجة بن الحارث، عن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه، قال: كنت أصلح قوسي. قال: فجئت فوجدت أصحابي قد وجهوا إلى أسير بن زارم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أرى أسير ابن زارم! أي اقتله.
سريةٌ أميرها كرز بن جابر
لما أغير على لقاح النبي صلى الله عليه وسلم بذي الجدر في شوال سنة ست، وهي على ثمانية أميالٍ من المدينة

حدثنا خارجة بن عبد الله، عن يزيد بن رومان، قال: قدم نفرٌ من عرينة ثمانيةٌ على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، فاستوبأوا المدينة فأمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى لقاحه، وكان سرح المسلمين بذي الجدر، فكانوا بها حتى صحوا وسمنوا. وكانوا استأذنوه يشربون من ألبانها وأبوالها، فأذن لهم فغدوا على اللقاح فاستاقوها ، فيدركهم مولى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه نفرٌ فقاتلهم، فأخذوه فقطعوا يده ورجله، وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات. وانطلقوا بالسرح، فأقبلت امرأة من بني عمرو بن عوف على حمارٍ لها حتى تمر بيسار تحت شجرة، فلما رأته وما به - وقد مات - رجعت إلى قومها وخبرتهم الخبر، فخرجوا نحو يسار حتى جاءوا به إلى قباء ميتاً. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في أثرهم عشرين فارساً، واستعمل عليهم كرز بن جابر الفهري، فخرجوا في طلبهم حتى أدركهم الليل، فباتوا بالجرة وأصبحوا فاغتدوا لا يدرون أين يسلكون، فإذا هم بامرأة تحمل كتف بعير، فأخذوها فقالوا: ما هذا معك؟ قالت: مررت بقومٍ قد نحروا بعيراً فأعطوني. قالوا: أين هم؟ قالت: هم بتلك القفار من الحرة، إذا وافيتم عليها رأيتم دخانهم. فساروا حتى أتوهم حين فرغوا من طعامهم، فأحاطوا بهم فسألوهم أن يستأسروا، فاستأسروا بأجمعهم لم يلفت منهم إنسانٌ، فربطوهم، وأردفوهم على الخيل حتى قدموا بهم المدينة، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغابة، فخرجوا نحوه.
قال خارجة: فحدثني يزيد بن رومان قال: حدثني أنس بن مالك قال: فخرجت أسعى في آثارهم مع الغلمان حتى لقي بهم النبي صلى الله عليه وسلم بالزغابة بمجمع السيول، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسملت أعينهم وصلبوا هناك. قال أنس: إني لواقفٌ أنظر إليهم.
قال الواقدي: فحدثني إسحاق، عن صالح مولى التومه، عن أبي هريرة، قال: لما قطع النبي صلى الله عليه وسلم أيدي أصحاب اللقاح وأرجلهم وسمل أعينهم نزلت هذه الآية: " إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ... " الآية. قال: فلم تسمل بعد ذلك عين.
قال: فحدثني أبو جعفر، عن أبيه، عن جده، قال: ما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بعثاً إلا نهاهم عن المثلة.
وحدثني ابن بلال، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جده، قال: لم يقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم لساناً قط، ولم يسمل عيناً، ولم يزد على قطع اليد والرجل.
وحدثني ابن أبي حبيبة، عن عبد الرحمن بن عبد الرحمن، قال: أمير السرية ابن زيد الأشهلي.
حدثني ابن أبي سبرة، عن مروان بن أبي سعيد بن المعلى، قال: لما ظفروا باللقاح خلفوا عليها سلمة بن الأكوع، ومعه أبو رهم الغفاري، وكانت اللقاح خمس عشرة لقحةً غزاراً. فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة من الزغابة وجلس في المسجد، إذا اللقاح على باب المسجد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليها فتفقد منها لقحةً له يقال لها الحناء فقال: أي سلمة، أين الحناء؟ قال: نحرها القوم ولم ينحروا غيرها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر مكاناً ترعاها فيه. قال: ما كان أمثل من حيث كانت بذي الجدر. قال: فردها إلى ذي الجدر. فكانت هناك، وكان لبنها يراح به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلي ليلةٍ وطبٌ من لبن.
قال ابن أبي سبرة: فحدثني إسحاق بن عبد الله، عن بعض ولد سلمة بن الأكوع، أنه أخبره أن سلمة بن الأكوع أخبره بعدة العشرين فارساً فقال: أنا، وأبو رهم الغفاري، وأبو ذر، وبريدة بن الخصيب، ورافع بن مكيث، وجندب بن مكيث، وبلال بن الحارث المزني، وعبد الله بن عمرو بن عوف المزني، وجعال بن سراقة، وصفوان بن معطل، وأبو روعة معبد بن خالد الجهني، وعبد الله بن بدر، وسويد بن صخر، وأبو ضبيس الجهني.
غزوة الحديبية

قال: حدثنا ربيعة بن عمير بن عبد الله بن الهرم، وقدامة بن موسى، وعبد الله بن يزيد الهذلي، ومحمد بن عبد الله بن أبي سبرة، وموسى بن محمد، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، وعبد الحميد بن جعفر، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، ويونس بن محمد، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، ومجمع بن يعقوب، وسعيد بن أبي زيد الزرقي، وعابد ابن يحيى، ومحمد بن صالح عن عاصم بن عمر، ومحمد بن يحيى ابن سهل بن أبي حثمة، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، ومعاذ بن محمد، وعبد الله بن جعفر، وحزام بن هشام عن أبيه؛ فكلٌّ قد حدثني من هذا الحديث بطائفة، وبعضهم أوعى لهذا الحديث من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني، أهل الثقة، وكتبت كل ما حدثوني، قالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في النوم أنه دخل البيت، وحلق رأسه، وأخذ مفتاح البيت، وعرف مع المعرفين ، فاستنفر أصحابه إلى العمرة، فأسرعوا وتهيئوا للخروج. وقدم عليه بسر بن سفيان الكعبي في ليالٍ بقيت من شوال سنة ستٍّ، فقدم مسلماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم زائراً له، وهو على الرجوع إلى أهله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا بسر، لا تبرح حتى تخرج معنا فإنا إن شاء الله معتمرون. فأقام بسر وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان يبتاع له بدناً، فكان بسر يبتاع البدن ويبعث بها إلى ذي الجدر حتى حضر خروجه، فأمر بها فجلبت إلى المدينة، ثم أمر بها ناجية بن جندب الأسلمي أن يقدمها إلى ذي الحليفة، واستعمل على هديه ناجية بن جندب. وخرج أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، لا يشكون في الفتح، للرؤيا التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجوا بغير سلاحٍ إلا السيوف في القرب، وساق قومٌ من أصحابه الهدي، أهل قوة - أبو بكر وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم - ساقوا هدياً حتى وقف بذي الحليفة، وساق سعد بن عبادة بدناً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أتخشى يا رسول الله علينا من أبي سفيان بن حرب وأصحابه، ولم نأخذ للحرب عدتها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أدري، ولست أحب أحمل السلاح معتمراً. وقال سعد بن عبادة: يا رسول الله، لو حملنا السلاح معنا، فإن رأينا من القوم ريباً كنا معدين لهم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لست أحمل السلاح، إنما خرجت معتمراً. واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة، فاغتسل في بيته ولبس ثوبين من نسج صحار ، وركب راحلته القصواء من عند بابه، وخرج المسلمون، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة، ثم دعا بالبدن فجللت ، ثم أشعر بنفسه منها عدة، وهن موجهاتٌ إلى القبلة، في الشق الأيمن. ويقال دعا ببدنةٍ واحدةٍ فأشعرها في الجانب الأيمن، ثم أمر ناجية بن جندب بإشعار ما بقي، وقلدها نعلاً نعلاً، وهي سبعون بدنة فيها جمل أبي جهل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم غنمه ببدر، وكان يكون في لقاحه بذي الجدر. وأشعر المسلمون بدنهم، وقلدوا النعال في رقاب البدن، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسر بن سفيان من ذي الحليفة فأرسله عيناً له، وقال: إن قريشاً قد بلغها أني أريد العمرة، فخبر لي خبرهم، ثم القني بما يكون منهم. فتقدم بسر أمامه، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فقدمه أمامه طليعةً في خيل المسلمين عشرين فارساً، وكان فيها رجالٌ من المهاجرين والأنصار - المقداد بن عمرو وكان فارساً، وكان أبو عياش الزرقي فارساً، وكان الحباب بن المنذر فارساً، وكان عامر بن ربيعة فارساً، وكان سعيد ابن زيد فارساً، وكان أبو قتادة فارساً،، وكان محمد بن مسلمة فارساً، في عدةٍ منهم. ويقال أميرهم سعد بن زيد الأشهلي. ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فصلى ركعتين، ثم خرج ودعا براحلته فركبها من باب المسجد، فلما انبعثت به مستقبلةً القبلة أحرم ولبى بأربع كلمات: لبيك اللهم لبيك! لبيك لا شريك لك، لبيك! إن الحمد والنعمة لك، والملك، لا شريك لك! وأحرم عامة المسلمين بإحرامه، ومنهم من لم يحرم إلا من الجحفة. وسلك طريق البيداء ، وخرج معه المسلمون ست عشرة مائة، ويقال ألف وأربعمائة، ويقال ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون رجلاً؛ خرج معه من

أسلم مائة رجلٍ، ويقال سبعون رجلاً؛ وخرج معه أربع نسوة: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم عمارة، وأم منيع، وأم عامر الأشهلية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالأعراب فيما بين مكة والمدينة فيستنفرهم، فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم - وهم بنو بكر، ومزينة، وجهينة - فيقولون فيما بينهم: أيريد محمد يغزو بنا إلى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمدٌ وأصحابه من سفرهم هذا أبداً! قومٌ لا سلاح معهم ولا عدد، وإنما يقدم على قومٍ حديثٍ عهدهم بمن أصيب منهم ببدر!م مائة رجلٍ، ويقال سبعون رجلاً؛ وخرج معه أربع نسوة: أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأم عمارة، وأم منيع، وأم عامر الأشهلية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر بالأعراب فيما بين مكة والمدينة فيستنفرهم، فيتشاغلون له بأموالهم وأبنائهم وذراريهم - وهم بنو بكر، ومزينة، وجهينة - فيقولون فيما بينهم: أيريد محمد يغزو بنا إلى قوم معدين مؤيدين في الكراع والسلاح؟ وإنما محمد وأصحابه أكلة جزور! لن يرجع محمدٌ وأصحابه من سفرهم هذا أبداً! قومٌ لا سلاح معهم ولا عدد، وإنما يقدم على قومٍ حديثٍ عهدهم بمن أصيب منهم ببدر! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الخيل، ثم يقدم نجية بن جندب مع الهدي، وكان معه فتيانٌ من أسلم، وقدم المسلمون هديهم مع صاحب هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب مع الهدي وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح يوم الثلاثاء بملل، فراح من مللٍ وتعشى بالسيالة، ثم أصبح بالروحاء، فلقي بها أصراماً من بني نهد، معهم نعمٌ وشاءٌ، فدعاهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا له وانقطعوا من الإسلام، فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبنٍ مع رجل منهم. فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبل منهم وقال: لا أقبل هدية مشرك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاع منهم فابتاعوه من الأعراب فسر القوم؛ وجاءوا بثلاثة أضبٍّ أحياء يعرضونها، فاشتراها قوم أحلة من العسكر. فأكلوا وعرضوا على المحرمين فأبوا حتى سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: كلوا فكل صيدٍ ليس لكم حلالاً في الإحرام تأكلونه، إلا ما صدتم أو صيد لكم. قالوا: يا رسول الله، فوالله ما صدنا ولا صادته إلا هؤلاء الأعراب، أهدوا لنا وما يدرون أن يلقونا، إنما هم قوم سيارة يصبحون اليوم بأرض وهم الغد بأرضٍ أخرى يتبعون الغيث، وهم يريدون سحابةً وقعت من الخريف بفرش ملل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم برجلٍ منهم فسأله: أين تريدون؟ فقال: يا محمد، ذكرت لنا سحابةٌ وقعت بفرش ملل منذ شهر، فأرسلنا رجلاً منا يرتاد البلاد، فرجع إلينا فخبرنا أن الشاة قد شبعت وأن البعير يمشي ثقيلاً مما جمع من الحوض، وأن الغدر كثيرةٌ مرويةٌ، فأردنا أن نلحق به.
فحدثني عبد العزيز بن محمد، عن عمرو بن أبي عمرو، عن المطلب ابن عبد الله بن حنطب، عن أبي قتادة، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية ومنا المحل والمحرم، حتى إذا كنا بالأبواء، وأنا محلٌّ، رأيت حماراً وحشياً، فأسرجت فرسي فركبت فقلت لبعضهم: ناولني سوطي! فأبى أن يناولني فقلت: ناولني رمحي! فأبى، فنزلت فأخذت سوطي ورمحي ثم ركبت فرسين فحملت على الحمار فقتلته، فجئت به أصحابي المحرمين والمحلين، فشك المحرمون في أكله، حتى أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان تقدمنا بقليل، فأدركناه فسألناه عنه فقال: أمعكم منه شيءٌ؟ قال: فأعطيته الذراع فأكلها حتى أتى على آخرها وهو محرم. فقيل لأبي قتادة: وما خلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: طبخنا الحمار فلما نضج لحقناه وأدركناه.

وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، عن الصعب بن جثامة، أنه حدثه أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبواء يومئذٍ بحمارٍ وحشيٍّ، فأهداه له فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الصعب: فلما رآني وما بوجهي من كراهية رد هديتي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نرده إلا أنا حرم. قال: فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فقلت: يا رسول الله، إنا نصبح العدو والغارة في غلس الصبح فنصيب الولدان تحت بطون الخيل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم مع الآباء. وقال: سمعته يومئذٍ يقول: " لا حمى إلا لله ولرسوله " . ويقال إن الحمار يومئذٍ كان حياً.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن جده، عن أبي رهم الغفاري، قال: لما نزلوا الأبواء أهدى إيماء بن رخصة جزراً ومائة شاة، وبعث بها مع ابنه خفاف بن إيماء وبعيرين يحملان لبناً، فانتهى به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أرسلني بهذه الجزر واللبن أليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: متى حللتم ها هنا؟ قال: قريباً، كان ماءٌ عندنا قد أجدب فسقنا ماشيتنا إلى ماءٍ ها هنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فكيف البلاد ها هنا؟ قال: يتغذى بعيرها، وأما الشاة فلا تذكر. فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم هديته، وأمر بالغنم ففرق في أصحابه، وشربوا اللبن عسا عسا حتى ذهب اللبن، وقال: بارك الله فيكم! فحدثني أبو جعفر الغفاري، عن أسيد بن أبي أسيد، قال: أهدي يومئذٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ودان ثلاثة أشياء؛ معيشاً ، وعتراً ، وضغابيس ؛ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل من الضغابيس والعتر وأعجبه، وأمر به فأدخل على أم سلمة زوجته، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه هذه الهدية ويرى صاحبها أنها طريفة.
وحدثني سيف بن سليمان، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: لما كنا بالأبواء وقف علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنفخ تحت قدرٍ لي ورأسي يتهافت قملاً وأنا محرم، فقال: هل يؤذيك هوامك يا كعب؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: فاحلق رأسك. قال: ونزلت فيه هذه الآية: " ففديةٌ من صيامٍ أو صدقةٍ أو نسكٍ " . فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أذبح شاةً، أو أصوم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، كل مسكينٍ مدين " أي ذلك فعلت أجزأك " . ويقال إن كعب بن عجرة أهدى بقرةً قلدها وأشعرها. وقال ناجية بن جندب: عطب لي بعيرٌ من الهدي حين نظرت إلى الأبواء، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبوء فأخبرته فقال: انحرها واصبغ قلائدها في دمها، ولا تأكل أنت ولا أحدٌ من أهل رفقتك منها شيئاً، وخل بين الناس وبينها. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الجحفة لم يجد بها ماءً، فبعث رجلاً في الروايا إلى الخرار، فخرج الرجل غير بعيدٍ فرجع بالروايا فقال يا رسول الله، ما أستطيع أن أمضي قدماً رعباً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس! وبعث رجلاً آخر فخرج بالروايا، حتى إذا كان بالمكان الذي أصاب الأول الرعب فرجع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ فقال: لا والذي بعثك بالحق، ما أستطيع أن أمضي رعباً! قال: اجلس! ثم بعث رجلاً آخر، فلما جاوز المكان الذي رجع منه الرجلان قليلاً وجد مثل ذلك الرعب فرجع، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه فأرسله بالروايا وخرج السقاء معه، وهم لا يشكون في الرجوع لما رأوا من رجوع النفر، فوردوا الخرار فاستقوا ثم أقبلوا بالماء؛ ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشجرةٍ فقم ما تحتها، فخطب الناس فقال: أيها الناس، إني كائنٌ لكن فرطاً ، وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا؛ كتاب الله وسنته بأيديكم! ويقال: قد تركت فيكم كتاب الله وسنة نبيه.

ولما بلغ المشركين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة راعهم ذلك، واجتمعوا له وشاوروا فيه ذوي رأيهم فقالوا: يريد أن يدخل علينا في جنوده معتمراً، فتسمع به العرب، وقد دخل علينا عنوةً وبيننا وبينه من الحرب ما بيننا! والله، لا كان هذا أبداً ومنا عينٌ تطرف، فارتأوا رأيكم! فأجمعوا أمرهم، وجعلوه إلى نفرٍ من ذوي رأيهم - صفوان بن أمية، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل - فقال صفوان: ما كنا لنقطع أمراً حتى نشاوركم؛ نرى أن نقدم مائتي فارسٍ إلى كراع الغميم ونستعمل عليها رجلاً جلداً. فقالت قريش: نعم ما رأيت! فقدموا على خيلهم عكرمة ابن أبي جهل - ويقال خالد بن الوليد - واستنفرت قريشٌ من أطاعها من الأحابيش، وأجلبت ثقيفٌ معهم؛ وقدموا خالد بن الوليد في الخيل، ووضعوا العيون على الجبال حتى انتهوا إلى جبلٍ يقلل من وزر وزع كانت عيونهم عشرة رجالٍ قام عليهم الحكم بن عبد مناف، يوحي بعضهم إلى بعضٍ الصوت الخفي: فعل محمدٌ كذا وكذا! حتى ينتهي ذلك إلى قريشٍ ببلدح. وخرجت قريشٌ إلى بلدح فضربوا بها القباب والأبنية، وخرجوا بالنساء والصبيان فعسكروا هناك، ودخل بسر بن سفيان مكة فسمع من كلامهم ورأى منهم ما رأى، ثم رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه بغدير ذات الأشطاط من وراء عسفان، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا بسر، ما وراءك؟ قال: يا رسول الله، تركت قومك، كعب بن لؤي، وعامر بن لؤي، قد سمعوا بمسيرك ففزعوا وهابوا أن تدخل عليهم عنوةً، وقد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل ، قد لبسوا لك جلد النمور ليصدوك عن المسجد الحرام، وقد خرجوا إلى بلدح وضربوا بها الأبنية، وتركت عمادهم يطعمون الجزر أحابيشهم ومن ضوى إليهم في دورهم، وقدموا الخيل عليها خالد بن الوليد، مائتي فارس، وهذه خيلهم بالغميم، وقد وضعوا العيون على الجبال ووضعوا الأرصاد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: هذا خالد بن الوليد على خيل المشركين بالغميم. ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فكيف ترون يا معشر المسلمين في هؤلاء الذين استنفروا إلي من أطاعهم ليصدونا عن المسجد الحرام؟ أترون أن نمضي لوجهنا إلى البيت فمن صدنا عنه قاتلناه، أم ترون أن نخلف هؤلاء الذين استنفروا لنا إلى أهليهم فنصيبهم؟ فإن اتبعونا اتبعنا منهم عنقٌ يقطعها الله، وإن قعدوا قعدوا محزونين موتورين! فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال: الله ورسوله أعلم! نرى يا رسول الله أن نمضي لوجهنا فمن صدنا عن البيت قاتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن خيل قريشٍ فيها خالد بن الوليد بالغميم. فقال أبو هريرة: فلم أر أحداً كان أكثر مشاورةً لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت مشاورته أصحابه في الحرب فقط. قال: فقام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله، لا نقول كما قالت بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون " ولكن: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. والله يا رسول الله، لو سرت إلى برك الغماد لسرنا معك ما بقي منا رجل. وتكلم أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، نرى أن نصمد لما خرجنا له، فمن صدنا قاتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نخرج لقتال أحد، إنما خرجنا عماراً. ولقيه بديل بن ورقاء في نفرٍ من أصحابه فقال: يا محمد، لقد اغتررت بقتال قومك جلابيب العرب، والله ما أرى معك أحداً له وجه، مع أني أراكم قوماً لا سلاح معكم! قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: عضضت بظر اللات! قال بديل: أما والله لولا يدٌ لك عندي لأجبتك، فوالله ماأتهم أنا ولا قومي ألا أكون أحب أن يظهر محمد! إني رأيت قريشاً مقاتلتك عن ذراريها وأموالها، قد خرجوا إلى بلدح فضربوا الأبنية، معهم العوذ المطافيل، ورادفوا على الطعام، يطعمون الجزر من جاءهم، يتقوون بهم على حربكم، فر رأيك!

ج4. كتاب : المغازي الواقدي


حدثني سعيد بن مسلم بن قمادين، عن عثمان بن أبي سليمان، قال: كانت قريشٌ قد توافدوا وجمعوا الأموال يطعمون بها من ضوى إليهم من الأحابيش، فكان يطعم في أربعة أمكنة: في دار الندوة لجماعتهم، وكان صفوان بن أمية يطعم في داره، وكان سهيل بن عمرو يطعم في داره، وكان عكرمة بن أبي جهل يطعم في داره، وكان حويطب بن عبد العزى يطعم في داره.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين قال: ودنا خالد بن الوليد في خيله حتى نظر إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصف خيله فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين القبلة، وهي في مائتي فرس، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر فتقدم في خيله فقام بإزائه فصف أصحابه.
قال داود: فحدثني عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: فحانت صلاة الظهر فأذن بلال وأقام، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم القبلة وصف الناس خلفه يركع بهم ويسجد، ثم سلم فقاموا على ما كانوا عيه من التعبية. فقال خالد بن الوليد: قد كانوا على غرة، و كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ولكن تأتي الساعة صلاةً هي أحب إليهم من أنفسهم وأبنائهم! قال: فنزل جبريل عليه السلام بين الظهر والعصر بهذه الآية: " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم.. " الآية. قال: فحانت العصر فأذن بلال، وأقام فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مواجهاً القبلة، والعدو أمامه، وكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبر الصفان جميعاً، ثم ركع وركع الصفان جميعاً، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونه. فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود بالصف الأول وقاموا معه سجد الصف المؤخر السجدتين، ثم استأخر الصف يلونه، وتقدم الصف المؤخر، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاموا جميعاً، ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركع الصفان جميعاً، ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الصف الذي يلونه، وقام الصف المؤخر يحرسونه مقبلين على العدو، فلما رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من السجدتين سجد الصف المؤخر السجدتين اللتين بقيتا عليهم، واستوى رضي الله عنه جالساً فتشهد، ثم سلم عليهم. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: هذه أول صلاةٍ صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف.
حدثني سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عياش الزرقي، أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ، فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هكذا، وذكر أبو عياش أنه أول ما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف.
حدثين ربيعة بن عثمان، عن وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول صلاة الخوف في غزوة ذات الرقاع، ثم صلاها بعد بعسفان، بينهما أربع سنين؛ وهذا أثبت عندنا.

قالوا: فلما أمسى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تيامنوا في هذا العصل ، فإن عيون قريش بمر الظهران أو بضجنان، فأيكم يعرف ثنية ذات الحنظل ؟ فقال بريدة بن الحصيب الأسلمي: أنا يا رسول الله عالمٌ بها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسلك أمامنا، فاخذ به بريدة في العصل قبل جبال سراوع قبل المغرب، فسار قليلاً تنكبه الحجارة وتعلقه الشجر، وحار حتى كأنه لم يعرفها قط. قال: فوالله إن كنت لأسلكها في الجمعة مراراً. فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتوجه قال: اركب! فركبت فقال صلى الله عليه وسلم: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل حمزة بن عمرو الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فسار قليلاً ثم سقط في خمر الشجر، فلا يدري أين يتوجه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركب. ثم قال: من رجل يدلنا على طريق ذات الحنظل؟ فنزل عمرو بن عبد نهم الأسلمي فقال: أنا يا رسول الله أدلك. فقال: انطلق أمامنا. فانطلق عمرو أمامهم حتى نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الثنية فقال: هذه ثنية ذات الحنظل؟ فقال عمرو: نعم يا رسول الله. فلما وقف على رأسها تحدر به. قال عمرو: والله إن كان ليهمني نفسي وجدي، إنما كانت مثل الشراك ، فاتسعت لي حتى برزت وكانت محدة لاحبة . ولقد كان النفر يسيرون تلك الليلة جميعاً معطفين من سعتها يتحدثون، وأضاءت تلك الليلة حتى كأنا في قمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فوالذي نفسي بيده، ما مثل هذه الثنية الليلة إلا مثل الباب الذي قال الله لبني إسرائيل: " وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطةٌ " .
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل: " لا إله إلا الله وادخلوا الباب سجداً " . قال: باب بيت المقدس، فدخلوا من قبل أستاههم، وقالوا: " حبة في شعيرةٍ " .
وحدثني عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الكلمة التي عرضت على بني إسرائيل أن يقولوا: " نستغفر الله ونتوب إليه " . فكلا هذين الحديثين قد روي.
قالوا: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر الله له. قال أبو سعيد الخدري: وكان أخي لأمي قتادة بن النعمان في آخر الناس، قال: فوقفت على الثنية فجعلت أقول للناس: إن رسول الله قال: " لا يجوز هذه الثنية أحدٌ إلا غفر له " . فجعل الناس يسرعون حتى جاز أخي في آخر الناس، وفرقت أن يصبح قبل أن نجوز فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزل: من كان معه ثقلٌ فليصطنع. قال أبو سعيد: وإنما معه صلى الله عليه وسلم ثقل - الثقل: الدقيق - وإنما كان عامة زادنا التمر. فقلنا: يا رسول الله، إنا نخاف من قريشٍ أن ترانا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهم لن يروكم، إن الله سيعينكم عليهم. فأوقدوا النيران، واصطنع من أراد أن يصطنع. فلقد أوقدوا أكثر من خمسمائة نار. فلما أصبحنا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، ثم قال: والذي نفسي بيده، لقد غفر الله للركب أجمعين إلا رويكباً واحداً على جملٍ أحمر، التقت عليه رجال القوم ليس منهم. فطلب في العسكر وهو يظن أنه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا به ناحيةً إلى ذرى سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل من بني ضمرة من أهل سيف البحر، فقيل لسعيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا. قال سعيد: ويحك! اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر لك! قال: بعيري والله أهم إلى أن يستغفر لي - وإذا هو قد أضل بعيراً له يتبع العسكر يتوصل بهم ويطلب بعيره - وإنه لفي عسكركم، فأدوا إلي بعيري. فقال سعيد: تحول عني لا حياك الله! ألا لا أرى قربي إلا داهيةً وما أشعر به! فانطلق الأعرابي يطلب بعيره بعد أن استبرأ العسكر، فبينا هو في جبال سراوع إذ زلقت نعله فتردى فمات، فما علم بن حتى أكلته السباع.

وحدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه سيأتي قومٌ تحقرون أعمالكم مع أعمالهم. فقيل: يا رسول الله، قريش. قال: لا، ولكن أهل اليمن، فإنهم أرق أفئدةً وألين قلوباً. قلنا: يا رسول الله، هم خيرٌ منا؟ فقال بيده هكذا - ويصف هشام في الصفة كأنه يقول سواء - ألا إن فضل ما بيننا وبين الناس " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح " حديثني ابن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يومئذٍ: أتاكم أهل اليمن كأنهم قطع السحاب، هم خير من على الأرض. قال رجلٌ من الأنصار: ولا نحن يا رسول الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً، ثم الرابعة قال قولاً ضعيفاً: إلا أنتم.
حدثني معمر وعبد الرحمن بن عبد العزيز، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة قال: وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما دنا من الحديبية وقعت يد راحلته على ثنيةٍ تهبطه على غائط القوم، فبركت راحلته فقال المسلمون: حل! حل! فأبت أن تنبعث فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنها ما خلأت، ولا هو لها بعادة، ولكن حبسها حابس الفيل. أما والله لا يسألونني اليوم خطةً في تعظيم حرمة الله إلا أعطيتهم إياها. ثم زجرناها فقامت، فولى راجعاً عوده على بدئه حتى نزل بالناس على ثمدٍ من ثماد الحديبية ظنون قليل الماء، يتبرض ماؤه تبرضاً ، فاشتكى الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فانتزع سهماً من كنانته فأمر به فغرز في الثمد، فجاشت لهم بالرواء حتى صدروا عنه بعطن. قال: وإنهم ليغرقون بآنيتهم جلوساً على شفير البئر. والذي نزل بالسهم ناجية بن الأعجم من أسلم. وقد روي أن جاريةً من الأنصار قالت لناجية بن جندب وهو في القليب:
يا أيها الماتح دلوي دونكا ... إني رأيت الناس يحمدونكا
يثنون خيراً ويمجدونكا
فقال ناجية وهو في القليب:
قد علمت جاريةٌ يمانيه ... أنى أنا الماتح واسمي ناجيه
وطعنةٍ مني رشاشٍ واهيه ... طعنتها تحت صدور العاليه
أنشدنيها رجلٌ من ولد ناجية بن الأعجم يقال له عبد الملك بن وهب الأسلمي. فحدثني موسى بن عبيد، عن إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: الذي نزل بالسهم ناجية بن جندب.
وحدثني الهيثم بن واقد، عن عطاء بن أبي مروان، عن أبيه، قال: حدثني رجلٌ من أسلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ناجية بن الأعجم - وكان ناجية بن الأعجم يحدث - يقول: دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه قلة الماء، فأخرج سهماً من كنانته ودفعه إلي ودعاني بدلوٍ من ماء البئر، فجئته به فتوضأ، فقال: مضمض فاه، ثم مج في الدلو، والناس في حرٍّ شديدٍ وإنما هي بئر واحدة، وقد سبق المشركون إلى بلدح فغلبوا على مياهه، فقال: انزل بالماء فصبه في البئر وأثر ماءها بالسهم. ففعلت، فوالذي بعثه بالحق ما كنت أخرج حتى كاد يغمرني، وفارت كما تفور القدر حتى طمت، واستوى بشفيرها يغترفون ماء جانبها حتى نهلوا من آخرهم. قال: وعلى الماء يومئذ نفرٌ من المنافقين؛ الجد بن قيس، وأوس، وعبد الله بن أبي، وهم جلوسٌ ينظرون إلى الماء، والبئر تجيش بالرواء وهم جلوسٌ على شفيرها. فقال أوس بن خولي: ويحك يا أبا الحباب! أما آن لك أن تبصر ما أنت عليه؟ أبعد هذا شيءٌ؟ وردنا بئراً يتبرض ماؤها - يتبرض: يخرج في القعب جرعة ماءٍ - فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضمض فاه في الدلو، ثم أفرغ الدلو فيها ونزل بالسهم فحثحثها فجاشت بالرواء. قال: يقول ابن أبي: قد رأيت مثل هذا. فقال أوس: قبحك الله وقبح رأيك! فيقبل ابن أبي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي أبا الحباب، أين رأيت مثل ما رأيت اليوم؟ فقال: ما رأيت مثله قط. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلم قلت ما قلت؟ قال ابن أبي: أستغفر الله! قال ابنه: يا رسول الله، استغفر له! فاستغفر له رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبيد، عن جده عبدي بن أبي عبيد، قال: سمعت خالد بن عباد الغفاري يقول: أنا نزلت بالسهم يومئذٍ في البئر.

حدثني سفيان بن سعيد، عن أبي إسحاق الهمداني، قال: سمعت البراء بن عازب يقول: أنا نزلت بالسهم.
قالوا: ومطر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية مراراً فكثرت المياه.
حدثني سفيان بن سعيد، عن خالد الحذاء، عن أبي المليح الهذلي، عن أبيه، قال: مطرنا بالحديبية ل الله صلى الله عليه وسلم: بلى، آيةٌ بينك وبينه أن تجد له قشعريرةً إذا رأيته. واستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن أقول، فقال: قل ما بدا لك. قال: فأخذت سيفي لم أزد عليه، وخرجت أعتزي إلى خزاعة، فأخذت على الطريق حتى انتهيت إلى قديد، فأجد بها خزاعة كثيراً، فعرضوا علي الحملان والصحابة، فلم أرد ذلك وخرجت حتى أتيت بطن سرف، ثم عدلت حتى خرجت على عرنة، وجعلت أخبر من لقيت أني أريد سفيان بن خالد لأكون معه، حتى إذا كنت ببطن عرنة لقيته يمشي، ووراءه الأحابيش ومن استجلب وضوى إليه. فلما رأتيه هبته، وعرفته بالنعت الذي نعتثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي سلمة الحضرمي، قال: سمعت أبا قتادة يقول، سمعت ابن أبي يقول - ونحن بالحديبية ومطرنا بها - فقال ابن أبي: هذا نوء الخريف، مطرنا بالشعرى! وحدثني محمد بن الحجازي، عن أسيد بن أبي أسيد، عن أبي قتادة، قال: لما نزلنا على الحديبية، والماء قليل، سمعت الجد بن قيس يقول: ما كنا خروجنا إلى هؤلاء القوم بشيء! نموت من العطش عن آخرنا! فقلت: لا تقل هذا يا أبا عبد الله، فلم خرجت؟ قال: خرجت مع قومي. قلت: فلم تخرج معتمراً؟ قال: لا والله، ما أحرمت. قال أبو قتادة: ولا نويت العمرة؟ قال: لا! فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل فنزل بالسهم، وتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدلو ومج فاه فيه، ثم رده في البئر، فجاشت البئر بالرواء. قال أبو قتادة: فرأيت الجد ماذاً رجليه على شفير البئر في الماء، فقلت: أبا عبد الله! أين ما قلت؟ قال: إنما كنت أمزح معك، لا تذكر لمحمد مما قلت شيئاً. قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرته قبل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: فغضب الجد وقال: بقينا مع صبيانٍ من قومنا لا يعرفون لنا شرفاً ولا سناً، لبطن الأرض اليوم خيرٌ من ظهرها! قال أبو قتادة: وقد كنت ذكرت قوله للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابنه خيرٌ منه! قال أبو قتادة: فلقيني نفرٌ من قومي فجعلوا يؤنبونني ويلومونني حين رفعت مقالته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت لهم: بئس القوم أنتم! ويحكم! عن الجد بن قيس تذبون؟ قالوا: نعم، كبيرنا وسيدنا. فقلت: قد والله طرح رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤدده عن بني سلمة، وسود علينا بشر بن البراء بن معرور ، وهدمنا المنامات التي كانت على باب الجد وبنيناها على باب بشر بن البراء، فهو سيدنا إلى يوم القيامة. قال أبو قتادة: فلما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة فر الجد بن قيس فدخل تحت بطن البعير، فخرجت أعدو وأخذت بيد رجلٍ كان يكلمني فأخرجناه من تحت بطن البعير، فقلت: ويحك! ما أدخلك ها هنا؟ أفراراً مما نزل به روح القدس؟ قال: لا، ولكني رعبت وسمعت الهيعة . قال الرجل: لا نضحت عنك أبداً، وما فيك خير. فلما مرض الجد بن قيس ونزل به الموت لزم أبو قتادة بيته فلم يخرج حتى مات ودفن، فقيل له في ذلك فقال: والله، ما كنت لأصلي عليه وقد سمعته يقول يوم الحديبية كذا وكذا، وقال في غزوة تبوك كذا وكذا، واستحييت من قومي يرونني خارجاً ولا أشهده. يوقال: خرج أبو قتادة إلى ماله بالواديين فكان فيه حتى دفن، ومات الجد في خلافة عثمان

وقالوا: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديبية أهدى له عمرو ابن سالم وبسر بن سفيان الخزاعيان غنماً وجزوراً، وأهدى عمرو بن سالم لسعد بن عبادة جزراً، وكان صديقاً له، فجاء سعد بالغنم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن عمراً أهداها له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعمرو قد أهدى لنا ما ترى، فبارك الله في عمرو! ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجزر، تنحر وتقسم في أصحابه، وفرق الغنم على أصحابه من آخرها. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت معه: فدخل علينا من لحم الجزر كنحوٍ مما دخل على رجلٍ من القوم، وشركنا في شاةٍ فدخل علينا بعضها. وكان الذي جاءنا بالهدية غلامٌ منهم، فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه، والغلام في بردةٍ له بلية ، فقال: يا غلام، أين تركت أهلك؟ قال: تركتهم قريباً بضجنان وما والاه. فقال: وكيف تركت البلاد؟ فقال الغلام: تركتها وقد تيسرت، قد أمشر عضاهها ، وأعذق إذخرها ، واسلب ثمامها ، وابقل حمضها ، وانبلت الأرض فتشبعت شاتها إلى الليل، وشبع بعيرها إلى الليل مما جمع من خوصٍ وضمد الأرض وبقل، وتركت مياههم كثيرةً تشرع فيها الماشية، وحاجة الماشية إلى الماء قليلٌ لرطوبة الأرض. فأعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لسانه، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسوةٍ فكسي الغلام، وقال الغلام: إني أريد أن أمس يدك أطلب بذلك البركة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادن! فدنا فأخذ يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلها، ومسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه وقال: بارك الله فيك! فكان قد بلغ سناً، وكان له فضلٌ وحالٌ في قومه حتى توفي زمن الوليد بن عبد الملك.

قالوا: فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية جاءه بديل ابن ورقاء وركبٌ من خزاعة، وهم عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم بتهامة، منهم المسلم ومنهم الموادع، لا يخفون عليه بتهامة شيئاً، فأناخوا رواحلهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاءوا فسلموا عليه، فقال بديل: جئناك من عند قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي، قد استنفروا لك الأحابيش ومن أطاعهم، معهم العوذ المطافيل - النساء والصبيان - يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تبيد خضراؤهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نأت لقتال أحد، إنما جئنا لنطوف بهذا البيت، فمن صدنا عنه قاتلناه؛ وقريشٌ قومٌ قد أضرت بهم الحرب ونهكتهم، فإن شاءوا ماددتهم مدةً يأمنون فيها، ويخلون فيما بيننا وبين الناس، والناس أكثر منهم، فإن ظهر أمري على الناس كانوا بين أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس، أو يقاتلوا وقد جمعوا! والله لأجهدن على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ينفذ الله أمره! فوعى بديلٌ مقالته وركب، ثم ركبوا إلى قريش، وكان في الركب عمرو ابن سالم، فجعل يقول: والله لا تنصرون على من يعرض هذا أبداً، حتى هبطوا على كفار قريش. فقال ناسٌ منهم: هذا بديل وأصحابه، إنما جاءوا يريدون أن يستخبروكم، فلا تسألوهم عن حرفٍ واحدٍ! فلما رأى بديل وأصحابه أنهم لا يستخبرونهم قال بديل: إنا جئنا من عند محمد، أتحبون أن نخبركم؟ قال عكرمة بن أبي جهل والحكم بن العاص: لا والله، ما لنا حاجةٌ بأن تخبرنا عنه! ولكن أخبروه عنا أنه لا يدخلها علينا عامه هذا أبداً حتى لا يبقى منا رجلٌ. فقال عروة بن مسعود: والله ما رأيت كاليوم رأياً أعجب! وما تكرهون أن تسمعوا من بديل وأصحابه؟ فإن أعجبكم أمرٌ قبلتموه، وإن كرهتم شيئاً تركتموه؛ لا يفلح قومٌ فعلوا هذا أبداً! وقال رجالٌ من ذوي رأيهم وأشرافهم، صفوان ابن أمية والحارث بن هشام: أخبرونا بالذي رأيتم والذي سمعتم. فأخبروهم بمقالة النبي صلى الله عليه وسلم التي قال، وما عرض على قريشٍ من المدة، فقال عروة: يا معشر قريش تتهمونني؟ ألست الوالد وأنا الولد؟ وقد استنفرت أهل عكاظٍ لنصركم، فلما بلحوا علي نفرت إليكم بنفسي وولدي ومن أطاعني! فقالوا: قد فعلت! فقال: وإني ناصحٌ لكم شفيقٌ عليكم، لا أدخر عنكم نصحاً، وإن بديلاً قد جاءكم بخطة رشدٍ لا يردها أحد أبداً إلا أخذ شراً منها، فاقبلوها منه وابعثوني حتى آتيكم بمصداقها من عنده، وأنظر إلى من معه وأكون لكم عيناً آتيكم بخبره. فبعثته قريشٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقبل عروة بن مسعود حتى أناخ راحلته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقبل حتى جاءه، ثم قال: يا محمد، إني تركت قومك، كعب بن لؤي وعامر بن لؤي على أعداد مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل، قد استنفروا لك أحابيشهم ومن أطاعهم، وهم يقسمون بالله لا يخلون بينك وبين البيت حتى تجتاحهم. وإنما أنت من قتالهم بين أحد أمرين، أن تجتاح قومك، ولم نسمع برجلٍ اجتاح أصله قبلك؛ أو بين أن يخذلك من نرى معك، فإني لا أرى معك إلا أوباشاً من الناس، لا أعرف وجوههم ولا أنسابهم. فغضب أبو بكر الصديق رضي الله عنه وقال: امصص بظر اللات! أنحن نخذله؟ فقال عروة: أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها بعد لأجبتك! وكان عروة بن مسعود قد استعان في حمل ديةٍ، فأعانه الرجل بالفريضتين والثلاث وأعانه أبو بكر بعشر فرائض، فكانت هذه يد أبي بكر عند عروة بن مسعود. فطفق عروة وهو يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم يمس لحيته - والمغيرة قائمٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، على وجهه المغفر - فطفق المغيرة كلما مس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قرع يده ويقول: اكفف يدك عن مس لحية رسول الله قبل ألا تصل إليك! فلما أكثر عليه غضب عروة فقال: ليت شعري من أنت يا محمد من هذا الذي أرى من بين أصحابك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. قال: وأنت بذلك يا غدر؟ والله ما غسلت عنك عذرتك إلا بعلابط أمس! لقد أورثتنا العداوة من ثقيف إلى آخر الدهر! يا محمد، أتدري كيف صنع هذا؟ إنه خرج في ركبٍ من قومه، فلما كانوا بيننا وناموا فطرقهم فقتلهم وأخذ حرائبهم وفر منهم. وكان المغيرة خرج مع نفرٍ من بني مالك بن حطيط بن جشم بن قسي

- والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل: والمغيرة أحد الأحلام - ومع المغيرة حليفان له يقال لأحدهما دمون - رجل من كندة - والآخر الشريد، وإنما كان اسمه عمرو، فلما صنع المغيرة بأصحابه ما صنع شرده فسمي الشريد. وخرجوا إلى المقوقس صاحب الإسكندرية، فجاء بني مالك وآثرهم على المغيرة فأقبلوا راجعين، حتى إذا كانوا ببيسان شربوا خمراً، فكف المغيرة عن بعض الشراب وأمسك نفسه، وشربت بنو مالك حتى سكروا، فوثب عليهم المغيرة فقتلهم، وكانوا ثلاثة عشر رجلاً. فلما قتلهم ونظر إليهم دمون تغيب عنهم، وظن أن المغيرة إنما حمله على قتلهم السكر، فجعل المغيرة يطلب دمون ويصيح به فلم يأت، ويقلب القتلى فلا يراه فبكى، فلما رأى ذلك دمون خرج إليه فقال المغيرة: ما غيبك؟ قال: خشيت أن تقتلني كما قتلت القوم. قال المغيرة: إنما قتلت بني مالك بما صنع بهم المقوقس. قال: وأخذ المغيرة أمتعتهم وأموالهم ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا أخمسه، هذا غدر! وذلك حين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم خبرهم. وأسلم المغيرة، وأقبل الشريد فقدم مكة فأخبر أبا سفيان ابن حرب بما صنع المغيرة ببني مالك، فبعث أبو سفيان معاوية بن أبي سفيان إلى عروة بن مسعود يخبره الخبر - وهو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر ابن مسعود بن معتب - فقال معاوية: خرجت حتى إذا كنت بنعمان قلت في نفسي: أين أسلك؟ إن سلكت ذا غفار فهي أبعد وأسهل، وإن سلكت ذا العلق فهي أغلظ وأقرب. فسلكت ذا غفار فطرقت عروة بن مسعود بن عمرو المالكين فوالله ما كلمته منذ عشر سنين والليلة أكلمه. قال: فخرجنا إلى مسعود فناداه عروة فقال: من هذا؟ فقال: عروة. فأقبل مسعودٌ إلينا وهو يقول: أطرقت عراهية أم طرقت بداهية؟ بل طرقت بداهية! أقتل ركبهم ركبنا أم قتل ركبنا ركبهم؟ لو قتل ركبنا ركبهم ما طرقني عروة بن مسعود! فقال عروة: أصبت، قتل ركبي ركبك يا مسعود، انظر ما أنت فاعل! فقال مسعود: إني عالم بحدة بني مالك وسرعتهم إلى الحرب فهبني صمتاً. قال: فانصرفنا عنه، فلما أصبح غدا مسعود فقال: بني مالك، إنه قد كان من أمر المغيرة بن شعبة أنه قتل إخوانكم بني مالك فأطيعوني وخذوا الدية، اقبلوها من بني عمكم وقومكم. قالوا: لا يكون ذلك أبداً، والله لا تقرك الأحلاف أبداً حين تقبلها. قال: أطيعوني واقبلوا ما قلت لكم، فوالله لكأني بكنانة بن عبد ياليل قد أقبل تضرب درعه روحتي رجليه، لا يعانق رجلاً إلا صرعه، والله لكأني بجندب بن عمرو وقد أقبل كالسيد عاضاً على سهمٍ مفوقٍ بآخر، لا يسير إلى أحدٍ بسهمه إلا وضعه حيث يريد! فلما غلبوه أعد للقتال واصطفوا، أقبل كنانة بن عبد ياليل يضرب درعه روحتي رجليه يقول: من مصارع؟ ثم أقبل جندب بن عمرو عاضاً سهماً مفوقاً بآخر. قال مسعود: يا بني مالك أطيعوني! قالوا: الأمر إليك! قال: فبرز مسعود بن عمرو فقال: يا عروة بن مسعود اخر إلي! فخرج إليه فلما التقيا بين الصفين قال: عليك ثلاث عشرة ديةً، فإن المغيرة قد قتل ثلاثة عشر رجلاً فاحمل بدياتهم. قال عروة: حملت بها، هي علي! قال: فاصطلح الناس. قال الأعشى أخو بني بكر بن وائل:

تحمل عروة الأحلاف لما ... رأى أمراً تضيق به الصدور
ثلاث مئين عاديةً والفاً ... كذلك يفعل الجلد الصبور
قال الواقدي: فلما فرغ عروة بن مسعود من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال لبديل بن ورقاء وأصحابه وكما عرض عليهم من المدة، ركب عروة بن مسعود حتى أتى قريشاً فقال: يا قوم، إني قد وفدت على الملوك، على كسرى وهرقل والنجاشي، وإني والله ما رأيت ملكاً قط أطوع فيمن هو بين ظهرانيه من محمدٍ في أصحابه؛ والله ما يشدون إليه النظر، وما يرفعون عنده الصوت، وما يكفيه إلا أن يشير إلى أمرٍ فيفعل، وما يتنخم وما يبصق إلا وقعت في يدي رجلٍ منهم يمسح بها جلده، وما يتوضأ إلا ازدحموا عليه أيهم يظفر منه بشيءٍ؛ وقد حرزت القوم، واعلموا أنكم إن أردتم السيف بذلوه لكم؛ وقد رأيت قوماً ما يبالون ما يصنع بهم إذا منعوا صاحبهم؛ والله لقد رأيت نسياتٍ معه إن كن ليسلمنه أبداً على حال؛ فروا رأيكم، وإياكم وإضجاع الرأي ، وقد عرض عليكم خطةً فمادوه! يا قوم، اقبلوا ما عرض فإني لكم ناصح، مع أني أخاف ألا تنصروا عليه! رجلٌ أتى هذا البيت معظماً له، معه الهدي ينحره وينصرف! فقالت قريش: لا تلكم بهذا يا أبا يعفور ! لو غيرك تكلم بهذا للمناه، ولكن نرده عن البيت في عامنا هذا ويرجع إلى قابلٍ.

قالوا: ثم جاء مكرز بن حفص بن الأخيف، فلما طلع ورآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذا رجلٌ غادر! فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم كلمه بنحوٍ مما كلمه أصحابه، فلما انتهى إلى قريشٍ أخبرهم بما رد عليه. فبعثوا الجليس بن علقمة - وهو يومئذٍ سيد الأحابيش - فلما طلع الحليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا من قوم يعظمون الهدي ويتألهون ، ابعثوا الهدي في وجهه حتى يراه. فبعثوا الهدي، فلما نظر إلى الهدي يسيل في الوادي عليه القلائد، قد أكل أوباره يرجع الحنين. واستقبله القوم في وجهه يلبون، قد أقاموا نصف شهر قد تفلوا وشعثوا، رجع ولم يصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إعظاماً لما رأى، حتى رجع إلى قريش فقال: إني قد رأيت ما لا يحل صده، رأيت الهدي في قلائده قد أكل أوباره، معكوفاً عن محله، والرجال قد تفلوا وقملوا أن يطوفوا بهذا البيت! أما والله ما على هذا حالفناكم، ولا عاقدناكم على أن تصدوا عن بيت الله من جاء معظماً لحرمته مؤدياً لحقه، وساق الهدي معكوفاً أن يبلغ محله؛ والذي نفسي بيده لتخلن بينه وبين ما جاء به، أو لأنفرن بالأحابيش نفرة رجلٍ واحد! قالوا: إنما كل ما رايت مكيدةٌ من محمدٍ وأصحابه، فاكفف عنا حتى نأخذ لأنفسنا بعض ما نرضى به. وكان أول من بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قريشٍ خراش بن أمية الكعبي على جملٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء له، ويقول: إنما جئنا معتمرين، معنا الهدي معكوفاً، فنطوف بالبيت ونحل وننصرف. فعقروا جمل النبي صلى الله عليه وسلم، والذي ولي عقره عكرمة بن أبي جهل وأراد قتله، فمنعه من هناك من قومه حتى خلوا سبيل خراش، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكد ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما لقي فقال: يا رسول الله ابعث رجلاً أمنع مني! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريشٍ، فقال: يا رسول الله، إني أخاف قريشاً على نفسي، قد عرفت قريشٌ عداوتي لها، وليس بها من بني عديٍّ من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً. قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجلٍ أعز بمكة مني، وأكثر عشيرةً وأمنع، عثمان بن عفان. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان رضي الله عنه فقال: اذهب إلى قريشٍ فخبرهم أنا لم نأت لقتال أحد، وإنما جئنا زواراً لهذا البيت، معظيمن لحرمته، معنا الهدي ننحره وننصرف. فخرج عثمان حتى أتى بلدح، فيجد قريشاً هنالك فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في الدين كافةً، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه! وأخرى تكفون، ويلي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمدٍ فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمدٌ كنتم بالخيار، أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون؛ إن الحرب قد نهكتكم وأذهبت بالأماثل منكم! وأخرى، إن رسول الله يخبركم أنه لم يأت لقتال أحد، إنما جاء معتمراً، معه الهدي عليه القلائد ينحره وينصرف. فجعل عثمان رضي الله عنه يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذاأبداً، ولا دخلها علينا عنوةً، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا. فقام إليه أبان ابن سعد بن العاص، فرحب به وأجازه وقال: لا تقصر عن حاجتك! ثم نزل عن فرسٍ كان عليه فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة، فأتى أشرافهم رجلاً رجلاً، أبا سفيان بن حرب، وصفوان ابن أمية وغيرهم، منهم من لقي ببلدح ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إنم محمداً لا يدخلها علينا أبداً! قال عثمان رضي الله عنه: ثم كنت أدخل على قوم مؤمنين من رجالٍ ونساءٍ مستضعفين فأقول: إن رسول الله يبشركم بالفتح ويقول: " أظلكم حتى لا يستخفى بمكة الإيمان " . فقد كنت أرى الرجل منهم والمرأة نتتحب حتى أظن أنه يموت فرحاً بما خبرته، فيسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخفي المسألة، ويشتد ذلك على أنفسهم، ويقولون: أقرأ على رسول الله منا السلام؛ إن الذي أنزله بالحديبيية لقادرٌ على أن يدخله بطن مكة! وقال المسلمون: يا رسول الله، وصل عثمان إلى البيت فطاف! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظن عثمان يطوف بالبيت ونحن محصورون. قالوأ: يا رسول الله، وما يمنعه وقد

وصل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.صل إلى البيت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ظني به ألا يطوف حتى نطوف، فلما رجع عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: اشتفيت من البيت يا عبد الله! قال عثمان: بئس ما ظننتم بي! لو كنت بها سنةً والنبي مقيمٌ بالحديبية ما طفت، ولقد دعتني قريشٌ إلى أن أطوف فأبيت ذلك عليها. فقال المسلمون: لرسول الله كان أعلمنا بالله تعالى وأحسننا ظناً.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أصحابه بالحديبية يتحارسون الليل، وكان الرجل من أصحابه يبيت على الحرس حتى يصبح يطيف بالعسكر، فكان ثلاثةٌ من أصحابه يتناوبون الحراسة: أوس بن خولي، وعباد بن بشر، ومحمد بن مسلمة. فكان محمد بن مسلمة على فرس النبي صلى الله عليه وسلم ليلةً من تلك الليالي وعثمان بمكة بعد، وقد كانت قريشٌ بعثت ليلاً خمسين رجلاً، عليهم مكرز بن حفص، وأمروهم أن يطيفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يصيبوا منهم أحداً أو يصيبوا منهم غرة، فأخذهم محمد بن مسلمة وأصحابه، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عثمان بمكة قد أقام بها ثلاثاً يدعو قريشاً، وكان رجال من المسلمين قد دخلوا مكة بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهليهم؛ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عثمان وأصحابه قد قتلوا، فذلك حين دعا إلى البيعة. وبلغ قريشاً حبس أصحابهم، فجاء جمعٌ من قريشٍ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى تراموا بالنبل والحجارة، واسروا أيضاً من المشركين حينئذٍ أسرى؛ ثم إن قريشاً بعثوا سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يؤم منازل بني مازن بن النجار، وقد نزلت في ناحية من الحديبية جميعاً. قالت أم عمارة: والرسل تختلف بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فمر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً في منزلنا. قالت: فظننت أنه يريد حاجةً فإذا هو قد بلغه أن عثمان بن عفان رضي الله عنه قد قتل، فجلس في رحالنا ثم قال: إن الله أمرني بالبيعة. قالت: فأقبل الناس يبايعونه في رحالنا حتى تدارك الناس، فما بقي لنا متاعٌ إلا وطىء! وزوجها غزية بن عمرو. وقالت: فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس يومئذٍ. قالت: فكأني أنظر إلى المسلمين قد تلبسوا السلاح، وهو معنا قليلٌ؛ إنما خرجنا عماراً، فأنا أنظر إلى غزية ابن عمرو وقد توشح بالسيف، فقمت إلى عمودٍ كنا نستظل به فأخذته في يدي، ومعي سكين قد شددته في وسطي، فقلت: إن دنا مني أحدٌ رجوت أن أقتله. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يبايع الناس، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه آخذٌ بيده، فبايعهم على ألا يفروا. وقال قائل: بايعهم على الموت. ويقال: أول الناس بايع سنان بن أبي سنان ابن محصن، فقال: يا رسول الله، أبايعك على ما في نفسك. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس على بيعة سنان بن أبي سنان، وكان المسلمون الذين دخلوا على أهليهم عشرةً من المهاجرين؛ كرز بن جابر الفهري، وعبد الله بن سهيل بن عمرو، وعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاص بن وائل، وحاطب بن أبي بلتعة، وأبو حاطب بن عمرو بن عبد الشمس، وعبد الله بن حذافة، وأبو الروم بن عمير، وعمير بن وهب الجمحي، وعبد الله بن أمية بن وهب حليف سهيل في بني أسد بن عبد العزى.

فلما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم: سهل أمرهم! قال: من قاتلك لم يكن من رأي ذوي رأينا ولا ذوي الأحلام منا؛ بل كنا له كارهين حين بلغنا ولم نعلم به، وكان من سفهائنا! فابعث إلينا بأصحابنا الذين أسرت أول مرة والذين أسرت آخر مرة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني غير مرسلهم حتى ترسل أصحابي. قال سهيل: أنصفتنا! فبعث سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص إلى قريشٍ الشتيم بن عبد مناف التيمي: إنكم حبستم رجالاً من أصحاب محمدٍ بينكم وبينهم أرحام، لم تقتلوهم وقد كنا لذلك كارهين! وقد أبى محمد أن يرسل من أسر من أصحابكم حتى ترسلوا أصحابه، وقد أنصفنا، وقد عرفتم أن محمداً يطلق لكم أصحابكم. فبعثوا إليه بمن كان عندهم، وكانوا أحد عشر رجلاً، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابهم الذين أسروا أول مرة وآخر مرة، فكان فيمن أسر أول مرة عمرو بن أبي سفيان. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس يومئذٍ تحت شجرةٍ خضراء، وقد كان مما صنع الله للمسلمين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مناديه فنادى: إن روح القدس قد نزل على الرسول وأمر بالبيعة، فاخرجوا على اسم الله فبايعوا. قال ابن عمر: فخرجت مع أبي وهو ينادى للبيعة، فلما فرغ من النداء أرسلني أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره أني قد أذنت الناس. قال عبد الله: فأرجع فأجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، فبايعته الثانية. قال عبد الله لعمر أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأذن له فرجع؛ وكان يمسك بيد النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع. فلما نظرت قريش - سهيل بن عمرو، وحويطب ابن عبد العزى ومن كان معه، وعيون قريش - إلى ما رأت من سرعة الناس إلى البيعة وتشميرهم إلى الحرب، اشتد رعبهم وخوفهم وأسرعوا إلى القضية. فلما رجع عثمان رضي الله عنه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشجرة فبايعه؛ وقد كان قبل ذلك حين بايع الناس قال: إن عثمان ذهب في حاجة الله وحاجة رسوله، فأنا أبايع له! فضرب يمينه على شماله.
قال الواقدي: حدثني جابر بن سليم، عن صفوان بن عثمان، قال: فكانت قريش قد أرسلت إلى عبد الله بن أبي: إن أحببت أن تدخل فتطوف بالبيت فافعل. وابنه جالس عنده فقال له ابنه: يا أبت، أذكرك الله أن تفضحنا في كل موطن؛ تطوف بالبيت ولم يطف رسول الله؟ فأبى ابن أبي وقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم كلامه ذلك فسر به. ورجع حويطب بن عبد العزى وسهيل بن عمرو ومكرز بن حفص إلى قريش، فأخبروهم بما رأوا من سرعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البيعة، وما جعلوا له، فقال أهل الرأي منهم: ليس خيرٌ من أن نصالح محمداً على أن ينصرف عنا عامة هذا ويرجع قابل، فيقيم ثلاثاً وينحر هديه وينصرف، ويقيم ببلدنا ولا يدخل علينا. فأجمعوا على ذلك، فلما أجمعت قريشٌ على الصلح والموادعة بعثوا سهيل بن عمرو ومعه حويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص وقالوا: ائت محمداً فصالحه، وليكن في صلحك لا يدخل في عامه هذا، فوالله لا يتحدث العرب أنك دخلت علينا عنوةً. فأتى سهيل للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم حين طلع قال: أراد القوم الصلح. فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطال الكلام، وتراجعوا، وترافعت الأصوات وانخفضت.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث ابن عبد الله بن كعب، قال: سمعت أم عمارة تقول: إني لأنطر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً يومئذٍ متربعاً، وإن عباد بن بشر وسلمة بن أسلم بن حريش مقنعان بالحديد، قائمان على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، إذ رفع سهيل بن عمرو صوته قالا: اخفض من صوتك عند رسول الله! وسهيل باركٌ على ركبتيه، رافعٌ صوته كأني أنظر إلى علم في شفته وإلى أنيابه، وإن المسلمين لحول رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوس.

قالوا: فلما اصطلحوا فلم يبق إلا الكتاب، وثب عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألسنا بالمسلمين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى! قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا عبد الله ورسوله، ولن أخالف أمره، ولن يضيعني. فذهب عمر إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: يا أبا بكر، ألسنا بالمسلمين؟ فقال: بلى! فقال عمر: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ فقال أبو بكر: الزم غرزه ! فإني أشهد أنه رسول الله، وأن الحق ما أمر به، ولن نخالف أمر الله ولن يضيعه الله! ولقي عمر من القضية أمراً كبيراً، وجعل يرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام ويقول: علام نعطي الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أنا رسول الله ولن يضيعني قال: فجعل يرد على النبي صلى الله عليه وسلم الكلام. قال: يقول أبو عبيدة بن الجراح: ألا تسمع يا ابن الخطاب رسول الله يقول ما يقول؟ تعوذ بالله من الشيطان واتهم رأيك! قال عمر رضي الله عنه: فجعلت أتعوذ بالله من الشيطان الرجيم حياءً، فما أصابني قط شيءٌ مثل ذلك اليوم، ما زلت أصوم وأتصدق من الذي صنعت مخافة كلامي الذي تكلمت يومئذٍ. فكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: قال لي عمر في خلافته، وذكر القضية: ارتبت ارتياباً لم أرتبه منذ أسلمت إلا يومئذٍ، ولو وجدت ذلك اليوم شيعةً تخرج عنهم رغبةً عن القضية لخرجت. ثم جعل الله تبارك وتعالى عاقبتها خيراً ورشداً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم.

قال أبو سعيد الخدري: جلست عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً، فذكر القضية فقال: لقد دخلني يومئذٍ من الشك، وراجعت النبي صلىالله عليه وسلم يومئذٍ مراجعةً ما رجعته مثلها قط، ولقد عتقت فيما دخلني يومئذٍ رقاباً، وصمت دهراً، وإني لأذكر ما صنعت خالياً فيكون أكبر همي، ثم جعل الله عاقبة القضية خيراً، فينبغي للعباد أن يتموا الرأي؛ والله لقد دخلني يومئذٍ من الشك حتى قلت في نفسي: لو كنا مائة رجلٍ على مثل رأيي ما دخلنا فيه أبداً! فلما وقعت القضية أسلم في الهدنة أكثر ممن كان أسلم من يوم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يوم الحديبية، وما كان في الإسلام فتحٌ أعظم من الحديبية. وقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصلح، لأنهم خرجوا لا يشكون في الفتح لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلق رأسه، وأنه دخل البيت، فأخذ مفتاح الكعبة، وعرف مع المعرفين! فلما رأوا الصلح دخل الناس من ذلك أمرٌ عظيمٌ حتى كادوا يهلكون. فبينا الناس على ذلك قد اصطلحوا والكتاب لم يكتب، أقبل أبو جندل بن سهيل، قد أفلت يرسف في القيد متوشح السيف خلا له أسفل مكة؛ فخرج من أسفلها حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يكاتب سهيلاً، فرفع سهيلٌ رأسه فإذا بابنه أبي جندل، فقام إليه سهيل فضرب وجهه بغصن شوكٍ وأخذ بلبته وصاح أبو جندل بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أرد إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فزاد المسلمين ذلك شراً إلى ما بهم، وجعلوا يبكون لكلام أبي جندل. قال: يقول حويطب بن عبد العزى لمكرز بن حفص: ما رأيت قوماً قط اشد حباً لمن دخل معهم من أصحاب محمدٍ لمحمد وبعضهم لبعض! أما إني أقول لك لا تأخذ من محمدٍ نصفاً أبداً بعد هذا اليوم، حتى يدخلها عنوةً! فقال مكرز: أنا أرى ذلك. وقال سهيل: هذا أول ما قاضيتك عليه، ردوه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لم نقض الكتاب بعد. فقال سهيل: والله لا أكاتبك على شيءٍ حتى ترده إلي. فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيلاً أن يتركه فأبى سهيل، فقال مكرز بن حفص وحويطب: يا محمد، نحن نجيره لك. فأدخلاه فسطاطاً فأجاراه، وكف أبوه عنه. ثم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم صوته فقال: يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن معك فرجاً ومخرجاً! إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم وأعطونا على ذلك عهداً، وإنا لا نغدر! وعاد عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى. قال: ألسنا على الحق؟ قال: بلى. قال: أليس عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال رسول الله: إني رسول الله، ولن أعصيه ولن يضيعني. فانطلق عمر حتى جاء إلى أبي بكر فقال له مثل ما قال للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: إنه رسول الله ولن يعصيه ولن يضيعه، ودع عنك ما ترى يا عمر! قال عمر: فوثبت إلى أبي جندل أمشي إلى جنبه. وسهيل بن عمرو يدفعه، وعمر يقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم كلب، وإنما هو رجل وأنت رجل ومعك السيف! فرجوت أن يأخذ السيف ويضرب أباه، فضن الرجل بأبيه. فقال عمر: يا أبا جندل، إن الرجل يقتل أباه في الله، والله لو أدركنا آباءنا لقتلناهم في الله، فرجلٌ برجلٍ! قال: وأقبل أبو جندل على عمر فقال: مالك لا تقتله أنت؟ قال عمر: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتله وقتل غيره. قال أبو جندل: ما أنت بأحق بطاعة رسول الله مني! وقال عمر ورجالٌ معه من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ألم تكن حدثتنا أنك ستدخل المسجد الحرام، وتأخذ مفتاح الكعبة وتعرف مع المعرفين؟ وهدينا لم يصل إلى البيت ولا نحن! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إنكم ستدخلونه، وآخذ مفتاح الكعبة، وأحلق رأسي ورءوسكم ببطن مكة، وأعرف مع المعرفين! ثم أقبل على عمر فقال: أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم أحد إذ تصعدون ولا تلوون على أحدٍ وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب إذ جاؤكم من فوقكم ومن أسفل منكم، وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر؟ أنسيتم يوم كذا؟ وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرهم أموراً - أنسيتم يوم كذا؟

فقال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة!قال المسلمون: صدق الله ورسوله يا نبي الله، ما فكرنا فيما فكرت فيه، لأنت أعلم بالله وبأمره منا! فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام القضية وحلق رأسه قال: هذا الذي وعدتكم. فلما كان يوم الفتح أخذ المفتاح فقال: ادعوا لي عمر بن الخطاب! فقال: هذا الذي قلت لكم. فلما كان في حجة الوداع بعرفة فقال: أي عمر، هذا الذي قلت لكم! قال: أي رسول الله، ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من صلح الحديبية! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية، ولكن الناس يومئذٍ قصر رأيهم عما كان بين محمد وربه؛ والعباد يعجلون، والله تبارك وتعالى لا يعجل كعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد الله. لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجه قائماً عند المنحر يقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينحرها بيده، ودعا الحلاق فحلق رأسه، وأنظر إلى سهيلٍ يلقط من شعره، وأراه يضعه على عينيه، وأذكر إباءه أن يقر يوم الحديبية بأن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم، ويأبى أن يكتب أن محمداً رسول الله، فحمدت الله الذي هداه للإسلام؛ وصلوات الله وبركاته على نبي الرحمة الذي هدانا به وأنقذنا به من الهلكة! فلما حضرت الدواة والصحيفة بعد طول الكلام والمراجعة فيما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وسهيل بن عمرو، ولما التأم الأمر وتقارب، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً يكتب الكتاب بينهم، ودعا أوس بن خولي يكتب، فقال سهيل: لا يكتب إلا أحد الرجلين، ابن عمك علي أو عثمان بن عفان! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً يكتب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل: لا أعرف الرحمن، اكتب كما نكتب باسمك اللهم. فضاق المسلمون من ذلك وقالوا: هو الرحمن. وقالوا: لا تكتب إلا الرحمن. قال سهيل: إذاً لا أقاضيه على شيءٍ. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم! هذا ما اصطلح عليه رسول الله. فقال سهيل: لو أعلم أنك رسول الله ما خالفتك، واتبعتك، أفترغب عن اسمك واسم أبيك محمد بن عبد الله؟ فضج المسلمون منها ضجةً هي أشد من الأولى حتى ارتفعت الأصوات، وقام رجالٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: لا نكتب إلا محمدٌ رسول الله!

فحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبي فروة، عن واقد بن عمرو، قال: حدثني من نظر إلى أسيد بن حضير وسعد بن عبادة أخذا بيد الكاتب فأمسكاها وقالا : لا تكتب إلا محمدٌ رسول الله، وإلا فالسيف بيننا! علام نعطي هذه الدنية في ديننا؟ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم ويومىء بيده إليهم: اسكتوا! وجعل حويطب يتعجب مما يصنعون، ويقبل على مكرز بن حفص ويقول: ما رأيت قوماً أحوط لدينهم من هؤلاء القوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك اللهم. فنزلت هذه الآية في سهيل حين أبي أن يقر بالرحمن: " قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا محمدٌ بن عبد الله، فاكتب! فكتب: باسمك اللهم، هذا ما اصطلح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو، اصطلحا على وضع الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض، على أنه لا إسلال ولا إغلال ، وأن بيننا عيبةً مكفوفة ؛ وأنه من أحب أن يدخل في عهد محمدٍ وعقده فعل، وأنه من أحب أن يدخل في عهد قريشٍ وعقدها فعل؛ وأنه من أتى محمداً منهم بغير إذن وليه رده إليه، وأنه من أتى قريشاً من أصحاب محمدٍ لم ترده؛ وأن محمداً يرجع عنا عامه هذا بأصحابه، ويدخل علينا قابل في أصحابه فيقيم ثلاثاً، لا يدخل علينا بسلاح إلا سلاح المسافر، السيوف في القرب. شهد أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عفا، وأبو عبيدة بن الجراح، ومحمد ابن مسلمة، وحويطب بن عبد العزى، ومكرز بن حفص بن الأخيف؛ وكتب ذلك على صدر هذا الكتاب، فلما كتب الكتاب قال سهيل: يكون عندي! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل عندي! فاختلفا فكتب له نسخةً، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب الأول وأخذ سهيل نسخته، وكان عنده. ووثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمدٍ وعقده، ونحن على من وراءنا من قومنا. ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل مع قريشٍ في عهدها وعقدها، ونحن على من وراءنا من قومنا. فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عهد محمدٍ وعقده! قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولحمنا قد دخلوا مع محمد، قومٌ اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنع بهم؟ قال حويطب: نصنع بهم أن ننصر عليهم حلفاءنا بني بكر. قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! فإنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمدٌ لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه. قال حويطب: حظوت والله أخوالك بكل وجه! فقال سهيل: ترى أخوالي أعز علي من بني بكر؟ ولن والله لا تفعل قريش شيئاً إلا فعلته، فإذا أعانت بني بكر على خزاعة فإنما أنا رجلٌ من قريش، وبنو بكر أقرب إلي في قدم النسب، وإن كان لهؤلاء لخؤولة، وبنو بكر من قد عرفت، لنا منهم مواطن كلها ليست بحسنةٍ، منها يوم عكاظ.
قالوا: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يجبه منهم رجلٌ إلى ذلك، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يأمرهم، فلم يفعل واحدٌ منهم ذلك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على أم سلمة زوجته مغضباً شديد الغضب، وكانت معه في سفره ذلك، فاضطجع فقالت: ما لك يا رسول الله؟ مراراً لا تجيبني . ثم قال: عجباً يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وحلوا مراراً، فلم يجبني أحدٌ من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي! قالت، فقلت: يا رسول الله، انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك. قالت: فاضطبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه، ثم خرج وأخذ الحربة ينهم هديه. قالت أم سلمة: فكأني أنظر إليه حين يهوي بالحربة إلى البدنة رافعاً صوته: بسم الله والله أكبر! قالت: فما هذا إلا أن رأوه نحر، فتواثبوا إلى الهدي، فازدحموا عليه حتى خشيت أن يغم بعضهم بعضاً.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطبعاً بثوبه والحربة في يديه ينحر بها.

حدثني مالك بن أنس، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه في الهدي، فنحر البدنة عن سبعة، وكان الهدي سبعين بدنة. وكان جمل أبي جهل قد غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، فكان المسلمون يغزون عليه المغازي، وكان قد ضرب في لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم التي استاق عيينة بن حصن، ولقاحه التي كانت بذي الجدر التي كان ساقها العرنيون، وكان جمل أبي جهل نجيباً مهرياً كان يرعى مع الهدي، فشرد قبل القضية فلم يقف حتى انتهى إلى دار أبي جهل وعرفوه، وخرج في أثره عمرو بن عنمة السلمي فأبى أن يعطيه له سفهاءٌ من سفهاء مكة، فقال سهيل بن عمرو: ادفعوه إليه. فأعطوا به مائة ناقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لولا أنا سميناه في الهدي فعلنا. فنحر الجمل عن سبعة، أحدهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وكان ابن المسيب يقول: كان الهدي سبعين، وكان الناس سبعمائة، وكان كل بدنةٍ عن عشرة. والقول الأول أثبت عندنا أنه ست عشرة مائة. قال: وقام طلحة بن عبيد الله ينحر بدناتٍ له ساقها من المدينة، وعبد الرحمن أيضاً، وعثمان بن عفان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطرباً في الحل، وكان يصلي في الحرم. وحضره يومئذٍ من يسأل من لحوم البدن معتراً غير كبير، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيم من لحوم البدن وجلودها. قالت أم كرز الكعبية: جئت أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحوم الهدي حين نحر بالحديبية، فسمعته يقول: عن الغلام شاتان مكافئتان والجارية شاة. وأكل المسلمون من هديهم الذي نحروا يومئذٍ وأطعموا المساكين ممن حضرهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث بعشرين بدنةً لتنحر عند المروة مع رجل من أسلم، فنحرها عند المروة وقسم لحمهها.
وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: فأنا أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من نحر البدن فدخل قبةً له من أدمٍ حمراء، فيها الحلاق فحلق رأسه، فأنظر إليه قد أخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين! قيل: يا رسول الله، والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين - ثلاثاً. ثم قال: والمقصرين.
فحدثني إبراهيم بن يزيد، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: وأنا أنظر إليه حين حلق رأسه، ورمى بشعره على شجرةٍ كانت إلى جنبه من سمرة خضراء. قالت أم عمارة: فجعل الناس يأخذون الشعر من فوق الشجرة فيتحاصون فيه، وجعلت أزاحم حتى أخذت طاقاتٍ من شعرٍ. فكانت عندها حتى ماتت تغسل للمريض. قال: وحلق يومئذٍ ناسٌ، وقصر آخرون. قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: وقصرت يومئذٍ أطراف شعري. وكانت أم عمارة تقول: قصرت يومئذ - بمقص معي - الشعر وما شد.
حدثني خراش بن هنيد، عن أبيه، قال: كان الذي حلقه خراش ابن أمية.

قالوا: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية نزل بمر الظهران ثم نزل عسفان، فأرملوا من الزاد، فشكا الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قد بلغوا من الجوع - وفي الناس ظهر - وقالوا: فننحر يا رسول الله وندهن من شحومه، ونتخذ من جلوده حذاءً! فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر بذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، لا تفعل فإن يك في الناس بقية ظهرٍ يكن أمثل، ولكن ادعهم بأزوادهم ثم ادع الله فيها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأنطاع فبسطت، ثم نادى مناديه: من كان عنده بقيةٌ من زاد فلينثره على الأنطاع. قال أبو شريح الكعبي: فلقد رأيت من يأتي بالتمرة الواحدة، وأكثرهم لا يأتي بشيءٍ، ويأتي بالكف من الدقيق، والكف من السويق، وذلك كله قليل. فلما اجتمعت أزوادهم وانقطعت موادهم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فدعا بالبركة، ثم قال: قربوا أوعيتكم! فجاءوا بأوعيتهم. قال أبو شريح: فأنا حاضرٌ، فيأتي الرجل فيأخذ ما شاء من الزاد حتى إن الرجل ليأخذ ما لا يجد له محملاً؛ ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرحيل، فلما ارتحلوا مطروا ما شاءوا وهم صائفون. فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزلوا معه، فشربوا من الماء، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخطبهم، فجاء ثلاثة نفرٍ، فجلس اثنان مع النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب واحدٌ معرضاً، فاستحيا، فاستحيا الله منه، وأما الآخر فتاب، فتاب الله عليه، وأما الثالث فأعرض، فأعرض الله عنه.
فحدثني معاذ بن محمد قال، سمعت شعبة مولى ابن عباس قال: سمعت ابن عباس يقول، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منصرفه من الحديبية، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني. قال عمر: فقلت: ثكلتك أمك يا عمر! نذرت رسول الله ثلاثاً، كل ذلك لا يجيبني! قال: فحركت بعيري حتى تقدمت الناس، وخشيت أن يكون نزل في قرآنٌ، فأخذني ما قرب وما بعد، ولما كنت راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وكراهتي القضية، فإني لأسير مهموماً متقدماً للناس، فإذا منادٍ! ينادي: يا عمر بن الخطاب! فوقع في نفسي ما الله به أعلم، ثم أقبلت حتى انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت فرد علي السلام وهو مسرور، ثم قال: أنزلت علي سورةٌ هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس؛ فإذا هو يقرأ " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " . فبشره بمغفرته، وإتمام نعمته ونصره، وطاعة من أطاع الله تعالى، ونفاق من نافق؛ فأنزل الله على ذلك عشر آيات.
وحدثني مجمع بن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن جارية، قال: لما كنا بضجنان راجعين من الحديبية رأيت الناس يركضون فإذا هم يقولون: أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم قرآن، فركضت مع الناس، حتى توافينا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يقرأ: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " ، فلما نزل بها جبريل عليه السلام قال: يهنيك يا رسول الله! فلما هنأه جبريل هنأه المسلمون.

وكان مما نزل في الحديبية: " إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً " قال: قضينا لك قضاءً مبيناً؛ فالفتح قريش وموادعتهم، فهو أعظم الفتح. " ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك " قال: ما كان قبل النبوة وما تأخر. قال: ما كان قبل الموت إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم. " ويتم نعمته عليك " ، بصلح قريش؛ " ويهديك صراطاً مستقيماً " ، قال: الحق؛ " وينصرك الله نصراً عزيزاً " حتى تظهر فلا يكون شرك. " هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين " ، قال: الطمأنينة؛ " ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم " ، قال: يقيناً وتصديقاً؛ " ولله جنود السموات والأرض " . قال عز وجل: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم " ، قال: ما اجترحوا؛ " وكان ذلك عند الله فوزاً عظيماً " ، يقول: فوزاً لهم أن يغفر لهم سيئاتهم؛ " ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء " ، يعني الذين مر عليهم بين مكة والمدينة؛ من مزينة وجهينة وبني بكر، واستنفرهم إلى الحديبية فاعتلوا وتشاغلوا بأهليهم وأموالهم: يقول: عليهم ما تمنوا وظنوا، وذلك أنهم قالوا: إنما خرج محمدٌ في أكلة رأس ، يقدم على قومٍ موتورين، فأبوا أن ينفروا معه. " إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً " ، قال: شاهداً عليهم ومبشراً لهم بالجنة ونذيراً لهم من النار. " وتعزروه " ، قال: تنصروهه وتوقره وتعظموه؛ " وتسبحوه بكرةً وأصيلاً " ، قال: تصلوا لله بكرةً وعشياً. " إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم " حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان تحت الشجرة، فبايعوه يومئذٍ على ألا يفروا، ويقال: على الموت؛ " فمن نكث فإنما ينكث على نفسه " ، يقول: من بدل أو غير ما بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما ذلك على نفسه، ومن أوفى فإن له الجنة، " سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، قال: هم الذين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستنفرهم واستعان بهم في بدايته فتشاغلوا بأهليهم وأموالهم، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إلى المدينة جاءوه يقولون استغفر لنا إباءنا أن نسير معك. يقول الله عز وجل: " يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم " ، يقول: سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم " بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً " ، إلى قوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، قال: قولهم حين مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم " إنما محمد في أكلة رأس، يخرج إلى قوم موتورين معدين، ومحمد لا سلاح معه ولا عدة " فأبوا أن ينفروا، " وزين ذلك في قلوبكم " ، قال: كان يقيناً في قلوبهم. وقوله عز وجل: " وكنتم قوماً بوراً " ، يقول: هلكى. وقوله: " سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها... " إلى آخر الآية. قال: هم الذين تخلفوا عنه وأبوا أن ينفروا معه، هؤلاء العرب من مزينة وجهينة وبكر، لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم التوجه إلى خيبر قالوا: نحن نتبعكم. يقول الله عز وجل، " يريدون أن يبدلوا كلام الله " . قال: الذي قضى الله، قضى ألا تتبعونا، وهو كلام الله، يقال قضاءه: يقول: " قل للمخلفين من الأعراب " يعني هؤلاء الذين تخلفوا عنك في عمرة الحديبية. " ستدعون إلى قومٍ أولي باسٍ شديد " . قال: هم فارس والروم؛ ويقال: هوازن، ويقال: بني حنيفة يوم اليمامة؛ " تقاتلونهم أو يسلمون فإن تطيعوا يؤتكم الله أجراً حسناً وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذاباً اليماً " ، قال: إن أبيتم أن تقاتلوا كما أبيتم أن تخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة الحديبية.
" ليس على الأعمى حرجٌ ولا على الأعرج حرجٌ ولا على المريض حرجٌ " قال: لما نزلت العورات الثلاث. " ليستئذنكم الذين ملكت أيمانكم " أخرجوا العميان والمرضى والعرجان من بيوتهم. فأنزل الله عز وجل: " ليس على الأعمى حرجٌ " ، ويقال: هذا في الغزو.

وحدثني محمد ومعمر، عن الزهري، قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: نزلت هذه الآية في قومٍ من المسلمين كانوا إذا نفروا للغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الزمنى من ذلك، فأنزل الله عز وجل في ذلك رخصةً لهم بالإذن في كل. " لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة " ، قال: وهي سمرة خضراء؛ " فعلم ما في قلوبهم " ، قال: صدق نياتهم. " فأنزل السكينة عليهم " ، يعني الطمأنينة، وهو بيعة الرضوان؛ " فتحاً قريباً " ، قال: صلح قريش، " ومغانم كثيرةً تأخذونها " إلى يوم القيامة. وفي قوله عز وجل: " فعجل لكم هذه " ، قال: فتح خيبر؛ " وكف أيدي الناس عنكم " ، قال: الذين كانوا طافوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من المشركين رجاء أن يصيبوا من المسلمين غرة، فأسرهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أسراً؛ " ولتكون آيةً للمؤمنين " . قال: عبرة ، صلح قريش وحكمٌ لم يكن فيه سيفٌ، وكان فتحاً عظيماً. " وأخرى لم تقدروا عليها " ، قال: فارس والروم، ويقال مكة. " ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون ولياً ولا نصيراً " ، يقول: لو قاتلتكم قريش انهزموا ثم لم يكن لهم من الله ولي، يعني حافظ، ولا نصير من العرب. " سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ، قال: قضاء الله الذي قضى ولا تبديل أن رسله يظهرون ويغلبون. " وهو الذي طف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم " ، قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسروا من المشركين بالحديبية أسرى، فكف الله أيدي المسلمين عن قتلهم؛ " وأيديهم عنكم " ، من كانوا حبسوا بمكة، فذلك الظفر. " هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفاً أن يبلغ محله " ، يقول: حيث لم يصل إلى البيت وحبس بالحديبية؛ " ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرةٌ بغير علمٍ ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً " ، يقول: لولا رجال ونساءٌ مستضعفون بمكة؛ " أن تطؤهم " ، يقول: أن تقتلوهم ولا تعرفوهم فيصيبكم من ذلك بلاءٌ عظيمٌ؛ حيث قتلتم المسلمين وأنتم لا تعلمون؛ " لو تزيلوا " ، يقول: لو خرجوا من عندهم؛ " لعذبنا الذين كفروا " ، يقول: سلطناكم عليهم بالسيف. " إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية " حيث أبى سهيل بن عمرو أن يكتب " محمدٌ رسول الله " وحيث أبى أن يكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " . " فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين " ، يقول: بينهم؛ " وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها " ، يقول: لا إله إلا الله هم أحق بها وأولى من المشركين. " لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام " إلى قوله: " فجعل من دون ذلك فتحاً قريباً " ، والفتح القريب صلح الحديبية. ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية فحلق وحلق معه قومٌ، وقصر من قصر، ودخل في حجته ومعه أصحابه آمنين لا يخاف إلا الله عز وجل. " محمدٌ رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً " قال: يبتغون بذلك الركوع والسجود الفضل من الله والرضوان. " سيماهم في وجوههم من أثر السجود " ، قال: أثر الخشوع والتواضع؛ " مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع " ، فهذا في الإنجيل، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قليلاً، ثم ازدادوا، ثم كثروا، ثم استغلظوا، وقال: " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " ، قال: هي مفصولة بأنهم آمنوا بالله ورسله يصدقونهم. قال بعد: " والشهداء عند ربهم " وفي قوله عز وجل: " ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعةٌ " يعني ما كان فتحٌ في الإسلام أعظم من فتح الحديبية.
كانت الحرب قد حجزت بين الناس وانقطع الكلام، وإنما كان القتال حيث التقوا، فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها وآمن الناس بعضهم بعضاً، فلم يكن أحدٌ تكلم بالإسلام يعقل شيئاً إلا دخل في الإسلام، حتى دخل في تلك الهدنة صناديد المشركين الذين يقومون بالشرك وبالحرب - عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، وأشباهٌ لهم، وإنما كانت الهدنة حتى نقضوا العهد اثنين وعشرين شهراً، دخل فيها مثل ما دخل في الإسلام قبل ذلك وأكثر، وفشا الإسلام في كل ناحيةٍ من نواحي العرب.

ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية أتاه أبو بصير - وهو عتبة بن أسيد بن جارية حليف بني زهرة - مسلماً، قد انفلت من قومه فسار على قدميه سعياً، فكتب الأخنس بن شريق، وأزهر ابن عبد عوف الزهري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً، وبعثا رجلاً من بني عامر بن لؤي، استأجراه ببكرٍ؛ ابن لبون - وهو خنيس بن جابر - وخرج مع العامري مولىً له يقال له كوثر، وحملا خنيس بن جابر على بعيرٍ، وكتبا يذكران الصلح بينهم، وأن يرد إليهم ابا بصير، فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم قدما بعد أبي بصير بثلاثة أيام فقال خنيس: يا محمد، هذا كتابٌ! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب، فقرأ عليه الكتاب فإذا فيه: قد عرفت ما شارطناك عليه، وأشهدنا بيننا وبينك، من رد من قدم عليك من أصحابنا، فابعث إلينا بصاحبنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بصير أن يرجع معهم ودفعه إليهما، فقال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعلٌ لك ولمن معك من المسلمين فرجاً ومخرجاً، قال أبو بصير: يا رسول الله، تردني إلى المشركين؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انطلق يا أبا بصير، فإن الله سيجعل لك مخرجاً. فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العامري وصاحبه؛ فخرج معهما؛ وجعل المسلمون يسرون إلى أبي بصير: يا أبا بصير، أبشر! فإن الله جاعلٌ لك مخرجاً، والرجل يكون خيراً من ألف رجل، فافعل وافعل! يأمرونه بالذين معه. فخرجوا حتى كانوا بذي الحليفة - انتهوا إليها عند صلاة الظهر - فدخل أبو بصير مسجد ذي الحليفة فصلى ركعتين صلاة المسافر؛ ومعه زا دٌ له يحمله من تمر، فمال إلى أصل جدار المسجد فوضع زاده فجعل يتغدى، وقال لصاحبيه: ادنوا فكلا! فقالا: لا حاجة لنا في طعامك. فقال: ولكن لو دعوتموني إلى طعامكم لأجبتكم وأكلت معكم. فاستحييا فدنوا ووضعا أيديهما في التمر معه، وقدما سفرةً لهما فيها كسرٌ، فأكلوا جميعاً، وآنسهم، وعلق العامري بسيفه على حجرٍ في الجدار، فقال أبو بصير للعامري: يا أخا بني عامر، ما اسمك؟ فقال: خنيس. قال: ابن من؟ قال: ابن جابر. فقال: يا أبا جابر أصارمٌ سيفك هذا؟ قال: نعم. قال: ناولنيه أنظر إليه إن شئت، فناوله العامري وكان أقرب إلى السيف من أبي بصير، فأخذ أبو بصير بقائم السيف، والعامري ممسكٌ بالجفن، فعلاه به حتى برد، وخرج كوثر هارباً يعدو نحو المدينة، وخرج أبو بصير في أثره، فأعجزه حتى سبقه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول أبو بصير: والله لو أدركته لأسلكته طريق صاحبه! فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ في أصحابه بعد العصر إذ طلع المولى يعدو، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجلٌ قد رأى ذعراً! فأقبل حتى وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك، مالك؟ قال: قتل صاحبكم صاحبي، وأفلت منه ولم أكد! وكان الذي حبس أبا بصير احتمال سلبهما على بعيرهما، فلم يبرح مكانه قائماً حتى طلع أبو بصبر، فأناخ البعير بباب المسجد فدخل متوشحاً بالسيف - سيف العامري - فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرسول الله: وفت ذمتك وأدى الله عنك، وقد أسلمتني بيد العدو، وقد امتنعت بديني من أن أفتن، وتبغيت بي أن أكذب بالحق. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويلٌ أمه، محش حربٍ لو كان معه رجال!

وجاء أبو بصير بسلب العامري خنيس بن جابر ورحله وسيفه، فقال: خمسه يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني إذا خمسته رأوني لم أوف لهم بالذي عاهدتهم عليه؛ ولكن شأنك بسلب صاحبك! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكوثر: ترجع به إلى أصحابك. فقال: يا محمد، قد أهمتني نفسي، ما لي به قوةٌ ولا يدان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: اذهب حيث شئت! فخرج أبو بصير حتى أتى العيص، فنزل منه ناحيةً على ساحل البحر على طريق عير قريش إلى الشام. قال أبو بصير: فخرجت وما معي من الزاد إلا كفٌّ من تمرٍ فأكلتها ثلاثة أيام، وكنت آتي الساحل فأصيب حيتاناً قد ألقاها البحر فآكلها. وبلغ المسلمين الذين قد حبسوا بمكة، وأرادوا أن يلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير " ويل أمه، محش حربٍ لو كان له رجال " فجعلوا يتسللون إلى أبي بصير. وكان الذي كتب بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ فلما جاءهم كتاب عمر فأخبرهم أنه بالساحل على طريق عير قريش، فلما ورد عليهم كتاب عمر جعلوا يتسللون رجلاً رجلاً حتى انتهوا إلى أبي بصير فاجتمعوا عنده، قريب من سبعين رجلاً، فكانوا قد ضيقوا على قريش، لا يظفرون بأحدٍ منهم إلا قتلوه، ولا تمر عيرٌ إلا اقتطعوها، حتى أحرقوا قريشاً، لقد مر ركبٌ يريدون الشام معهم ثلاثون بعيراً، وكان هذا آخر ما اقتطعوا، لقد أصاب كل رجلٍ منهم، ما قيمته ثلاثون ديناراً. فقال بعضهم: ابعثوا بالخمس إلى رسول الله. فقال أبو بصير: لا يقبله رسول الله؛ قد جئت بسلب العامري، فأبى أن يقبله، وقال " إني إذا فعلت هذا لم أف لهم بعهدهم " . وكانوا قد أمروا عليهم أبا بصير، فكان يصلي بهم ويفرضهم ويجمعهم، وهم سامعون له مطيعون. فلما بلغ سهيل بن عمرو قتل أبي بصير للعامري اشتد ذلك عليه وقال: والله ما صالحنا محمداً على هذا. قالت قريش: قد برىء محمدٌ منه، قد أمكن صاحبكم فقتله بالطريق، فما على محمدٍ في هذا؟ فقال سهيل: قد والله عرفت أن محمداً قد أوفى، وما أوتينا إلا من قبل الرسولين. قال: فأسند ظهره إلى الكعبة وقال: والله، لا أؤخر ظهري حتى يودي هذا الرجل. قال أبو سفيان: إن هذا لهو السفه! والله لا يود! ثلاثاً. وأنى قريش تديه، وإنما بعثته بنو زهرة؟ فقال سهيل: قد والله صدقت، ما ديته إلا على بني زهرة، وهم بعثون ولا يخرج ديته غيرهم قصرةً ؛ لأن القاتل منهم، فهم أولى من عقله. فقال الأخنس: والله لا نديه، ما قتلنا ولا أمرنا بقتله، قتله رجل مخالف لديننا متبع لمحمد فأرسلوا إلى محمدٍ يديه. قال أبو سفيان: لا، ما على محمد دية ولا غرم؛ قد برىء محمد؛ ما كان على محمدٍ أكثر مما صنع، لقد أمكن الرسولين منه. فقال الأخنس: إن ودته قريشٌ كلها كانت زهرة بطناً من قريشٍ تديه معهم، وإن لم تده قريشٌ فلا نديه أبداً. فلم تخرج له دية حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح. فقال موهب بن رياح، فيما قال سهيل في بني زهرة، وما أراد أن يغرمهم من الدية:
أتاني عن سهيلٍ ذرو قولٍ ... ليوقظني وما بي من رقاد
فإن كنت العتاب تريد مني ... فما بيني وبينك من بعاد
متى تغمز قناتي لا تجدني ... ضعيف الرأي في الكرب الشداد
يسامي الأكرمين بعز قومٍ ... هم الرأس المقدم في العباد
أنشدنيها عبد الله بن أبي عبيدة، وسمعتهم يثبتونها.
فلما بلغ أبو بصير من قريش ما بلغ من الغيظ، بعثت قريش رجلاً، وكتبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً يسألونه بأرحامهم: الا تدخل أبا بصير وأصحابه، فلا حاجة لنا بهم؟ وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير أن يقدم بأصحابه معه؛ فجاءه الكتاب وهو يموت، فجعل يقرأ وهو يموت، فمات وهو في يديه، فقبره أصحابه هناك وصلوا عليه، وبنوا على قبره مسجداً، وأقبل أصحابه إلى المدينة وهم سبعون رجلاً، فيهم الوليد بن الوليد بن المغيرة. فلما دخل الحرة عثر فانقطعت إصبعه فربطها وهو يقول:
هل أنت إلا إصبعٌ دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت

فدخل المدينة فمات بها. فقالت أم سلمة: يا رسول الله، ايذن لي أبكي على الوليد. قال: ابكي عليه! قال: فجمعت النساء وصنعت لهن طعاماً، فكان مما ظهر من بكائها:
يا عين فابكي للولي ... د بن الوليد بن المغيره
مثل الوليد بن الولي ... د أبي الوليد كفى العشيره
فحدثني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ترداد الوليد قال: ما اتخذوا إلا حناناً.
وقالوا: لا نعلم قرشيةً خرجت بين أبويها مسلمةً مهاجرةً إلى الله إلا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، كانت تحدث تقول: كنت أخرج إلى بادية لنا بها أهلي فأقيم فيهم الثلاث والأربع، وهي من ناحية التنعيم - أو قالت بالحصحاص - ثم أرجع إلى أهلي فلا ينكرون ذهابي، حتى أجمعت السيرن فخرجت يوماً من مكة كأني أريد البادية التي كنت فيها، فلما رجع من تبعني خرجت حتى انتهيت إلى الطريق، فإذا رجلٌ من خزاعة فقال: أين تريدين؟ فقلت: حاجتي؛ فما مسألتك ومن أنت؟ فقال: رجلٌ من خزاعة. فلما ذكر خزاعة اطمأننت إليه؛ لدخول خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعقده، فقلت: إني امرأةٌ من قريشٍ أريد اللحوق برسول الله، ولا علم لي بالطريق. فقال: أهل الليل والنهار ، أنا صاحبك حتى أوردك المدينة. ثم جاءني ببعيرٍ فركبته، فكان يقود بي البعير، لا والله ما يكلمني كلمةً، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده في الشجرة وتنحى عني في الشجرة، حتى إذا كان الرواح جذع البعير فقربه وولى عني، فإذا ركبته أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى تنزل؛ فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة، فجزاه الله خيراً من صاحب! فكانت تقول: نعم الحي خزاعة! قالت: فدخلت على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متنقبة فما عرفتني حتى انتسبت، وكشفت النقاب فالتزمتني وقالت: هاجرت إلى الله وإلى رسوله؟ فقلت: نعم، وأنا أخاف أن يردني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين كما رد غيري من الرجال؛ أبا جندل بن سهيل، وأبا بصير، وحال الرجال يا أم سلمة ليس كحال النساء؛ والقوم مصبحي، قد طالت غيبتي عنهم اليوم ثمانية أيامٍ منذ فارقتهم، فهم يبحثون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبونني، فإن لم يجدوني رحلوا إلي فساروا ثلاثاً. فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة فأخبرته أم سلمة خبر أم كلثوم، فرحب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت أم كلثوم: يا رسول الله، إني فررت بديني إليك فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، فلا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة وضعف النساء إلى ما تعرف؛ وقد رأيتك رددت رجلين إلى المشركين حتى امتنع أحدهما، وأنا امرأة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله نقض العهد في النساء. وأنزل الله فيهن " الممتحنة " ، وحكم في ذلك بحكمٍ رضوه كلهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد من جاء من الرجال، ولا يرد من جاءه من النساء. وقدم أخواها من الغد، الوليد وعمارة ابنا عقبة بن أبي معيط، فقالا: يا محمد، فِ لنا بشرطنا وما عاهدتنا عليه. فقال: قد نقض الله! فانصرفا.

فحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: دخلت على عروة بن الزبير وهو يكتب إلى هنيد صاحب الوليد بن عبد الملك، وكان كتب يسأله عن قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن " ، فكتب إليه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح قريشاً يوم الحديبية على أن يرد إليهم من جاء بغير إذن وليه، فكان يرد الرجال، فلما هاجر النساء أبى الله ذلك أن يردهن إذا امتحن بمحنة الإسلام، فزعمت أنها جاءت راغبةً فيه، وأمره أن يرد صدقاتهن إليهم إن احتبسن عنهم ، وأن يردون عليهم إن فعلوا، فقال: " وليسئلوا ما أنفقوا " وصبحها أخواها من الغد فطلباها، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يردها إليهم، فرجعا إلى مكة، فأخبرا قريشاً، فلم يبعثوا في ذلك أحداً، ورضوا بأن تحبس النساء " وليسئلوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم والله عليمٌ حكيمٌ " " وإن فاتكم شيءٌ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " ، قال: فإن فات أحداً منهم أهله إلى الكفار، فإن أتتكم امرأةٌ منهم فأصبتم فعوضوهم مما أصبتم صداق المرأة التي أتتكم؛ فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله، وأبى المشركون أن يقروا بذلك، وأن ما ذاب للمشركين على المسلمين من صداق من هاجر من أزاواج المشركين " فآتوا الذين ذهبت أزواجهم " من مال المشركين في أيديكم. ولسنا نعلم امرأةً من المسلمين فاتت زوجها باللحوق بالمشركين بعد إيمانها، ولكنه حكم حكم الله به لأمرٍ كان، والله عليمٌ حكيم. " ولا تمسكوا بعصم الكوافر " ، يعني من غير أهل الكتاب، فطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه زينب بنت أبي أمية، فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وطلق عمر أيضاً بنت جرول الخزاعية، فتزوجها أبو جهم بن حذيفة، وطلق عياض ابن غنم الفهري أم الحكم بنت أبي سفيان يومئذٍ، فتزوجها عبد الله بن عثمان الثقفي فولدت له عبد الرحمن بن أم الحكم.
غزوة خيبرحدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن محمد بن زكريا بن حيويه لفظاً، سنة سبعٍ وسبعين وثلثمائة، قال: أخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب ابن عيسى بن أبي حية، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن شجاع الثلجي، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد الواقدي، قال: حدثني محمد بن عبد الله، وموسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وابن أبي حبيبة، وعبد الرحمن ابن عبد العزيز، ومحمد بن صالح، ومحمد بن يحيى بن سهل، وعائذ ابن يحيى، وعبد الحميد بن جعفر، ويحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، وأسامة بن زيد الليثي، وأبو معشر، ومعاذ بن محمد، وإبراهيم بن جعفر، ويونس ويعقوب ابنا محمد الظفريان، ويعقوب بن محمد بن أبي صعصعة، وسعيد بن أبي زيد بن المعلى الزرقي، وربيعة بن عثمان، ومحمد بن يعقوب، وعبد الله بن يزيد، وعبد الملك وعبد الرحمن ابنا محمد بن أبي بكر، ومعمر بن راشد، وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة؛ فكلٌّ قد حدثني من حديث خيبر بطائفة، وبعضهم أوعى له من بعض، وغير هؤلاء المسمين قد حدثني من حديث خيبر، فكتب ما حدثوني.

قالوا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة من الحديبية في ذي الحجة تمام سنة ست ، فأقام بالمدينة بقية ذي الحجة والمحرم، وخرج في صفر سنة سبعٍ - ويقال خرج لهلال ربيع الأول - إلى خيبر. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالتهيؤ للغزو فهم مجدون، وتجلب من حوله يغزون معه، وجاءه المخلفون يريدون أن يخرجوا معه رجاء الغنيمة، فقالوا: نخرج معك! وقد كانوا تخلفوا عنه في غزوة الحديبية، وأرجفوا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين، فقالوا: نخرج معك إلى خيبر، إنها ريف الحجاز طعاماً وودكاً وأموالاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تخرجوا معي إلا راغبين في الجهاد، فأما الغنيمة فلا. وبعث منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغبٌ في الجهاد، فأما الغنيمة فلا! فلما تجهز الناس إلى خيبر شق ذلك على يهود المدينة الذين هم موادعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرفوا أنهم إذا دخلوا خيبر أهلك الله خيبر كما أهلك بني قينقاع والنضير وقريظة. قال: فلما تجهزنا لم يبق أحدٌ من يهود المدينة له على أحدٍ من المسلمين حقٌّ إلا لزمه، وكان لأبي الشحم اليهودي عند عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي خمسة دراهم في شعيرٍ أخذه لأهله، فلزمه، فقال: أجلني فإني أرجو أن أقدم عليك فأقضيك حقك إن شاء الله، إن الله عز وجل قد وعد نبيه خيبر أن يغنمه إياها. وكان عبد الله بن أبي حدرد ممن شهد الحديبية، فقال: يا أبا الشحم، إنا نخرج إلى ريف الحجاز في الطعام والأموال. فقال أبو الشحم حسداً وبغياً: تحسب أن قتال خيبر مثل ما تلقونه من الأعراب؟ فيها والتوراة عشرة آلاف مقاتل! قال ابن أبي حدرد: أي عدو الله! تخوفنا بعدونا وأنت في ذمتنا وجوارنا؟ والله لأرفعنك إلى رسول الله! فقلت: يا رسول الله ألا تسمع إلى ما يقول هذا اليهودي؟ وأخبرته بما قال أبو الشحم. فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرجع إليه شيئاً، إلا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حرك شفتيه بشيءٍ لم أسمعه، فقال اليهودي: يا أبا القاسم، هذا قد ظلمني وحبسني بحقي وأخذ طعامي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعطه حقه. قال عبد الله: فخرجت فبعت أحد ثوبي بثلاثة دراهم، وطلبت بقية حقه فقضيته، ولبست ثوبي الآخر، وكانت علي عمامةٌ فاستدفأت بها. وأعطاني سلمة بن أسلم ثوباً آخر، فخرجت في ثوبين مع المسلمين، ونفلني الله خيراً، وغنمت امرأةً بينها وبين أبي الشحم قرابةٌ فبعتها منه بمال.
وجاء أبو عبس بن جبر فقال: يا رسول الله، ما عندنا نفقة ولا زاد ولا ثوب أخرج فيه، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقةٌ سنبلانيةٌ، فباعها بثمانية دراهم، فابتاع تمراً بدرهمين لزاده وترك لأهله نفقةً درهمين، وابتاع بردةً بأربعة دراهم. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق خيبر في ليلةٍ مقمرةٍ إذ أبصر برجل يسير أمامه، عليه شيءٌ يبرق في القمر كأنه في الشمس وعليه بيضة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ فقيل: أبو عبس بن جبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدركوه! قال: فأدركوني فحبسوني، وأخذني ما تقدم وما تأخر، وظننت أنه قد نزل في أمرٌ من السماء، فجعلت أتذكر ما فعلت حتى لحقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك تقدم الناس لا تسير معهم؟ قلت: يا رسول الله، إن ناقتي نجيبة. قال: فأين الشقيقة التي كسوتك؟ فقلت: بعتها بثمانية دراهم، فتزودت بدرهمين تمراً، وتركت لأهلي نفقةً درهمين، واشتريت بردةً بأربعة دراهم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: أنت والله يا أبا عبس وأصحابك من الفقراء! والذي نفسي بيده لئن سلمتم وعشتم قليلاً ليكثرن زادكم، وليكثرن ما تتركون لأهليكم، ولتكثرن دراهمكم وعبيدكم، وما ذاك بخيرٍ لكم! قال أبو عبس: فكان والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قدمنا المدينة ونحن ثمانون بيتاً من دوس، فقال قائل: رسول الله بخيبر وهو قادمٌ عليكم. فقلت: لا أسمع به ينزل مكاناً أبداً إلا جئته. فتحملنا حتى جئناه بخيبر فنجده قد فتح النطاة وهو محاصرٌ أهل الكتيبة، فأقمنا حتى فتح الله علينا. وكنا قدمنا المدينة فصلينا الصبح خلف سباع بن عرفطة بالمدينة، فقرأ في الركعة الأولى سورة مريم وفي الآخرة: " ويلٌ للمطففين " ، فلما قرأ " إذا اكتالوا على الناس يستوفون " قلت: تركت عمي بالسراة له مكيالان، مكيال يطفف به ومكيال يتبخس به . ويقال: استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا ذر، والثبت عندنا سباع بن عرفطة.
وكانت يهود خيبر لا يظنون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم لمنعتهم وحصونهم وسلاحهم وعددهم؛ كانوا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً ثم يقولون: محمدٌ يغزونا؟ هيهات! هيهات! وكان من كان بالمدينة من اليهود يقولون حين تجهز النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر: ما أمنع والله خيبر منكم! لو رأيتم خيبر وحصونها ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم؛ حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء فيها واتن ، إن بخيبر لألف دارع، ما كانت أسدٌ وغطفان يمتنعون من العرب قاطبةً إلا بهم، فأنتم تطيقون خيبر؟ فجعلوا يوحون بذلك إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: قد وعدها الله نبيه أن يغنمه إياها. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فعمى الله عليهم مخرجه إلا بالظن حتى نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحاتهم ليلاً. وكانوا قد اختلفوا فيما بينهم حيث أحسوا بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاشار عليهم الحارث أبو زينب اليهودي بأن يعسكروا خارجاً من حصونهم ويبرزوا له، فإني قد رأيت من سار إليه من الحصون، لم يكن لهم بقاء بعد أن حاصرهم حتى نزلوا على حكمه، ومنهم من سبي ومنهم من قتل صبراً. فقالت اليهود: إن حصوننا هذه ليست مثل تلك، هذه حصون منيعة في ذرى الجبال. فخالفوه وثبتوا في حصونهم، فلما صبحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاينوه أيقنوا بالهلكة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة فسلك ثنية الوداع، ثم أخذ على الزغابة، ثم على نقمي، ثم سلك المستناخ، ثم كبس الوطيح ، ومعهم دليلان من أشجع يقال لأحدهما حسيل بن خارجة، والآخر عبد الله بن نعيم، خرج على عصر وبه مسجد، ثم على الصهباء . فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره قال لعامر بن سنان: انزل يا ابن الأكوع فخذ لنا من هناتك . فاقتحم عامر عن راحلته، ثم ارتجز برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فألقين سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إنا إذا صيح بنا أتينا ... وبالصياح عولوا علينا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يرحمك الله! فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: وجبت والله يا رسول الله! فقال رجل من القوم: لولا متعتنا به يا رسول الله! فاستشهد عامر يوم خيبر. فكان سلمة بن الأكوع يقول: لما كنا دون خيبر نظرت إلى ظبيٍ حاقفٍ في ظل شجرة، فأتفرد له بسهمٍ فارميه فلم يصنع سهمي شيئاً، وأذعر الظبي فيلحقني عامر ففوق له السهم فوضع السهم في جنب الظبي، وينقطع وتر القوس فيعلق رصافه بجنبه، فلم يخلصه إلا بعد شد. ووقع في نفسي يومئذٍ طيرةٌ ورجوت له الشهادة فبصرت رجلاً من اليهود فيصيب نفسه فمات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحة: ألا تحرك بنا الركب! فنزل عبد الله عن راحلته فقال:
والله لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينةً علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارحمه! فقال عمر رضي الله عنه: وجبت يا رسول الله. قال الواقدي: قتل يوم مؤتة شهيداً.

قالوا: وانتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصهباء فصلى بها العصر ثم دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق والتمر، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكلوا معه، ثم قام إلى المغرب فصلى بالناس ولم يتوضأ، ثم صلى العشاء بالناس، ثم دعا بالأدلاء فجاء حسيل بن خارجة الأشجعي، وعبد الله بن نعيم الأشجعي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسيل: امض أمامنا حتى تأخذنا صدور الأودية، حتى نأتي خيبر من بينها وبين الشام، فأحول بينهم وبين الشام وبين حلفائهم من غطفان. فقال حسيل: أنا أسلك بك. فانتهى به إلى موضع له طرق، فقال له: يا رسول الله، إن لها طرقاً يؤتى منها كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سمها لي! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن والاسم الحسن، ويكره الطيرة والاسم القبيح. فقال الدليل: لها طريق يقال لها حزن. قال: لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها شاش. قال لا تسلكها! قال: لها طريق يقال لها حاطب. قال: لا تسلكها! قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما رأيت كالليلة أسماء أقبح! سم لرسول الله! قال: لها طريقٌ واحدةٌ لم يبق غيرها. فقال عمر: سمها. قال: اسمها مرحب. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم اسلكها! قال عمر: ألا سميت هذا الطريق أول مرة!

وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عباد بن بشر في فوارس طليعةً، فأخذ عيناً لليهود من أشجع فقال: من أنت؟ قال: باغٍ أبتغي أبعرةً ضلت لي، أنا على أثرها. قال له عباد: ألك علمٌ بخيبر؟ قال: عهدي بها حديث، فيم تسألني عنه؟ قال: عن اليهود. قال: نعم، كان كنانة بن أبي الحقيق وهوذة بن قيس ساروا في حلفائهم من غطفان، فاستنفروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنةً، فجاءوا معدين مؤيدين بالكراع والسلاح يقودهم عتبة بن بدر، ودخلوا معهم في حصونهم، وفيها عشرة آلاف مقاتل، وهم أهل الحصون التي لا ترام، وسلاحٌ وطعامٌ كثير لو حصروا لسنين لكفاهم، وماءٌ واتنٌ يشربون في حصونهم، ما أرى لأحدٍ بهم طاقة. فرفع عباد بن بشر السوط فضربه ضربات وقال: ما أنت إلا عينٌ لهم، اصدقني وإلا ضربت عنقك! فقال الأعرابي: أفتؤمني على أن أصدقك؟ قال عباد: نعم. فقال الأعرابي: القوم مرعوبون منكم خائفون وجلون لما قد صنعتم بمن كان بيثرب من اليهود، وإن يهود يثرب بعثوا ابن عمٍّ لي وجدوه بالمدينة، قد قدم بسلعةٍ يبيعها، فبعثوه إلى كنانة بن أبي الحقيق يخبرونه بقلتكم وقلة خيلكم وسلاحكم. ويقولون له: فاصدقوهم الضرب ينصرفوا عنكم، فإنه لم يلق قوماً يحسنون القتال! وقريش والعرب قد سروا بمسيره إليكم لما يعلمون من موادكم وكثرة عددكم وسلاحكم وجودة حصونكم! وقد تتابعت قريش وغيرهم ممن يهوى هوى محمد، تقول قريش: إن خيبر تظهر! ويقول آخرون: يظهر محمد، فإن ظفر محمد فهو ذل الدهر! قال الأعرابي: وأنا أسمع كل هذا، فقال لي كنانة: اذهب معترضاً للطريق فإنهم لا يستنكرون مكانك، واحزرهم لنا، وادن منهم كالسائل لهم ما تقوى به، ثم ألق إليهم كثرة عددنا ومادتنا فإنهم لن يدعوا سؤالك، وعجل الرجعة إلينا بخبرهم. فأتى به عباد النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فقال عمر بن الخطاب: اضرب عنقه. قال عباد: جعلت له الأمان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسكه معك يا عباد! فأوثق رباطاً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر عرض عليه الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني داعيك ثلاثاً، فإن لم تسلم لم يخرج الحبل عن عنقك إلا صعداً! فأسلم الأعرابي، وخرج الدليل يسير برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهى به، فيسلك بين حياض والسرير ، فاتبع صدور الأودية حتى هبط به الخرصة ، ثم نهض به حتى سلك بين الشق والنطاة. ولما أشرف رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر قال لأصحابه: قفوا! ثم قال: قولوا: اللهم رب السموات السبع وما أظلت، ورب الأرضين السبع وما أقلت، ورب الرياح وما ذرت، فإنا نسألك خير هذه القرية، وخير أهلها، وخير ما فيها، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها. ثم قال: ادخلوا على بركة الله! فسار حتى انتهى إلى المنزلة، وعرس بها ساعةً من الليل، وكان اليهود يقومون كل ليلة قبل الفجر فيتلبسون السلاح ويصفون الكتائب، وهم عشرة آلاف مقاتل. وكان كنانة بن أبي الحقيق قد خرج في ركبٍ إلى غطفان يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمر خيبر سنةً، وذلك أنه بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرٌ إليهم. وكان رجلٌ من بني فزارة حليفٌ لهم قدم بسلعةٍ إلى المدينة فباعها، ثم رجع فقدم عليهم فقال: تركت محمداً يعبىء أصحابه إليكم. فبعثوا إلى حلفائهم من غطفان، فخرج كنانة بن أبي الحقيق في أربعة عشر رجلاً من اليهود يدعوهم إلى نصرهم، ولهم نصف تمرٍ خيبر سنةً. فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بساحتهم لم يتحركوا تلك الليلة، ولم يصح لهم ديلكٌ حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم معهم المساحي والكرازين والمكاتل ، فلما نظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزل بساحتهم قالوا: محمدٌ والخميس ! فولوا هاربين حتى رجعوا إلى حصونهم، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الله أكبر! خربت خيبر! إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين. ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المنزلة جعل مسجداً فصلى إليه من آخر الليل نافلةً. فثارت راحلته تجر زمامها، فأدركت توجه إلى الصخرة لا تريد تركب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوها فإنها مأمورة! حتى بركت عند الصخرة، فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصخرة، وأمر برحله فحط ، وأمر الناس بالتحول إليها، ثم ابتنى رسول الله صلى

الله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.لله عليه وسلم عليها مسجداً، فهو مسجدهم اليوم. فلما أصبح جاءه الحباب ابن المنذر بن الجموح فقال: يا رسول الله صلى الله عليك، إنك نزلت منزلك هذا، فإن كان عن أمرٍ أمرت به فلا نتكلم فيه، وإن كان الرأي تكلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل هو الرأي. فقال: يا رسول الله، دنوت من الحصن ونزلت بين ظهري النخل والنز ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدىً منهم؛ ولا أعدل منهم، وهم مرتفعون علينا. وهو أسرع لانحطاط نبلهم، مع أني لا آمن من بياتهم يدخلون في خمر النخل؛ تحول يا رسول الله إلى موضعٍ بريء من النز ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم حتى لا ينالنا نبلهم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقالتهم هذا اليوم. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة فقال: انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم بريئاً من الوباء، نأمن فيه بياتهم. فطاف محمد حتى انتهى إلى الرجيع ، ثم رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً فقال: وجدت لك منزلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله. وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك إلى الليل يقاتل أهل النطاة، يقاتلها من أسفلها. وحشدت اليهود يومئذٍ، فقال له الحباب: لو تحولت يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا. وجعلت نبل اليهود تخالط عسكر المسلمين وتجاوزه، وجعل المسلمون يلقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول، وأمر الناس فتحولوا إلى الرجيع، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو بالمسلمين على راياتهم، وكان شعارهم: يا منصور أمت! فقال له الحباب بن المنذر: يا رسول الله، إن اليهود ترى النخل أحب إليهم من أبكار أولادهم، فاقطع نخلهم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل، ووقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في القطع، فجاءه أبو بكر فقال: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجزٌ ما وعدك، فلا تقطع النخل. فأمر فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى عن قطع النخل.

وحدثني محمد بن يحيى، عن أبيه، عن جده، قال: رأيت نخلاً بخيبر في النطاة مقطعةً، فكان ذلك مما قطع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدثني أسامة بن زيد الليثي، عن جعفر بن محمود بن محمد بن مسلمة قال: قطع المسلمون في النطاة أربعمائة عذق، ولم تقطع في غير النطاة.
فكان محمد بن مسلمة ينظر إلى صور من كبيس، قال: أنا قطعت هذا الصور بيدي حتى سمعت بلالاً ينادي عزمةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقطع النخل! فأمسكنا. قال: وكان محمود بن مسلمة يقاتل مع المسلمين يومئذٍ، وكان يوماً صائفاً شديد الحر، وهو أول يومٍ قاتل فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل النطاة وبها بدأ، فلما اشتد الحر على محمود وعليه أداته كاملةً جلس تحت حصن ناعم يبتغي فيئه، وهو أآول حصنٍ بدأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يظن محمود أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن أن فيه أثاثاً ومتاعاً - وناعم يهودي، وله حصون ذوات عدد فكان هذا منها - فدلى عليه مرحب رحى فأصاب رأسه. فهشمت البيضة رأسه حتى سقطت جلدة جبينه على وجهه، وأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد الجلدة فرجعت كما كانت، وعصبها رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوب. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم تحول إلى الرجيع وخاف على أصحابه البيات، فضرب عسكره هناك وبات فيه، وكان مقامه بالرجيع سبعة أيام، يغدو كل يوم بالمسلمين على راياتهم متسلحين ويترك العسكر بالرجيع، ثم إذا أمسى رجع إلى الرجيع. وكان قاتل أول يومٍ من أسفل النطاة، ثم عاد بعد فقاتلهم من أعلاها حتى فتح الله عليه. وكان من جرح من المسلمين حمل إلى المعسكر فدووي، وإن كان به انلاق انطلق إلى معسكر النبي صلى الله عليه وسلم. وكان أول يوم قاتلوا فيه جرح من المسلمين خمسون رجلاً من نبلهم، فكانوا يداوون من الجراح. ويقال: إن قوماً شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وباء المنزل فأمرهم بالتحول إلى الرجيع، وقدموا خيبر على ثمرة خضراء وهي وبئةٌ وخيمة، فأكلوا من تلك الثمرة، وأهمدتهم الحمى، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: قرسوا الماء في الشنان، فإذا كان بين الأذانين فاحدروا الماء عليكم حدراً واذكروا اسم الله. ففعلوا فكأنما أنشطوا من عقال .
وكان كعب بن مالك يحدث: إن رجلاً من اليهود من أهل النطاة نادانا بعد ليلٍ ونحن بالرجيع: أنا آمنٌ وأبلغكم؟ قلنا: نعم. قال: فابتدرناه فكنت أول من سبق إليه فقلت: من أنت؟ فقال: رجلٌ من اليهود. فأدخلناه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال اليهودي: يا أبا القاسم: تؤمني وأهلي على أن أدلك على عورة من عورات اليهود؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فدله على عورة اليهود. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه تلك الساعة فحضهم على الجهاد، وخبرهم أن اليهود قد أسلمها حلفاؤها وهربوا، وأنها قد تجادلت واختلفوا بينهم. قال كعب: فغدونا عليهم فظفرنا الله بهم، فلم يكن في النطاة شيءٌ غير الذرية فلما انتهينا إلى الشق وجدنا فيه ذرية، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليهودي زوجته وكانت في الشق، فدفعها إليه فرأيته أخذ بيد امرأةٍ حسناء.

قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يناوب بين أصحابه في حراسة الليل في مقامه بالرجيع سبعة أيام. فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل عمر بن الخطاب على العسكر، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر وفرقهم أو فرق منهم، فأتي برجلٍ من اليهود في جوف الليل فامر به عمر أن يضرب عنقه، فقال اليهودي: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسكه عمر وانتهى به إلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يصلي، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام عمر فسلم وأدخله عليه، ودخل عمر باليهودي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي: ما وراءك ومن أنت ؟ فقال اليهودي: تؤمني يا أبا القاسم وأصدقك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. فقال اليهودي: خرجت من حصن النطاة من عند قومٍ ليس لهم نظام، تركتهم يتسللون من الحصن في هذه الليلة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين يذهبون؟ قال: إلى أذل مما كانوا فيه، إلى الشق، وقد رعبوا منك حتى إن أفئدتهم لتخفق. وهذا حصن اليهود فيه السلاح والطعام والودك، وفيه آلة حصونهم التي كانوا يقاتلون بها بعضهم بعضاً، قد غيبوا ذلك في بيتٍ من حصونهم تحت الأرض. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما هو؟ قال: منجينق مفككة ودبابتان وسلاح من دروع وبيضٍ وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً وأنت تدخله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاء الله. قال اليهودي: إن شاء الله أوقفك عليه، فإنه لا يعرفه أحدٌ من اليهود غيري. وأخرى! قيل: ما هي؟ قال: تستخرجه، ثم أنصب المنجنيق على حصن الشق، وتدخل الرجال تحت الدبابتين فيحفرون الحصن فتفتحه من يومك، وكذلك تفعل بحصن الكتيبة. فقال عمر: يا رسول الله، إني أحسبه قد صدق. قال اليهودي: يا أبا القاسم، احقن دمي. قال: أنت آمن قال: ولي زوجة في حصن النزار فهبها لي. قال: هي لك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لليهود حولوا ذراريهم من النطاة؟ قال: جردوها للمقاتلة، وحولوا الذراري إلى الشق والكتيبة.

قالوا: ثم دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال: أنظرني أياماً، فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غدا بالمسلمين إلى النطاة، ففتح الله الحصن، واستخرج ما كان قال اليهودي فيه، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمنجنيق أن تصلح وتنصب على الشق على حصن النزار، فهيئوا، فما رموا عليها بحجرٍ حتى فتح الله عليهم حصن النزار. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إليه حصب الحصن فساخ في الأرض حتى أخذ أهله أخذاً، وأخرجت زوجته، يقال لها نفيلة، فدفعها إليه. فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم الوطيح وسلالم أسلم اليهودي، ثم خرج من خيبر فلم يسمع له بذكر، وكان اسمه سماك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى حصن ناعم في النطاة وصف أصحابه نهى عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجلٌ من أشجع فحمل على يهودي، وحمل عليه مرحب فقتله. فقال الناس: يا رسول الله، استشهد فلان! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبعد ما نهيت عن القتال؟ فقالوا: نعم. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم منادياً فنادى: لا تحل الجنة لعاصٍ. ثم أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتال وحث عليه، ووطن المسلمون أنفسهم على القتال. وكان يسار الحبشي - عبدٌ أسود لعامر اليهودي - في غنم مولاه، فلما رأى أهل خيبر يتحصنون ويقاتلون سألهم، فقالوا: نقاتل هذا الذي يزعم أنه نبي. قال: فوقعت تلك الكلمة في نفسه، فأقبل بغنمه يسوقها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، ما تقول؟ ما تدعو إليه؟ قال: أدعو إلى الإسلام، فاشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله. قال: فما لي؟ قال: الجنة إن ثبت على ذلك. قال: فأسلم. وقال: إن غنمي هذه وديعة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخرجها من العسكر ثم صح بها وارمها بحصيات، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك. ففعل العبد فخرجت الغنم إلى سيدها، وعلم اليهودي أن عبده قد أسلم. ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وفرق بينهم الرايات، وكانت ثلاث رايات، ولم تكن راية قبل يوم خيبر، إنما كانت الألوية، وكانت راية النبي صلى الله عليه وسلم السوداء من بردٍ لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، ودفع رايةً إلى عليٍّ رضي الله عنه بالراية وتبعه العبد الأسود فقاتل حتى قتل، فاحتمل فأدخل خباءً من أخبية العسكر، فاطلع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخباء فقال: لقد كرم الله هذا العبد الأسود وساقه إلى خيبر، وكان الإسلام من نفسه حقاً، قد رأيت عند رأسه زوجتين من الحور العين.

قالوا: وكان رجلٌ من بني مرة يقال له أبو شييم يقول: أنا في الجيش الذين كانوا مع عيينة من غطفان؛ أقبل مدد اليهود، فنزلنا بخيبر ولم ندخل حصناً. فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن وهو رأس غطفان وقائدهم أن ارجع بمن معك ولك نصف تمر خيبر هذه السنة، إن الله قد وعدني خيبر. فقال عيينة: لست بمسلمٍ حلفائي وجيراني. فأقمنا فبينا نحن على ذلك مع عيينة إذ سمعنا صائحاً، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم، أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثة - فإنكم قد خولفتم إليهم! ويقال: إنه لما سار كنانة بن أبي الحقيق فيهم حلفوا معه، وارتأسهم عيينة بن حصن وهم أربعة آلاف، فدخلوا مع اليهود في حصون النطاة قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر أرسل إليهم سعد بن عبادة وهم في الحصن، فلما انتهى سعد إلى الحصن ناداهم: إني أريد أن أكلم عيينة بن حصن. فأراد عيينة أن يدخله الحصن فقال مرحب: لا تدخله فيرى خلل حصننا ويعرف نواحيه التي يؤتى منها، ولكن تخرج إليه. فقال عيينة: لقد أحببت أن يدخل فيرى حصانته ويرى عدداً كثيراً. فأبى مرحب أن يدخله، فخرج عيينة إلى باب الحصن، فقال سعد: إن رسول الله أرسلني إليك يقول: إن الله قد وعدني خيبر فارجعوا وكفوا، فإن ظهرنا عليها فلكم تمر خيبر سنةً. فقال عيينة: إنا والله ما كنا لنسلم حلفاءنا لشيءٍ، وإنا لنعلم ما لك ولمن معك مما ها هنا طاقة، هؤلاء قومٌ أهل حصونٍ منيعة، ورجالٍ عددهم كثير، وسلاح. إن أقمت هلكت ومن معك، وإن أردت القتال عجلوا عليك بالرجال والسلاح. ولا والله، ما هؤلاء كقريش، قوم ساروا إليك، إن أصابوا غرة منك فذاك الذي أرادوا وإلا انصرفوا، وهؤلاء يماكرونك الحرب ويطاولونك حتى تملهم. فقال سعد بن عبادة: أشهد ليحضرنك في حصنك هذا حتى تطلب الذي كنا عرضنا عليك، فلا نعطيك إلا السيف، وقد رأيت يا عيينة من قد حللنا بساحته من يهود يثرب، كيف مزقوا كل ممزق! فرجع سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال، وقال سعد: يا رسول الله، لئن أخذه السيف ليسلمنهم وليهربن إلى بلاده كما فعل ذلك قبل اليوم في الخندق. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يوجهوا إلى حصنهم الذي فيه غطفان، وذلك عشيةً وهم في حصن ناعم، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أصبحوا على راياتكم عند حصن ناعم الذي فيه غطفان. قال: فرعبوا من ذلك يومهم وليلتهم، فلما كان بعد هذه من تلك الليلة سمعوا صائحاً يصيح، لا يدرون من السماء أو من الأرض: يا معشر غطفان، أهلكم أهلكم! الغوث، الغوث بحيفاء - صيح ثلاثة - لا تربة ولا مال! قال: فخرجت غطفان على الصعب والذلول، وكان أمراً صنعه الله عز وجل لنبيه. فلما أصبحوا أخبر كنانة بن أبي الحقيق وهو في الكتيبة بانصرافهم، فسقط في يديه ، وذل وأيقن بالهلكة وقال: كنا من هؤلاء الأعراب في باطل، إنا سرنا فيهم فوعدونا النصر وغرونا، ولعمري لولا ما وعدونا من نصرهم ما نابذنا محمداً بالحرب، ولم نحفظ كلام سلام بن أبي الحقيق إذ قال: لا تستنصروا بهؤلاء الأعراب أبداً فإنا قد بلوناهم. وجلبهم لنصر بني قريظة ثم غروهم. فلم نر عندهم وفاءً لنا، وقد سار فيهم حيي بن أخطب وجعلوا يطلبون الصلح من محمد، ثم زحف محمد إلى بني قريظة وانكشفت غطفان راجعةً إلى أهلها.

قالوا: فلما انتهى الغطفانيون إلى أهلهم بحيفاء وجدوا أهلهم على حالهم فقالوا: هل راعكم شيء؟ قالوا: لا والله. فقالوا: لقد ظننا أنكم قد غنمتم، فما نرى معكم غنيمةً ولا خيراً! فقال عيينة لأصحابه: هذا والله من مكائد محمد وأصحابه، خدعنا والله! فقال له الحارث بن عوف: بأي شيءٍ؟ قال عيينة: إنا في حصن النطاة بعد هدأةٍ إذ سمعنا صائحاً يصيح، لا ندري من السماء أو من الأرض: أهلكم أهلكم بحيفاء - صيح ثلاثةً - فلا تربة ولا مال! قال الحارث بن عوف: يا عيينة، والله لقد غبرت إن انتفعت. والله إن الذي سمعت لمن السماء! والله ليظهرن محمد على من ناوأه، حتى لو ناوأته الجبال لأدرك منها ما أراد. فأقام عيينة أياماً في أهله ثم دعا أصحابه للخروج إلى نصر اليهود، فجاءه الحارث بن عوف فقال: يا عيينة أطعني وأقم في منزلك ودع نصر اليهود، مع أني لا أراك ترجع إلى خيبر إلا وقد فتحها محمد ولا آمن عليك. فأبى عيينة أن يقبل قوله وقال: لا أسلم حلفائي لشيءٍ. ولما ولى عيينة إلى أهله هجم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحصون حصناً حصناً، فلقد انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن ناعم ومعه المسلمون، وحصون ناعم عدة، فرمت اليهود يومئذ بالنبل، وترس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رسول الله، وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ درعان ومغفرٌ وبيضة، وهو على فرسٍ يقال له الظرب ، في يده قناةٌ وترس، وأصحابه محدقون به، وقد كان دفع لواءه إلى رجلٍ من أصحابه من المهاجرين فرجع ولم يصنع شيئاً، ثم دفعه إلى آخر فرجع ولم يصنع شيئاً، ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم لواء الأنصار إلى رجلٍ منهم، فخرج ورجع ولم يعمل شيئاً، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين، وسالت كتائب اليهود، أمامهم الحارث أبو زينب يقدم اليهود يهد الأرض هداً، فأقبل صاحب راية الأنصار فلم يزل يسوقهم حتى انتهوا إلى الحصن فدخلوه، وخرج أسير اليهودي يقدم أصحابه معه عاديته وكشف راية أصحاب الأنصار حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقفه، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه حدةً شديدة، وقد ذكر لهم الذي وعدهم الله، فأمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم مهموماً، وقد كان سعد بن عبادة رجع مجروحاً وجعل يستبطىء أصحابه، وجعل صاحب راية المهاجرين يستبطىء أصحابه ويقول: أنتم، وأنتم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود جاءهم الشيطان فقال لهم: إن محمداً يقاتلكم على أموالكم! نادوهم: قولوا لا إله إلا الله، ثم قد أحرزتم بذلك أموالكم ودماءكم، وحسابكم على الله. فنادوهم بذلك فنادت اليهود: إنا لا نفعل ولا نترك عهد موسى والتوراة بيننا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأعطين الراية غداً يحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه، ليس بفرار، أبشر يا محمد بن مسلمة غداً، إن شاء الله يقتل قاتل أخيك وتولى عادية اليهود. فلما أصبح أرسل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو أرمد، فقال: ما أبصر سهلاً ولا جبلاً. قال: فذهب إليه فقال: افتح عينيك. ففتحهما فتفل فيهما. قال علي رضي الله عنه: فما رمدت حتى الساعة. ثم دفع إليه اللواء ودعا له ومن معه من أصحابه بالنصر، فكان أول من خرج إليهم الحارث أخو مرحب في عاديته، فانكشف المسلمون وثبت علي رضي الله عنه فاضطربا ضرباتٍ فقتله علي رضي الله عنه، ورجع أصحاب الحارث إلى الحصن فدخلوه وأغلقوا عليهم، فرجع المسلمون إلى موضعهم، وخرج مرحب وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
فحمل علي رضي الله عنه فقطره على الباب وفتح الباب. وكان للحصن بابان.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن خالد بن رباح، عن شيوخٍ من بني ساعدة قالوا: قتل أبو دجانة الحارث أبا زينب، وكان يومئذٍ معلماً بعمامة حمراء، والحارث معلمٌ فوق مغفره، وياسر وأسير وعامر معلمين.

حدثني ابن أبي سبرة، عن عمرو بن أبي عمرو، قال: نزلت بأريحا زمن سليمان بن عبد الملك فإذا حيٌّ من اليهود، وإذا رجل يهدج من الكبر. فقال: ممن أنتم؟ فقلنا: من الحجاز، فقال اليهودي: واشوقاه إلى الحجاز! أنا ابن الحارث اليهودي فارس خيابر، قتله يوم خيبر رجلٌ من أصحاب محمد يقال له أبو دجانة يوم نزل محمد خيبر، وكنا ممن أجلى عمر بن الخطاب إلى الشام. فقلت: ألا تسلم؟ قال: أما إنه خيرٌ لي لو فعلت، ولكن أعير، تعيرني اليهود، تقول: أبوك ابن سيد اليهود لم يترك اليهودية، قتل عليها أبوك وتخالفه؟ وقال أبو رافع: كنا مع علي رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم بالراية، فلقي علي رضي الله عنه رجلاً على باب الحصن، فضرب علياً واتقاه بالترس عليٌّ، فتناول عليٌ باباً كان عند الحصن فترس به عن نفسه، فلم يزل في يده حتى فتح الله عليه الحصن. وبعث رجلاً يبشر النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الحصن؛ حصن مرحب ودخولهم الحصن. ويقال: إن مرحب برز وهو كالفحل الصؤول يرتجز وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب ... شاكي السلاح بطلٌ مجرب
أضرب أحياناً وحيناً أضرب
يدعو للبراز. فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله أنا والله الموتور الثائر، قتل أخي بالأمس فائذن لي في قتال مرحب وهو قاتل أخي. فأذن له رسولالله صلى الله عليه وسلم في مبارزته، ودعا له بدعوات، وأعطاه سيفه، فخرج محمد فصاح: يا مرحب، هل لك في البراز؟ فقال: نعم. فبرز إليه مرحب وهو يرتجز:
قد علمت خيبر أني مرحب
وخرج محمد بن مسلمة وهو يقول:
قد علمت خيبر أني ماض ... حلوٌ إذا شئت وسمٌّ قاض
ويقال: إنه جعل يومئذٍ يرتجز ويقول:
يا نفس إلا تقتلي تموتي ... لا صبر لي بعد أبي النبيت
وكان أخوه محمود يكنى بأبي النبيت. قال: وبرز كل واحد منهما إلى صاحبه. قال: فحال بينهما عشرات أصلها كمثل أصل الفحل من النخل وأفنانٌ منكرة، فكلما ضرب أحدهما صاحبه استتر بالعشر حتى قطعا كل ساقٍ لها، وبقي أصلها قائماً كأنه الرجل القائم. وأفضى كل واحد منهما إلى صاحبه، وبدر مرحب محمداً، فيرفع السيف ليضربه، فاتقاه محمد بالدرفة فلحج سيفه، وعلى مرحب درعٌ مشمرة، فيضرب محمد ساقي مرحب فقطعهما. ويقال: لما اتقى محمدٌ بالدرفة وشمرت الدرع عن ساقي مرحب حين رفع يديه بالسيف، فطأطأ محمد بالسيف فقطع رجليه ووقع مرحب، فقال مرحب: أجهز يا محمد! قال محمد: ذق الموت كما ذاقه أخي محمود! وجاوزه ومر به عليٌّ فضرب عنقه وأخذ سلبه، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سلبه، فقال محمد بن مسلمة: يا رسول الله، والله ما قطعت رجليه ثم تركته إلا ليذوق مر السلاح وشدة الموت كما ذاق أخي؛ مكث ثلاثاً يموت، وما منعني من الإجهاز عليه شيء، قد كنت قادراً بعد أن قطعت رجليه أن أجهز عليه. فقال علي رضي الله عنه: صدق، ضربت عنقه بعد أن قطع رجليه. فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة سيفه فيه كتاب لا يدرى ما هو حتى قرأه يهوديٌّ من يهود تيماء فإذا فيه:
هذا سيف مرحب ... من يذقه يعطب
حدثني محمد بن الفضل، عن أبيه، عن جابر، وحدثني زكريا بن زيد، عن عبد الله بن أبي سفيان، عن أبيه، عن سلمة بن سلامة، ومجمع ابن يعقوب، عن أبيه، عن مجمع بن حارثة، قالوا جميعاً: محمد بن مسلمة قتل مرحباً.

قالوا: وبرز أسير، وكان رجلاً أيداً، وكان إلى القصر، فجعل يصيح؛ من يبارز؟ فبرز له محمد بن مسلمة فاختلفا ضربات، ثم قتله محمد ابن مسلمة. ثم برز ياسر وكان من أشدائهم، وكانت معه حربةٌ يحوش بها المسلمين حوشاً، فبرز له علي رضي الله عنه فقال الزبير: أقسمت عليك ألا خليت بيني وبينه. ففعل عليٌّ وأقبل ياسر بحربته يسوق بها الناس، فبرز له الزبير، فقالت صفية: يا رسول الله واحزني! ابني يقتل يا رسول الله! فقال: بل ابنك يقتله. قال: فاقتتلا فقتله الزبير، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: فداك عمٌّ وخال! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكل نبي حواري وحواري الزبير وابن عمتي. فلما قتل مرحب وياسر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشروا، قد ترحبت خيبر وتيسرت! وبرز عامر وكان رجلاً طويلاً جسيماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلع عامر: أترونه خمسة أذرع؟ وهو يدعو إلى البراز، يخطر بسيفه وعليه درعان، مقنع في الحديد يصيح: من يبارز؟ فأحجم الناس عنه، فبرز إليه عليٌّ رضي الله عنه فضربه ضرباتٍ، كل ذلك لا يصنع شيئاً، حتى ضرب ساقيه فبرك، ثم ذفف عليه فأخذ سلاحه.
فلما قتل الحارث، ومرحب، وأسير، وياسر، وعامر، مع ناسٍ من اليهود كثير - ولكن إنما سمي هؤلاء المذكورين لأنهم كانوا أهل شجاعة، وكان هؤلاء في حصن ناعم جميعاً. ولما رمي محمود بن مسلمة من حصن ناعم حمل إلى الرجيع فمكث ثلاثة أيام يموت، وكان الذي دلى عليه الرحا مرحب، فجعل محمود يقول لأخيه: يا أخي، بنات أخيك لا يتبعن الأفياء ؛ يسألن الناس. فيقول محمد بن مسلمة: لو لم تترك مالاً لكان لي مال. ومحمود كان أكثرهما مالاً - ولم ينزل يومئذٍ فرائض البنات - فلما كان اليوم الذي مات فيه محمود وهو اليوم الثالث، وهو اليوم الذي قتل فيه مرحب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجل يبشر محمود بن مسلمة أن الله قد أنزل فرائض البنات، وأن محمد بن مسلمة قد قتل قاتله؟ فخرج جعال بن سراقة إليه فأخبره فسر بذلك، وأمره أن يقرىء رسول الله صلى الله عليه وسلم السلام منه. قال: فاقرأته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال محمود. لا أراه يذكرني، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت في موضعه بالرجيع فمات خلافه، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزلة، وقد جرح عامر بن الأكوع نفسه، حمل إلى الرجيع فمات، فقبر عامر بن الأكوع معه في غار. فقال محمد: يا رسول الله اقطع لي عند قبر أخي. قال: لك حضر الفرس فإن عملت فلك حضر فرسين.

وكان حصن الصعب بن معاذ في النطاة، وكان حصن اليهود فيه الطعام والودك والماشية والمتاع، وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان الناس قد أقاموا أياماً يقاتلون وليس عندهم طعامٌ إلا العلف . قال معتب الأسلمي: أصابنا معشر أسلم خصاصةٌ حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن يرسلوا أسماء بن حارثة فقالوا: ايت محمداً رسول الله فقل: إن أسلم يقرئونك السلام ويقولون إنا قد جهدنا من الجوع والضعف. فقال بريدة بن الحصيب: والله إن رأيت كاليوم قط أمراً بين العرب يصنعون فيه هذا! فقال عند بن حارثة: والله إنا لنرجو أن تكون البعثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الخير. فجاءه أسماء بن حارثة فقال: يا رسول الله، إن أسلم تقول: إنا قد جهدنا من الجوع والضعف فادع الله لنا. فدعا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: والله ما بيدي ما أقريهم . ثم صاح بالناس فقال: اللهم افتح عليهم أعظم حصن فيه، أكثره طعاماً وأكثره ودكاً. ودفعوا باللواء إلى الحباب بن المنذر بن الجموح، وندب الناس، فما رجعنا حتى فتح الله علينا الحصن - حصن الصعب بن معاذ. فقالت أم مطاع الأسلمية، وكانت قد شهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء، قالت: لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شكوا من شدة الحال، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ، وإن عليه لخمسمائة مقاتل، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتحه الله، وكان عليه قتال شديد. برز رجلٌ من اليهود يقال له يوشع يدعو إلى البراز، فبرز إليه الحباب بن المنذر فاختلفا ضرباتٍ فقتله الحباب. وبرز آخر يقال له الزيال، فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري فبدره الغفاري فيضربه ضربةً على هامته، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاري! فقال الناس: بطل جهاده. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بأسٌ به، يؤجر ويحمد.
وكان أبو اليسر يحدث أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصناً منيعاً، وأقبلت غنمٌ لرجلٍ من اليهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من رجلٌ يطعمنا من هذه الغنم؟ فقلت: أنا يا رسول الله، فخرجت أسعى مثل الظبي، فلما نظر إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً قال: اللهم متعنا به! فأدركت الغنم وقد دخل أولها الحصن، فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو كأن ليس معي شيء حتى أتيت بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فذبحتا ثم قسمهما، فما بقي أحدٌ من أهل العسكر الذين هم معه محاصرين الحصن إلا أكل منها. فقيل لأبي اليسر: وكم كانوا؟ قال: كانوا عدداً كثيراً. فيقال: أين بقية الناس؟ فيقول: في الرجيع بالمعسكر. فسمع أبو اليسر - وهو شيخ كبير - وهو يبكي في شيءٍ غاظه من بغض ولده، فقال: لعمري بقيت بعد أصحابي ومتعوا بي وما أمتع بهم! لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم متعنا به! فبقي فكان من آخرهم.
وكان أبو رهم الغفاري يحدث قال: أصابنا جوعٌ شديدٌ، ونزلنا خيبر زمان البلح، وهي أرض وخيمة حارةٌ شديدٌ حرها. فبينا نحن محاصرون حصن الصعب بن معاذ فخرج عشرون حماراً منه أو ثلاثون، فلم يقدر اليهود على إدخالها، وكان حصنهم له منعةٌ، فأخذها المسلمون فانتحروها، وأوقدوا النيران وطبخوا لحومها في القدور والمسلمون جياع، ومر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم على تلك الحال فسأل فأخبر فأمر منادياً: إن رسول الله ينهاكم عن الحمر الإنسية - قال: فكفوا القدور - وعن متعة النساء، وعن كل ذي ناب ومخلب.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن الفضيل بن مبشر، قال: كان جابر بن عبد الله يقول: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحوم الخيل، فذبح قومٌ من المسلمين خيلاً من خيلهم قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ، فقيل لجابر: أرأيت البغال، أكنتم تأكلونها؟ قال: لا.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: ذبحنا بخيبر لبني مازن بن النجار فرسين، فكنا نأكل منهما قبل أن يفتح حصن الصعب بن معاذ.

وحدثني ثور بن يزيد، عن صالح بن يحيى بن المقدام، عن أبيه، عن جده قال: سمعت خالد بن الوليد يقول: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر يقول: حرامٌ أكل الحمر الأهلية والخيل والبغال. قالوا: وكل ذي نابٍ من السباع، ومخلب من الطير. قال الواقدي: الثبت عندنا أن خالداً لم يشهد خيبر، وأسلم قبل الفتح هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة أول يومٍ من صفر سنة ثمان.
وكان ابن الأكوع يقول: كنا على حصن الصعب بن معاذ، أسلم بأجمعها، والمسلمون قد حصروا أهل الحصن، فلقد رأيتنا وصاحب رايتنا سعد بن عبادة، فانكشف المسلمون، فأخذ الراية فغدونا معه. وغدا عامر ابن سنان فلقي رجلاً من اليهود، وبدره اليهودي فضرب عامراً، قال عامر: فاتقيته بدرقتي فنبا سيف اليهودي عنه. قال عامر: فأضرب رجل اليهودي فأقطعها، ورجع السيف على عامر فأصابه ذبابه فنزف فمات. فقال أسيد ابن حير: حبط عمله. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب من قال ذلك! إن له لأجرين، إنه جاهدٌ مجاهدٌ، وإنه ليعوم في الجنة عوم الدعموص .
حدثني خالد بن إلياس، عن جعفر بن محمود بن محمد، عن محمد ابن مسلمة قال: كنت فيمن ترس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلت أصيح بأصحابه: تراموا بالحجف! ففعلوا فرمونا حتى ظننت ألا يقلعوا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى بسهم، فما أخطأ رجلاً منهم،وتبسم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانفرجوا ودخلوا الحصن.

حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله، عن أبيه، قال: لما انتهينا إلى حصن الصعب بن معاذ، والمسلمون جياع والأطعمة فيه كلها، وغزا بنا الحباب ابن المنذر بن الجموح ومعه رايتنا وتبعه المسلمون، وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في يده حربةٌ له، وخرج وعاديته معه فرموا بالنبل ساعةً سراعاً، وترسنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمطروا علينا بالنبل، فكان نبلهم مثل الجراد حتى ظننت ألا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجلٍ واحدٍ، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف، قد نزل عن فرسه ومدعم يمسك فرسه. وثبت الحباب برايتنا، والله ما يزول، يراميهم على فرسه، وندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها. قال: فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر فانكشفوا سراعاً، ودخلوا الحصن وغلقوا عليهم، ووافوا على جدره - وله جدر دون جدر - فجعلوا يرموننا بالجندل رمياً كثيراً، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول. ثم إن اليهود تلاومت بينها وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم. فخرجوا مستميتين، ورجعنا إليهم فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجلٌ منهم بالسيف فأطن قحف رأسه؛ وعدي بن مرة بن سراقة، طعنه أحدهم بالحربة بين ثديه فمات؛ والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه. وقد قتلنا منهم على الحصن عدة، كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن. ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم، وهربوا في كل وجهٍ يركبون الحرة يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون، وصعد المسلمون على جدره فكبروا عليه تكبيراً كثيراً، ففتتنا أعضاد اليهود بالتكبير، لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أن هناك؛ من الشعير، والتمر، والسمن، والعسل، والزيت، والودك. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلوا واعلفوا ولا تحتملوا. يقول: لا تخرجوا به إلى بلادكم. فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مقامهم طعامهم وعلف دوابهم، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته ولا يخمس الطعام. ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي، السكر، فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها. وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: وجدنا فيه آنيةً من نحاسٍ وفخارٍ كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا. وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا. وأخرجنا منه غنماً كثيراً وبقراً وحمراً، وأخرجنا منه آلةً كثيرةً للحرب، ومنجنيقاً ودبابات وعدة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم.

فحدثني عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: لقد خرج من أطمٍ من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكماً محزومةً من غليظ متاع اليمن، وألفٌ وخمسمائة قطيفة؛ يقال: قدم كل رجل بقطيفةٍ على أهله، ووجدوا عشرة أحمال خشب، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق، فمكث أياماً يحترق، وخوابي سكرٍ كسرت، وزقاق خمر فأهريقت. وعمد يومئذٍ رجل من المسلمين فشرب من الخمر، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكره حين رفع إليه فخفقه بنعليه؛ ومن حضره، فخفقوه بنعالهم. وكان يقال له عبد الله الخمار، وكان رجلاً لا يصبر عن الشراب قد ضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم مراراً. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم العنه! ما أكثر ما يضرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل يا عمر، فإنه يحب الله ورسوله. قال: ثم راح عبد الله فجلس معهم كأنه أحدهم حدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة قالت: لقد وجدنا في حصن الصعب بن معاذ من الطعام ما كنت أظن أنه لا يكون بخيبر، جعل المسلمون يأكلون مقامهم شهراً وأكثر من ذلك الحصن، فيعلفون دوابهم، ما يمنع أحدهم ولم يكن فيه خمس، وأخرج من البزور شيءٌ كثيرٌ يباع في المقسم، ووجد فيه خرز من خرز اليهود. فقيل لها: فمن الذي يشتري ذلك في المقسم؟ قالت: المسلمون، واليهود الذين كانوا في الكتيبة فآمنوا، ومن حضر من الأعراب، فكل هؤلاء يشتري، فأما من يشتري من المسلمين فإنما يحاسب به مما يصيبه من المغنم.
قال الواقدي: وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، قال: لما نظر عيينة بن حصن إلى حصن الصعب بن معاذ والمسلمون ينقلون منه الطعام والعلف والبز قال: ما أحدٌ يعلف لنا دوابنا ويطعمنا من هذا الطعام الضائع، فقد كان أهله عليه كراماً! فشتمه المسلمون وقالوا: لك الذي جعل لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذو الرقيبة ، فاسكت! وبينما المسلمون يجولون في حصن الصعب بن معاذ، وله مداخل، فأخرجوا رجلاً من اليهود فضربوا عنقه فتعجبوا لسواد دمه، ويقول قائلهم: ما رأينا مثل سواد هذا الدم قط - قال: يقول متكلم: في رفٍّ من تلك الرفاف الثوم والثريد - وأنزل فقدموه فضربوا عنقه.
قال: وتحولت اليهود من حصن ناعم كلها، ومن حصن الصعب ابن معاذ، ومن كل حصون النطاة، إلى حصنٍ يقال له قلعة الزبير، فزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم والمسلمون، فحاصروهم وغلقوا عليهم حصنهم وهو حصين منيع، وإنما هو في رأس قلعة لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال لصعوبته وامتناعه، وبقيت بقايا لا ذكر لهم في بعض حصون النطاة، الرجل والرجلان. فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإزائهم رجالاً يحرسونهم، لا يطلع أحدٌ عليهم إلا قتلوه. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على محاصرة الذين في قلعة الزبير ثلاثة أيام، فجاء رجلٌ من اليهود يقال له غزال فقال: أبا القاسم، تؤمني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟ قال: فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله وماله. فقال اليهودي: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبولٌ تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون بها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، وإن قطعت مشربهم عليهم ضجوا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم لم يطيقوا المقام على العطش، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، وقتل من المسلمين يومئذٍ نفرٌ، وأصيب من اليهود ذلك اليوم عشرةٌ، وافتتحه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان آخر حصون النطاة. فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من النطاة أمر بالانتقال، والعسكر أن يحول من منزله بالرجيع إلى مكانه الأول بالمنزلة، وأمن رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيات ومن حرب اليهود وما يخاف منهم، لأن أهل النطاة كانوا أحد اليهود وأهل النجدة منهم. ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل الشق.

فحدثني موسى بن عمر الحارثي، عن أبي عفير محمد بن سهل بن أبي حثمة قال: لما تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشق، وبه حصونٌ ذات عدد، كان أول حصنٍ بدأ منها حصن أبي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على قلعةٍ يقال لها سمران ، فقاتل عليها أهل الحصن قتالاً شديداً. وخرج رجلٌ من اليهود يقال له غزال فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزال فكان أعزل، ورجع مبادراً منهزماً إلى الحصن، وتبعه الحباب فقطع عرقوبه، فوقع فذفف عليه. وخرج آخر فصاح: من يبارز؟ فبرز إليه رجلٌ من المسلمين من آل جحش فقتل الجحشي. وقام مكانه يدعو إلى البراز ويبرز له أبو دجانة قد عصب رأسه بعصابة حمراء فوق المغفر يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه فقطع رجليه، ثم ذفف عليه وأخذ سلبه، درعه وسيفه، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وأحجموا عن البراز، فكبر المسلمون ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه أثاثاً ومتاعاً وغنماً وطعاماً، وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر كأنهم الظباء حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق، وجعل يأتي من بقي من قلل النطاة إلى حصن النزار فعلقوه وامتنعوا فيه أشد الامتناع. وزحف رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم في أصحابه فقاتلوهم، فكانوا أشد أهل الشق قتالاً، رموا المسلمين بالنبل والحجارة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم معهم، حتى أصابت النبل ثياب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلقت به، فأخذ النبل فجمعها ثم أخذ لهم كفاً من حصا فحصب به حصنهم، فرجف بهم ثم ساخ في الأرض.
قال إبراهيم بن جعفر: استوى بالأرض حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذاً . وكانت فيه صفية بنت حيي وابنة عمها. فكان عمير مولى آبى اللحم يقول: شهدت صفية أخرجت وابنة عمها وصبياتٌ من حصن النزار، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم حصن النزار بقيت حصونٌ في الشق، فهرب أهلها منها حتى انتهوا إلى أهل الكتيبة والوطيح وسلالم. وكان محمد بن مسلمة يقول: ونظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حصن النزار فقال: هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال؛ لما فتحنا هذا الحصن لم يكن بعده قتالٌ حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر.
فحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر قال، قلت لجعفر بن محمود: كيف صارت صفية في حصن النزار في الشق وحصن آل أبي الحقيق بسلالم، ولم يسب في حصون النطاة من النساء والذرية أحدٌ ولا بالشق، إلا في حصن النزار، فإنه قد كان فيه ذرية ونساء؟ فقال: إن يهود خيبر أخرجوا النساء والذرية إلى الكتيبة وفرغوا حصن النطاة للمقاتلة فلم يسب أحدٌ منهم إلا من كان في حصن النزار، صفية وابنة عمها ونسيات معها. وكان كنانة قد رأى أن حصن النزار أحصن ما هنالك، فأخرجها في الليلة التي تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم في صبيحتها إلى الشق حتى أسرت وبنت عمها ومن كان معهما من ذراري اليهود، وبالكتيبة من اليهود ومن نسائهم وذراريهم أكثر من ألفين؛ فلما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الكتيبة أمن الرجال والذرية، ودفعوا إليه الأموال، والبيضاء والصفراء، والحلقة، والثياب، إلا ثوباً على إنسان. فلقد كان من اليهود حين أمنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلون ويدبرون، ويبيعون ويشترون، لقد أنفقوا عامة المغنم مما يشترون من الثياب من الثياب والمتاع، وكانوا قد غيبوا نقودهم وعين مالهم.

قالوا: ثم تحول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة والوطيح وسلالم، حصن ابن أبي الحقيق الذي كانوا فيه، فتحصنوا أشد التحصن، وجاءهم كل فل كان قد انهزم من النطاة والشق، فتحصنوا معهم في القموص وهو في الكتيبة، وكان حصناً منيعاً، وفي الوطيح وسلالم. وجعلوا لا يطلعون من حصونهم مغلقين عليهم، حتى هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصب المنجنيق عليهم لما رأى من تغليقهم، وأنه لا يبرز منهم بارز. فلما أيقنوا بالهلكة وقد حصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوماً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح. قال أبو عبد الله، قلت لإبراهيم بن جعفر: وجد في الكتيبة خمسمائة قوس عربية. وقال: أخبرني أبي عمن رأى كنانة بن أبي الحقيق يرمي بثلاثة أسهم في ثلثمائة - يعني ذراع - فيدخلها في هدف شبراً في شبر، فما هو إلا أن قيل: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أقبل من الشق في أصحابه، وقد تهيأ أهل القموص وقاموا على باب الحصن بالنبل، فنهض كنانة إلى قوسه فما قدر أن يوترها من الرعدة، وأومأ إلى أهل الحصون: لا ترموا! وانقمع في حصنه، فما رئي منهم أحدٌ، حتى أجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب. فأرسل كنانة رجلاً من اليهود يقال له شماخ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أنزل إليك أكلمك! فلما نزل شماخ أخذه المسلمون فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره برسالة كنانة. فأنعم له، فنزل كنانة في نفر من اليهود، فصالحه على ما صالحه، فأحلفه على ما أحلفه عليه. قال إبراهيم: تلك القسي والسلاح إنما كان لآل أبي الحقيق جماعة يعيرونه العرب، والحلي يعيرونه العرب. ثم يقول: كانوا شر يهود يثرب.

قالوا: وأرسل كنانة بن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم. قال: فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، وترك الذرية لهم، ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم، ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مالٍ أو أرضٍ، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة، وعلى البز، إلا ثوباً على ظهر إنسان. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئاً. فصالحه على ذلك، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأموال فقبضها، الأول فالأول، وبعث إلى المتاع والحلقة فقبضها، فوجد من الدروع مائة درع، ومن السيوف أربعمائة سيف، وألف رمح، وخمسمائة قوس عربية بجعابها. فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانة بن أبي الحقيق عن كنز آل أبي الحقيق وحليٍ من حليهم، كان يكون في مسك الجمل، كان أسراهم يعرف به، وكان العرس يكون بمكة فيقدم عليهم، فيستعار ذلك الحلي الشهر فيكون فيهم، وكان ذلك الحلي يكون عند الأكابر فالأكابر من آل أبي الحقيق. فقال: يا أبا القاسم، أنفقناه في حربنا فلم يبق منه شيء، وكنا نرفعه لمثل هذا اليوم، فلم تبق الحرب واستنصار الرجال من ذلك شيئاً. وحلفا على ذلك فوكدا الأيمان واجتهدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما : برئت منكما ذمة الله وذمة رسوله إن كان عندكما! قالا: نعم. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكل ما أخذت من أموالكما وأصبت من دمائكما فهو حلٌّ لي ولا ذمة لكما! قالا: نعم. وأشهد عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، وعمر، وعلياً، والزبير رضوان الله عليهم وعشرةً من اليهود. فقام رجلٌ من اليهود إلى كنانة بن أبي الحقيق فقال: إن كان عندك ما يطلب منك محمدٌ أو تعلم علمه فأعلمه فإنك تأمن على دمك، وإلا فوالله ليظهرن عليه، قد اطلع على غير ذلك بما لم نعلمه. فزبره ابن أبي الحقيق فتنحى اليهودي فقعد. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق - وكان رجلاً ضعيفاً - عن كنزهما، فقال: ليس لي علم غير أني قد كنت أرى كنانة كل غداة يطوف بهذه الخربة - قال: وأشار إلى خربة - فإن كان شيءٌ دفنه فهو فيها. وكان كنانة بن أبي الحقيق لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم على النطاة أيقن بالهلكة - وكان أهل النطاة أخذهم الرعب - فذهب بمسك الجمل، فيه حليهم، فحفر له في خربةٍ ليلاً ولا يراه أحد، ثم سوى عليه التراب بالكتيبة، وهي الخربة التي رآه ثعلبة يدور بها كل غداة. فأرسل مع ثعلبة الزبير بن العوام ونفراً من المسلمين إلى تلك الخربة، فحفر حيث أراه ثعلبة فاستخرج منه ذلك الكنز. ويقال: إن الله عز وجل دل رسوله على ذلك الكنز. فلما أخرج الكنز أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير أن يعذب كنانة بن أبي الحقيق حتى يستخرج كل ما عنده. فعذبه الزبير حتى جاءه بزندٍ يقدحه في صدره، ثم أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى محمد بن مسلمة يقتله بأخيه، فقتله محمد بن مسلمة. وأمر بابن ابي الحقيق الآخر، فعذب ثم دفع إلى ولاة بشر بن البراء فقتل به، ويقال: ضرب عنقه. واستحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أموالهما وسبى ذراريهما.
فحدثني خالد بن الربيعة بن أبي هلال، عن هلال بن أسامة، عمن نظر إلى ما في مسك الجمل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتي به، فإذا جله أسورة الذهب، ودمالج الذهب، وخلاخل الذهب، وقرطة الذهب، ونظمٌ من جوهرٍ وزمردٍ، وخواتم ذهب، وفتخٌ بجزع ظفار مجزعٌ بالذهب. ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نظاماً من جوهرٍ فأعطاه بعض أهله، إما عائشة أو إحدى بناته، فانصرفت فلم تمكث إلا ساعةً من نهارٍ حتى فرقته في أهل الحاجة والأرامل، فاشترى أبو الشحم ذرةً منها. فلما أمسى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار إلى فراشه لم ينم، فغدا في السحر حتى أتى عائشة، ولم تكن ليلتها، أو بنته، فقال: ردي علي النظام فإنه ليس لي، ولا لك فيه حق. فخبرته كيف صنعت به، فحمد الله وانصرف.

وكانت صفية بنت حيي تقول: كان ذلك النظام لبنت كنانة. وكانت صفية تحت كنانة بن أبي الحقيق، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سباها قبل أن ينتهي إلى الكتيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أرسل بها مع بلال إلى رحله. فمر بها وبابنة عمها على القتلى، فصاحت ابنة عمها صياحاً شديداً، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع بلال فقال: أذهبت منك الرحمة؟ تمر بجارية حديثة السن على القتلى!، فقال بلال: يا رسول الله ما ظننت أنك تكره ذلك، وأحببت أن ترى مصارع قومها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنة عم صفية: ما هذا إلا شيطان. وكان دحية الكلبي قد نظر إلى صفية فسألها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال إنه وعده جاريةً من سبي خيبر، فأعطاه ابنة عمها.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن أبي حرملة، عن أخته أم عبد الله، عن ابنة أبي القين المزني، قالت: كنت آلف صفية من بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت تحدثني عن قومها وما كانت تسمع منهم قالت: خرجنا من المدينة حيث أجلانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقمنا بخيبر، فتزوجني كنانة بن أبي الحقيق فأعرس بي قبل قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأيام، وذبح جزراً ودعا باليهود، وحولني في حصنه بسلالم، فرأيت في النوم كأن قمراً أقبل من يثرب يسير حتى وقع في حجري. فذكرت ذلك لكنانة زوجي فلطم عيني فاخضرت، فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلت عليه فسألني فأخبرته. قالت: وجعلت اليهود ذراريها في الكتيبة، وجردوا حصن النطاة للمقاتلة، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وافتتح حصون النطاة، ودخل علي كنانة فقال: قد فرغ محمدٌ من النطاة، وليس ها هنا أحدٌ يقاتل، قد قتلت اليهود حيث قتل أهل النطاة وكذبتنا العرب. فحولني إلى حصن النزار بالشق، - قال: وهو أحصن مما عندنا - فخرج حتى أدخلني وابنة عمي ونسيات معنا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلينا قبل الكتيبة فسبيت في النزار قبل أن ينتهي النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكتيبة، فأرسل بي إلى رحله، ثم جاءنا حين أمسى فدعاني، فجئت وأنا مقنعة حيية، فجلست بين يديه فقال: إن أقمت على دينك لم أكرهك، وإن اخترت الله ورسوله فهو خيرٌ لك. قالت: أختار الله ورسوله والإسلام. فأعتقني رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجني وعل عتق مهري، فلما أراد أن يخرج إلى المدينة قال أصحابه: اليوم نعلم أزوجةٌ أم سريةٌ، فإن كانت امرأته فسيحجبها وإلا فهي سرية. فلما خرج أمر بستر فسترت به فعرف أنى زوجة، ثم قدم إلى البعير وقدم فخذه لأضع رجلي عليها، فأعظمت ذلك ووضعت فخذي على فخذه، ثم ركبت. وكنت ألقى من أزواجه، يفخرن علي يقلن: يا بنت اليهودي. وكنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يلطف بي ويكرمني، فدخل علي يوماً وأنا أبكي فقال: ما لك؟ فقلت: أزواجك يفخرن علي ويقلن: يا بنت اليهودي. قالت: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غضب ثم قال: إذا قالوا لك أو فاخروك فقولي: أبي هرون وعمي موسى

قالوا: وكان أبو شييم المزني - قد أسلم فحسن إسلامه - يحدث يقول: لما نفرنا أهلها بحيفاء مع عيينة - قدمنا عليهم وهم قارون هادئون لم يهجهم هائج - رجع بنا عيينة، فلما كان دون خيبر بمكانٍ يقال له الحطام عرسنا من الليل ففزعنا، فقال عيينة: أبشروا إني أرى الليلة في النوم أني أعطيت ذا الرقيبة - جبلاً بخيبر - قد والله قد أخذت برقبة محمد. قال: فلما قدمنا خيبر قدم عيينة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر وغنمه الله ما فيها، فقال عيينة: أعطني يا محمد مما غنمت من حلفائي فإني انصرفت عنك وعن قتالك وخذلت حلفائي ولم أكثر عليك، ورجعت عنك بأربعة آلاف مقاتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذبت، ولكن الصياح الذي سمعت أنفرك إلى أهلك. قال: أجزني يا محمد. قال: لك ذو الرقيبة. قال عيينة: وما ذو الرقيبة؟ قال: الجبل الذي رأيت في النوم أنك أخذته. فانصرف عيينة فجعل يتدسس إلى اليهود ويقول: ما رأيت كاليوم أمراً؛ والله ما كنت أرى أحداً يصيب محمداً غيركم. قلت: أهل الحصون والعدة والثروة، أعطيتم بأيديكم وأنتم في هذه الصحون المنيعة، وهذا الطعام الكثير ما يوجد له آكل، والماء الواتن. قالوا: قد أردنا الامتناع في قلعة الزبير ولكن الدبول قطعت عنا، وكان الحر، فلم يكن لنا بقاءٌ على العطش. قال: قد وليتم من حصون ناعم منهزمين حتى صرتم إلى حصن قلعة الزبير. وجعل يسأل عمن قتل منهم فيخبر، قال: قتل والله أهل الجد والجلد، لا نظام ليهود بالحجاز أبداً. ويسمع كلامه ثعلبة بن سلام بن أبي الحقيق، وكانوا يقولون إنه ضعيف العقل مختلط، فقال: عيينة، أنت غررتهم وخذلتهم وتركتهم وقتال محمد، وقبل ذلك ما صنعت ببني قريظة! فقال عيينة: إن محمداً كادنا في أهلنا، فنفرنا إليهم حيث سمعنا الصريخ ونحن نظن أن محمداً قد خالف إليهم، فلم نر شيئاً فكررنا إليكم لننصركم. قال ثعلبة: ومن بقي تنصره؟ قد قتل من قتل وبقي من بقي فصار عبداً لمحمد، وسبانا، وقبض الأموال! قال: يقول رجل من غطفان لعيينة: لا أنت نصرت حلفاءك فلم يعدوا عليك حلفنا! ولا أنت حيث وليت - كنت أخذت تمر خيبر من محمدٍ سنةً! والله إني لأرى أمر محمدٍ أمراً ظاهراً، ليظهرن على من ناوأه. فانصرف عيينة إلى أهله يفتل يديه، فلما رجع إلى أهله جاءه الحارث بن عوف، قال: ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء؟ والله ليظهرن محمدٌ على من بين المشرق والمغرب، اليهود كانوا يخبروننا هذا. أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمداً على النبوة حيث خرجت من بني هرون، وهو نبي مرسل واليهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان، واحد بيثرب وآخر بخيبر. قال الحارث، قلت لسلام: يملك الأرض جميعاً؟ قال: نعم والتوراة التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم اليهود بقولي فيه!

قالوا: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر واطمأن جعلت زينب بنت الحارث تسأل: أي الشاة أحب إلى محمد؟ فيقولون: الذراع والكتف. فعمدت إلى عنزٍ لها فذبحتها، ثم عمدت إلى سمٍّ لابطى ، قد شاورت اليهود في سموم فأجمعوا لها على هذا السم بعينه، فسمت الشاة وأكثرت في الذراعين والكتفين. فلما غابت الشمس صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب وانصرف إلى منزله، ويجد زينب جالسةً عند رحله فيسأل عنها فقالت: أبا القاسم، هدية أهديتها لك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدية فقبضت منها ووضعت بين يديه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهم حضور، أو من حضر منهم: ادنوا فتعشوا! فدنوا فمدوا أيديهم، وتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذراع، وتناول بشر بن البراء عظماً، وأنهش رسول الله صلى الله عليه وسلم نهشاً وانتهش بشر، فلما ازدرد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكلته ازدرد بشر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أنها مسمومة. فقال بشر بن البراء: قد والله يا رسول الله وجدت ذلك من أكلتي التي أكلتها، فما منعني أن ألفظها إلا كراهية أنغص إليك طعامك، فلما تسوغت ما في يدك لم أرغب بنفسي عن نفسك، ورجوت ألا تكون ازدردتها وفيها نعى . لم يرم بشرٌ من مكانه حتى عاد لونه كالطيلسان، وماطله وجعه سنةً لا يتحول إلا ما حول، ثم مات منه. ويقال لم يقم من مكانه حتى مات، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين. ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب فقال: سممت الذراع؟ فقالت: من أخبرك؟ قال: الذراع: قالت: نعم. قال: وما حملك على ذلك؟ قالت: قتلت أبي وعمي وزوجي، ونلت من قومي ما نلت، فقلت: إن كان نبياً فستخبره الشاة ما صنعت، وإن كان ملكاً استرحنا منه. فاختلف علينا فيها، فقال قائلٌ رواية: أمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلت ثم صلبت. وقال قائلٌ رواية: عفا عنها. وكان نفرٌ ثلاثةٌ قد وضعوا أيديهم في الطعام ولم يسيغوا منه شيئاً. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فاحتجموا أوساط رءوسهم من الشاة، واحتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت كتفه اليسرى. ويقال: احتجم على كاهله، حجمه أبو هند بالقرن والشفرة.
وقالوا: وكانت أم بشر بن البراء تقول: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه وهو محموم فمسسته فقلت: ما وجدت مثل ما وعك عليك على أحد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كما يضاعف لنا الأجر كذلك يضاعف لنا البلاء؛ زعم الناس أن برسول الله ذات الجنب! ما كان الله ليسلطها علي، إنما هي همزةٌ من الشيطان، ولكنه من الأكلة التي أكلت أنا وابنك يوم خيبر. ما زال يصيبني منها عدادٌ حتى كان هذا أوان انقطاع أبهري . فمات رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً. ويقال: إن الذي مات في الشاة مبشر بن البراء. وبشر أثبت عندنا، وهو المجتمع عليه.
قال عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عن قول زينب ابنة الحارث قتلت أبي قال: قتل يوم خيبر أبوها الحارث وعمها يسار، وكان أخبر الناس، هو الذي أنزل من الشق، وكان الحارث أشجع اليهود، وأخوه زبير قتل يومئذٍ، فكان زوجها سيدهم وأشجعهم سلام بن مشكم، كان مريضاً وكان في حصون النطاة فقيل له: إنه لا قتال فيكم فكن في الكتيبة. قال: لا أفعل أبداً. فقتل وهو مريض، وهو أبو الحكم الذي يقول فيه الربيع بن أبي الحقيق:
ولما تداعوا بأسيافهم ... فكان الطعان دعونا سلاما
وكنا إذا ما دعونا به ... سقينا سراة العدو السماما
وهو كان صاحب حربهم ولكن الله شغله بالمرض.

قالوا: واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الغنائم يوم خيبر فروة بن عمرو البياضي، وكان قد جمع ما غنم المسلمون في حصون النطاة وحصون الشق وحصون الكتيبة، لم يترك على أحدٍ من أهل الكتيبة إلا ثوباً على ظهره من الرجال والنساء والصبيان، وجمعوا أثاثاً كثيراً وبزاً وقطائف وسلاحاً كثيراً، وغنماً وبقراً، وطعاماً وأدماً كثيراً. فأما الطعام والأدم والعلف فلم يخمس، يأخذ منه الناس حاجتهم، وكان من احتاج إلى سلاحٍ يقاتل به أخذه من صاحب المغنم، حتى فتح الله عليهم فرد ذلك المغنم. فلما اجتمع ذلك كله أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزىء خمسة أجزاء، وكتب في سهمٍ منها لله وسائر السهمان أغفال. فكان أول ما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم لم يتخير في الأخماس، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيع الأربعة الأخماس فيمن يريد، فجعل فروة يبيعها فيمن يريد، فدعا فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالبركة وقال: اللهم ألق عليها النفاق! قال فروة بن عمرو: فلقد رأيت الناس يتداركون علي ويتواثبون حتى نفق في يومين، ولقد كنت أرى أنا لا نتخلص منه حيناً لكثرته. وكان الخمس الذي صار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من المغنم يعطى منه على ما أراد الله من السلاح والكسوة، فأعطى منه أهل بيته من الثياب والخرز والأثاث، وأعطى رجالاً من بني عبد المطلب ونساءً، وأعطى اليتيم والسائل. وجمعت يومئذٍ مصاحف فيها التوراة من المغنم، فجاءت اليهود تطلبها وتكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن ترد عليهم. ونادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدوا الخيط والمخيط، فإن الغلول عارٌ وشنارٌ ونارٌ يوم القيامة. فباع يومئذٍ فروة المتاع، فأخذ عصابةً فعصب بها رأسه ليستظل بها من الشمس، ثم رجع إلى منزله وهي عليه فذكر فخرج فطرحها. وأخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: عصابةٌ من نارٍ عصبت بها رأسك. وسأل رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ من الفيء شيئاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يحل لي من الفيء خيطٌ ولا مخيطٌ، لا آخذ ولا أعطي. فسأله رجلٌ عقالاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى نقسم الغنائم ثم أعطيك عقالاً، وإن شئت مراراً . وكاىن رجلٌ أسود مع النبي صلى الله عليه وسلم يمسك دابته عند القتال يقال له كركرة، فقتل يومئذ، فقيل: يا رسول الله استشهد كركرة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه الآن ليحرق في النار على شملة غلها. فقال رجلٌ من القوم: يا رسول الله، أخذت شراكين يومئذٍ كذا وكذا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شراكان من نار. وتوفي يومئذٍ رجل من أشجع، وإنهم ذكروه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم. فتغيرت وجوه الناس لذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن صاحبكم غل في سبيل الله. قال زيد بن خالد الجهني: ففتشنا متاعه فوجدنا خرزاً من خرز اليهود لا يسوى درهمين. وكان نفرٌ من المسلمين أصابوا خرزاً من خرز اليهود وكانوا رفقاء؛ فقال المحدث لهذا الحديث: لو كان الخرز عندكم اليوم لم يسو درهمين. فأتي بذلك الخرز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما فرغ من المقسم، فقالوا: يا رسول الله، نسينا! هذا الخرز عندنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلكم يحلف بالله أنه نسيه؟ قالوا: نعم. فحلفوا بالله جميعاً أنهم نسوه، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسرير الموتى فسجن عليهم بالربطان، ثم صلى عليهم صلاة الموتى. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد الغلول في رحل الرجل فلا يعاقبه، ولم يسمع أنه أحرق رحل أحدٍ وجد في رحله، ولكنه يعنف ويؤنب ويؤذي ويعرف الناس به.
قالوا: واشترى يوم خيبر تبراً بذهبٍ جزافاً، فلهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان فضالة بن عبيد يحدث يقول: اصبت يومئذٍ قلادةً فبعتها بثمانية دنانير، فذكرت ذلك لرسول الله صلى اللهعليه وسلم، فقال: بع الذهب وزناً بوزنٍ. وكان في القلادة ذهبٌ وغيره فرجعت فيها. واشترى السعدان تبراً بذهب أحدهما أكثر وزناً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أربيتما فردا! ووجد رجلٌ يومئذٍ في خربةٍ مائتي درهم، فأخذ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم الخمس ودفعها إليه.

وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماءه زرع غيره، ولا يبع شيئاً من المغنم حتى يعلم، ولا يركب دابةً من المغنم حتى إذا براها ردها، ولا يلبس ثوباً من المغنم حتى إذا أخلقه رده، ولا يأت من السبي حتى تستبرىء وتحيض حيضة، وإن كانت حبلى حتى تضع حملها. ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ على امرأةٍ مجح فقال: لمن هذه؟ فقيل: لفلان. قال: فلعله يطؤها؟ قالوا: نعم. قال: كيف بولدها يرثه وليس بابنه، أو يسترقه وهو يعدو في سمعه وبصره؟ لقد هممت أن ألعنه لعنةً تتبعه في قبره.
قالوا: وقدم أهل السفينتين من عند النجاشي بعد أن فتحت خيبر، فلما نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر قال: ما أدري بأيهما أنا أسر، بقدوم جعفر أو فتح خيبر! ثم ضمه رسول الله وقبل بين عينيه.
وقدم الدوسيون فيهم أبو هريرة والطفيل بن عمرو وأصحابهم ونفرٌ من الأشجعيين، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فيهم أن يشركوهم في الغنيمة. قالوا: نعم يا رسول الله. ونظر أبان بن سعيد بن العاص إلى أبي هريرة فقال: أما أنت فلا. فقال أبو هريرة: يا رسول الله، هذا قاتل ابن قوقل. قال أبان بن سعيد: يا عجباه لوبرٍ تدلى علينا من قدوم ضأنٍ ! ينعى علي قتل امرىءٍ مسلم أكرمه الله على يدي ولم يهنى على يده.
قالوا: وكان الخمس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مغنم غنمه المسلمون، شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غاب عنه. وكان لا يقسم لغائبٍ في مغنمٍ لم يشهده، إلا أنه في بدرٍ ضرب لثمانية لم يشهدوا، كلهم مستحقٌّ فيها. وكانت خيبر لأهل الحديبية، من شهدها منهم أو غاب عنها قال الله عز وجل: " وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجل لكم هذه " يعني خيبر. وقد تخلف عنها رجال: مري بن سنان، وأيمن بن عبيد، وسباع بن عرفطة الغفاري، خلفه على المدينة، وجابر بن عبد الله وغيرهم. ومات منهم رجلان، فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن تخلف منهم ومن مات، وأسهم لمن شهد خيبر من الناس ممن لم يشهد الحديبية. وأسهم لرسلٍ كانوا يختلفون إلى أهل فدك، محيصة بن مسعود الحارثي وغيره، فأسهم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يحضروا. وأسهم لثلاثة مرضى لم يحضروا القتال: سويد بن النعمان، وعبد الله بن سعد بن خيثمة، ورجل من بني خطامة، وأسهم للقتلى الذين قتلوا من المسلمين.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي صعصعة ذلك. وقد قال قائل: إنما كانت خيبر لأهل الحديبية، لم يشهدها غيرهم ولم يسهم فيها لغيرهم. والقول الأول أثبت عندنا أن قوماً شهدوا خيبر فأسهم لهم ولم يكونوا شهدوا الحديبية.
حدثني ابن أبي سبرة، عن قطير الحارثي، عن حزام بن سعد بن محيصة قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة من يهود المدينة غزا بهم إلى خيبر، فأسهم لهم كسهمان المسلمين. ويقال: أحذاهم ولم يسهم لهم، وكان معهم مملوكون، منهم عمير مولى آبي اللحم. قال عمير: ولم يسهم لي وأعطاني خرثى متاع، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم محذيهم . وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة عشرون امرأة: أم سلمة زوجته، وصفية بنت عبد المطلب، وأم أيمن، وسلمى امرأة أبي رافع مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وامرأة عاصم بن عدي ولدت سهلة بنت عاصم بخيبر، وأم عمارة نسيبة بنت كعب، وأم منيع وهي أم شباث، وكعيبة بنت سعد الأسلمية، وأم متاع الأسلمية، وأم سليم بنت ملحان، وأم الضحاك بنت مسعود الحارثية، وهند بنت عمرو ابن حزام، وأم العلاء الأنصارية، وأم عامر الأشهلية، وأم عطية الأنصارية، وأم سليط.

وحدثني ابن أبي سبرة، عن سليمان بن سحيم، عن أم علي بنت الحكم، عن أمية بنت قيس بن أبي الصلت الغفارية، قالت: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة من بني غفار فقلنا: إنا نريد يا رسول الله أن نخرج معك في وجهك هذا فنداوي الجرحى ونعين المسلمين بما استطعنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على بركة الله! قالت: فخرجنا معه وكنت جارية حديثة السن، فأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقيبة رحله، فنزل الصبح فأناخ وإذا أنا بالحقيبة عليها دمٌ مني؛ وكانت أول حيضة حضتها، فتقبضت إلى الناقة واستحييت. فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بي ورأى الدم قال: لعلك نفست! قلت: نعم قال: فأصلحي من نفسك، ثم خذي إناءً من ماءٍ، ثم اطرحي فيه ملحاً واغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ثم عودي. ففعلت، فلما فتح الله خيبر رضخ لنا من الفيء ولم يسهم، وأخذ هذه القلادة التي ترين في عنقي فأعطانيها وعلقها بيده في عنقي، فوالله لا تفارقني أبداً. وكانت في عنقها حتى ماتت وأوصت أن تدفن معها، وكانت لا تطهر إلا وجعلت في طهورها ملحاً، وأوصت أن يجعل في غسلها ملحٌ حين غسلت.
حدثني عبد السلام بن موسى بن جبير، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن أنيس، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ومعي زوجي حبلى، فنفست بالطريق فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: انقع لها تمراً فإذا أنعم بله فامرثه ثم تشربه. ففعلت فما رأت شيئاً تكرهه. فلما فتحنا خيبر أحذى النساء ولم يسهم لهن، فأحذى زوجتي وولدي الذي ولد. قال عبد السلام: لست أدري غلام أم جارية.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله، عن عمر بن الحكم، عن أم العلاء الأنصارية قالت: فأصابني ثلاث خرزات، وكذلك أصاب صواحبي، وأتي يومئذٍ برعاث من ذهب، فقال: هذا لبنات أخي سعد بن زرارة، فقدم بها عليهن فرأيت ذلك الرعاث عليهن، وذلك من خمسه يوم خيبر.
حدثني عبد الله بن أبي يحيى، عن ثبيتة بنت حنظلة الأسلمية، عن أمها أم سنان قالت: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج جئته فقلت: يا رسول الله، أخرج معك في وجهك هذا، أخرز السقاء، وأداوي المرضى والجريح إن كانت جراح - ولا يكون - وأنظر الرحل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرجي على بركة الله فإن لك صواحب قد كلمنني وأذنت لهن من قومك ومن غيرهم، فإن شئت فمع قومك وإن شئت فمعنا. قلت: معك! قال: فكوني مع أم سلمة زوجتي. قالت: فكنت معها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغدو من الرجيع كل يومٍ عليه الدرع، فإذا أمسى رجع إلينا، فمكث على ذلك سبعة أيام حتى فتح الله النطاة، فلما فتحها تحول إلى الشق وحولنا إلى المنزلة، فلما فتح خيبر رضخ لنا من الفيء، فأعطاني خرزاً وأوضاحاً من فضة أصيبت في المغنم، وأعطاني قطيفةً فدكية، وبرداً يمانياً، وخمائل ، وقدراً من صفر . وكان رجالٌ من أصحابه قد جرحوا فكنت أداويهم بدواءٍ كان عند أهلي فيبرأون، فرجعت مع أم سلمة فقالت لي حين أردنا ندخل المدينة، وكنت على بعيرٍ من إبل النبي صلى الله عليه وسلم منحه لي، فقالت: بعيرك الذي تحتك لك رقبته أعطاكيه رسول الله. قالت: فحمدت الله وقدمت بالبعير فبعته بسبعة دنانير. قالت: فجعل الله في وجهي ذلك خيراً.
قالوا: فأسهم للنساء، وأسهم لسهلة بنت عاصم، ولدت بخيبر، وولد لعبد الله بن أنيس بخيبر، فأسهم للنساء والصبيان. ويقالك رضخ للنساء والصبيان ولم يجعلهم كأهل الجهاد.

وحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، قال: رأيت في رقبة أم عمارة خرزاً حمراً فسألتها عن الخرز فقالت: أصاب المسلمون خرزاً في حصن الصعب بن معاذ دفن في الأرض، فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به بمن معه من النساء فأحصين، فكنا عشرين امرأة، فقسم ذلك الخرز بيننا هذا وأرضخ لنا من الفيء، قطيفةً وبرداً يمانياً ودينارين، وكذلك أعطى صواحبي. قلت: فكم كانت سهمان الرجال؟ قالت: ابتاع زوجي غزية بن عمرو متاعاً بأحد عشر ديناراً ونصف، فلم يطالب بشيءٍ، فظننا أن هذه سهمان الفرسان - وكان فارساً - وباع ثلاثة أسهم في الشق زمن عثمان بثلاثين ديناراً. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاد في خيبر ثلاثة أفراس، لزاز والظرب والسكب ؛ وكان الزبير بن العوام قد قاد أفراساً، وكان خراش بن الصمة قد قاد فرسين، وكان البراء ابن أوس بن خالد بن الجعد بن عوف - أبو إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم أرضعه - قد قاد فرسين؛ وكان أبو عمرو الأنصاري قد قاد فرسين. قال: فأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لكل من كان له فرسان خمسة أسهم، اربعة لفرسيه وسهماً له، وما كان أكثر من فرسين لم يسهم له. ويقال إنه لم يسهم إلا لفرسٍ واحد، واثبت ذلك أنه أسهم لفرسٍ واحد. ويقال: إنه عرب العربي يوم خيبر وهجن الهجين؛ فأسهم للعربي وألقى الهجين. وقال بعضهم: لم يكن الهجين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كانت العراب حتى كان زمن عمر بن الخطاب وفتح العراق والشام، ولم يسمع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لمن كان معه من الخيل لنفسه إلا لفرسٍ واحد، هو معروف، سهم الفرس. وسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة ثلاثة أسهم، لفرسه سهمان وله سهم، كان مع عاصم بن عدي.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: خرج سويد بن النعمان على فرس، فلما نظر إلى بيوت خيبر في الليل وقع به الفرس، فعطب الفرس وكسرت يد سويد، فلم يخرج من منزله حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، فأسهم له رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم فارس.

قالوا: وكانت الخيل مائتي فرس. ويقال: ثلاثمائة، ومائتان أثبت عندنا. وكان الذي ولي إحصاء المسلمين زيد بن ثابت، فقسم النبي صلى الله عليه وسلم بينهم الذين غنموا من المتاع الذي بيع، ثم أحصاهم ألفاً وأربعمائة، والخيل مائتي فرس. فكانت السهمان على ثمانية عشر سهماً، وهم الذين ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسهمان، ولخيلهم أربع عشرة مائة، والخيل مائتي فارس لها أربعمائة سهم. فكانت سهمان المسلمين التي أسهمها رسول الله صلى الله عليه وسلم في النطاة أو في الشق ثلاثة أسهمٍ فوضى لم تعرف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحد ولم تقسم، إنما لها رؤساءٌ مسمون، لكل مائةٍ رأسٌ يعرف يقسم على أصحابه ما خرج من غلتها، فكان رؤساؤهم في الشق والنطاة: عاصم بن عدي، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله رضوان الله عليهم. وسهم بني ساعدة، وسهم بني النجار لهم رأس، وسهم حارثة بن الحارث، وسهم أسلم وغفار، وسهم بني سلمة - وكانوا أكثر ورأسهم معاذ بن جبل - وسهم عبيدة رجل من اليهود، وسهم أوس، وسهم بني الزبير، وسهم أسيد بن حضير، وسهم بلحارث بن الخزرج، رأسه عبد الله بن رواحة، وسهم بياضة، رأسه فروة بن عمرو، وسهم ناعم. فهذه ثمانية عشر سهماً في الشق والنطاة فوضى يقبض رؤساءهم الغلة منه، ثم يفض عليهم، ويبيع الرجل سهمه فيجوز ذلك. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى من رجلٍ من بني غفار سهمه بخيبر ببعيرين ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعلم أن الذي آخذ منك خير من الذي أعطيك، والذي أعطيك دون الذي أخذ منك، وإن شئت فخذ وإن شئت فأمسك! فأخذ الغفاري. وكان عمر بن الخطاب يشتري من رسول الله صلى الله عليه وسلم في سهم، وأخذ من أصحابه وهم مائة، وهو سهم أوس كان يسمى سهم اللفيف حتى صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابتاع محمد بن مسلمة من سهم أسلم سهماناً، ويقال: إن أسلم كانوا بضعة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين فكانوا مائة، ويقال: كانت أسلم مائة وسبعين، وغفار بضعة وعشرين، وهذا مائتا سهم، والقول الأول أثبت عندنا.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح خيبر سأله اليهود فقالوا: يا محمد، نحن أرباب النخل وأهل المعرفة بها. فساقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر على شطرٍ من التمر والزرع، وكان يزرع تحت النخل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقركم على ما أقركم الله. فكانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي، وأبي بكر، وصدرٍ من خلافة عمر، وكان يبعث عبد الله بن رواحة يخرص عليهم النخل، فكان يخرصها فإذا خرص قال: إن شئتم فلكم وتضمنون نصف ما خرصت، وإن شئتم فلنا ونضمن لكم ما خرصت. وإنه خرص عليهم أربعين ألف وسقٍ، فجمعوا له حلياً من حلي نسائهم فقالوا: هذا لك، وتجاوز في القسم. فقال: يا معشر اليهود، والله إنكم لمن أبغض خلق الله إلي، وما ذاك يحملني أن أحيف عليكم. قالوا: بهذا قامت السموات والأرض! فكان عبد الله بن رواحة يخرص عليهم، فلما قتل يوم مؤتة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا الهيثم بن التيهان يخرص عليهم، ويقال: جبار بن صخر، فكان يصنع بهم مثل ما كان يصنع عبد الله بن رواحة، ويقال: الذي خرص بعد ابن رواحة عليهم فروة بن عمرو. قالوا: وجعل المسلمون يقعون في حرثهم وبقلهم بعد المساقاة وبعد أن صار ليهود نصفه، فشكت اليهود ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، ويقال: عبد الرحمن بن عوف، فنادى: إن الصلاة جامعة، ولا يدخل الجنة إلا مسلم. فاجتمع الناس، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن اليهود شكوا إلي أنكم وقعتم في حظائرهم، وقد أمناهم على دمائهم وعلى أموالهم والذي في أيديهم من أراضيهم، وعاملناهم، وإنه لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها. وكان المسلمون لا يأخذون من بقولهم شيئاً إلا بثمن، فربما قال اليهودي للمسلم: أنا أعطيكه باطلاً ! فيأبى المسلم إلا بثمن.
قال ابن واقد: وقد اختلف علينا في الكتيبة، فقال قائل: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خالصةً ولم يوجف! عليها المسلمون، إنما كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وحدثني عبد الله بن نوح، عن ابن غفير، وموسى بن عمرو بن عبد الله ابن رافع، عن بشير بن يسار. وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، أنهم كانوا يقولون ذلك. وقال قائل: هي خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر، من الشق والنطاة. وحدثني قدامة بن موسى، عن ابي بكر بن محمد بن محمد بن عمرو بن حزام، قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز في خلافته أن افحص لي عن الكتيبة. قال أبو بكر: فسألت عمرة بنت عبد الرحمن فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صالح بني أبي الحقيق جزأ النطاة والشق والكتيبة خمسة أجزاء، وكانت الكتيبة جزءاً منها، ثم جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس بعراتٍ، وأعلم في بعرةٍ منها، فجعل لله، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اجعل سهمك في الكتيبة. فكان أول ما خرج منها الذي فيه مكتوبٌ على الكتيبة، فكانت الكتيبة خمس النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت السهمان أغفالاً ليس عليها علامات، وكانت فوضى للمسلمين على ثمانية عشر سهماً. قال أبو بكر: فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز بذلك.
وحدثني أبو بكر بن أبي سبرة، عن أبي مالك، عن حزام بن سعد بن محيصة، قال: لما خرج سهم النبي صلى الله عليه وسلم وكان الشق والنطاة أربعة الأخماس للمسلمين فوضى.
وحدثني عبد الله بن عون، عن أبي مالك الحميري، عن سعيد بن المسيب، وحدثني محمد ، عن الزهري، قال: الكتيبة خمس رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطعم من أطعم في الكتيبة وينفق على أهله منها. قال ابن واقد: والثبت عندنا أنها خمس النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطعم من الشق والنطاة أحداً وجعلها سهماناً للمسلمين، وكانت الكتيبة التي أطعم فيها. كانت الكتيبة تخرص ثمانية آلاف وسق تمر، فكان لليهود نصفها أربعة آلاف، وكان يزرع في الكتيبة شعير، فكان يحصد منها ثلاثة آلاف صاع، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم نصفه؛ ألف وخمسمائة صاع شعير، وكان يكون فيها نوى فربما اجتمع ألف صاع فيكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفه، فكل هذا قد أعطى منه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين من الشعير والتمر والنوى.
تسمية سهمان الكتيبةخمس رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وسلالم، والجاسمين، وسهما النساء، وسهما مقسم - وكان يهودياً - وسهما عوان، وسهم غريث، وسهم نعيم، وهو اثنا عشر سهماً.
ذكر طعم النبي في الكتيبة أزواجه وغيرهمأطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل امرأةٍ من نسائه ثمانين وسقاً تمراً وعشرين وسقاً شعيراً. وللعباس بن عبد المطلب مائتي وسق، ولفاطمة وعلي رضي الله عنهما من الشعير والتمر ثلاثمائة وسق، والشعير من ذلك خمسة وثمانين وسقاً، لفاطمة من ذلك مائتا وسق. ولأسامة بن زيد مائة وخمسون، منها أربعون شعيراً وخمسون وسقاً نوىً، ولأم رمثة بنت عمر بن هاشم بن المطلب خمسة أوساق شعير، وللمقداد بن عمرو خمسة عشر وسقاً شعيراً.
وحدثني موسى بن يعقوب، عن عمته، عن أمها، قالت: بعنا طعمة المقداد بن عمرو من خيبر خمسة عشر وسقاً شعيراً من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم.

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما أعطى محمد رسول الله لأبي بكر بن أبي قحافة مائة وسق. ولعقيل بن أبي طالب مائة وأربعين، ولبني جعفر بن أبي طالب خمسين وسقاً، ولربيعة بن الحارث مائة وسق، ولأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب مائة وسق، وللصلت بن مخرمة بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولأبي نبقة خمسين وسقاً، ولركانة بن عبد يزيد خمسين وسقاً، وللقاسم بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولمسطح بن أثاثة بن عباد وأخته هند ثلاثين وسقاً، ولصفية بنت عبد المطلب أربعين وسقاً، ولبحينة بنت الحارث بن المطلب ثلاثين وسقاً، ولضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أربعين وسقاً، وللحصين، وخديجة، وهند بن عبيدة بن الحارث مائة وسق، ولأم الحكم بنت الزبير بن عبد المطلب ثلاثين وسقاً، ولأم هانىء بنت أبي طالب أربعين وسقاً، ولجمانة بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولأم طالب بنت أبي طالب ثلاثين وسقاً، ولقيس بن مخرمة بن المطلب خمسين وسقاً، ولأبي أرقم خمسين وسقاً، ولعبد الرحمن ابن أبي بكر أربعين وسقاً، ولأبي بصرة أربعين وسقاً، ولابن أبي حبيش ثلاثين وسقاً، ولعبد الله بن وهب وابنيه خمسين وسقاً، لابنيه أربعين وسقاً، ولنميلة الكلبي من بني ليث خمسين وسقاً، ولأم حبيبة بنت جحش ثلاثين وسقاً، ولملكان بن عبدة ثلاثين وسقاً، ولمحيصة بن مسعود ثلاثين وسقاً، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم للرهاويين بطعمةٍ من خمس خيبر بجاد مائة وسق، وللداريين بجاد مائة وسق، وهم عشرة من الداريين قدموا من الشام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى لهم بطعمة مائة وسق: هانىء بن حبيب، والفاكه بن النعمان، وجبلة بن مالك، وأبو هند بن بر وأخوه الطيب بن بر، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله، وتميم بن أوس، ونعيم بن أوس، ويزيد بن قيس، وعزيز بن مالك، سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن، وأخوه مرة بن مالك، وأوصى للأشعريين بجاد مائة وسق.
أخبرنا عبد الوهاب بن أبي حية قال: حدثنا ابن الثلجي قال: حدثنا الواقدي قال: حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: لم يوص رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بثلاثة أشياء، للداريين بجاد مائة وسق، وللأشعريين بجاد مائة وسق، وللرهاويين بجاد مائة وسق، وأن ينفذ جيش أسامة بن زيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد له إلى مقتل أبيه، والا يترك بجزيرة العرب دينان.
قالوا: ثم استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في قسم خمس خيبر فأشار عليه أن يقسمه في بني هاشم وبني المطلب وبني عبد يغوث.
وحدثني معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: قال جبير ابن مطعم: لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بخيبر من بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخواننا من بني المطلب لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أفرأيت إخواننا من بني المطلب، إنما نحن وهم منك بمنزلةٍ واحدة، أعطيتهم وتركتنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بني المطلب لم يفارقوني في الجاهلية والإسلام؛ دخلوا معنا في الشعب، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ! وشبك رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه.

قالوا: وكان عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث يحدث قال: اجتمع العباس بن عبد المطلب وربيعة بن الحارث فقالا: لو بعثنا هذين الغلامين - لي وللفضل بن عباس - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات، فأديا ما يؤدى الناس، وأصابا ما يصيبون من المنفعة. فبعث بي والفضل فخرجنا حتى جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقناه، وانصرف إلينا من الظهر وقد وقفنا له عند حجرة زينب، فأخذ بمناكبهما فقال: أخرجا ما تسران ! فلما دخل دخلا عليه فكلماه فقالا: يا رسول الله جئناك لتؤمرنا على هذه الصدقات فنؤدى ما يؤدى الناس، ونصيب ما يصيبون من المنفعة. فسكت ورفع رأسه إلى سقف البيت ثم أقبل علينا فقال: إن الصدقة لا تحل لمحمدٍ ولا لآل محمد، إنما هي أوساخ الناس. ادع لي محمية بن جزء الزبيدي وأبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب. فقال لمحمية: زوج هذا ابنتك - للفضل . وقال لأبي سفيان: زوج هذا ابنتك - لعبد المطلب بن ربيعة بن الحارث. وقال لمحمية: أصدق عنهما مما عندك من الخمس! وكان يكون على الخمس. فكان ابن عباس يقول: قد دعانا عمر إلى أن ينكح فيه أيامانا ويخدم منه عائلنا، ويقضي منه غارمنا، فأبينا عليه إلا أن يسلمه كله، وابى ذلك علينا.
حدثني مصعب بن ثابت، عن يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير أن أبا بكر وعمر وعلياً رضي الله عنهم جعلوا هذين السهمين على اليتامى والمساكين. وقال بعضهم: في السلاح والعدة في سبيل الله. وكانت تلك الطعمة تؤخذ بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وفي خلافة أبي بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، رضي الله عنهم، حتى كان يحيى بن الحكم فزاد في الصاع سدس المد، فأعطى الناس بالصاع الذي زاد، ثم كان أبان ابن عثمان فزاد فيه فأعطاهم بذلك، وكان من مات من المطعمين أو قتل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر فإنه يرثه تلك الطعمة من ورث ماله. فلما ولي عمر بن الخطاب قبض طعمة كل من مات ولم يورثه، فقبض طعمة زيد بن حارثة، وقبض طعمة جعفر بن أبي طالب، وكلمه فيه علي بن أبي طالب فأبى؛ وقبض طعمة صفية بنت عبد المطلب، فكلمه الزبير في ذلك حتى غالظه فأبى عليه برده، فلما ألح عليه قال: أعطيك بعضه. قال الزبير: لا والله، لا تخلف تمرةً واحدةً تحبسها عني! فأبى عمر تسليمه كله إليه. قال الزبير: لا آخذه إلا جميعاً! فأبى عمر وأبى أن يرد على المهاجرين. وقبض طعمة فاطمة، فكلم فيها فأبى أن يفعل. وكان يجيز لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنعن، فماتت زينب بنت جحش في خلافته فخلى بين ورثتها وبين تلك الطعمة، وأجاز ما صنعن فيه من بيع أو هبة، وورث ذلك كل من ورثهن ولم يفعل بغيرهن. وأبى أن يجيز بيع من باع تلك الطعمة، وقال: هذا شيء لا يعرف، إذا مات المطعم بطل حقه فكيف يجوز بيعه؟ إلا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أجاز ما صنعن، فلما ولي عثمان كلم في تلك الطعمة فرد على أسامة ولم يرد على غيره. فكلمه الزبير في طعمة صفية أمه فأبى يرده وقال: أنا حاضرك حين تكلم عمر، وعمر يأبى عليك يقول خذ بعضه، فأنا أعطيك بعضه الذي عرض عليك عمر، أنا أعطيك الثلثين وأحتبس الثلث. فقال الزبير: لا والله، لا تمرة واحدة حتى تسلمه كله أو تحتبسه.
حدثني شعيب بن طلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: لما توفي أبو بكر رضي الله عنه كان ولده ورثته يأخذون طعمته من خيبر؛ مائة وسق في خلافة عمر وعثمان، ورثت امرأته أمر ومان بنت عامر بن عويمر الكنانية ، وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير، فلم يزل جارياً عليهن حتى كان زمن عبد المللك أو بعده فقطع.

قال أبو عبد الله: سألت إبراهيم بن جعفر عمن أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من خمس خيبر فقال: لا تسأل عنه أحداً أبداً أعلم مني؛ كان من أعطي منه طعمةً جرت عليه حتى يموت، ثم يرثه من ورثته، يبيعون ويطعمون ويهبون؛ كان هذا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان. قلت: ممن سمعت ذلك. قال: من أبي وغيره من قومي. قال أبو عبد الله: فذكرت لعبد الرحمن بن عبد العزيز هذا الحديث فقال: أخبرني من أثق به أن عمر كان يقبض تلك الطعمة إذا مات الميت في حياة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهن. ثم يقول: توفيت زينب بنت جحش في سنة عشرين في خلافة عمر فقبض طعمتها، فكلم فأبى أن يعطيها الورثة. قال: إنما كانت من النبي صلى الله عليه وسلم طعمةً ما كان المرء حياً، فإذا مات فلا حق لورثته. قال: فكان الأمر على ذلك في خلافة عمر حتى توفي، ثم ولي عثمان. وكان النبي صلى الله عليه وسلم أطعم زيد بن حارثة طعمةً من خيبر لم يكن له بها كتاب، فلما توفي زيد جعلها النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. قلت: فإن بعض من يروي يقول: كلم أسامة بن زيد عمر وعثمان في طعمة أبيه فأبى، قال: ما كان إلا كما أخبرتك. قال أبو عبد الله: هذا الأمر.
تسمية من استشهد بخيبر مع رسول اللهمن بني أمية من حلفائهم: ربيعة بن أكثم، قتل بالنطاة، قتله الحارث اليهودي؛ وثقف بن عمرو بن سميط، قتله أسير اليهودي؛ ورفاعة بن مسروح، قتله الحارث اليهودي. ومن بني أسد بن عبد العزى: عبد الله بن أبي أمية بن وهب حليفٌ لهم وهو ابن أختهم، قتل بالنطاة. ومن الأنصار محمود بن مسلمة دلى عليه مرحب رحىً من حصن ناعم بالنطاة. ومن بني عمرو بن عوف: أبو الضياح بن النعمان، شهد بدراً؛ والحارث بن حاطب قد شهد بدراً، وعدي بن مرة بن سراقة؛ وأوس بن حبيب، قتل على حصن ناعم؛ وأنيف بن وائلة ، قتل على حصن ناعم. ومن بني زريق: مسعود بن سعد، قتله مرحب. ومن بني سلمة: بشر بن البراء بن معرور، مات من الشاة المسمومة؛ وفضيل بن النعمان، وهو من العرب، من أسلم؛ وعامر بن الأكوع، أصاب نفسه على حصن ناعم فدفن هو ومحمود بن مسلمة في غارٍ واحدٍ بالرجيع. ومن بني غفار: عمارة بن عقبة بن عباد بن مليل، ويسار، العبد الأسود، ورجلٌ من أشجع؛ فجميع من استشهد خمسة عشر رجلاً. وقد اختلف في الصلاة عليهم فقال قائلٌ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم، وقال قائلٌ: لم يصل عليهم. وقتل من اليهود ثلاثة وتسعون رجلاً. وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبلة بن جوال الثعلبي كل داجن بخيبر، ويقال: أعطاه كل داجن في النطاة، ولم يعطه من الكتيبة ولا من الشق شيئاً.
ذكر ما قيل من الشعر في خيبرقال ناجية بن جندب الأسلمي:
يا عباد الله فيما نرغب ... ما هو إلا مأكلٌ مشرب
وجنةٌ فيها نعيمٌ معجب
وقال أيضاً:
أنا لمن أبصرني ابن جندب ... يا رب قرنٍ قد تركت أنكب
طاح عليه أنسرٌ وثعلب
أنشدني هذا عبد الملك بن وهب من ولد ناجية قال: مازلت أرويها لأبي وأنا غلام.
حدثنا عبد الرحمن بن عبد العزيز، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، أنه سئل عن الرهان التي كانت بين قريش حين سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فقال: كان حويطب بن عبد العزى يقول: انصرفت من صلح الحديبية وأنا مستيقن أن محمداً سيظهر على الخلق، وتأبى حمية الشيطان إلا لزوم ديني، فقدم علينا عباس بن مرداس السلمي فخبرنا أن محمداً سار إلى خيابر، وأن خيابر قد جمعت الجموع فمحمدٌ لا يفلت، إلى أن قال عباس: من شاء بايعته لا يفلت محمد. فقلت: أنا أخاطرك. فقال صفوان بن أمية: أنا معك يا عباس. وقال نوفل بن معاوية: أنا معك يا عباس. وضوى إلي نفرٌ من قريش، فتخاطرنا مائة بعير خماساً إلى مائة بعير، أقول أنا وحيزي يظهر محمد. ويقول عباس وحيزه: تظهر غطفان. فاضطرب الصوت، فقال أبو سفيان بن حرب: خشيت واللات حيز عباس بن مرداس، فغضب صفوان وقال: أدركتك المنافية! فأسكت أبو سفيان، وجاءه الخبر بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حويطب وحيزه الرهن.

قالوا: وكانت الأيمن تحلف عن خيبر؛ وكان أهل مكة حين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر قد تبايعوا بينهم، منهم من يقول: يظهر الحليفان أسد وغفار واليهود بخيبر، وذلك أن اليهود أوعبت في حلفاءها، فاستنصروهم وجعلوا لهم تمر خيبر سنة، فكانت بينهم في ذلك بيوعٌ عظامٌ.

وكان الحجاج بن علاط السلمي ثم البهزي قد خرج يغير في بعض غاراته، فذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر فأسلم وحضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، وكانت أم شيبة بنت عمير بن هاشم أخت مصعب العبدي امرأته، وكان الحجاج مكثراً، له مال كثير، معادن الذهب التي بأرض بني سليم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي حتى أذهب فآخذ ما لي عند امرأتي، فإن علمت بإسلامي لم آخذ منه شيئاً، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: لابد لي يا رسول الله من أن أقول. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما شاء. قال الحجاج: فخرجت فلما انتهيت إلى الحرم هبطت فوجدتهم بالثنية البيضاء، وإذا بهم رجالٌ من قريش يتسمعون الأخبار، قد بلغهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سار إلى خيبر، وعرفوا أنها قرية الحجاز ريفاً ومنعة ورجالاً وسلاحاً، فهم يتحسبون الأخبار مع ما كان بينهم من الرهان، فلما رأوني قالوا: الحجاج ابن علاط عنده والله الخبر! يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع قد سار إلى خيبر بلد اليهود وريف الحجاز. فقلت: بلغني أنه قد سار إليها وعندي من الخبر ما يسركم. فالتبطوا بجانبي راحلتي يقولون: يا حجاج أخبرنا. فقلت: لم يلق محمدٌ وأصحابه قوماً يحسنون القتال غير أهل خيبر. كانوا قد ساروا في العرب يجمعون له الجموع وجمعوا له عشرة آلاف، فهزم هزيمة لم يسمع قط بمثلها، وأسر محممد أسراً، فقالوا: لن نقتله حتى نبعث به إلى أهل مكة فنقتله بين أظهرهم بمن قتل منا ومنهم! ولهذا فإنهم يرجعون إليكم يطلبون الأمان في عشائرهم ويرجعون إلى ما كانوا عليه، فلا تقبلوا منهم وقد صنعوا بكم ما صنعوا. قال: فصاحوا بمكة وقالوا: قد جاءكم الخبر، هذا محمد إنما ينتظر أن يقدم به عليكم. وقلت: أعينوني على جمع مالي على غرمائي فأنا أريد أن أقدم فأصيب من محمد وأصحابه قبل أن تسبقني التجار إلى ما هناك. فقاموا فجمعوا إلي مالي كأحث جمعٍ سمعت به، وجئت صاحبتي وكان لي عندها مال فقلت لها: مالي، لعلي ألحق بخيبر فأصيب من البيع قبل أن يسبقني التجار إلى من انكسر هناك من المسلمين . وسمع ذلك العباس فقام، فانخذل ظهره فلم يستطع القيام، فأشفق أن يدخل داره فيؤذى، وعلم أن سيؤذى عند ذلك، فأمر بباب داره يفتح وهو مستلق، فدعا بابنه قثم وكان يشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يرتجز ويرفع صوته ألا يشمت به الأعداء. وحضر باب العباس بين مغيظ محزون، وبين شامت، وبين مسلم ومسلمة، مقهورين بظهور الكفر والبغي، فلما رأى المسلمون العباس طيبةً نفسه طابت أنفسهم واشتدت منتهم ، ودعا غلاماً له يقال له أبو زبينة فقال له: اذهب إلى الحجاج فقل، يقول العباس: الله أعلى وأجل من أن يكون الذي تخبر حقاً. فجاءه فقال الحجاج: قل لأبي الفضل: أحلني في بعض بيوتك حتى آتيك ظهراً ببعض ما تحب، فاكتم عني. فأقبل أبو زبينة يبشر العباس أبشر بالذي يسرك فكأنه لم يمسه شيءٌ، ودخل عليه أبو زبينة فاعتنقه العباس وأعتقه وأخبره بالذي قال، فقال العباس: لله علي عتق عشر رقاب! فلما كان ظهراً جاءه الحجاج فناشده الله: لتكتمن علي ثلاثة أيام. فواثقه العباس على ذلك، قال: فإني قد أسلمت ولي مال عند امرأتي ودين على الناس، ولو علموا بإسلامي لم يدفعوا إلي؛ تركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتح خيبر، وجرت سهام الله ورسوله فيها وانتثل ما فيها، وتركته عروساً بابنة حيي بن أخطب، وقتل ابن أبي الحقيق. قال: فلما أمسى الحجاج من يومه خرج، وطال على العباس تلك الليالي، ويقال: إنما استنظر العباس يوماً وليلة، وجعل العباس يقول: يا حجاج، انظر ما تقول فإني عارف بخيبر؛ هي ريف الحجاز أجمع، وأهل المنعة والعدة في الرجال. أحقاً ما تقول؟ قال: إي والله، فاكتم عني يوماً وليلة. حتى إذا مضى الأجل والناس يموجون في شأن ما تبايعوا عليه، عمد العباس إلى حلةٍ فلبسها، وتخلق الخلوق وأخذ في يده قضيباً، ثم أقبل يخطر حتى وقف على باب الحجاج بن علاط، فقرعه فقالت زوجته: لا تدخل، أبا الفضل! قال: فأين الحجاج. قالت: انطلق إلى غنائم محمد ليشتري منها التي أصابت اليهود منهم قبل أن تسبقه التجار إليها. فقال لها العباس: فإن الرجل ليس لك بزوجٍ إلا أن تتبعي دينه؛ إنه قد أسلم وحضر الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما ذهب بماله

هارباً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.ً منك ومن أهلك أن يأخذوه. قالت: أحقاً يا أبا الفضل؟ قال: إي والله! قالت: والثواقب إنك لصادق. ثم قامت تخبر أهلها، وانصرف العباس إلى المسجد وقريش يتحدثون بما كان من حديث الحجاج، فلما نظروا إليه وإلى حاله تغامزوا وعجبوا من تجلده، ثم دخل في الطواف بالبيت، فقالوا: يا أبا الفضل، هذا والله التجلد لحر المصيبة! أين كنت منذ ثلاث لا تطلع؟ قال العباس: كلا والذي حلفتم به، لقد فتح خيبر وترك عروساً على ابنة ملكهم حيي بن أخطب، وضرب أعناق بني أبي الحقيق البيض الجعاد الذين رأيتموهم سادة النضير من يثرب، وهرب الحجاج بماله الذي عند امرأته. قالوا: من خبرك بهذا؟ قال العباس: الصادق في نفسي، الثقة في صدري، فابعثوا إلى أهله! فبعثوا فوجدوا الحجاج قد انطلق بماله واستكتم أهله حتى يصبح، فسألوا عن ذلك كله فوجدوه حقاً، فكبت المشركون وفرح بذلك المسلمون، ولم تلبث قريش خمسة أيام حتى جاءهم الخبر بذلك.
باب شأن فدكقالوا: لما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر فدنا منها، بعث محيصة بن مسعود إلى فدكٍ يدعوهم إلى الإسلام ويخوفهم أن يغزوهم كما غزا أهل خيبر ويحل بساحتهم. قال محيصة: جئتهم فأقمت عندهم يومين، وجعلوا يتربصون ويقولون: بالنطاة عامر، وياسر، وأسير، والحارث وسيد اليهود مرحب، ما نرى محمداً يقرب حراهم ، إن بها عشرة آلاف مقاتل. قال محيصة: فلما رأيت خبثهم أردت أرحل راجعاً، فقالوا: نحن نرسل معك رجالاً يأخذون لنا الصلح - ويظنون أن اليهود تمتنع. فلم يزالوا كذلك حتى جاءهم قتل أهل حصن ناعم وأهل النجدة منهم، ففت ذلك أعضادهم وقالوا لمحيصة: اكتم عنا ما قلنا لك ولك هذا الحلي! لحلي نسائهم، جمعوه كثيراً. فقال محيصة: بل أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي سمعت منكم. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوا. قال محيصة: وقدم معي رجلٌ من رؤسائهم يقال له نون بن يوشع في نفرٍ من اليهود، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحقن دماءهم ويجليهم ويخلوا بينه وبين الأموال. ففعل، ويقال: عرضوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلادهم ولا يكون للنبي صلى الله عليه وسلم عليهم من الأموال شيءٌ، وإذا كان جذاذها جاءوا فجذوها، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبل ذلك وقال لهم محيصة: ما لكم منعة ولا رجال ولا حصون، لو بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم مائة رجل لساقوكم إليه. فوقع الصلح بينهم أن لهم نصف الأرض بتربتها لهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصفها، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك. وهذا أثبت القولين. فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ولم يبلغهم، فلما كان عمر ابن الخطاب وأجلى يهود خيبر، بعث عمر إليهم من يقوم أرضهم، فبعث أبا الهيثم بن التيهان وفروة بن عمرو بن حيان بن صخر، وزيد بن ثابت، فقوموها لهم؛ النخل والأرض، فأخذها عمر بن الخطاب ودفع إليهم نصف قيمة النخل بتربتها، فبلغ ذلك خمسين ألف درهم أو يزيد - كان ذلك المال جاءه من العراق - وأجلاهم عمر إلى الشام. ويقال: بعث أبا خيثمة الحارثي فقومها.
انصراف رسول الله من خيبر إلى المدينة

قال أنس: انصرفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر وهو يريد وادي القرى، ومعه أم سلمة بنت ملحان، وكان بعض القوم يريد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية حتى مر بها فألقى عليها رداءه، ثم عرض عليها الإسلام فقال: إن تكوني على دينك لم نكرهك، فإن اخترت الله ورسوله اتخذتك لنفسي. قالت: بل أختار الله ورسوله. قال: فأعتقها فتزوجها وجعل عتقها مهرها. فلما كان بالصهباء قال لأم سليم: انظري صاحبتك هذه فامشطيها! وأراد أن يعرس بها هناك، فقامت أم سليم - قال أنس: وليس معنا فساطيط ولا سرادقات - فأخذت كسائين وعباءتين فسترت بهما عليها إلى شجرة فمشطتها وعطرتها، وأعرس بها رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من خيبر، وقرب بعيرها وقد سترها النبي صلى الله عليه وسلم بثوبه، أدنى فخذه لتضع رجلها عليه، فأبت ووضعت ركبتها على فخذه، فلما بلغ ثباراً أراد أن يعرس بها هناك، فأبت عليه حتى وجد في نفسه، حتى بلغ الصهباء فمال إلى دومة هناك فطاوعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ما صنعت حين أردت أن أنزل بثبار - وثبار على ستة أميال والصهباء على اثني عشر ميلاً - قالت: يا رسول الله خفت عليك قرب اليهود، فلما بعدت أمنت. فزادها عند النبي صلى الله عليه وسلم خيراً وعلم أنها قد صدقته، ودخلت عليه مساء تلك الليلة، وأولم رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عليها بالحيس والسويق والتمر، وكان قصاعهم الأنطاع قد بسطت، فرئي رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معهم على تلك الأنطاع. قالوا: وبات أبو أيوب الأنصاري قريباً من قبته آخذاً بقائم السيف حتى أصبح، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بكرة فكبر أبو أيوب فقال: ما لك يا أبا أيوب؟ فقال: يا رسول الله، دخلت بهذه الجارية وكنت قد قتلت أباها وإخوتها وعمومتها وزوجها وعامة عشيرتها، فخفت أن تغتالك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له معروفاً.
فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزل صفية في منزل الحارثة بن النعمان، وانتقل حارثة عنها. وكانت عائشة وحفصة يداً واحدةً فأرسلت عائشة بريرة إلى أم سلمة تسلم عليها - وكانت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر - وتسألها عن صفية أظريفةٌ هي؟ فقالت أم سلمة: من أرسلك، عائشة؟ فسكتت فعرفت أم سلمة أنها أرسلتها، فقالت أم سلمة: لعمري إنها لظريفة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لها لمحبٌّ. فجاءت بريرة فأخبرت عائشة خبرها، فخرجت عائشة متنكرةً حتى دخلت على صفية وعندها نسوةٌ من الأنصار، فنظرت إليها وهي منتقبة، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما خرجت رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها فقال: يا عائشة كيف رأيت صفية؟ قالت: ما رأيت طائلاً، رأيت يهودية بين يهوديات - تعني عماتها وخالاتها - ولكني قد أخبرت أنك تحبها، فهذا خيرٌ لها من لو كانت ظريفةً. قال: يا عائشة، لا تقولي هذا فإني عرضت عليها الإسلام فأسرعت وأسلمت وحسن إسلامها. قال: فرجعت عائشة فأخبرت حفصة بظرفها، فدخلت عليها حفصة فنظرت إليها ثم رجعت إلى عائشة فقالت: إنها لظريفة وما هي كما قلت.
فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصهباء سلك على برمة حتى انتهى إلى وادي القرى يريد من بها من اليهود. وكان أبو هريرة يحدث قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى، وكان رفاعة بن زيد بن وهب الجذامي قد وهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم عبداً أسود يقال له مدعم ، وكان يرحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما نزلوا بوادي القرى انتهينا إلى اليهود وقد ضوى إليها أناسٌ من العرب، فبينا مدعم يحط رحل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقبلتنا اليهود بالرمي حيث نزلنا، ولم يكن على تعبيةٍ وهم يصيحون في آطامهم، فيقبل سهمٌ عائرٌ فأصاب مدعماً فقتله، فقال الناس: هنيئاً لك الجنة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا والذي نفسي بيده، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم يصبها المقسم تشتعل عليه ناراً. فلما سمع بذلك الناس جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم بشراكٍ أو بشراكين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شراك من نار! أو شراكان من نار.

وعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه للقتال وصفهم، ودفع لواءه إلى سعد بن عبادة، ورايةً إلى الحباب بن المنذر، ورايةً إلى سهل بن حنيف، ورايةً إلى عباد بن بشر. ثم دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وأخبرهم إن أسلمواأحرزوا أموالهم وحقنوا دماءهم وحسابهم على الله. فبرز رجلٌ منهم وبرز إليه الزبير بن العوام فقتله؛ ثم برز آخر فبرز إليه الزبير فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له علي رضي الله عنه فقتله؛ ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله، ثم برز آخر فبرز له أبو دجانة فقتله؛ حتى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحد عشر رجلاً، كلما قتل رجلٌ دعا من بقي إلى الإسلام. ولقد كانت الصلاة تحضر يومئذٍ فيصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ثم يعود فيدعوهم إلى الله ورسوله، فقاتلهم حتى أمسوا وغدا عليهم فلم ترتفع الشمس قيد رمح حتى أعطوا بأيديهم، وفتحها عنوةً، وغنمه الله أموالهم وأصابوا أثاثاً ومتاعاً كثيراً. وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي القرى أربعة أيام، وقسم ما أصاب على أصحابه بوادي القرى، وترك النخل والأرض بأيدي اليهود وعاملهم عليها. فلما بلغ يهود تيماء ما وطىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وفدك ووادي القرى، صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، وأقاموا بأيديهم أموالهم. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه أخرج يهود خيبر وفدك، ولم يخرج أهل تيماء ووادي القرى؛ لأنهما داخلتان في أرض الشام، ويرى أن ما دون وادي القرى إلى المدينة حجازٌ، وأن ما وراء ذلك من الشام. وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من وادي القرى راجعاً بعد أن فرغ من خيبر ومن وادي القرى وغنمه الله، فلما كان قريباً من المدينة سرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته، حتى إذا كان قبيل الصبح بقليلٍ نزل وعرس. وقال: ألا رجلٌ صالحٌ حافظٌ لعينه يحفظ لنا صلاة الصبح؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله! قال: فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه ووضع الناس رءوسهم، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول لبلال: يا بلال احفظ عينك! قال: فاحتبيت بعباءتي واستقبلت الفجر، فما أدري متى وضعت جنبي إلا أني لم أستيقظ إلا باسترجاع الناس وحر الشمس، وأخذتني الألسنة باللوم؛ وكان أشدهم علي أبو بكر. وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أهون لائمةً من الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كانت له حاجة فليقضها. فتفرق الناس في أصول الشجر، وقال صلى الله عليه وسلم: أذن يا بلال بالأذان الأول. قال بلال: وكذلك كنت أفعل في أسفاره، فأذنت فلما اجتمع الناس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اركعوا ركعتي الفجر. فركعوا ثم قال: أقم يا بلال! فأقمت فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالناس. قال بلال: فما زال يصلي بنا حتى إن الرجل ليسلت العرق من جبينه من حر الشمس، ثم سلم فأقبل على القوم فقال: كانت أنفسنا بيد الله، ولو شاء قبضها وكان أولى بها، فلما ردها إلينا صلينا. ثم أقبل على بلال فقال: مه يا بلال! فقال: بأبي وأمي، قبض نفسي الذي قبض نفسك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يبتسم.
ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحد جبل يحبنا ونحبه؛ اللهم إني أحرم ما بين لابتي المدينة! قال: وانتهى إلى الجرف ليلاً، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله بعد صلاة العشاء.
فحدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو بالجرف: لاتطرقوا الناسء بعد صلاة العشاء. قالت: فذهب رجلٌ من الحي فطرق أهله فوجد ما يكره فخلى سبيله ولم يهجه ، وضن بزوجته أن يفارقها وكان له منها أولاد وكان يحبها، فعصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأى ما يكره.

حدثني عبد الله بن نوح الحارثي، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن سعد بن حزام بن محيصة، عن أبيه، قال: كنا بالمدينة والمجاعة تصيبنا، فنخرج إلى خيبر فنقيم بها ما أقمنا ثم نرجع، وربما خرجنا إلى فدك وتيماء. وكانت اليهود قوماً لهم ثمار لا يصيبها قطعة ، أما تيماء فعينٌ جاريةٌ تخرج من أصل جبلٍ لم يصبها قطعه منذ كانت، وأما خيبر فماءٌ واتنٌ، فهي مغفرة في الماء، وأما فدك فمثل ذلك. وذلك قبل الإسلام، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وفتح خيبر قلت لأصحابي: هل لكم في خيبر فإنا قد جهدنا وقد أصابنا مجاعة؟ فقال أصحابي: إن البلاد ليس كما كانت، نحن قوم مسلمون وإنما نقدم على قومٍ أهل عداوةٍ وغشٍّ للإسلام وأهله، وكنا قبل ذلك لا نعبد شيئاً. قالوا: قد جهدنا، فخرجنا حتى قدمنا خيبر، فقدمنا على قومٍ بأيديهم الأرض والنخل ليس كما كانت؛ قد دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم على النصف؛ فأما سراة اليهود وأهل السعة منهم قد قتلوا - بنو أبي الحقيق وسلام بن مشكم، وابن الأشرف - وإنما بقي قومٌ لا أموال لهم وإنما هم عمال أيديهم. وكنا نكون في الشق يوماً وفي النطاة يوماً وفي الكتيبة يوماً، فرأينا الكتيبة خيراً لنا فأقمنا بها أياماً، ثم إن صاحبي ذهب إلى الشق فبات عني وقد كنت أحذره اليهود، فغدوت في أثره أسأل عنه حتى انتهيت إلى الشق فقال لي أهل أبيات منهم: مر بنا حين غابت الشمس يريد النطاة. قال: فعمدت إلى النطاة، إلى أن قال لي غلام منهم: تعال أدلك على صاحبك! فانتهى بي إلى منهر فأقامني عليه، فإذا الذباب يطلع من المنهر. قال: فتدليت في المنهر فإذا صاحبي قتيل، فقلت لأهل الشق: أنت قتلتموه! قالوا: لا والله، ما لنا به علم! قال: فاستعنت عليه بنفرٍ من اليهود حتى أخرجته وكفنته ودفنته، ثم خرجت سريعاً حتى قدمت على قومي بالمدينة فأخبرتهم الخبر. ونجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عمرة القضية، فخرج معي من قومي ثلاثون رجلاً، أكبرنا أخي حويصة، فخرج معنا عبد الرحمن ابن سهل أخو المقتول - والمقتول عبد الله بن سهل - وكان عبد الرحمن ابن سهل أحدث مني، فهو مستعبرٌ على أخيه رقيقٌ عليه، فبرك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله، وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فقال عبد الرحمن: يا رسول الله إن أخي قتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر، كبر! فتكلمت فقال: كبر، كبر! فسكت. وتكلم أخي حويصة فتكلم بكلمات وذكر أن اليهود تهمتنا وظنتنا ثم سكت، فتكلمت وأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يأذنوا بحربٍ من الله ورسوله، وكتب النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ذلك فكتبوا إليه: ما قتلناه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن ولمن معهم: تحلفون خمسين يميناً وتستحقون دم صاحبكم؟ قالوا: يا رسول الله، لم نحضر ولم نشهد. قال: فتحلف لكم اليهود؟ قالوا: يا رسول الله، ليسوا بمسلمين. فواده رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده مائة ناقة، خمسة وعشرين جذعة، وخمسة وعشرين حقة، وخمسة وعشرين بنت لبون، وخمسة وعشرين بنت مخاض. قال سهل بن أبي حثمة: رأيتها أدخلت عليهم مائة ناقة، فركضتني منها ناقةٌ حمراء وأنا يومئذٍ غلام.
حدثني ابن أبي ذئب، ومعمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: كانت القسامة في الجاهلية ثم أقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام، وقضى بها في الأنصاري الذي وجد بخيبر قتيلاً في جب من جباب اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: تحلف لكم اليهود؛ خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله ما قتلنا؟ قالوا: يا رسول الله، كيف تقبل أيمان قوم كفار؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فتحلفون خمسين رجلاً خمسين يميناً بالله أنهم قتلوا صاحبكم وتستحقوا الدم؟ قالوا: يا رسول الله لم نحضر ولم نشهد. قال: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته على اليهود لأنه قتل بحضرتهم.

حدثني مخرمة بن بكير، عن خالد بن يزيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته على اليهود، فإن لم يعطوا فليأذنوا بحربٍ من الله ورسوله. وأعانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ببضعة وثلاثين بعيراً - فهي أول ما كانت القسامة. وكان الناس يطلعون إلى أموالهم بخيبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان.
وحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، قال: خرجت أنا والزبير، والمقداد بن عمرو، وسعيد بن زيد بن عمر بن نفيل إلى أموالنا بخيبر فطلعنا نتعاهدها، وكان أبو بكر يبعث من يطلعها وينظر إليها، وكان عمر يفعل ذلك أيضاً، فلما قدمنا خيبر تفرقنا في أموالنا. فعدى علينا من جوف الليل وأنا نائمٌ على فراشي فصرعت يداي فسالوني: من صنع هذا بك؟ فقلت: لا أدري، فاصلحوا أمر يدي! وقال غير سالم، عن ابن عمر، قال: سحروه بالليل وهو نائمٌ على فراشه فكوع حتى أصبح كأنه كان في وثاقٍ، وجاء أصحابه فأصلحوا من يديه، فقدم ابن عمر المدينة فأخبر أباه بما صنع به.
حدثني محمد بن يحيى بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، قال: أقبل مظهر بن رافع الحارثي بأعلاج من الشام يعملون بأرضه وهم عشرة، فأقبل حتى نزل بهم خيبر فأقام بها ثلاثة أيام، فيدخل بهم رجلٌ من اليهود فقال: أنتم نصارى ونحن يهود وهؤلاء قوم عرب قد قهرونا بالسيف، وأنتم عشرة رجال أقبل رجلٌ واحدٌ منهم يسوقكم من أرض الخمر والخير إلى الجهد والبؤس، وتكونون في رقٍّ شديد، فإذا خرجتم من قريتنا فاقتلوه. قالوا: ليس معنا سلاح. فدسوا إليهم سكينين أو ثلاثة. قال: فخرجوا فلما كانوا بثبار قال لأحدهم، وكان الذي يخدمه منهم: ناولني كذا وكذا. فأقبلوا إليه جميعاً قد شهروا سكاكينهم، فخرج مظهر يعدو إلى سيفه وكان في قراب راحلته، فلما انتهى إلى القراب لم يفتحه حتى بعجوا بطنه، ثم انصرفوا سراعاً حتى قدموا خيبر على اليهود فآووهم وزودوهم وأعطوهم قوة فلحقوا بالشام. وجاء عمر الخبر بمقتل مظهر بن رافع وما صنعت اليهود، فقام عمر خطيباً بالناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إن اليهود فعلوا بعبد الله ما فعلوا، وفعلوا بمظهر بن رافع مع عدوتهم على عبد الله بن سهل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أشك أنهم أصحابه ليس لنا عدو هناك غيرهم؛ فمن كان له بها مالٌ فليخرج فأنا خارج، فقاسمٌ ما كان بها من الأموال، وحادٌّ حدودها، ومورفٌ أرفها ومجلي اليهود منها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: " أقركم ما أقركم الله " وقد أذن الله في جلائهم إلا أن يأتي رجلٌ منهم بعهدٍ أو بينةٍ من النبي صلى الله عليه وسلم أنه أقره فأقره. فقام طلحة بن عبيد الله فقال: قد والله أصبت يا أمير المؤمنين ووفقت! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أقركم ما أقركم الله " ، وقد فعلوا ما فعلوا بعبد الله بن سهل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وما حرضوا على مظهر بن رافع حتى قتله أعبده، وما فعلوا بعبد الله بن عمر، فهم أهل تهمتنا وظنتنا . فقال عمر رضي الله عنه: من معك على مثل رأيك؟ قال: المهاجرون جميعاً والأنصار. فسر بذلك عمر.
حدثني معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، قال: بلغ عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرضه الذي توفي فيه: " لا يجتمع بجزيرة العرب دينان " . ففحص عن ذلك عمر بن الخطاب حتى وجد عليه الثبت من لا يتهم، فأرسل إلى يهود الحجاز فقال: من كان منكم عنده عهد من النبي صلى الله عليه وسلم فإني مجليه، فإن الله عز وجل قد أذن في جلائهم. فأجلى عمر يهود الحجاز.

قالوا: فخرج عمر بأربعة قسام: فروة بن عمرو البياضي، قد شهد بدراً، وحباب بن صخر السلمي، قد شهد بدراً، وأبو الهيثم بن التيهان، قد شهد بدراً، وزيد بن ثابت؛ فقسموا خيبر على ثمانية عشر سهماً، على الرءوس التي سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سمى ثمانية عشر سهماً وسمى رؤساءها. ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمى الرؤساء ثم جزأوا الشق والنطاة، فجزأوها على ثمانية عشر سهماً، جعلوا ثمانية عشر بعرة فألقين في العين جميعاً، ولكل رأس علامةٌ في بعرته، فإذا خرجت أول بعرة قيل سهم فلان وسهم فلان. وكان في الشق ثلاثة عشر سهماً، وفي النطاة خمسة أسهم. حدثني بذلك حكيم بن محمد من آل مخرمة، عن أبيه. فكان أول سهم خرج في النطاة سهم الزبير بن العام؛ ثم سهم بياضة، يقال: إن رأسه فروة بن عمرو؛ ثم سهم أسيد بن حضير؛ ثم سهم بلحارث بن الخزرج، يقال: رأسه عبد الله بن رواحة؛ ثم سهم ناعم؛ يهودي. ثم ضربوا في الشق، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا عاصم بن عدي، إنك رجلٌ محدود، فسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهمك. فخرج سهم عاصم أول سهم في الشق، ويقال: إنه سهم النبي صلى الله عليه وسلم كان في بني بياضة، والثبت أنه كان مع عاصم بن عدي. ثم خرج سهم علي رضي الله عنه على أثر سهم عاصم؛ ثم سهم عبد الرحمن بن عوف؛ ثم سهم طلحة بن عبيد الله؛ ثم سهم بني ساعدة، يقال: رأسهم سعد ابن عبادة؛ ثم سهم بني النجار؛ ثم سهم بني حارثة بن الحارث؛ ثم سهم أسلم وغفار، يقال: رأسهم بريدة بن الحصيب؛ ثم سهما سلمة جميعاً؛ ثم سهم عبيد السهام؛ ثم سهم عبيد؛ ثم سهم أوس، صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال ابن واقد: فسألت ابن أبي حبيبة: لم سمى عبيد السهام؟ قال: أخبرني داود بن الحصين قال: كان اسمه عبيد، ولكنه جعل يشتير من السهام بخيبر فسمي عبيد السهام.
حدثني إسماعيل بن عبد الملك ابن نافع مولى بني هاشم، عن يحيى ابن شبل، عن أبي جعفر قال: أول ما ضرب في الشق خرج سهم عاصم ابن عدي فيه سهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب: كنت أحب أن يخرج سهمي مع سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخطأني قلت: اللهم اجعل سهمي في مكانٍ معتزلٍ لا يكون لأحدٍ على طريق. فكان سهمه معتزلاً وكان شركاؤه أعراباً، فكان يستخلص منهم سهامهم؛ يأخذ حق أحدهم بالفرس والشيء اليسير حتى خلص له سهم أوس كله.
حدثني عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لما قسم عمر رضي الله عنه خيبر خيروا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في طعمهن الذي أطعمهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتيبة، إن أحببن أن يقطع لهن من الأرض و الماء مكان طعمهن، أو يمضى لهن الوسوق وتكون مضمونة لهن. فكانت عائشة رضي الله عنها وحفصة رضي الله عنها ممن اختار الأرض والماء، وكان سائرهن أخذن الوسوق مضمونة.
حدثني أفلح بن حميد قال: سمعت القاسم بن محمد يقول، سمعت عائشة رضي الله عنها تقول يوماً: رحم الله ابن الخطاب! قد خيرني فيما صنع، خيرني في الأرض والماء وفي الطعمة، فاخترت الأرض والماء، فهن في يدي، وأهل الطعم مرة ينقصهم مروان، ومرة لا يعطيهم شيئاً، ومرة يعطيهم. ويقال: إنما خير عمر رضي الله عنه أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط.
حدثني إبراهيم بن جعفر، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه الناس كلهم؛ فمن شاء أخذ الطعمة كيلاً، ومن شاء أخذ الماء والتراب، وأذن لمن شاء باع، ومن أحب أن يمسك أمسك من الناس كلهم، فكان من باع الأشعريين، من عثمان بن عفان مائة وسق بخمسة آلاف دينار، وباع الرهاويون من معاوية بن أبي سفيان بمثل ذلك. قال أبو عبد الله: هذا الثبت عندنا والذي رأيت عليه أهل المدينة.

وحدثني أيوب بن النعمان، عن أبيه، قال: خير عمر رضي الله عنه من كانت له طعمة أن يعطيه من الماء والأرض أو الطعم مضمونةً، فكان أسامة ابن زيد اختار الطعمة مضمونة. ولما فرغ عمر رضي الله عنه من القسمة أخرج يهود خيابر، ومضى عمر رضي الله عنه من خيبر في المهاجرين والأنصار إلى وادي القرى. وخرج معاوية بالقسام الذين قسموا: جبار بن صخر، وأبو الهيثم بن التيهان، وفروة بن عمرو، وزيد بن ثابت، فقسموها على أعداد السهام، وأعلموا أرفها، وحدوا حدودها، وجعلوها السهام تجرى. فكان ما قسم عمر من وادي القرى لعثمان بن عفان خطر، ولعبد الرحمن ابن عوف خطر، ولعمر بن أبي سلمة خطر - الخطر هو السهم - ولعامر بن ربيعة خطر، ولمعيقب خطر، ولعبد الله بن الأرقم خطر، ولبني جعفر خطر، ولعمرو بن سراقة خطر، ولعبد الله وعبيد الله خطران، ولشييم خطر، ولابن عبد الله بن جحش خطر، ولابن أبي بكر خطر، ولعمر خطر، ولزيد ابن ثابت خطر، ولأبي بن كعب خطر، ولمعاذ بن عفراء خطر، ولأبي طلحة وجبير خطر، ولجبار بن صخر خطر، ولجبار بن عبد الله بن رباب خطر، ولمالك بن صعصعة وجابر بن عبد الله بن عمر خطر، ولسلمة بن سلامة خطر، ولعبد الرحمن بن ثابت وابن أبي شريق خطر، ولأبي عبس بن جبر خطر، ولمحمد بن مسلمة خطر، ولعباد بن طارق خطر، ولجبر بن عتيك نصف خطر، ولابن الحارث بن قيس نصف خطر، ولابن جرمة والضحاك خطر.
حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الله بن مكنف الحارثي، قال: إنما خرج عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القسام برجلين، جبار بن صخر وزيد بن ثابت، هما قاسما المدينة وحاسباها، فقسما خيبر وأقاما نخل فدك وأرضها، ودفع عمر إلى يهود فدك نصف القيمة؛ وقسما السهمان بوادي القرى، ثم أجلى عمر رضي الله عنه يهود الحجاز، وكان زيد بن ثابت قد تصدق بالذي صار له من وادي القرى مع غيره.
سرية عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى تربة
في شعبان سنة سبعحدثنا أسامة بن زيد بن أسلم، عن أبي بكر بن عمر بن عبد الرحمن، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه في ثلاثين رجلاً إلى عجز هوازن بتربة ، فخرج عمر رضي الله عنه ومعه دليلٌ من بني هلال، فكانوا يسيرون الليل ويكمنون النهار، وأتى الخبر هوازن فهربوا، وجاء عمر محالهم فلم يلق منهم أحداً. وانصرف راجعاً إلى المدينة حتى سلك النجدية، فلما كان بالجدر قال الهلالي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هل لك في جمعٍ آخر تركته من خثعم، جاءوا سائرين قد أجدبت بلادهم؟ فقال عمر: لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم، إنما أمرني أصمد لقتال هوازن بتربة. فانصرف عمر راجعاً إلى المدينة.
سرية أبي بكر إلى نجد
في شعبان سنة سبعحدثني حمزة بن عبد الواحد، عن عكرمة بن عمار، عن إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه وأمره علينا، فبيتنا ناساً من هوازن، فقتلت بيدي سبعةً أهل أبيات ، وكان شعارنا: أمت! أمت!
سرية بشير بن سعد إلى فدك
في شعبان سنة سبعحدثني عبد الله بن الحارث بن الفضيل، عن أبيه، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بشير بن سعد في ثلاثين رجلاً إلى بني مرة بفدك. فخرج فلقي رعاء الشاء فسأل: أين الناس؟ فقالوا: هم في بواديهم . والناس يومئذٍ شاتون لا يحضرون الماء، فاستاق النعم والشاء وعاد منحدراً إلى المدينة، فخرج الصريخ فأخبرهم فأدركه الدهم منهم عند الليل، فباتوا يرامونهم بالنبل حتى فنيت نبل أصحاب بشير، وأصبحوا وحمل المريون عليهم فأصابوا أصحاب بشير وولى منهم من ولى. وقاتل بشير قتالاً شديداً حتى ضرب كعبه، وقيل: قد مات، ورجعوا بنعمهم وشاءهم. وكان أول من قدم بخبر السرية ومصابها علبة بن زيد الحارثي. وأمهل بشير بن سعد وهو في القتلى، فلما أمسى تحامل حتى انتهى إلى فدك، فأقم عند يهودي بفدك أياماً حتى ارتفع من الجراح، ثم رجع إلى المدينة.

وهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير بن العوام فقال: سر حتى تنتهي إلى مصاب أصحاب بشير، فإن ظفرك الله بهم فلا تبق فيهم. وهيأ معه مائتي رجلٍ وعقد له اللواء، فقدم غالب بن عبد الله من سرية قد ظفر الله عليهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير بن العوام: اجلس! وبعث غالب بن عبد الله في مائتي رجل، فخرج أسامة بن زيد في السرية حتى انتهى إلى مصاب بشير وأصحابه، وخرج معه علبة بن زيد.
حدثني أفلح بن سعيد، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: كان مع غالب عقبة بن عمرو أبو مسعود، وكعب بن عجرة، واسامة بن زيد، وعلبة بن زيد؛ فلما دنا غالب منهم بعث الطلائع، فبعث علبة بن زيد في عشرة ينظر إلى جماعة محالهم، حتى أوفى على جماعةٍ منهم ثم رجع إلى غالب فأخبره. فأقبل غالب يسير حتى إذا كان منهم بمنظر العين ليلاً، وقد اجتلبوا وعطنوا وهدأوا، قام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله وحده لا شريك له، وأن تطيعوني ولا تعصوني ولا تخالفوا لي أمراً، فإنه لا رأي لمن لا يطاع. ثم ألف بينهم فقال: يا فلان أنت وفلان، يا فلان أنت وفلان - لا يفارق كل رجلٍ زميله - وإياكم أن يرجع إلي أحدكم فأقول: أين فلان صاحبك؟ فيقول: لا أدري؛ وإذا كبرت فكبروا. قال: فكبر وكبروا، وأخرجوا السيوف. قال: فأحطنا بالحاضر وفي الحاضر نعمٌ وقد عطنوا مواشيهم، فخرج إلينا الرجال فقاتلوا ساعةً، فوضعنا السيوف حيث شئنا منهم ونحن نصيح بشعارنا: أمت! أمت! وخرج أسامة بن زيد في إثر رجلٍ منهم يقال له نهيك بن مرداس فأبعد، وحوينا على الحاضر وقتلنا من قتلنا، ومعنا النساء والماشية، فقال أميرنا: أين أسامة بن زيد؟ فجاء بعد ساعة من الليل، فلامه أمرينا لائمةً شديدةً وقال: ألم تر إلى ما عهدت إليك؟ فقال: إني خرجت في إثر رجلٍ جعل يتهكم بين حتى إذا دنوت ولحمته بالسيف قال: لا إله إلا الله! فقال أميرنا: أغمدت سيفك؟ قال: لا والله ما فعلت حتى أوردته شعوب. قال: قلنا: والله بئس ما فعلت وما جئت به، تقتل امرءاً يقول لا إله إلا الله! فندم وسقط في يديه. قال: واستقنا النعم والشاء والذرية، وكانت سهامهم عشرة أبعرةٍ كل رجلٍ، أو عدلها من الغنم. وكان يحسب الجزور بعشرة من الغنم.
وحدثني شبل بن العلاء، عن إبراهيم بن حويصة، عن أبيه عن أسامة بن زيد، قال: كان أميرنا آخى بيني وبين أبي سعيد الخدري. قال أسامة: فلما أصبته وجدت في نفسي من ذلك موجدة شديدة حتى رأيتني وما أقدر على أكل الطعام حتى قدمت المدينة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلني واعتنقني واعتنقته، ثم قال لي: يا أسامة، خبرني عن غزاتك. قال: فجعل أسامة يخبره الخبر حتى انتهى إلى صاحبه الذي قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قتلته يا أسامة، وقد قال لا إله إلا الله؟ قال: فجعلت أقول: يا رسول الله، إنما قالها تعوذاً من القتل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققت قلبه فتعلم أصادقٌ هو أم كاذب ؟ قال أسامة: لا أقتل أحداً يقول لا إله إلا الله. قال أسامة: وتمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
حدثني معمر بن راشد، عن الزهري، عن عطاء بن يزيد الليثي، عن عبيد الله بن عدي بن الجبار، عن المقداد بن عمرو قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رجلاً من الكفار يقاتلني، وضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها، ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله، أقتله بعد أن قالها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقتله! قال: فإني قتلته فماذا؟ قال: فإنه بمنزلتك التي كنت بها قبل أن تقتله، وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال.
سرية بني عبد بن ثعلبة
عليها غالب بن عبد الله إلى الميفعة في رمضان سنة سبع

حدثني عبد الله بن جعفر، عن ابن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الكدر أقام أياماً ما شاء الله أن يقيم، فقال له يسار مولاه: يا رسول الله، إني قد علمت غرةً من بني عبد بن ثعلبة، فأرسل معي إليهم. فأرسل معه النبي صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله في مائة وثلاثين رجلاً، خرج بهم يسار، فظعن بهم في غير الطريق حتى فنيت أزوادهم وجهدوا، واقتسموا التمر عدداً، فبينا القوم ذات ليلة بعد ما ساء ظنهم بيسار، وظن القوم أن إسلامه لم يصح، وقد انتهوا إلى مكان قد فحصه السيل، فلما رآه يسار كبر قال: والله قد ظفرتم بحاجتكم، اسلكوا في هذا الفحص حتى ينقطع بكم. فسار القوم فيه ساعة بحسٍّ خفي لا يتكلمون إلا همساً حتى انتهوا إلى ضرس من الحرة، فقال يسار لأصحابه: لو صاح رجلٌ شديد الصوت لأسمع القوم، فارتأوا رأيكم! قال غالب: انطلق بنا يا يسار أنا وأنت، وندع القوم كميناً، ففعلا، فخرجنا حتى إذا كنا من القوم بمنظر العين سمعنا حس الناس والرعاء والحلب، فرجعا سريعين فانتهيا إلى أصحابهما، فأقبلوا جميعاً حتى إذا كانوا من الحي قريباً، وقد وعظهم أميرهم غالب ورغبهم في الجهاد، ونهاهم عن الإمعان في الطلب، وألف بينهم وقال: إذا كبرت فكبروا. فكبر وكبروا جميعاً معه، ووقعوا وسط محالهم فاستاقوا نعماً وشاءً، وقتلوا من أشرف لهم، وصادفوهم تلك الليلة على ماءٍ يقال له الميفعة. قال: واستاقوا النعم فحدروه إلى المدينة، ولم يسمع أنهم جاءوا بأسرى.
سرية بشير بن سعد إلى الجناب
سنة سبعحدثني يحيى بن عبد العزيز، عن بشير بن محمد بن عبد الله بن زيد، قال: قدم رجلٌ من أشجع يقال له حسيل بن نويرة، وقد كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين يا حسيل؟ قال: قدمت من الجناب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما وراءك؟ قال: تركت جمعاً من غطفان بالجناب، قد بعث إليهم عيينة يقول لهم: إما تسيروا إلينا وإما نسير إليكم. فأرسلوا إليه أن سر إلينا حتى نزحف إلى محمد جميعاً، وهم يريدونك أو بعض أطرافك. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما، فذكر لهما ذلك، فقالا جميعاً: ابعث بشير بن سعد! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً فعقد له لواء؛ وبعث معه ثلاثمائة رجل، وأمرهم أن يسيروا الليل ويكمنوا النهار، وخرج معهم حسيل بن نويرة دليلاً؛ فساروا الليل وكمنوا النهار حتى أتوا أسفل خيبر فنزلوا بسلاح ، ثم خرجوا من سلاح حتى دنوا من القوم، فقال لهم الدليل: بينكم وبين القوم ثلثا نهارٍ أو نصفه، فإن أحببتم كمنتم وخرجت طليعةً لكم حتى آتيكم بالخبر، وإن أحببتم سرنا جميعاً. قالوا: بل نقدمك. فقدموه، فغاب عنهم ساعةً ثم كر عليهم فقال: هذا أوائل سرحهم فهل لكم أن تغيروا عليهم؟ فاختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: إن أغرنا الآن حذرنا الرجال والعطن. وقال آخرون: نغنم ما ظهر لنا ثم نطلب القوم. فشجعوا على النعم، فأصابوا نعماً كثيراً ملأوا منه أيديهم، وتفرق الرعاء وخرجوا سراعاً، ثم حذروا الجمع فتفرق الجمع وحذروا، ولحقوا بعلياء بلادهم، فخرج بشير بأصحابه حتى أتى محالهم فيجدها وليس بها أحد. فرجع بالنعم حتى إذا كانوا بسلاح راجعين لقوا عيناً لعيينة فقتلوه، ثم لقوا جمع عيينة، وعيينة لا يشعر بهم فناوشوهم، ثم انكشف جمع عيينة وتبعهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأصابوا منهم رجلاً أو رجلين فأسروهما أسراً، فقدموا بهما على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلما فأرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم.

قالوا: وكان الحارث بن عوف المري حليفاً لعيينة ولقيه منهزماً على فرسٍ له عتيقٍ يعدو به عدواً سريعاً، فاستوقفه الحارث فقال: لا، ما أقدر! الطلب خلفي! أصحاب محمد! وهو يركض. قال الحارث بن عوف: أما لك بعد أن تبصر ما أنت عليه؟ إن محمداً قد وطىء البلاد وأنت موضعٌ في غير شيءٍ. قال الحارث: فتنحيت عن سنن خيل محمد حتى أراهم ولا يروني، فأقمت من حين زالت الشمس إلى الليل، ما أرى أحداً - وما طلبوه إلا الرعب الذي دخله. قال: فلقيته بعد ذلك، فقال الحارث: فلقد أقمت في موضعٍ حتى الليل، ما رأيت من طلب. قال عيينة: هو ذاك، إني خفت الإسار وكان أثري عند محمد ما تعلم في غير موطن. قال الحارث: أيها الرجل، قد رأيت ورأينا معك أمراً بيناً في بني النضير، ويوم الخندق وقريظة، وقبل ذلك قينقاع، وفي خيبر، إنهم كانوا أعز يهود الحجاز كله، يقرون لهم بالشجاعة والسخاء، وهم أهل حصون منيعة وأهل نخل؛ والله إن كانت العرب لتلجأ إليهم فيمتنعون بهم. لقد سارت حارثة بن الأوس حيث كان بينهم وبين قومهم ما كان فامتنعوا بهم من الناس، ثم قد رأيت حيث نزل بهم كيف ذهبت تلك النجدة وكيف أديل عليهم. فقال عيينة: هو والله ذاك، ولكن نفسي لا تقرني. قال الحارث: فادخل مع محمد. قال: أصير تابعاً! قد سبق قوم إاليه فهم يزرون بمن جاء بعدهم يقولون: شهدنا بدراً وغيرها. قال الحارث: وإنما هو على ما ترى، فلو تقدمنا إليه لكنا من علية أصحابه، قد بقي قومه بعدهم منه في موادعة وهو موقعٌ بهم وقعةً، ما وطىء له الأمر. قال عيينة: أرى والله! فاتعدا يريدان الهجرة والقدوم على النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن مر بهما فروة ابن هبيرة القشيري يريد العمرة وهما يتقاولان، فأخبراه بما كانا فيه وما يريدان. قال فروة: لو استأنيتم حتى تنظروا ما يصنع قومه في هذه المدة التي هم فيها وآتيكم بخبرهم! فأخروا القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومضى فروة حتى قدم مكة فتحسب من أخبارهم، فإذا القوم على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، لا يريدون أن يدخلوا طائعين أبداً، فخبرهم بما أوقع محمد بأهل خيابر. قال فروة: وقد تركت رؤساء الضاحية على مثل ما أنتم عليه من العداوة لمحمد. قالت قريش: فما الرأي، فأنت سيد أهل الوبر؟ قال: نقضي هذه المدة التي بينكم وبينه ونستجلب العرب ، ثم نغزوه في عقر داره. وأقام أياماً يجول في مجالس قريش، ويسمع به نوفل بن معاوية الديلي، فنزل من باديته فأخبره بما قال لقريش، فقال نوفل: إذاً لأجد عندكم شيئاً! قدمت الآن لمقدمك حيث بلغني، ولنا عدوٌ قريبٌ داره، وهم عيبة نصح محمد لا يغيبون عليه حرفاً من أمورنا. قال: من هم؟ قال: خزاعة. قال: قبحت خزاعة؛ قعدت بها يمينها! قال فروة: فماذا؟ قال: استنصر قريشاً أن يعينونا عليهم. قال فروة: فأنا أكفيكم. فلقي رؤساءهم، صفوان بن أمية، وعبد الله بن أبي ربيعة، وسهيل بن عمرو، فقال: ألا ترون ماذا نزل بكم! إنكم رضيتم أن تدافعوا محمداً بالراح. قالوا: فما نصنع؟ قال: تعينون نوفل بن معاوية على عدوه وعدوكم. قالوا: إذاً يغزونا محمدٌ في ما لا قبل لنا به فيوطئنا غلبةً، وننزل على حكمه، ونحن الآن في مدة وعلى ديننا. فلقي نوفل بن معاوية فقال: ليس عند القوم شيء. ورجع فلقي عيينة والحارث فأخبرهم وقال: رأيت قومه قد أيقنوا عليه فقاربوا الرجل وتدبروا الأمر. فقدموا رجلاً وأخروا أخرى.
غزوة القضيةحدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، وابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، ومعاذ بن محمد، عن محمد بن يحيى بن حباب، وعبد الله بن جعفر، وابن أبي سبرة، وأبو معشر؛ فكلٌّ قد حدثني بطائفةٍ من هذا الحديث، وغيرهم ممن لم أسم، فكتبت كل ما حدثوني قالوا: لما دخل هلال ذي القعدة سنة سبع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يعتمروا - قضاء عمرتهم - وألا يتخلف أحدٌ ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف أحدٌ شهدها إلا رجالٌ استشهدوا بخيبر ورجالٌ ماتوا. وخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من المسلمين سوى أهل الحديبية ممن لم يشهد صلح الحديبية عماراً، فكان المسلمون في عمرة القضية ألفين.

فحدثني خارجة بن عبد الله، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة سنة سبع، بعد مقدمه بأربعة أشهر، وهو الشهر الذي صدته المشركون، لقول الله عز وجل: " الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاصٌ " يقول: كما صدوكم عن البيت فاعتمروا في قابلٍ. فقال رجال من حاضر المدينة من العرب: والله يا رسول الله، ما لنا من زادٍ وما لنا من يطعمنا . فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدقوا، وألا يكفوا أيديهم فيهلكوا. قالوا: يا رسول الله، بم نتصدق وأحدنا لا يجد شيئاً؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بما كان، ولو بشق تمرةٍ، ولو بمشقصٍ يحمل به أحدكم في سبيل الله. فأنزل الله عز وجل في ذلك: " وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة " . قال: نزلت في ترك النفقة في سبيل الله.
حدثني الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: متع في سبيل الله ولو بمشقص، ولا تلق بيدك إلى التهلكة.
حدثني الثوري، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال: نزلت هذه الآية في ترك النفقة في سبيل الله.
وحدثني ابن موهب، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، قال: ساق رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضية ستين بدنة.
حدثني غانم بن أبي غانم، عن عبيد الله بن ينار، قال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناجية بن جندب الأسلمي على هديه، يسير بالهدي أمامه يطلب الرعي في الشجر، معه أربعة فتيانٍ من أسلم.
فحدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عبيد بن أبي رهم، قال: أنا كنت ممن يسوق الهدي وأركب على البدن.
حدثني محمد بن نعيم، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: كنت ممن صاحب البدن أسوقها.
حدثني يونس بن محمد، عن شعبة مولى ابن عباس، قال: قلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هديه بيده هو بنفسه.
حدثني معاذ بن محمد، عن عاصم بن عمر، قال: حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح والبيض والدروع والرماح، وقاد مائة فرس، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدم الخيل أمامه، وهي مائة فرسٍ عليها محمد ابن مسلمة. وقدم السلاح واستعمل عليه بشير بن سعد، فقيل: يا رسول الله! حملت السلاح وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا ندخلها عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا، فإن هاجنا هيجٌ من القوم كان السلاح قريباً منا. قيل: يا رسول الله! تخاف قريشاً على ذلك؟ فأسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدم البدن.
وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن جابر بن عبد الله، قال: أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم من باب المسجد لأنه سلك إلى طريق الفرع، ولولا ذلك لأهل من البيداء.

وحدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن ميسرة، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: سلكنا في عمرة القضية على الفرع، وقد أحرم أصحابي غيري، فرأيت حماراً وحشياً فشددت عليه فعقرته، فأتيت أصحابي، فمنهم الآكل والتارك. فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كل! قال أبو قتادة: ثم حج حجة الوداع. فأحرم من البيداء، وهذه العمرة من المسجد؛ لأن طريقه ليس على البيداء. قال ابن واقد: فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي، والمسلمون يلبون، ومضى محمد بن مسلمة بالخيل إلى مر الظهران، فيجد عليها نفراً من قريش فسألوا محمد بن مسلمة فقال: هذا رسول الله، يصبح هذا المنزل غداً إن شاء الله. فرأوا سلاحاً كثيراً مع بشير بن سعد، فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً فأخبروهم بالذي رأوا من الخيل والسلاح، ففزعت قريش فقالوا: والله ما أحدثنا حدثاً، ونحن على كتابنا ومدتنا، ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟ ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم السلاح إلى بطن يأجج حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، وبعثت قريشٌ مكرز بن حفص بن الأحنف في نفرٍ من قريشٍ حتى لقوه ببطن يأجج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه والهدي والسلاح، قد تلاحقوا، فقالوا: يا محمد! والله ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر! تدخل بالسلاح الحرم على قومك، وقد شرطت ألا تدخل إلا بسلاح المسافر؛ السيوف في القرب! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ندخلها إلا كذلك. ثم رجع سريعاً بأصحابه إلى مكة فقال: إن محمداً لا يدخل بسلاحٍ، وهو على الشرط الذي شرط لكم. فلما جاء مكرز بخبر النبي صلى الله عليه وسلم خرجت قريشٌ من مكة إلى رءوس الجبال، وخلوا مكة، وقالوا: ولا ننظر إليه ولا إلى أصحابه. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهدي أمامه حتى حبس بذي طوى. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمهم الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء، وأصحابه محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، متوشحو السيوف يلبون؛ فلما انتهى إلى ذي طوى وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته القصواء والمسلمون حوله، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون على راحلته القصواء، وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته.
فحدثني سعيد بن مسلم، عن زيد بن قسيط، عن عبيد بن خديج، عن رجلٍ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقطع التلبية حتى جاء عروش مكة.
حدثني أسامة بن زيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم لبى حتى استلم الركن.
حدثني عائذ بن يحيى، عن أبي الحويرث، قال: وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتي رجل على السلاح، عليهم أوس بن خولي.
حدثني يعقوب بن محمد بن عدب الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله بن كعب، عن أم عمارة، قالت: شهدت عمرة القضية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت قد شهدت الحديبية، فكأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين انتهى إلى البيت، وهو على راحلته وابن رواحة آخذٌ بزمام راحلته - وقد صف له المسلمون - حين دنا من الركن حتى انتهى إليه، فاستلم الركن بمحجنه مضطبعاً بثوبه، على راحلته، والمسلمون يطوفون معه قد اضطبعوا بثيابهم، وعبد الله بن رواحة يقول:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهدت أنه رسوله
حقاً وكل الخير في سبيله ... نحن قتلناكم على تأويله
كما ضربناكم على تنزيله ... ضرباً يزيل الهام عن مقيله
ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر بن الخطاب: يا ابن رواحة! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمر، إن أسمع! فأسكت عمر.
فحدثني إسماعيل بن عباس، عن ثابت بن العجلان، عن عطاء بن أبي رباح، قال: نزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن المشركين على الجبل وهم يرونكم، امشوا ما بين اليماني والأسود. ففعلوا.

وحدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة على راحلته، فلما كان الطواف السابع عند المروة عند فراغه، وقد وقف الهدي عند المروة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا المنحر، وكل فجاج مكة منحر! فنحر عند المروة. وقال ابن واقد: وكان قد اعتمر مع النبي صلى الله عليه وسلم قوم لم يشهدوا الحديبية فلم ينحروا، فأما من كان شهد الحديبية وخرج في القضية فإنهم شركوا في الهدي.
حدثني يعقوب بن محمد، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي صعصعة، عن الحارث بن عبد الله، عن أم عمارة، قالت: لم يتخلف أحدٌ من أهل الحديبية إلا اعتمر عمرة القضية، إلا من مات أو قتل؛ فخرجت ونسوةٌ معي في الحديبية فلم نصل إلى البيت، فقصرن من أشعارهن بالحديبية ثم اعتمرن مع النبي صلى الله عليه وسلم، قضاءً لعمرتهن، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الصفا والمروة. وكان ممن شهد الحديبية وقتل بخيبر ولم يشهد عمرة القضية: ربيعة بن أكثم، ورفاعة بن مسروح ، وثقف بن عمرو، وعبد الله بن أبي أمية بن وهب الأسدي، وأبو صياح، والحارث بن حاطب، وعدي بن مرة بن سراقة، وأوس بن حبيب، وأنيف ابن وائل، ومسعود بن سعد الزرفي، وبشر بن البراء، وعامر بن الأكوع.
وكان ابن عباس رضي الله عنه يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم في القضية أن يهدوا، فمن وجد بدنة من الإبل نحرها، ومن لم يجد بدنة رخص لهم في البقرة؛ فقدم فلان ببقرٍ اشتراه الناس منه.
حدثني حزام بن هشام، عن أبيه، أن خراش بن أمية حلق رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند المروة.
حدثني عبد الحميد بن جعفر، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن الذي حلقه معمر بن عدب الله العدوي.
حدثني علي بن عمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن سعيد ابن المسيب، قال: لما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم نسكه دخل البيت، فلم يزل فيه حتى أذن بلالٌ بالظهر فوق ظهر الكعبة، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بذلك. فقال عكرمة بن أبي جهل: لقد أكرم الله أبا الحكم حيث لم يسمع هذا العبد يقول ما يقول! وقال صفوان بن أمية: الحمد الله الذي أذهب أبي قبل أن يرى هذا! وقال خالد بن أسيد: الحمد لله الذي أمات أبي ولم يشهد هذا اليوم، حين يقوم بلال بن أم بلال ينهق فوق الكعبة! وأما سهيل بن عمرو ورجالٌ معه، فحين سمعوا ذلك غطوا وجوههم.
حدثني إبراهيم بن إسماعيل، عن داود بن الحصين، قال: لم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة في القضية، قد أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبوا وقالوا: لم يكن في شرطك. وأمر بلالاً فأذن فوق الكعبة يومئذٍ مرةً ولم يعد بعد، وهو الثبت.
حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ميمونة وهو محرم، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبد المطلب، فزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهو محرم.
حدثني هشام بن سعد، عن عطاء الخراساني، عن سعيد بن المسيب، قال: لما حل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها.

حدثني ابن أبي حبيبة، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: إن عمارة بنت حمزة بن عبد المطلب وأمها سلمى بنت عميس كانت بمكة، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: علام نترك بنت عمنا يتيمةً بين ظهري المشركين؟ فلم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن إخراجها، فخرج بها؛ فتكلم زيد بن حارثة، وكان وصى حمزة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين آخى بين المهاجرين، فقال: أنا أحق بها، ابنة أخي! فلما سمع ذلك جعفر قال: الخالة والدةٌ، وأنا أحق بها لمكان خالتها عندي، أسماء بنت عميس. فقال علي رضي الله عنه: ألا أراكم في ابنة عمي ، وأنا أخرجتها من بين أظهر المشركين، وليس لكم إليها نسبٌ دوني، وأنا أحق بها منكم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أحكم بينكم! أما أ،ت يا زيد فمولى الله ورسوله، وأما أنت يا علي فأخي وصاحبي، وأما أنت يا جعفر فتشبه خلقي وخلقي، وأنت يا جعفر أحق بها! تحتك خالتها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا على عمتها فقضى بها لجعفر. قال ابن واقد: فلما قضى بها لجعفر قام جعفر فحجل حول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا جعفر؟ قال: يا رسول الله، كان النجاشي إذا أرضى أحداً قام فحجل حوله. فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: تزوجها! فقال: ابنة أخي من الرضاعة! فزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمة بن أبي سلمة. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: هل جزيت سلمة؟ حدثني عبيد الله بن محمد قال: فلما كان عند الظهر يوم الرابع، أتى سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى - ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلسٍ من مجالس الأنصار يتحدث معه سعد بن عبادة - فقال: قد انقضى أجلك، فاخرج عنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما عليكم لو تركتموني فأعرست بين أظهركم ، فصنعت لكم طعاماً؟ فقالا: لا حاجة لنا في طعامك، اخرج عنا! ننشدك الله يا محمد والعهد الذي بيننا وبينك إلا خرجت من أرضنا؛ فهذه الثلاث قد مضت! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل بيتاً، وضربت له قبةٌ من الأدم بالأبطح، فكان هناك حتى خرج منها، لم يدخل تحت سقف بيت من بيوتها. فغضب سعد ابن عبادة لما رأى من غلظة كلامهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال لسهيل: كذبت لا أم لك، ليست بأرضك ولا أرض أبيك! والله لا يبرح منها إلا طائعاً راضياً. فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا سعد، لا تؤذ قوماً زارونا في رحالنا. قال: وأسكت الرجلان عن سعد. قال: ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا رافع بالرحيل، وقال: لا يميسين بها أحدٌ من المسلمين. وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل سرف، وتتام الناس، وخلف أبا رافع ليحمل إليه زوجته حين يمسي، وأقام أبو رافع حتى أمسى، فخرج بميمونة ومن معها، فلقوا عناءً من سفهاء المشركين، آذوا بألسنتهم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال لها أبو رافع - وانتظر أن يبطش أحدٌ منهم فيستخلى به ، فلم يفعلوا - ألا إني قد قلت لهم: " ما شئتم! هذه والله الخيل والسلاح ببطن يأجج! " وإذا الخيل قد قربت فوقفت لنا هنالك والسلاح، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر مائتين من أصحابه حين طافوا بالبيت أن يذهبوا إلى أصحابهم ببطن يأجج فيقموا على السلاح، ويأتي الآخرون فيقضوا نسكهم ففعلوا، فلما انتهينا إلى بطن يأجج ساروا معنا، فلم نأت سرف حتى ذهب عامة الليل، ثم أتينا سرف، فبنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أدلج حتى قدم المدينة.
سرية ابن أبي العوجاء السلمي
في ذي الحجة سنة سبع

حدثني محمد، عن الزهري، قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عمرة القضاء سنة سبع - رجع في ذي الحجة سنة سبع - بعث ابن أبي العوجاء السلمي في خمسين رجلاً، فخرج إلى بني سليم. وكان عين لبني سليم معه، فلما فصل من المدينة خرج العين إلى قومه فحذرهم وأخبرهم، فجمعوا جمعاً كثيراً. وجاءهم ابن أبي العوجاء والقوم معدون له، فلما رآهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأوا جمعهم دعوهم إلى الإسلام، فرشقوهم بالنبل ولم يسمعوا قولهم، وقالوا: لا حاجة لنا إلى ما دعوتم إليه. فراموهم ساعة، وجعلت الأمداد تأتي حتى أحدقوا بهم من كل ناحية، فقاتل القوم قتالاً شديداً حتى قتل عامتهم، وأصيب صاحبهم ابن أبي العوجاء جريحاً مع القتلى، ثم تحامل حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إسلام عمرو بن العاصحدثنا عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، قال: قال عمرو بن العاص: كنت للإسلام مجانباً معانداً، فحضرت بدراً مع المشركين فنجوت، ثم حضرت أحداً فنجوت، ثم حضرت الخندق فقلت في نفسي: كم أوضع ؟ والله ليظهرن محمد على قريش! فخلفت مالي بالرهط وأفلت - يعني من الناس - فلم أحضر الحديبية ولا صلحها، وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلح ورجعت قريش إلى مكة، فجعلت أقول: يدخل محمد قابلاً مكة بأصحابه؛ ما مكة بمنزلٍ ولا الطائف، وما من شيءٍ خير من الخروج. وأنا بعد ناتٍ عن الإسلام، أرى لو أسلمت قريش كلها لم أسلم. فقدمت مكة فجمعت رجالاً من قومي كانوا يرون رأيي ويسمعون مني ويقدمونني فيما نابهم، فقلت لهم: كيف أنا فيكم؟ قالوا: ذو رأينا ومدرهنا ، مع يمن نفسٍ وبركة أمر . قال، قلت: تعلمون والله أني لأرى أمر محمد أمراً يعلو الأمور علواً منكراً، وإني قد رأيت رأياً. قالوا: ما هو؟ قال: نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن كان يظهر محمدٌ كنا عند النجاشي، فنكون تحت يد النجاشي أحب إلينا من أن نكون تحت يد محمد؛ وإن تظهر قريش فنحن من قد عرفوا. قالوا: هذا الرأي. قال: فاجمعوا ما تهدونه له. وكان أحب ما يهدى إليه من أرضنا الأدم. قال: فجمعنا أدماً كثيراً، ثم خرجنا حتى قدمنا على النجاشي، فوالله إنا لعنده إذ جاء عمرو بن أمية الضمري، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه إليه بكتابٍ كتبه إليه يزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، فدخل عليه ثم خرج من عنده، فقلت لأصحابي: هذا عمرو بن أمية، ولو قد دخلت على النجاشي وسألته إياه فأعطانيه فضربت عنقه، فإذا فعلت ذلك سرت قريش وكنت قد أجزأت عنها حين قتلت رسول محمد. قال: فدخلت على النجاشي فسجدت له كما كنت أصنع، فقال: مرحباً بصديقي! أهديت لي من بلادك شيئاً؟ قال: فقلت: نعم أيها الملك، أهديت لك أدماً كثيراً. ثم قربته إليه، فأعجبه، وفرق منه أشياء بين بطارقته، وأمر بسائره فأدخل في موضعٍ، وأمر أن يكتب ويحتفظ به. فلما رأيت طيب نفسه قلت: أيها الملك، إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا؛ قد وترنا وقتل أشرافنا وخيارنا فأعطنيه فأقتله! فرفع يده فضرب بها أنفي ضربةً ظننت أنه كسره، وابتدر منخاري، فجعلت أتلقى الدم بثيابي، وأصابني من الذل ما لو انشقت بي الأرض دخلت فيها فرقاً منه. ثم قلت له: أيها الملك، لو ظننت أنك تكره ما فعلت ما سألتك. قال: واستحيى وقال: يا عمرو، تسألني أن أعطيك رسول رسول الله - من يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى، والذي كان يأتي عيسى بن مريم - لتقتله؟

قال عمرو: وغير الله قلبي عما كنت عليه، وقلت في نفسي: عرف هذا الحق العرب والعجم وتخالف أنت؟ قلت: أتشهد أيها الملك بهذا؟ قال: نعم، أشهد به عند الله يا عمرو فأطعني واتبعه؛ والله إنه لعلى الحق، وليظهرن على كل دينٍ خالفه، كما ظهر موسى على فرعون وجنوده. قلت: أفتبايعني على الإسلام؟ قال: نعم. فبسط يده فبايعته على الإسلام، ودعا لي بطستٍ فغسل عني الدم وكساني ثياباً، وكانت ثيابي قد امتلأت من الدم فألقيتها، ثم خرجت إلى أصحابي فلما رأوا كسوة الملك سروا بذلك وقالوا: هل أدركت صاحبك ما أردت؟ فقلت لهم: كرهت أن أكلمه في أول مرة وقلت أعود إليه. قالوا: الرأي ما رأيت! وفارقتهم كأني أعمد لحاجة فعمدت إلى موضع السفن، فأجد سفينةً قد شحنت برقعٍ ، فركبت معهم ودفعوها حتى انتهوا إلى الشعيبة ، وخرجت من الشعيبة ومعي نفقةٌ، فابتعت بعيراً وخرجت أريد المدينة حتى خرجت على مر الظهران، ثم مضيت حتى كنت بالهدة، إذا رجلان قد سبقاني بغير كثير يريدان منزلاً، وأحدهما داخلٌ في خيمة، والآخر قائمٌ يمسك الراحلتين، فنظرت وإذا خالد بن الوليد، فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أين تريد؟ قال: محمداً، دخل الناس في الإسلام فلم يبق أحد به طمعٌ ؛ والله لو أقمنا لأخذ برقابنا كما يؤخذ برقبة الضبع في مغارتها. قلت: وأنا والله قد أردت محمداً وأردت الإسلام. وخرج عثمان بن طلحة فرحب بي فنزلنا جميعاً في المنزل، ثم ترافقنا حتى قدمنا المدينة، فما أنسى قول رجل لقيناه ببئر أبي عتبة يصيح: يا رباح! يا رباح! فتفاءلنا بقوله وسرنا، ثم نظر إلينا فأسمعه يقول: قد أعطت مكة المقادة بعد هذين! فظننت أنه يعنيني وخالد بن الوليد، ثم ولى مدبراً إلى المسجد سريعاً فظننت أنه يبشر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدومنا، فكان كما ظننت. وأنخنا بالحرة فلبسنا من صالح ثيابنا، ونودي بالعصر فانطلقنا جميعاً حتى طلعنا عليه صلوات الله عليه، وإن لوجهه تهللاً، والمسلمون حوله قد سروا بإسلامنا. فتقدم خالد بن الوليد فبايع، ثم تقدم عثمان بن طلحة فبايع، ثم تقدمت، فوالله ما هو إلا أن جلست بين يديه فما استطعت أن أرفع طرفي إليه حياءً منه، فبايعته على أن يغفر لي ما تقدم من ذنبي، ولم يحضرني ما تأخر. فقال: إن الإسلام يجب ما كان قبله، والهجرة تجب ما كان قبلها. قال: فوالله ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبخالد بن الوليد أحداً من أصحابه في أمرٍ حزبه منذ أسلمنا، ولقد كنا عند أبي بكر بتلك المنزلة، ولقد كنت عند عمر بتلك الحالة، وكان عمر على خالد كالعاتب.
قال عبد الحميد: فذكرت هذا الحديث ليزيد بن أبي حبيب فقال: أخبرني راشدٌ مولى حبيب بن أبي أويس، عن حبيب بن أوس الثقفي، عن عمرو، نحو ذلك. قال عبد الحميد: فقلت ليزيد: فلم يوقت لك متى قدم عمرو وخالد؟ قال: لا، إلا أنه قبيل الفتح، قلت: وإن أبي أخبرني أن عمراً، وخالداً، وعثمان بن طلحة، قدموا المدينة لهلال صفر سنة ثمان.

وأخبرنا أبو القاسم عبد الوهاب بن أبي حبيبة، قراءةً عليه، حدثنا محمد بن شجاع قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، فحدثني يحيى بن المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، سمعت أبي يحدث يقول: قال خالد بن الوليد: لما أراد اللهبي من الخير ما أراد قذف في قلبي حب الإسلام، وحضرني رشدي، وقلت: قد شهدت هذه المواطن كلها على محمدٍ، فليس موطنٌ اشهده إلا أنصرف وأنا أرى في نفسي أني موضع في غير شيءٍ وأن محمداً سيظهر. فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية خرجت في خيلٍِ من المشركين فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه بعسفان؛ فقمت بإزاءه وتعرضت له، فصلى بأصحابه الظهر آمناً منا، فهممنا أن نغير عليه، ثم لم يعزم لنا - وكانت فيه خيرةٌ - فاطلع على ما في أنفسنا من الهموم فصلى بأصحابه صلاة العصر صلاة الخوف، فوقع ذلك مني موقعاً وقلت: الرجل ممنوع! وافترقنا وعدل عن سنن خيلنا وأخذ ذات اليمين؛ فلما صالح قريشاً بالحديبية ودافعته قريشٌ بالرواح قلت في نفسي: أي شيءٍ بقي؟ أين المذهب إلى النجاشي؟ فقد اتبع محمداً، وأصحابه آمنون عنده، فأخرج إلى هرقل؟ فأخرج من ديني إلى نصرانيةٍ أو يهودية، فأقيم مع عجمٍ تابعاً، أو أقيم في داري فيمن بقي؟ فأنا على ذلك إذ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فتغيبت فلم أشهد دخوله، وكان أخي الوليد بن الوليد قد دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية، فطلبني فلم يجدني فكتب إلي كتاباً فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك! ومثل الإسلام جهله أحد؟ وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فقال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به. فقال: ما مثله جهل الإسلام! ولو كان جعل نكايته وجده مع المسلمين على المشركين، لكان خيراً له، ولقدمناه على غيره. فاستدرك يا أخي ما فاتك، فقد فاتتك مواطن صالحة. قال: فلما جاءني كتابه نشطت للخروج، وزادني رغبةً في الإسلام وسرني مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال خالد: وارى في النوم كأني في بلادٍ ضيقةٍ جديبة، فخرجت إلى بلدٍ أخضر واسع، فقلت إن هذه لرؤيا. فلما قدمت المدينة قلت: لأذكرنها لأبي بكر. قال: فذكرتها فقال: هو مخرجك الذي هداك الله للإسلام، والضيق الذي كنت فيه من الشرك. فلما أجمعت الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: من أصاحب إلى رسول الله؟ فلقيت صفوان بن أمية فقلت: يا أبا وهب، أما ترى ما نحن فيه؟ إنما نحن أكلة رأسٍ ، وقد ظهر محمدٌ على العرب والعجم، فلو قدمنا على محمدٍ فاتبعناه فإن شرف محمدٍ لنا شرفٌ. فأبى أشد الإباء وقال: لو لم يبق غيري من قريش ما اتبعته أبداً. فافترقنا وقلت: هذا رجلٌ موتور يطلب وتراً، قد قتل أبوه وأخوه ببدر. فلقيت عكرمة بن أبي جهل فقلت له مثل الذي قلت لصفوان، فقال لي مثل ما قال صفوان، قلت: فاطو ما ذكرت لك. قال: لا أذكره وخرجت إلى منزلي فأمرت براحلتي تخرج إلي، فخرجت بها إلى أن ألقى عثمان بن طلحة فقلت: إن هذا لي لصديقٌ ولو ذكرت له ما أريد! ثم ذكرت من قتل من آبائه فكرهت أذكره، ثم قلت: وما علي وأنا راحلٌ من ساعتي. فذكرت له ما صار الأمر إليه فقلت: إنما نحن بمنزلة ثعلب في جحرٍ، لو صب عليه ذنوب من ماءٍ لخرج. قال: وقلت له نحواً مما قلت لصاحبيه، فاسرع الإجابة وقال: لقد غدوت اليوم وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخٍ مناخةٌ. قال: فاتعدت أنا وهو بيأجج، إن سبقني أقام وإن سبقته أقمت عليه. قال: فأدلجنا سحراً فلم يطلع الفجر حتى التقينا بيأجج؛ فغدونا حتى انتهينا إلى الهدة، فنجد عمرو بن العاص بها فقال: مرحباً بالقوم! فقلنا: وبك! قال: فأين مسيركم؟ قلنا: ما أخرجك؟ قال: فما الذي أخرجكم؟ قلنا: الدخول في الإسلام واتباع محمد صلى الله عليه وسلم. قال: وذلك الذي أقدمني. قال: فاصطحبنا جميعاً حتى قدمنا المدينة فأنخنا بظاهر الحرة ركابنا، فأخبر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر بنا؛ فلبست من صالح ثيابي، ثم عمدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيني أخي فقال: أسرع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر بك فسر بقدومك وهو ينتظركم. فأسرعت المشي فطلعت عليه، فما زال يبتسم إلي حتى وقفت عليه، فسلمت عليه بالنبوة فرد على السلام

بوجهٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .هٍ طلق، فقلت: إني أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال: الحمد لله الذي هداك! قد كنت أرى لك عقلاً رجوت ألا يسلمك إلا إلى الخير. قلت: يا رسول الله، قد رأيت ما كنت أشهد من تلك المواطن عليك معانداً عن الحق، فادع الله أن يغفرها لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام يجب ما كان قبله قلت: يا رسول الله، على ذلك؟ فقال: اللهم اغفر لخالد كل ما أوضع فيه من صدٍ عن سبيلك. قال خالد: وتقدم عمرو، وعثمان، فبايعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قدومنا في صفر سنة ثمان، فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه .
قال أبو عبد الله: سألت عبد الله بن عمرو بن زهير الكعبي: متى كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة كتابه؟ فقال: أخبرني أبي، عن قبيصة بن ذؤيب أنه كتب لهم في جمادة الآخرة سنة ثمان. وذلك أنه أسلم قوم من العرب كثيرٌ، ومنهم من هو بعد مقيمٌ على شركه، ولما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية لم يبق من خزاعة أحدٌ إلا مسلمٌ مصدق بمحمد، قد أتوا بالإسلام وهو فيمن حوله قليلٌ، حتى قدم علقمة بن علاثة وابنا هوذة وهاجروا، فذلك حيث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خزاعة: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بديل، وبشر ، وسروات بني عمرو، سلامٌ عليكم، فإني أحمد الله إليكم، الله لا إله إلا هو، أما بعد؛ فإني لم آثم بإلكم، ولم أضع في جنبكم، وإن أكرم تهامة علي أنتم، وأقربهم رحماً أنتم ومن تبعكم من المطيبين. فإني قد أخذت لمن قد هاجر منكم مثل ما أخذت لنفسي - ولو هاجر بأرضه - غير ساكن مكة إلا معتمراً أو حاجاً؛ وإني لم أضع فيكم إذ سالمت ، وإنكم غير خائفين من قبلي ولا محصورين. أما بعد: فإنه قد أسلم علقمة بن علاثة وابناه، وتابعا وهاجرا على من تبعهما من عكرمة؛ أخذت لمن تبعني منكم ما آخذ لنفسي، وإن بعضنا من بعض أبداً في الحل والحرم، وإنني والله ما كذبتكم وليحبكم ربكم.
حدثني عبد الله بن بديل، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن مسلمة، عن أبيه، عن بديل بن ورقاء مثل ذلك.
سريةٌ أميرها غالب بن عبد الله بالكديد
في صفر سنة ثمان

حدثنا الواقدي قال: حدثنا عبد الله بن جعفر، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن يعقوب بن عتبة، عن مسلم بن عبد الله الجهني، عن جندب ابن مكيث الجهني، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم غالب بن عبد الله الليثي أحد بني كلب بن عوف، في سريةٍ كنت فيهم ، وأمره أن يشن الغارة على بني الملوح بالكديد، وهم من بني ليث. فخرجنا حتى إذا كنا بقديدٍ لقينا الحارث بن مالك بن البرصاء، فأخذناه فقال: إنما جئت أريد الإسلام. فقلنا: لا يضرك رباط ليلةٍ إن كنت تريد الإسلام، وإن يكن غير ذلك نستوثق منك. فشددناه وثاقاً، وخلفنا عليه رجلاً منا يقال له سويد بن صخر، وقلنا: إن نازعك فاحتز رأسه. ثم سرنا حتى أتينا الكديد عند غروب الشمس، فكمن ناحية الوادي، فبعثني أصحابي ربيئةً لهم، فخرجت فأتيت تلاً مشرفاً على الحاضر يطلعني عليهم، حتى إذا أسندت فيه وعلوت على رأسه انبطحت، فوالله إني لأنظر إذ خرج رجل منهم، من خباءٍ له فقال لامرأته: والله إني لأرى على هذا التل سواداً ما رأيته عليه صدر يومي هذا، فانظري إلى أوعيتك لا تكون الكلاب أخذت منها شيئاً. فنظرت فقالت: والله ما أفقد من أوعيتي شيئاً. فقال: ناوليني قوسي ونبلي! فناولته قوسه وسهمين معها، فأرسل سهماً، فوالله ما أخطأ به جنبي، فانتزعته فوضعته وثبت مكاني. ثم رماني الآخر فخالطني به أيضاً، فأخذته فوضعته وثبت مكاني. فقال لامرأته: والله لو كان زائلةً لتحرك بعد، لقد خالطه سهماي، لا أبا لك! إذا أصبحت فاتبعيهما؛ لا تمضغهما الكلاب. ثم دخل خباءه وراحت ماشية الحي من غبلهم وأغنامهم، فحلبوا وعطنوا ، فلما اطمأنوا وهدأوا شننا عليهم الغارة، فقتلنا المقاتلة وسبينا الذرية، واستقنا النعم والشاء فخرجنا نحدرها قبل المدينة حتى مررنا بأبي البرصاء فاحتملناه واحتملنا صاحبنا. وخرج صريخ القوم في قومهم فجاءنا ما لا قبل لنا به، ونظروا إلينا وبيننا وبينهم الوادي وهم موجهون إلينا، فجاء الله الوادي من حيث شاء بماءٍ ملأ جنبيه؛ وأيم الله ما رأينا قبل ذلك سحاباً ولا مطراً، فجاء بما لا يستطيع أحدٌ أن يجوزه، فلقد رأيتهم وقوفاً ينظرون إلينا وقد أسندنا في المشلل وفتناهم، فهم لا يقدرون على طلبنا، فما أنسى رجز أميرنا غالب:
أبى أبو القاسم أن تعز بي ... وذاك قول صادقٍ لم يكذب
في خضلٍ نباته مغلولب ... صفرٍ أعاليه كلون المذهب
ثم قدمنا المدينة.
فحدثني عبد العزيز بن عقبة، عن محمد بن حمزة بن عمر الأسلمي، عن أبيه، قال: كنت معهم ونا بضعة عشر رجلاً، شعارنا: أمت! أمت!
سرية كعب بن عمير إلى ذات أطلاح
في شهر ربيع الأول سنة ثمانقال الواقدي: حدثني محمد بن عبد الله، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن عمير الغفاري في خمسة عشر رجلاً حتى انتهوا إلى ذات أطلاح من أرض الشام، فوجدوا جمعاً من جمعهم كثيراً، فدعوهم إلى الإسلام فلم يستجيبوا لهم ورشقوهم بالنبل. فلما رأى ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قاتلوهم أشد القتال حتى قتلوا، فأفلت منهم رجلٌ جريحٌ في القتلى، فلما برد عليه الليل تحامل حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بالبعث إليهم، فبلغه أنهم قد ساروا إلى موضع آخر فتركهم.
حدثني ابن أبي سبرة، عن الحارث بن الفضيل، قال: كان كعب يكمن النهار ويسير الليل حتى دنا منهم، فرآه عينٌ لهم فأخبرهم بقلة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فجاءوا على الخيول فقتلوهم.
سرية شجاع بن وهب
إلى السي من أرض بني عامر من ناحية ركبة
في ربيع الأول سنة ثمان؛ وسرية إلى خثعم بتبالةحدثني الواقدي قال: حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم شجاع بن وهب في أربعة وعشرين رجلاً إلى جمعٍ من هوازي بالسي، وأمره أن يغير عليهم، فخرج؛ فكان يسير الليل ويكمن النهار حتى صبحهم وهم غارون، وقد أوعز إلى أصحابه قبل ذلك ألا يمعنوا في الطلب، فأصابوا نعماً كثيراً وشاءً، فاستاقوا ذلك كله حتى قدموا المدينة واقتسموا الغنيمة ، وكانت سهامهم خمسة عشر بعيراً؛ كل رجلٍ، وعدلوا البعير بعشرة من الغنم، وغابت السرية خمس عشرة ليلة.

قال ابن أبي سبرة: فحدثت هذا الحديث محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان فقال: كانوا قد أصابوا في الحاضر نسوةً فاستاقوهن، وكانت فيهن جاريةٌ وضيئةٌ فقدموا بها المدينة. ثم قدم وفدهم مسلمين، فلما قدموا كلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم شجاعاً وأصحابه في ردهن، فسلموهن وردوهن إلى أصحابهن.
قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخاً من الأنصار بذلك فقال: أما الجارية الوضيئة فكان شجاع بن وهب قد أخذها لنفسه بثمنٍ فأصابها، فلما قدم الوفد خيرها، فاختارت المقام عند شجاع بن وهب، فلقد قتل يوم اليمامة وهي عنده، ولم يكن له منها ولدٌ. فقلت لابن أبي سبرة: ما سمعت أحداً قط يذكر هذه السرية. فقال ابن أبي سبرة: ليس كل العلم سمعته. قال: أجل والله.
فقال ابن أبي سبرة: لقد حدثني إسحاق بن عبد الله سريةً أخرى، قال إسحاق: حدثني ابن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث قطبة بن عامر بن حديدة في عشرين رجلاً إلى حيٍّ من خثعم بناحية تبالة، وأمره أن يشن الغارة عليهم، وأن يسير الليل ويكمن النهار، وأمره أن يغذ السير. فخرجوا على عشرة أبعرة يعتقبونها، قد غيبوا السلاح؛ فأخذوا على الفتق حتى انتهوا إلى بطن مسحب ، فأخذوا رجلاً فسألوه فاستعجم عليهم، فجعل يصيح بالحاضر، فقدمه قطبة فضرب عنقه ثم أقاموا حتى كان ساعة من الليل، فخرج رجلٌ منهم طليعةً فيجد حاضر نعمٍ، فيه النعم والشاء؛ فرجع إلى أصحابه فأخبرهم، فأقبل القوم يدنون دبيباً يخافون الحرس، حتى انتهوا إلى الحاضر وقد ناموا وهدأوا؛ فكبروا وشنوا الغارة، فخرج إليهم رجال الحاضر، فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى كثرت الجراح في الفريقين. وأصبحوا وجاء الخثعميون الدهم ، فحال بينهم سيلٌ أتى، فما قدر رجلٌ واحدٌ منهم يمضي حتى أتى قطبة على أهل الحاضر، فأقبل بالنعم والشاء والنساء إلى المدينة، فكان سهامهم أربعة أربعة، والبعير بعشرة من الغنم بعد أن خرج الخمس. وكان في صفر سنة تسع
غزوة مؤتةحدثنا الواقدي قال: حدثني ربيعة بن عثمان، عن عمر بن الحكم، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير الأزدي ثم أحد بني لهب، إلى ملك بصرى بكتاب، فلما نزل مؤتة عرض له شرحبيل بن عمرو الغساني فقال: أين تريد؟ قال: الشام. قال: لعلك من رسل محمدٍ؟ قال: نعم، أنا رسول رسول الله. فأمر به فأوثق رباطاً، ثم قدمه فضرب عنقه صبراً. ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسولٌ غيره، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر فاشتد عليه، وندب الناس وأخبرهم بمقتل الحارث ومن قتله، فأسرع الناس وخرجوا فعسكروا بالجرف، ولم يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر،فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر جلس وجلس أصحابه، وجاء النعمان بن فنحص اليهودي، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زيد بن حارثة أمير الناس، فإن قتل زيد بن حارثة فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب عبد الله بن رواحة فليرتض المسلمون بينهم رجلاً فليجعلوه عليهم. فقال النعمان بن فنحص: أبا القاسم، إن كنت نبياً فسميت من سميت قليلاً أو كثيراً أصيبوا جميعاً، إن الأنبياء في بني إسرائيل إذا استعملوا الرجل على القوم ثم قالوا إن أصيب فلان، فلو سمى مائة أصيبوا جميعاً. ثم جعل اليهودي يقول لزيد ابن حارثة: اعهد، فلا ترجع إلى محمد أبداً إن كان نبياً! فقال زيد: فأشهد أنه نبيٌّ صادقٌ بارٌ. فلما أجمعوا المسير وقد عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم اللواء ودفعه إلى زيد بن حارثة - لواء أبيض - مشى الناس إلى أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم يودعونهم ويدعون لهم، وجعل المسلمون يودع بعضهم بعضاً، والمسلمون ثلاثة آلاف، فلما ساروا من معسكرهم نادى المسلمون: دفع الله عنكم، وردكم صالحين غانمين. قال ابن رواحة عند ذلك:
لكني أسال الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرعٍ تقذف الزبدا
وهي أبياتٌ أنشدنيها شعيب بن عبادة.

حدثني ابن أبي سبرة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن رافع بن إسحاق، عن زيد بن أرقم، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيراً. أو قال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، فقاتلوا من كفر بالله، لاتغدروا ولا تغلوا ولا تقتلوا وليداً، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث؛ فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم واكفف عنهم؛ ادعهم إلى الدخول في الإسلام، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين؛ وإن دخلوا في الإسلام واختاروا دارهم، فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله، ولا يكون لهم في الفيء ولا في القسمة شيءٌ إلا أن يجاهدوا مع المسلمين؛ فإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن فعلوا فاقبل منهم واكفف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم؛ وإن أنت حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك أن تستنزلهم على حكم الله فلا تستنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا. وإن حاصرت أهل حصنٍ أو مدينةٍ فأرادوك على أن تجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، فلا تجعل لهم ذمة الله ولا ذمة رسوله، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أبيك وذمة أصحابك، فإنكم أن تخفروا ذمتكم وذمم آبائكم خيرٌ لكم من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله.
حدثني أبو صفوان، عن خالد بن يزيد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم مشيعاً لأهل مؤتة حتى بلغ ثنية الوداع، فوقف ووقفوا حوله فقال: اغزوا بسم الله، فقاتلوا عدو الله وعدوكم بالشام، وستجدون فيها رجالاً في الصوامع معتزلين للناس، فلا تعرضوا لهم، وستجدون آخرين للشيطان، في رءوسهم مفاحص فاقلعوها بالسيوف، ولا تقتلن امرأةً ولا صغيراً ولا مرضعاً ولا كبيراً فانياً، لا تغرقن نخلاً ولا تقطعن شجراً، ولا تهدموا بيتاً.
حدثني أبو القاسم بن عمارة بن غزية، عن أبيه، عن عطاء بن أبي مسلم؛ قال: لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة قال ابن رواحة: يا رسول الله، مرني بشيءٍ أحفظه عنك! قال: إنك قادمٌ غداً بلداً، السجود به قليلٌن فأكثر السجود. قال عبد الله: زدني يا رسول الله! قال: اذكر الله، فإنه عون لك على ما تطلب. فقام من عنده حتى إذا مضى ذاهباً رجع إليه فقال: يا رسول الله، إن الله وتر يحب الوتر! قال: يا ابن رواحة، ما عجزت فلا تعجزن إن أسأت عشراً أن تحسن واحدةً. فقال ابن رواحة: لا أسألك عن شيءٍ بعدها. قال أبو عبد الله: وكان زيد بن أرقم يقول: كنت في حجر عبد الله بن رواحة فلم أر والي يتيمٍ كان خيراً منه؛ خرجت معه في وجهه إلى مؤتة، وصب بي وصببت به فكان يردفني خلف رحله، فقال ذات ليلة وهو على راحلته بين شعبتي الرحل، وهو يتمثل أبيات شعر
إذا بلغتني وحملت رحلي ... مسافة أربعٍ بعد الحساء
فزادك أنعمٌ وخلاك ذمٌّ ... ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشتهى الثواء
هنالك لا أبالي طلع نخلٍ ... ولا نخلٍ أسافلها رواء
فلما سمعت هذه الأبيات بكيت، فخفقني بيده وقال: ما يضرك يا لكع أن يرزقن الله الشهادة فأستريح من الدنيا ونصبها وهمومها وأحزانها وأحداثها. ويرجع بين شعبتي الرحل، ثم نزل نزلة من الليل فصلى ركعتين وعاقبهما دعاءً طويلاً ثم قال لي: يا غلام! فقلت: لبيك! قال: هي إن شاء الله الشهادة.

ومضى المسلمون من المدينة، فسمع العدو بمسيرهم عليهم قبل أن ينتهوا إلى مقتل الحارث بن عمير، فلما فصل المسلمون من المدينة سمع العدو بمسيرهم فجمعوا الجموع. وقام فيهم رجلٌ من الأزد يقال له شرحبيل بالناس، وقدم الطلائع أمامه، وقد نزل المسلمون وادي القرى وأقاموا أياماً، وبعث أخاه سدوس وقتل سدوس وخاف شرحبيل بن عمرو فتحصن، وبعث أخاً له يقال له وبر بن عمرو. فسار المسلمون حتى نزلوا أرض معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء في بهراء ووائل وبكر ولخم وجذام في مائة ألفٍ، عليهم رجلٌ من بلى يقال له مالكٌ. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا ليلتين لينظروا في أمرهم وقالوا: نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره الخبر، فإما يردنا وإما يزيدنا رجالاً. فبينا الناس على ذلك من أمرهم جاءهم ابن رواحة فشجعهم ثم قال: والله ما كنا نقاتل الناس بكثرة عدد، ولا بكثرة سلاحٍ، ولا بكثرة خيولٍ، إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به. انطلقوا والله لقد رأيتنا يوم بدرٍ ما معنا إلا فرسان، ويوم أحد فرسٌ واخدٌ؛ وإنما هي إحدى الحسنيين، إما ظهورٌ عليهم فذلك ما وعدنا الله ووعدنا نبينا، وليس لوعده خلفٌ، وإما الشهادة فنلحق بالإخوان نرافقهم في الجنان! فشجع الناس على مثل قول ابن رواحة.
فحدثني ربيعة بن عثمان، عن المقبري، عن أبي هريرة، قال: شهدت مؤتة، فلما رأينا المشركين راينا ما لا قبل لنا به من العدد والسلاح والكراع والديباج والحرير والذهب، فبرق بصري، فقال لي ثابت ابن أرقم. يا أبا هريرة، ما لك؟ كأنك ترى جموعاً كثيرةً. قلت: نعم، قال: تشهدنا ببدر؟ إنا لم ننصر بالكثرة! حدثني بكير بن مسمار، عن ابن كعب القرظي، وابن أبي سبرة، عن عمارة بن غزية، أحدهما يزيد على الآخر في الحديث، قال: لما التقى المسلمون والمشركون، وكان الأمراء يومئذٍ يقاتلون على أرجلهم، أخذ اللواء زيد بن حارثة، فقاتل الناس معه، والمسلمون على صفوفهم، فقتل زيد بن حارثة. قال ابن كعب القرظي، أخبرني من حضر يومئذٍ قال: لا، ما قتل إلا طعناً بالرمح. ثم أخذه جعفر، فنزل عن فرس له شقراء فعرقبها ، ثم قاتل حتى قتل.
وحدثني عبد الله بن محمد، عن أبيه، قال: ضربه رجلٌ من الروم فقطعه، نصفين، فوقع أحد نصفيه في كرمٍ، فوجد في نصفه ثلاثون أو بضعٌ وثلاثون جرحاً.
حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: وجد مما قتل من بدن جعفر ما بين منكبيه اثنان وسبعون ضربةً بسيف أو طعنةٍ برمح.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن عبد الله بن أبي بكر بن صالح، عن عاصم بن عمر، قال: وجد في بدن جعفر أكثر من ستين جرحاً، ووجد به طعنةٌ قد أنفذته.
حدثني محمد بن صالح، عن عاصم بن عمر بن قتادة، وحدثني عبد الجبار بن عمارة بن عبد الله بن أبي بكر، زاد أحدهما على صاحبه في الحديث قالا: لما التقى الناس بمؤتة جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام، فهو ينظر إلى معتركهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أخذ الراية زيد بن حارثة، فجاءه الشيطان فحبب إليه الحياة وكره إليه الموت وحبب إليه الدنيا! فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تحبب إلي الدنيا! فمضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: استغفروا له، فقد دخل الجنة وهو يسعى! ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب، فجاءه الشيطان فمناه الحياة وكره إليه الموت، ومناه الدنيا فقال: الآن حين استحكم الإيمان في قلوب المؤمنين تمنيني الدنيا! ثم مضى قدماً حتى استشهد، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال: استغفروا لأخيكم فإنه شهيدٌ، دخل الجنة فهو يطير في الجنة بجناحين من ياقوت حيث يشاء من الجنة. ثم أخذ الراية بعده عبد الله بن رواحة، فاستشهد ودخل الجنة معترضاً. فشق ذلك على الأنصار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصابه الجراح. قيل: يا رسول الله، ما اعتراضه؟ قال: لما أصابته الجراح نكل، فعاتب نفسه فشجع، فاستشهد فدخل الجنة. فسري عن قومه.

حدثني عبد الله بن محمد بن عمر بن علي، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً دون ذلك فقلت: ما كنت أظن أن زيداً دون دعفر. فأتى جبريل عليه السلام فقال: إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفر لقرابته منك.
حدثني يحيى بن عبد الله بن أبي قتادة، عن المقبري، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خير الفرسان أبو قتادة، وخير الرجالة سلمة بن الأكوع.
حدثني نافع بن ثابت، عن يحيى بن عباد، عن أبيه، أن رجلاً من بني مرة كان في الجيش. قيل له: إن الناس يقولون إن خالداً انهزم من المشركين. فقال: لا والله ما كان ذلك! لما قتل ابن رواحة نظرت إلى اللواء قد سقط، واختلط المسلمون والمشركون، فنظرت إلى اللواء في يد خالد منهزماً، واتبعناه فكانت الهزيمة.
حدثني محمد بن صالح، عن رجل من العرب، عن أبيه، قال: لما قتل ابن رواحة انهزم المسلمون أسوأ هزيمةٍ رأيتها قط. في كل وجهٍ. ثم إن المسلمين تراجعوا. فأقبل رجلٌ من الأنصار يقال له ثابت بن أرقم، فأخذ اللواء وجعل يصيح بالأنصار، فجعل الناس يثوبون إليه من كل وجهٍ وهم قليل وهو يقول: إلي أيها الناس! فاجتمعوا إليه. قال: فنظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان! فقال: لا آخذه، أنت أحق به. أنت رجلٌ لك سنٌّ، وقد شهدت بدراً. قال ثابت: خذه أيها الرجل! فوالله ما أخذته إلا لك! فأخذه خالدٌ فحمله ساعة، وجعل المشركون يحملون عليه. فثبت حتى تكركر المشركون. وحمل بأصحابه ففض جمعاً من جمعهم، ثم دهمه منهم بشرٌ كثيرٌ. فانحاش المسلمون فانكشفوا راجعين.
حدثني ابن أبي سبرة. عن إسحاق بن عبد الله. عن ابن كعب بن مالك. قال: حدثني نفرٌ من قومي حضروا يومئذٍ قالوا: لما أخذ اللواء انكشف بالناس فكانت الهزيمة. وقتل المسلمون. واتبعهم المشركون، فجعل قطبة بن عامر يصيح: يا قوم. يقتل الرجل مقبلاً أحسن أن يقتل مدبراً! يصيح بأصحابه فما يثوب إليه أحد، هي الهزيمة، ويتبعون صاحب الراية منهزماً.
حدثني إسماعيل بن مصعب، عن إبراهيم بن يحيى بن زيد، قال: لما أخذ اللواء ثابت بن أرقم، فاصطلح الناس على خالد بن الوليد، قال ثابت: اصطلحتم على خالد؟ قالوا: نعم. فأخذه خالد فانكشف بالناس.
حدثني عطاف بن خالد قال: لما قتل ابن رواحة مساءً بات خالد بن الوليد، فلما أصبح غدا، وقد جعل مقدمته ساقته، وساقته مقدمته، وميمنته ميسرته، وميسرته ميمنته، فأنكروا ما كانوا يعرفون من راياتهم وهيأتهم وقالوا: قد جاءهم مددٌ! فرعبوا فانكشفوا منهزمين، فقتلوا مقتلة لم يقتلها قومٌ.
حدثني عبد الله بن الفضيل، عن أبيه، قال: لما أخذ خالد الراية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الآن حمي الوطيس! قال أبو عبد الله: والأول أثبت عندنا؛ أن خالداً انهزم بالناس. قال ابن أبي الزناد: بلغت الدماء بين الخيل موضع الأشاعر من الحافر ؛ والوطيس أيضاً ذاك، وإذا حمي ذلك الموضع من الدابة كان أشد لعدوها.
حدثني داود بن سنان قال: سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد يومئذٍ حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به.
حدثني خالد بن إلياس، عن صالح بن أبي حسان، عن عبيد بن حنين، عن أبي سعيد الخدري، قال: أقبل خالد بن الوليد بالناس منهزماً، فلما سمع أهل المدينة بجيش مؤتة قادمين تلقوهم بالجرف، فجعل الناس يحثون في وجوههم التراب ويقولون: يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بفرار، ولكنهم كرارٌ إن شاء الله! حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن عتبة، يقول: ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل المدينة؛ لقيهم أهل المدينة بالشر حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته وأهله، فيدق عليهم الباب فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: ألا تقدمت مع أصحابك؟ فأما من كان كبيراً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في بيته استحياءً حتى جعل النبي صلى الله عليه وسلم يرسل إليهم رجلاً رجلاً، يقول: أنتم الكرار في سبيل الله!

حدثني مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال: كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة، فدخلت امرأته على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ آشتكى شيئاً؟ قالت امرأته: لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج؛ إذا خرج صاحوا به وبأصحابه يا فرار، أفررتم في سبيل الله؟. حتى قعد في البيت. فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل، هم الكرار في سبيل الله، فليخرج! فخرج.
حدثني خالد بن إلياس، عن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس، لقد كان بيني وبين ابن عمرٍّ لي كلام، فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقول له.
حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن أم عيسى بن الحزار، عن أم جعفر بنت محمد بن جعفر، عن جدتها أسماء بنت عميس، قالت: أصبحت في اليوم الذي أصيب فيه جعفر وأصحابه فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد هيأت أربعين منا من أدم ، وعجنت عجيني، وأخذت بني فغسلت وجوههم ودهنتهم؟ فدخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أسماء، أين بنو جعفر؟ فجئت بهم إليه فضمهم وشمهم، ثم ذرفت عيناه فبكى، فقلت: أي رسول الله، لعلك بلغك عن جعفر شيءٌ؟ فقال: نعم، قتل اليوم. قالت: فقمت أصيح، واجتمع إلي النساء. قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا أسماء، لا تقولي هجراً ولا تضربي صدراً! قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على ابنته فاطمة وهي تقول: واعماه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على مثل جعفر فلتبك الباكية! ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد شغلوا عن أنفسهم اليوم.
حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبي يعلى، قال: سمعت عبد الله ابن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمي فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي، وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال: اللهم، إن جعفراً قد قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من عبادك في ذريته! ثم قال: يا أسماء، ألا أبشرك؟ قالت: بلى، بأبي أنت وأمي! قال: فإن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في الجنة! قالت: بأبي وأمي يا رسول الله، فأعلم الناس ذلك! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ بيدي، يمسح بيده رأسي حتى رقي على المنبر، وأجلسني أمامه على الدرجة السفلى، والحزن يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثيرٌ بأخيه وابن عمه، ألا إن جعفراً قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين يطير بهما في الجنة. ثم نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل بيته وأدخلني، وأمر بطعامٍ فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخي فتغدينا عنده والله غداءً طيباً مباركاً؛ عمدت سلمى خادمته إلى شعيرٍ فطحنته&#