يا بلوجر ربنا يهديك لدين الاسلام الرافض قطعا لسلوكك بالتعدي علي المدونين وسيدخل نار جهنم ان لم تتب

يا بلوجر متي يهدك ربنا وتتوب عن تدخلك السافر في روابط المدونات وتحويلها الي صفحة المشاركات في كل مدوناتك –اعلم ان جوجل لن يحاسبك عن هذه التجاوزات الخطيرة للمصالح المشتركة بينكما لكن لا اعلم اين غابت عنكم  ضمائركم ونخوات المروءة والشهامة والحفاظ علي الامانة عندكم فهذا الرابط موضوع في كلمة   .Bloggerدرافتك المشؤوم الملوث{المظهر: Awesome Inc.. يتم التشغيل بواسطة Blogger. } اوف لك ولفعلك

4 دقائق مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هود

دقائق4 مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هو

الخميس، 27 أكتوبر 2022

ج3.وج4 كتاب : البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي

 

علوم القران للزركشي

ج3.وج4.

ج3. كتاب : البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي 
: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} ولم يأمره بالمسير الحسي إنما أمره أن يخلفه في قومه ويصلح وهذا بخلاف قول هارون: {فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} فإنه اتباع محسوس في ترك ما سواه بدليل قوله وأطيعوا أمري وهو لا أمر له إلا الحسي.
وكذلك: {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} حيث وقع لأن النكير معتبر من جهة الملكوت لا من جهة أثره المحسوس فإن أثره قد انقضى وأخبر عنه بالفعل الماضي والنكير اسم ثابت في الأزمان كلها فيه التنبيه على أنه كما أخذ أولئك يأخذ غيرهم
وكذلك: {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} خاف موسى عليه السلام أن يكذبوه فيما جاءهم به وأن يكون سببه من قبله من جهة إفهامه لهم بالوحي فإنه كان عالي البيان لأنه كليم الرحمن فبلاغته لا تصل إليها أفهامهم فيصير إفصاحه العالي عند فهمهم النازل عقدة عليهم في اللسان يحتاج إلى ترجمان فإن يقع بعده تكذيب فيكون من قبل أنفسهم وبه تتم الحجة عليهم
وكذلك: {إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} هو الإرادة الأخروي الملكوتي
وكذلك: {أَنْ تَرْجُمُونِ} ليس هو الرجم بالحجارة إنما هو ما يرمونه من بهتانهم
وكذلك: {فَحَقَّ وَعِيدِ}{لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} هو الأخروي الملكوتي

وكذلك: {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} ، {رَبِّي أَهَانَنِ} هذا الإنسان يعتبر منزلته عند الله في الملكوت بما يبتليه في الدنيا وهذا من الإنسان خطأ لأن الله تعالى يبتلي الصالح والطالح لقيام حجته على خلقه
والقسم الثاني : من الضرب الأول إذا كانت الياء لام الكلمة سواء كانت في الاسم أو الفعل نحو: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} حذفت تنبيها على المخلص لله الذي قلبه ونهايته في دعائه في الملكوت والآخرة لا في الدنيا
وكذلك: {الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} هو داع ملكوتي من عالم الآخرة
وكذلك: {يَوْمَ يَأْتِ} هو إتيان ملكوتي أخروي آخره متصل بما وراءه من الغيب
وكذلك: {الْمُهْتَدِ}
وكذلك: {وَالْبَادِ} حذف لأنه على غير حال الحاضر الشاهد وقد جعل الله لها سرا
وكذلك: {كَالْجَوَابِ} من حيث التشبيه فإنه ملكوتي إذ هو صفة تشبيه لا ظهور لها في الإدراك الملكي
وكذلك: {يَوْمَ التَّلاقِ} و{التَّنَادِ} كلاهما ملكوتي أخروي

وكذلك: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} وهو السرى الملكوتي الذي يستدل عليه بآخره من جهة الانقضاء أو بمسير النجوم
وكذلك: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ} تعتبر من حيث هي آية يدل ملكها على ملكوتها فآخرها بالاعتبار يتصل بالملكوت بدليل قوله: {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ}
وكذلك: حذف ياء الفعل من يحيى إذا انفردت وثبتت مع الضمير مثل: { مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ}، {قُلْ يُحْيِيهَا} لأن حياة الباطن أظهر في العلم من حياة الظاهر وأقوى في الإدراك
الضرب الثاني: الذي تسقط فيه الياء في الخط والتلاوة فهو اعتبار غيبة عن باب الإدراك جملة واتصاله بالإسلام لله في مقام الإحسان وهو قسمان منه ضمير المتكلم ومنه لام الفعل
فالأول: إذا كانت الياء ضمير المتكلم فإنها إن كانت للعبد فهو الغائب وإن كانت للرب فالغيبة للمذكور معها فإن العبد هو الغائب عن الإدراك في ذلك كله فهو في هذا المقام مسلم مؤمن بالغيب مكتف بالأدلة فيقتصر في الخط لذلك على نون الوقاية والكسرة ومنه من جهة الخطاب به الحوالة على الاستدلال بالآيات دون تعرض لصفة الذات ولما كان الغرض من القرآن جهة الاستدلال واعتبار الآيات وضرب المثال دون التعرض لصفة الذات كما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} وقال: {فَلا تَضْرِبُوا

لِلَّهِ الأَمْثَالَ} كان الحذف في خواتم الآي كثيرا مثل. {فَاتَّقُونِ} {فَارْهَبُونِ} {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} وهو كثيرا جدا
وكذلك ضمير العبد مثل: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ} غائب عن علم إرادته الرحمن إنما علمه بها تسليما وإيمانا برهانيا.
وكذلك قوله: في العقود. {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} الناس كلي لا يدل على ناس بأعيانهم ولا موصوفين بصفة فهم كلي ولا يعلم الكلي من حيث هو كلي بل من حيث أثر البعض في الإدراك ولا يعلم الكلي إلا من حيث هو أثر الجزئي في الإدراك فالخشية هنا كلية لشيء غير معلوم الحقيقة فوجب أن يكون الله أحق بذلك فإنه حق وإن لم نحط به علما كما أمر الله سبحانه بذلك ولا يخشى غيره وهذا الحذف بخلاف ما جاء في البقرة: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} ضمير الجمع يعود على: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من الناس فهم بعض لا كل ظهروا في الملك بالظلم فالخشية هنا جزئية فأمر سبحانه أن يخشى من جهة ما ظهر كما يجب ذلك من جهة ماستر
وكذلك حذفت الياء من: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} و: {قُلْ يَا عِبَادِ} فإنه خطاب لرسوله عليه السلام على الخصوص فقد توجه الخطاب إليه في فهمنا وغاب العباد كلهم عن علم ذلك فهم غائبون عن شهود هذا الخطاب لا يعلمونه إلا بوساطة الرسول

وهذا بخلاف قوله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} فإنها ثبتت لأنه خطاب لهم في الاخرة غير محجوبين عنه جعلنا الله منهم إنه منعم كريم وثبت حرف النداء فإنه أفهمهم نداءه الأخروي في موطن الدنيا في يوم ظهورهم بعد موتهم وفي محل أعمالهم إلى حضورهم يوم ظهورهم الأخروي بعد موتهم وفي محل جزائهم
وكذلك: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى} ثبت الضمير وحرف النداء في الخط فإنه دعاهم من مقام إسلامهم وحضرة امتثالهم إلى مقام إحسانهم ومثله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا} في العنكبوت فإنه دعاهم من حضرتهم في مقام إيمانهم إلى حضرتهم ومقام إحسانهم إلى ما لا نعلمه من الزيادة بعد الحسنى
وكذلك سقطتا في موطن الدعاء مثل: {رَبِّ اغْفِرْ لِي} حذفت الياء لعدم الإحاطة به عند التوجه إلى الله تعالى لغيبتنا نحن عن الإدراك وحذف حرف النداء لأنه أقرب إلينا من أنفسنا وأما قوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} فأثبت حرف النداء لأنه دعا ربه من مرتبة حضوره معهم في مقام الملك لقوله: {إِنَّ هَؤُلاءِ} وأسقط حرف ضميره لمغيبه عن ذاته في توجهه في مقام الملكوت ورتبة إحسانه في إسلامه
وكذلك في مثل: {يَا قَوْمِ} دلالة على أنه خارج عنهم في خطابه كما هو ظاهر في الإدراك وإن كان متصلا بهم في النسبة الرابطة بينهم في الوجود العلوية من الدلائل
والقسم الثاني إذا كانت الياء لام الكلمة في الفعل أو الاسم فإنها تسقط

من حيث يكون معنى الكلمة يعتبر من مبدئه الظاهر شيئا بعد شيء إلى ملكوتية الباطن إلى ما لا يدرك منه إلا إيمانا وتسليما فيكون حذف الياء منبها على ذلك وإن لم يكمل اعتباره في الظاهر من ذلك الخطاب بحسب عرض الخطاب مثل: {وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً} هو {مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ } وقد ابتدأ ذلك لهم في الدنيا متصلا بالآخرة
وكذلك: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا} حذفت لأنه يهديهم بما نصب لهم في الدنيا من الدلائل والعبر إلى الصراط المستقيم برفع درجاتهم في هدايتهم إلى حيث لا غاية قال الله تعالى: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}
وكذلك: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ} في الروم هذه الهداية هي الكلية على التفصيل بالتوالي التي ترقى العبد في هدايته من الأرباب إلى ما يدركه العيان ليس ذلك للرسول عليه السلام بالنسبة إلى العيان ويدل على ذلك قوله قبلها: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} الآية فهذا النظر من عالم الملك ذاهبا في النظر إلى عالم الملكوت إلى ما لا يدرك إلا إيمانا وتسليما وهذا بخلاف الحرف الذي في النمل: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ} فثبتت الياء لأن هذه الهداية كلية كاملة بدليل قوله: {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ}
وكذلك: {بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ} و{الْوَادِ الأَيْمَنِ} هما مبدأ التقديس

الذي وصفا به فانتقل التقديس واليمن منهما إلى الجمال ذاهبا بهما إلى ما لا يحيط بعلمه إلا الله
وكذلك: {وَادِ النَّمْلِ} هو موضع لابتداء سماع الخطاب من أخفض الخلق وهي النملة إلى أعلاهم وهو الهدهد والطير ومن ظاهر الناس وباطن الجن إلى قول العفريت إلى قول الذي عنده علم من الكتاب إلى ما وراء ذلك من هداية الكتاب إلى مقام الإسلام لله رب العالمين
وكذلك: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ} سقطت الياء تنبيها على أنها لله من حق إنشائها بعد أن لم تكن إلى ما وراء ذلك مما لا نهاية له من صفاتها
وكذلك: {الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} حذفت الياء تنبيها على أنها تجري من محل اتصافها بالخناس إلى محل اتصافها بالكناس وذلك يفهم لأنه اتصف بالخناس عن حركة تقدمت بالوصف الظاهر ويفهم منه وصف بالجوار في الباطن وهذا الظاهر مبدأ لفهمه كالنجوم الجارية داخل تحت معنى الكلمة
فصل: في حذف النون
ويلحق بهذا القسم حذف النون الذي هو لام فعل فيحذف تنبيها على صغر مبدأ الشيء وحقارته وأن منه ينشأ ويزيد إلى ما لا يحيط بعلمه غير الله مثل {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً} حذفت النون تنبيها على مهانة مبتدأ الإنسان وصغر قدره بحسب ما يدرك هو

من نفسه ثم يترقى في أطوار التكوين {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} ، فهو حين كان نطفة كان ناقص الكون كذلك كل مرتبة ينتهي إليها كونه هي ناقصة الكون بالنسبة لما بعدها فالوجود الدنيوي كله ناقص الكون عن كون الآخرة كما قال الله تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ}
كذلك: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} حذفت النون تنبيها على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الاعتبار فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها ومثله: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}
وكذلك: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ} جاءتهم الرسل من أقرب شيء في البيان الذي أقل من مبدأ فيه وهو الحس إلى العقل إلى الذكر ورقوهم من أخفض رتبة وهي الجهل إلى أرفع درجة في العلم وهي اليقين وهذا بخلاف قوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} فإن كون تلاوة الآيات قد أكمل كونه وتم
وكذلك: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} هذا قد تم كونه
وكذلك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} هذا قد تم كونهم غير منفكين إلى تلك الغاية المجعولة لهم وهي مجيء البينة
وكذلك: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ} انتفي عن إيمانهم مبدأ الانتفاع وأقله فانتفى أصله

فصل: فيما كتبت الألف فيه واوا على لفظ التفخيم
وذلك في أربعة أصول مطردة وأربعة أحرف متفرعة
فالأربعة الأصول هي {الصلوة} و{الزكوة} و{ الحيوة} و{الربوا}
والأربعة الأحرف قوله في الأنعام والكهف {بِالْغَدَوةِ}، والنور {كَمِشْكَواةٍ} وفي المؤمن {النَّجَوةِ} وفي النجم {وَمَنَاةَ} فأما قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ}{إِنَّ صَلاتِي}{حَيَاتُنَا الدُّنْيَا}{وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً} فالرسم بالألف في الكل
والقصد بذلك تعظيم شأن هذه الأحرف فإن الصلاة والزكاة عمودا الإسلام والحياة قاعدة النفس ومفتاح البقاء وترك الربا قاعدة الأمان ومفتاح التقوى ولهذا قال: {اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} إلى قوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ} ويشتمل على أنواع الحرام وأنواع الخبائث وضروب المفاسد وهو نقيض الزكاة ولهذا قوبل بينهما في قوله: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ}
واجتنابه أصل في التصرفات المالية وإنما كتبت بالألف

في سورة الروم لأنه ليس العام الكلي لأن الكلي منفي في حكم الله عليه بالتحريم وفي نفي الكلي نفي جميع جزئياته
فإن قلت: فلم كتب الزكاوة هنا بالواو وهلا جرت على نظم ما قبلها من قوله: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً}
قلت: لأن المراد بها الكلية في حكم الله ولذلك قال: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ}
وأما كتاب {النجوة} بالواو فلأنها قاعدة الطاعات ومفتاح السعادات قال الله تعالى {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ}
وأما {الغدوة} فقاعدة الأزمان ومبدأ تصرف الإنسان مشتقة من الغدو
وأما"المشكوة" فقاعدة الهداية ومفتاح الولاية قال الله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ}
وأما {منوة} فقاعدة الضلال ومفتاح الشرك والإضلال وقد وصفها الله بوصفين أحدهما يدل على تكثيرهم الإله من مثنى ومثلث والثاني يدل على الاختلاف والتغاير فمن معطل ومشبه تعالى الإله عما يقولون
فصل: في مد الياء وقبضها
وذلك أن هذه الأسماء لما لازمت الفعل صار لها اعتباران أحدهما من حيث هي

أسماء وصفات وهذا تقبض منه التاء والثاني من حيث أن يكون مقتضاها فعلا وأثرا ظاهرا في الوجود فهذا تمد فيه كما تمد في قالت وحقت وجهة الفعل والأمر ملكية ظاهرة وجهة الاسم والصفة ملكوتية باطنة
فمن ذلك الرحمة مدت في سبعة مواضع للعلة المذكورة:
بدليل قوله في أحدها : {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} فوضعها على التذكير فهو الفعل
وكذلك: {فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ} والأثر هو الفعل ضرورة
والثالث: {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ}
والرابع في هود: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ}
والخامس: {ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ}
والسادس: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}
والسابع: {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
ومنه النعمة بالهاء إلا في أحد عشر موضعا مدت بها في البقرة: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} في آل عمران،

والمائدة وفي إبراهيم موضعان والنحل ثلاثة مواضع وفي لقمان وفاطر والطور
والحكمة فيها ما ذكرنا أن الحاصلة بالفعل في الوجود تمد نحو قوله في إبراهيم: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} بدليل قوله: {إِنَّ الأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} فهذه نعمة متصلة بالظلوم الكفار في تنزيلهما وهذا بخلاف التي في سورة النحل: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} كتبت مقبوضة لأنها بمعنى الاسم بدليل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فهذه نعمة وصلت من الرب فهي ملكوتية ختمها باسمه عز وجل وختم الأولى باسم الإنسان
ومن ذلك الكلمة مقبوضة إلا في موضع في الأعراف: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى} هو ما تم لهم في الوجود الأخروي بالفعل الظاهر دليله في الملك وهو

الاختلاف وتمامها أن لها نهاية تظهر في الوجود بالفعل فمدت التاء
ومنها السنة مقبوضة إلا في خمسة مواضع حيث تكون بمعنى الإهلاك والانتقام الذي في الوجود
أحدها في الأنفال: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} ويدل عليها أنها من الانتقام قوله قبلها: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقوله بعدها {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}
وفي فاطر: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} ويدلك على أنها بمعنى الانتقام قوله تعالى قبلها: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} وسياق ما بعدها
وفي المؤمن: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ}
أما إذا كانت السنة بمعنى الشريعة والطريقة فهي ملكوتية بمعنى الاسم تقبض تاؤها كما في الأحزاب {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي حكم الله وشرعه
وفي الإسراء: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا}
ومنه: {بَقِيَّتُ اللَّهِ} فرد مدت تاؤه لأنه بمعنى ما يبقى في أموالهم من الربح المحسوس لأن الخطاب إنما هو فيها من جهة الملك

ومنه {فِطْرَتَ اللَّهِ} فرد وصفها بأنها فطر الناس عليها فهي فصل خطاب في الوجود كما جاء "كل مولود يولد على الفطرة" الحديث
ومنه: {قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فرد مدت تاؤه لأنه بمعنى الفعل إذ هو خبر عن موسى وهو موجود حاضر في الملك وهذا بخلاف: {قُرَّةَ أَعْيُنٍ} فإنه هنا بمعنى الاسم وهو ملكوتي إذ هو غير حاضر
ومنه: {وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} مدت في موضعين في سورة المجادلة لأن معناها الفعل والتقدير ولا تتناجوا بأن تعصوا الرسول ونفس هذا النجو الواقع منهم في الوجود هو فعل معصية لوقوع النهي عنه
ومنه اللعنة مدت في موضعين في آية المباهلة وفي آية اللعان وكونهما بمعنى الفعل ظاهر
ومنه الشجرة في موضع: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ} لأنها بمعنى الفعل اللازم وهو تزقمها بالأكل بدليل قوله تعالى: {فِي الْبُطُونِ} فهذه صفة فعل كما في الواقعة: {لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهذا بخلاف قوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً

أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} فإن هذه وصفها بأنها: {فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} وأنها {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} فهو حلية للاسم فلذلك قبضت تاؤها
ومنه الجنة مدت في موضع واحد في الواقعة: {وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} لكونها بمعنى فعل التنعم بالنعيم بدليل اقترانها بالروح والريحان وتأخرها عنهما وهما من الجنة فهذه جنة خاصة بالمنعم بها وأما: {مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} و: {أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} فإن هذا بمعنى الاسم الكلي
ولم تمد: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} لأنها اسم ما يفعل بالمكذب في الآخرة أخبرنا الله بذلك فالمؤمن يعلمه تصديقا ولا يحذف لفعل أبدا والضابط لذلك أن ما كان بمعنى الاسم لم تمد تاؤه مثل: {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} و{صِبْغَةَ اللَّهِ} و{زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ} و{تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} و{رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} و{حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}
ومنه: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} مدت التاء تنبيها على معنى الولادة والحدوث من النطفة المهينة ولم يضف في القرآن ولد إلى والد ووصف به اسم الولد إلا عيسى وأمه عليهما السلام لما اعتقد النصارى فيهما أنهما إلهان فنبه سبحانه بإضافتهما الولادية على جهة حدوثهما بعد عدمهما حتى أخبر تعالى في موطن بصفة

الإضافة دون الموصوف وقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} لما غلوا في إلاهيته أكثر من أمه كما نبه تعالى على حاجتهما وتغير أحوالهما في الوجود بلحقهما ما يلحق البشر قال الله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}
ومنه امرأة هي في سبعة مواضع وهي خمس من النساء امرأت عمران وامرأت فرعون وامرأت نوح وامرأت لوط وامرأت العزيز كلها ممدودة تنبيها على فعل التبعل والصحبة وشدة المواصلة والمخالطة والائتلاف في الموجود والمحسوس وأربع منهن منفصلات في بواطن أمرهن عن بعولتهن بأعمالهن وواحدة خاصة واصلت بعلها باطنا وظاهرا وهي امرأت عمران فجعل الله لها ذرية طيبة وأكرمها بذلك وفضلها على العالمين وواحدة من الأربع انفصلت بباطنها عن بعلها طاعة لله وتوكلا عليه وخوفا منه فنجاها وأكرمها وهي امرأت فرعون واثنتان منهن انفصلتا عن أزواجهما كفرا بالله فأهلكهما الله ودمرهما ولم ينتفعا بالوصلة الظاهرة مع أنها أقرب وصلة بأفضل أحباب الله كما لم تضر امرأت فرعون وصلتها الظاهرة بأخبث عبيد الله وواحدة انفصلت عن بعلها بالباطن اتباعا للهوى وشهوة نفسها فلم تبلغ من ذلك مرادها مع تمكنها من الدنيا واستيلائها على ما مالت إليه بحبها وهو في بيتها وقبضتها فلم يغن ذلك عنها شيئا وقوتها وعزتها إنما كانا لها من بعلها العزيز ولم ينفعها ذلك في الوصول إلى إرادتها مع عظيم كيدها كما لم يضر يوسف ما امتحن به منها ونجاه الله من السجن ومكن له في الأرض وذلك بطاعته لربه ولا سعادة إلا بطاعة الله ولا شقاوة إلا بمعصيته فهذه كلها عبر وقعت بالفعل في الوجود في شأن كل امرأة منهن فلذلك مدت تاءاتهن

فصل: في الفصل والوصل
اعلم أن الموصول في الوجود توصل كلماته في الخط كما توصل حروف الكلمة الواحدة والمفصول معنى في الوجود يفصل في الخط كما تفصل كلمة عن كلمة
فمنه إنما بالكسر كله موصول إلا واحدا: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} لأن حرف ما هنا وقع على مفصل فمنه خير موعود به لأهل الخير ومنه شر موعود به لأهل الشر فمعنى ما مفصول في الوجود والعلم
ومنه أنما بالفتح كله موصول إلا حرفان: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} وقع الفصل عن حرف التوكيد إذ ليس لدعوى غير الله وصل في الوجود إنما وصلها في العدم والنفي بدليل قوله تعالى عن المؤمن: {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الْآخِرَةِ} فوصل أنما في النفي وفصل في الإثبات لا لانفصاله عن دعوة الحق
ومنه كلما موصول كله إلا ثلاثة:

في النساء: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا} فما ردوا إليه ليس شيئا واحدا في الوجود بل أنواع مختلفة في الوجود وصفة مردهم ليست واحدة بل متنوعة فانفصل ما لأنه لعموم شيء مفصل في الوجود
وفي سورة إبراهيم: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} فحرف ما واقع على أنواع مفصلة في الوجود
وفي قد أفلح: {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} والأمم مختلفة في الوجود فحرف ما وقع على تفاصيل موجودة لتفصل
وهذا بخلاف قوله: {كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} فإن هؤلاء هم بنو إسرائيل أمة واحدة بدليل قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ} والمخاطبون على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يقتلوا الأنبياء إنما باشره آباؤهم لكن مذهبهم في ذلك واحد فحرف ما إنما يشمل تفاصيل الزمان وهو تفصيل لا مفصل له في الوجود إلا بالفرض والتوهم لا بالحس فوصلت كل لاتصال الأزمنة في الوجود وتلازم أفرادها المتوهمة
وكذلك: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً} هذا موصول لأن حرف ما جاء لتعميم الأزمنة فلا تفصيل فيها في الوجود وما رزقوا هو غير مختلف لقوله تعالى: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً}

ومنه أينما موصول إذا كانت ما غير مختلفة الأقسام في الفعل الذي بعدها مثل: {أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ} {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا}{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} فهذه كلها لم تخرج عن الأين الملكي وهو متصل حسا ولم يختلف فيه الفعل الذي مع ما وتفصل أين حيث تكون ما مختلفة الأقسام في الوصف الذي بعدها مثل: {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ} {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}
ومنه بئسما موصول إلا ثلاثة أحرف اثنان في البقرة: {بِئْسَ مَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ}، {بِئْسَ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ}
وفي الأعراف: {بِئْسَ مَا خَلَفْتُمُونِي}
فحرف ما ليس فيه تفصيل لأنه بمعنى واحد في الوجود من جهة كونه باطلا مذموما على خلاف حال ما في المائدة: {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فحرف ما يشتمل على الأقسام الثلاثة التي ذكرت قبل وكذلك: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ} حرف ما مفصول لأنه يعمل ما بعده من الأقسام

ومنه: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ } حرفان فصل الضمير منهما لأنه مبتدأ وأضيف اليوم إلى الجملة المنفصلة عنه
و{يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} و{يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} وصل الضمير لأنه مفرد فهو جزء الكلمة المركبة من اليوم المضاف والضمير المضاف إليه،
ومنه في ما مفصول أحد عشر حرفا:
في البقرة: {فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ} وذلك لأن ما يقع على فرد واحد من أنواع ينفصل بها المعروف في الوجود وعلى البدلية أو الجمع يدل على ذلك تنكيره المعروف ودخول حرف التبعيض عليه فهو حسي يقسم وحرف ما وقع على كل واحد منهما على البدلية أو الجمع وأما قوله فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف، فهذا موصول لأن ما واقعة على شيء واحد غير مفصل يدلك عليه وصفه بالمعروف
وكذلك {فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} وهو مفصول لأن شهوات الأنفس مختلفة أو مفصلة في الوجود كذلك فتدبره في سائرها
ومنه: {لِكَيْلا} موصول في ثلاثة مواضع وباقيها منفصل وإنما يوصل حيث يكون حرف النفي دخل على معنى كلى فيوصل لأن نفي الكلي نفي لجميع جزئياته فعلة نفيه هي علة نفي أجزائه وليس للكلي المنفي أفراد في الوجود وإنما

ذلك فيه بالتوهم ويفصل حيث يكون حرف النفي دخل على جزئي فإن نفي الجزئي لا يلزم منه نفي الكلي فلا تكون علته علة نفي الجمع:
في الحج وفي الأحزاب: {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} وفي الحديد: { لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ}
فهذه هي الموصولة وهي بخلاف: {لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً} في النحل لأن الظرف في هذا خاص الاعتبار وهو في الأول عام الاعتبار لدخول من عليه وهذا كقوله تعالى عن أهل الجنة: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} اختص المظروف بقبل في الدنيا ففيها كانوا مشفقين خاصة وقال تعالى: {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} فهذا الظرف عام لدعائهم بذلك في الدنيا والآخرة فلم يختص المظروف بقبل بالدنيا
وكذلك: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} فهذا المنفي هو حرج مقيد بظرفين
وكذلك: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} فهذا النفي هو كون: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} دولة بين الأغنياء من المؤمنين وهذه قيود كثيرة
ومن ذلك هم ونحوه من الضمائر تدل على جملة المسمى من غير تفصيل والإضمار حال لا صفة وجود فلا يلزمها التقسيم الوجودي إلا الوهمي الشعري والخطأ بما يرسم على العلم الحق
ومن ذلك مال أربعة أحرف مفصولة وذلك أن اللام وصلة إضافية فقطعت حيث تقطع الإضافة في الوجود:

فأولها: في سورة النساء: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ} هذه الإشارة للفريق الذين نافقوا من القوم الذين قيل لهم
{كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} فقطعوا وصل السيئة بالحسنة في الإضافة إلى الله ففرقوا بينهما كما أخبر سبحانه والله قد وصل ذلك وأمر به في قوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } فقطعوا في الوجود ما أمر الله به أن يوصل فقطع لام وصلهم في الخط علامة لذلك وفيه تنبيه على أن الله يقطع وصلهم بالمؤمنين وذلك في يوم الفصل: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}
والثاني : في سورة الكهف: {وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً} وهؤلاء قطعوا بزعمهم وصل جعل الموعد لهم بوصل إحصاء الكتاب وعدم مغادرته لشيء من أعمالهم في إضافتها إلى الله فلذلك ينكرون على الكتاب في الآخرة ودليل ذلك ظاهر من سياق خبرهم في تلك الآيات من الكهف
والثالث: في سورة الفرقان: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} فقطعوا وصل الرسالة لأكل الطعام فأنكروا فقطعوا قولهم هذا ليزول عن اعتقادهم أنه رسول فقطع اللام علامة لذلك
والرابع: في المعارج: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} هؤلاء الكفار تفرقوا جماعات مختلفات كما يدل عليه: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} قطعوا وصلهم في قلوبهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقطع الله طمعهم في دخول الجنة ولذلك قطعت اللام علامة عليه

ومن ذلك: {ابْنَ أُمَّ} في الأعراف مفصول على الأصل وفي طه {ابنؤم} موصول لسر لطيف وهو أنه لما أخذ موسى برأس أخيه اعتذر إليه فناداه من قرب على الأصل الظاهر في الوجود ولما تمادى ناداه بحرف النداء ينبهه لبعده عنه في الحال لا في المكان مؤكدا لوصلة الرحم بينهما بالربط فلذلك وصل في الخط ويدل عليه نصب الميم ليجمعهما الاسم بالتعميم
ومن ذلك ستة أحرف لا توصل بما بعدها وهي الألف والواو والدال والذال والراء والزاي لأنها علامات لانفصالات ونهايات وسائر الحروف توصل في الكلمة الواحدة
فصل: في بعض حروف الإدغام
فمنه: {عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ} ، فرد ظهر فيه النون وقطع عن الوصل لأن معنى ما عموم كلى تحته أنواع مفصلة في الوجود غير متساوية في حكم النهي عنها ومعنى عن المجاوزة للكلى مجاوزة لكل واحد من جزئياته ففصل علامة لذلك

وكذلك: {مِنْ مَا} ثلاثة أحرف مفصولة لا غير:
في النساء: {مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ، وفي الروم: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وفي المنافقين: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
وحرف ما في هذه كلها مقسم في الوجود بأقسام منفصلة غير متساوية في الأحكام وهي
بخلاف قوله: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } فإنها وإن كان تحتها أقسام كثيرة فهي غير مختلفة في وصفها بكتب أيديهم فهو نوع واحد يقال على معنى واحد من تلك الجهة هو في إفراده بالسوية
وكذلك أم من بالفصل أربعة أحرف لا غير:
في النساء: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} وفي التوبة: {أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} وفي الصافات: {أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} وفي السجدة: {أَمَّ منْ يَأْتِي}
فهذه الأربعة الأحرف من فيها تقسم في الوجود بأنواع مختلفة في الأحكام بخلاف غيرها مثل: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي} فهذا موصول لأنه من نوع واحد حيث يمشى على صراط مستقيم وكذا: {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} لا تفاصيل تحتها في الوجود

وكذلك: {عَنْ مَنْ} مفصول:
حرفان في النور: {عَنْ مَنْ يَشَاءُ} وفي النجم: {عَنْ مَنْ تَوَلَّى } حرف من فيهما كلي وحرف عن للمجاوزة عن الكلي مجاوزة لجميع0 جزئياته دون العكس فلا وصلة بين الجزأين في الوجود فلا يوصلان في الخط
وكذلك ممن موصول كله لأن من بفتح الميم جزئي بالنسبة إلى ما فمعناه أزيد من جهة المفهوم ومعنى ما أزيد من جهة العموم والزائد من جهة المفهوم منفصل وجودا بالحصص والحصة منه لا تنفصل والزائد من جهة المفهوم لا ينفصل وجودا
وكذلك: {وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} في سورة الرعد فردة مفصولة ظهر فيها حرف الشرط في الخط لوجهين: أحدهما أن الجواب المرتب عليه بالفاء ظاهر في موطن الدنيا وهو البلاغ بخلاف قوله:
{فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} إنه أخفي فيه حرف الشرط في الخط لأن الجواب المرتب عليه بالفاء خفي عنا وهو الرجوع إلى الله
والثاني أن القصة الأولى منفصلة من الشرط وجوابه وانقسم الجواب إلى جزأين: أحدهما :الترتيب بالفاء وهو البلاغ والثاني المعطوف عليه وهو الحساب وأحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة والأول ظاهر لنا والثاني: خفي عنا
وهذا الانقسام صحيح في الوجود فقد انقسمت هذه الشرطية إلى شرطين لانفصال

جوابها: إلى قسمين متغايرين ففصل حرف الشرط علامة لذلك وإذا انفصلت لزم كتبه على الوقف والشرطية الأخرى لا تنفصل بل هي واحدة لإيجاد جوابها فانفصال حرف الشرط علامة لذلك
وكذلك: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ} فرد في القصص ثابت النون وفي هود: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} فرد بغير نون أظهر حرف الشرط في الأول لأن جوابه المترتب عليه بالفاء هو: {فَاعْلَمْ} متعلق بشيء ملكوتي ظاهر سفلي وهو اتباعهم أهواءهم وأخفي في الثاني لأن جوابه المترتب عليه بالفاء هو علم متعلق بشيء ملكوتي خفي علوي وهو إنزال القرآن بالعلم والتوحيد
ومن ذلك أن لن كله مفصول إلا حرفان {أَلَّنْ َنجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً} في الكهف: {أَلَّنْ َنجْمَعَ عِظَامَهُ} في القيامة سقطت النون منهما في الخط تنبيها على أن ما زعموا وحسبوا هو باطل في الوجود وحكم ما ليس بمعلوم نسبوه إلى الحي القيوم فأدغم حرف توكيدهم الكاذب في حرف النفي السالب هو بخلاف قوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} فهؤلاء لم ينسبوا ذلك لفاعل إذ ركب الفعل لما لم يسم فاعله وأقيموا فيه مقام الفاعل فعدم بعثهم تصوروه من أنفسهم وحكموا به عليها توهما فهو كاذب من حيث حكموا به على مستقبل الآخرة ولكونه حقا بالنسبة إلى دار الدنيا الظاهرة ثبت التوكيد ظاهرا وأدغم في حرف النفي من حيث الفعل المستقبل الذي هو فيه كاذب

ومن ذلك كل ما في القرآن أن لا فهو موصول إلا عشرة مواضع فهي مفصولة تكتب النون فيها باتفاق وذلك حيث ظهر في الوجود صحة توكيد القضية ولزومها:
أولها في الأعراف: {أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ} و{أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}
و{أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ} في التوبة
{أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} و: {أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ} في هود
و{أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} في الحج
و{ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} في يس
و{وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} في الدخان
و{أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً} في الممتحنة
و{ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا} في القلم
وواحد فيه خلاف: {أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ} في الأنبياء
فتأمل كيف صح في الوجود هذا التوكيد الأخير فلم يدخلها عليهم مسكين على غير ما قصدوا وتخيلوا فيه

وكذلك لام التعريف المدغمة في اللفظ في مثلها أو غيرها لما كانت للتعريف وشأن المعرف أن يكون أبين وأظهر لا أخفى وأستر ظهرت في الخط ووصلت بالكلمة لأنها صارت جزءا منها حيث هي معرفة بها هذا هو الأصل وقد حذف حيث يخفي معنى الكلمة مثل اليل فإنه بمعنى مظلم لا يوضح الأشياء بل يسترها ويخفيها وكونه واحدا إما للجزئي أو للجنس فأخفي حرف تعريفه في مثله فإن تعين للجزئي بالتأنيث رجع إلى الأصل ومثل الذي والتي وتثنيتهما وجمعهما فإنه مبهم في المعنى والكم لأن أول حده للجزئي وللجنس للثلاث أو غيرها ففيه ظلمة الجهل كالليل ومثل الئي في الإيجاب فإن لام التعريف دخلت على لا النافية وفيها ظلمة العدم كالليل ففي هذه الظلمات الثلاث يخفي حرف التعريف
وكذلك الأيكة نقلت حركة همزتها على لام التعريف وسقطت همزة الوصل لتحريك اللام وحذفت ألف عضد الهمزة ووصل اللام فاجتمعت الكلمتان فصارت ليكه علامة على اختصار وتلخيص وجمع في المعنى وذلك في حرفين أحدهما في الشعراء جمع فيه قصتهم مختصرة وموجزة في غاية البيان وجعلها جملة فهي آخر قصة في السورة بدليل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فأفردها والثاني في ص جمع الأمم فيها بألقابهم وجعلهم جهة واحدة هم آخر أمة فيها ووصف الجملة قال تعالى: {أُولَئِكَ الأَحْزَابُ} وليس الأحزاب وصفا لكل منهم بل هو وصف جميعهم

وجاء بالانفصال على الأصل حرفان نظير هذين الحرفين أحدهما في الحجر: {وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ} أفردهم بالذكر والوصف والثاني في ق: {وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} جمعوا فيه مع غيرهم ثم حكم على كل منهم لا على الجملة قال تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} فحيث يعتبر فيهم التفضيل فصل لام التعريف وحيث يعتبر فيهم التوصيل وصل للتخفيف
وكذلك: {لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} حذفت الألف ووصلت لأن العمل في الجدار قد حصل في الوجود فلزم عليه الأجر واتصل به حكما بخلاف: {لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} ليس فيه وصلة اللزوم
فصل: في حروف متقاربة تختلف في اللفظ لاختلاف المعنى
مثل: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}
: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصطَةً}{يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصطُ}، فبالسين السعة الجزئية كذلك علة التقييد وبالصاد السعة الكلية بدليل علو معنى

الإطلاق وعلو الصاد مع الجهارة والإطباق
وكذلك: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ}{فِي أَيِّ صُورَةٍ}
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ}{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} فبالسين ما يحصر الشيء خارجا عنه وبالصاد ما تضمنه منه
وكذلك: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} فبالسين من السر وبالصاد من التمادي
وكذلك: {يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ} و{مِنَّا يُصْحَبُونَ} فبالسين من الجر وبالصاد من الصحبة
وكذلك: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ} {وَكَمْ قَصَمْنَا} بالسين تفريق الأرزاق والإنعام وبالصاد تفريق الإهلاك والإعدام
وكذلك {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} بالضاد منعمة بما تشتهيه الأنفس وبالظاء منعمة بما تلذ الأعين وهذا الباب كثير يكفي فيه اليسير
فصل: في كتابة فواتح السور
كتبوا الم والمر والر موصولا

إن قيل لم وصلوه والهجاء مقطع لا ينبغي وصله لأنه لو قيل لك ما هجاء زيد؟
قلت: زاي ياء دال وتكتبه مقطعا لتفرق بين هجاء الحروف وقراءته
قيل: إنما وصلوه لأنه ليس هجاء لاسم معروف وإنما هي حروف اجتمعت يراد بكل حرف معنى
فإن قيل: لم قطعوا حم عسق ولم يقطعوا المص وكهيعص؟
قيل: حم قد جرت في أوائل سبع سور فصارت اسما للسور فقطعت مما قبلها
وجوزوا في: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} و{ص وَالْقُرْآنِ} وجهين: من جزمهما فهما حرفان ومن كسر آخرهما فعلى أنه أمر كتب على لفظهما
النوع السادس والعشرون: معرفة فضائلهوقد صنف فيه أبو بكر بن أبي شيبة وأبو عبيد القاسم بن سلام والنسائي وغيرهم وقد صح فيه أحاديث باعتبار الجملة وفي بعض السور بالتعيين وأما حديث أبي كعب رضي الله عنه في فضيلة سورة سورة فحديث موضوع
قال: ابن الصلاح ولقد أخطأ الواحدي المفسر ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم
قلت: وكذلك الثعلبي لكنهم ذكروه بإسناد فاللوم عليهم يقل بخلاف من ذكره بلا إسناد وجزم به كالزمخشري فإن خطأه أشد
وعن نوح بن أبي مريم أنه قيل له: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس في فضائل القرآن سورة سورة فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أبى حنيفة ومغازي محمد بن إسحاق فوضعت هذه الأحاديث حسبة ثم قد جرت عادة المفسرين ممن ذكر الفضائل أن يذكرها في أول كل سورة لما فيها من الترغيب والحث على حفظها إلا الزمخشري فإنه يذكرها في أواخرها
قال مجد الأئمة عبد الرحيم بن عمر الكرماني سألت الزمخشري عن العلة في ذلك فقال لأنها صفات لها والصفة تستدعى تقديم الموصوف
وقد روى البخاري رحمه الله حديث: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وروى أصحاب السنن في حديث إلهي: "من شغله القرآن عن ذكري ومسالتي أعطيته أفضل

ما أعطي السائلين" و"فضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه" وقال عليه السلام: "ما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه " قال أبو النضر يعني القرآن
وروى أحمد من حديث أنس رضي الله عنه أهل القرآن هم أهل الله وخاصته وروى مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" وقدم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قتلى أحد في القبر أكثرهم قرآنا
النوع السابع والعشرون: معرفة خواصيه...
النوع السابع والعشرون: معرفة خواصه
وقد صنف فيه جماعة منهم التميمي وأبو حامد الغزالي قال بعضهم وهذه الحروف التي في أوائل السور جعلها الله تعالى حفظا للقرآن من الزيادة والنقصان قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
وذكر بعضهم أنه وقف على أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه كان يكتبها على ما يريد حفظه من الأموال والمتاع فيحفظ
وأخبر رجل من أهل الموصل قال كان الكيا الهراسي الإمام رحمه الله إذا ركب في رحلة يقول هذه الحروف التي في أوائل السور فسئل عن ذلك فقال ما جعل ذلك في موضع أو كتب في شيء إلا حفظ تاليها وماله وأمن في نفسه من التلف والغرق
وحكي عن الشافعي رحمه الله أنه شكا إليه رجل رمدا فكتب إليه في رقعه { بسم الله الرحمن الرحيم} {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} فعلق الرجل ذلك عليه فبرأ
وكان سفيان الثوري يكتب للمطلقة رقعة تعلق على قلبها {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ

وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ}
{فَاخْرُجْ مِنْهَا}{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ}
وروى ابن قتيبة قال: كان رجل من الصالحين يحب الصلاة بالليل وتثقل عليه فشكا ذلك لبعض الصالحين فقال إذا أويت إلى فراشك فاقرأ { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي}إلى قوله{مَدَداً} ثم أضمر في أي وقت أضمرت فإنك تقوم فيه قال ففعلت فقمت في الوقت المعين
قال الغزالي وكان بعض الصالحين في أصبهان أصابه عسر البول فكتب في صحيفة البسملة: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثّاً} {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}{دَكّاً دَكّاً} وألقى عليه الماء وشربه فيسر عليه البول وألقى الحصى
وحكى الثعلبي في تفسيره أن قوله تعالى {لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} يكتب على كاغد ويوضع على شق الضرس الوجع يبرأ بإذن الله تعالى.
ويحكى أن الشيخ أبا القاسم القشيري رأي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فقال: له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مالي أراك محزونا؟فقال ولدي قد مرض واشتد عليه الحال فقال له أين أنت عن آيات الشفاء: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً
لِقَوْمٍ

يَتَفَكَّرُونَ} {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} فقرأ هذه الآيات عليه ثلاث مرات فبرأ
وحكى ابن الجوزي عن ابن ناصر عن شيوخه عن ميمونة بنت شاقولة البغدادية رضي الله عنها قالت آذانا جار لنا فصليت ركعتين وقرأت من فاتحة كل سورة آية حتى ختمت القرآن وقلت اللهم اكفنا أمره ثم نمت وفتحت عيني وإذا به قد نزل وقت السحر فزلت قدمه فسقط ومات
وحكي عن ابنها أنه كان في دارها حائط له جوف فقالت هات رقعة ودواة فناولتها فكتبت في الرقعة شيئا وقالت دعه في ثقب منه ففعلت فبقى نحوا من عشرين سنة فلما ماتت ذكرت ذلك القرطاس فقمت فأخذته موقع الحائط فإذا في الرقعة {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} يا ممسك السموات والأرض أمسكه
تنبيه
هذا النوع والذي قبله لن ينتفع به إلا من أخلص لله قلبه ونيته وتدبر الكتاب في عقله وسمعه وعمر به قلبه وأعمل به جوارحه وجعله سميره في ليله ونهاره وتمسك به وتدبره هنالك تأتيه الحقائق من كل جانب وإن لم يكن بهذه الصفة كان فعله

مكذبا لقوله كما روي أن عارفا وقعت له واقعة فقال له صديق له نستعين بفلان فقال أخشى أن تبطل صلاتي التي تقدمت هذا الأمر وقد صليتها قال صديقه وأين هذا من هذا؟قال لأني قلت في الصلاة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فإن استعنت بغيره كذبت والكذب في الصلاة يبطلها وكذلك الاستعاذة من الشيطان الرجيم لا تكون إلا مع تحقق العداوة فإذا قبل إشارة الشيطان واستنصحه فقد كذب قوله فبطل ذكره
النوع الثامن والعشرون: هل في القرآن شيء أفضل من شيءوقد اختلف الناس في ذلك فذهب الشيخ أبو الحسن الأشعري والقاضي أبو بكر وأبو حاتم بن حبان وغيرهم إلى أنه لا فضل لبعض على بعض لأن الكل كلام الله وكذلك أسماؤه تعالى لا تفاضل بينهما وروى معناه عن مالك قال يحيى بن يحيى تفضيل بعض القرآن على بعض خطأ وكذلك كره مالك أن تعاد سورة أو تردد دون غيرها احتجوا بأن الأفضل يشعر بنقص المفضول وكلام الله حقيقة واحدة لا نقص فيه
قال ابن حبان في حديث أبى بن كعب رضي الله عنه ما أنزل الله في التوارة ولا في الإنجيل مثل أم القرآن إن الله لا يعطي لقارئ التوراة والإنجيل من الثواب مثل ما يعطى لقارئ أم القرآن إذ الله بفضله فضل هذه الأمة على غيرها من الأمم وأعطاها من الفضل على قراءة كلامه أكثر مما أعطى غيرها من الفضل على قراءة كلامه قال وقوله أعظم سورة أراد به في الأجر لا أن بعض القرآن أفضل من بعض
وقال قوم بالتفضيل لظواهر الأحاديث ثم اختلفوا فقال بعضهم الفضل راجع إلى عظم الأجر ومضاعفة الثواب بحسب انفعالات النفس وخشيتها وتدبرها وتفكرها عند ورود أوصاف العلا وقيل بل يرجع لذات اللفظ وأن ما تضمنه قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} وآية الكرسي وآخر سورة الحشر وسورة الإخلاص من الدلالات على وحدانيته وصفاته ليس موجودا مثلا في {تَبَّتْ يَدَا

َأبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وما كان مثلها فالتفضيل إنما هو بالمعاني العجيبة وكثرتها لا من حيث الصفة وهذا هو الحق
وممن قال بالتفضيل إسحاق بن راهويه وغيره من العلماء
وتوسط الشيخ عز الدين فقال: كلام الله في الله أفضل من كلام الله في غيره، فـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أفضل من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وعلى ذلك بنى الغزالي كتابه المسمى بجواهر القرآن واختاره القاضي أبو بكر بن العربي لحديث أبي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري: "إني لأعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولحديث أبي بن كعب في الصحيحين قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أي آية في كتاب الله أعظم قلت الله ورسوله أعلم قال يا أبي أتدري أي آية في كتاب الله أعظم قال قلت : {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} قال فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر"
وأخرج الحاكم في مستدركه بسند صحيح عن أبي هريرة سيدة آي القرآن آية الكرسي
وفي الترمذي غريبا عنه مرفوعا: "لكل شيء سنام وإن سنام القرآن سورة البقرة فيها آية الكرسي"
وروى ابن عيينة في جامعه عن أبي صالح عنه "فيها آية الكرسي وهي سنام أي القرآن ولا تقرأ في دار فيها شيطان إلا خرج منها" وهذا لا يعارض ما قبله بأفضلية الفاتحة لأن تلك باعتبار السور وهذه باعتبار الآيات
وقال القاضي شمس الدين الخويي كلام الله أبلغ من كلام المخلوقين وهل يجوز

أن يقال بعض كلامه أبلغ من بعض؟جوزه بعضهم لقصور نظرهم وينبغي أن يعلم أن معنى قول القائل هذا الكلام أبلغ من هذا الكلام أن هذا في موضعه له حسن ولطف وذاك في موضعه له حسن ولطف وهذا الحسن في موضعه أكمل من ذاك في موضعه فإن من قال إن {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أبلغ من {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} يجعل المقابلة بين ذكر الله وذكر أبي لهب وبين التوحيد والدعاء على الكافرين وذلك غير صحيح بل ينبغي أن يقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} دعاء عليه بالخسران فهل توجد عبارة للدعاء بالخسران أحسن من هذه وكذلك في {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لا توجد عبارة تدل على الوحدانية أبلغ منها فالعالم إذا نظر إلى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} في باب الدعاء والخسران ونظر إلى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في باب التوحيد لا يمكنه أن يقول أحدهما أبلغ من الآخر وهذا القيد يغفل عنه بعض من لا يكون عنده علم البيان
قلت: ولعل الخلاف في هذه المسألة يلفت عن الخلاف المشهور إن كلام الله شيء واحد أولا عند الأشعري أنه لا يتنوع في ذاته إنما هو بحسب متعلقاته
فإن قيل: فقد قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} فجعله شيئين وأنتم تقولون بعدمه وأنه صفة واحدة
قلنا: من حيث أنه كلام الله لا مزية لشيء منه على شيء ثم قولنا: شيء منه يوهم التبعيض وليس لكلام الله الذي هو صفته بعض ولكن بالتأويل والتفسير وفهم السامعين اشتمل على جميع أنواع المخاطبات ولولا تنزله في هذه المواقع لما وصلنا إلى فهم شيء منه

وقال الحليمي قد ذكرنا أخبار تدل على جوار المفاضلة بين السور والآيات وقال الله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ومعنى ذلك يرجع إلى أشياء:
أحدها: أن تكون آيتا عمل ثابتتان في التلاوة إلا أن إحداهما منسوخة والأخرى ناسخة فنقول إن الناسخ خير أي أن العمل بها أولى بالناس وأعود عليهم وعلى هذا فيقال آيات الأمر والنهي والوعد والوعيد خير من آيات القصص لأن القصص إنما أريد بها تأكيد الأمر والنهي والتبشير ولا غنى بالناس عن هذه الأمور وقد يستغنون عن القصص فكل ما هو أعود عليهم وأنفع لهم مما يجري مجرى الأصول خير لهم مما يحصل تبعا لما لا بد منه
والثاني: أن يقال: إن الآيات التي تشتمل على تعديد أسماء الله تعالى وبيان صفاته والدلالة على عظمته وقدسيته أفضل أو خير بمعنى أن مخبراتها أسنى وأجل قدرا
والثالث : أن يقال: سورة خير من سورة أو آية خير من آية بمعنى أن القارئ يتعجل بقراءتها فائدة سوى الثواب الآجل ويتأدى منه بتلاوتها عبادة كقراءة آية الكرسي وسورة الإخلاص والمعوذتين فإن قارئها يتعجل بقراءتها الاحتراز مما يخشى والاعتصام بالله جل ثناؤه ويتأدى بتلاوتها منه لله تعالى عبادة لما فيها من ذكر اسم الله تعالى جده بالصفات العلا على سبيل الاعتقاد لها وسكون النفس إلى فضل الذكر وبركته فأما آيات الحكم فلا يقع بنفس تلاوتها إقامة حكم وإنما يقع بها علم
قال: ثم لو قيل في الجملة: إن القرآن خير من التوراة والإنجيل والزبور بمعنى أن التعبد بالتلاوة والعمل واقع به دونها والثواب بحسب بقراءته لا بقراءتها أو أنه من

حيث الإعجاز حجة النبي المبعوث وتلك الكتب لم تكن معجزة ولا كانت حجج أولئك الأنبياء بل كانت دعوتهم والحجج غيرها وكان ذلك أيضا نظير ما مضى
وقد يقال: إن سورة أفضل من سورة لأن الله تعالى اعتد قراءتها كقراءة أضعافها مما سواها وأوجب بها من الثواب ما لم يوجب بغيرها وإن كان المعنى الذي لأجله بلغ بها هذا المقدار لا يظهر لنا كما يقال إن قوما أفضل من قوم وشهرا أفضل من شهر بمعنى أن العبادة فيه تفضل على العبادة في غيره والذنب يكون أعظم من الذنب منه في غيره وكما يقال إن الحرم أفضل من الحل لأنه يتأدى فيه من المناسك مالا يتأدى في غيره والصلاة فيه تكون كصلاة مضاعفة مما تقام في غيره والله أعلم
فصل: في أعظمية آية الكرسي
قال ابن العربي: إنما صارت آية الكرسي أعظم لعظم مقتضاها فإن الشيء إنما يشرف بشرف ذاته ومقتضاه ومتعلقاته وهي في أي القرآن ك {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} في سوره إلا أن سورة الإخلاص تفضلها بوجهين أحدهما: أنها سورة وهذه آية فالسورة أعظم من الآية لأنه وقع التحدي بها فهي أفضل من الآية التي لم يتحد بها
والثاني: أن سورة الإخلاص اقتضت التوحيد في خمسة عشر حرفا وآية الكرسي اقتضت التوحيد في خمسين حرفا فظهرت القدرة في الإعجاز بوضع معنى معبر عنه مكتوب مدده السبعة الأبحر لا ينفد عدد حروفه خمسون كلمة ثم يعبر عن معنى الخمسين كلمة خمسة عشر كلمة وذلك كله بيان لعظم القدرة والانفراد بالوحدانية
وقال أبو العباس أحمد بن المنير المالكي كان جدي رحمه الله يقول اشتملت آية الكرسي على ما لم يشتمل عليه اسم من أسماء الله تعالى وذلك أنها مشتملة على سبعة عشر

موضعا فيها اسم الله ظاهرا في بعضها ومستكنا في بعض ويظهر للكثير من العادين فيها ستة عشر إلا على حاد البصيرة لدقة استخراجه 1 الله 2 هو 3 الحي 4 القيوم 5 ضمير لا تأخذه 6 ضمير له 7 ضمير عنده 8 ضمير إلا بإذنه 9 ضمير يعلم 10 ضمير علمه 11 ضمير شاء 12 ضمير كرسيه 13 ضمير يؤوده 14 وهو 15 العلي 16 العظيم فهذه عدة الأسماء
وأما الخفي في الضمير الذي اشتمل عليه المصدر في قوله حفظهما فإنه مصدر مضاف إلى المفعول وهو الضمير البارز ولا بد له من فاعل وهو والله ويظهر عند فك المصدر فتقول ولا يؤوده أن يحفظهما هو
قال وكان الشيخ أبو عبد الله محمد بن الفضل المرسي قد رام الزيادة على هذا العدد لما أخبرته عن الجد فقال يمكن أن تعد ما في الآية من الأسماء المشتقة كل واحد منها باثنين لأن كل واحد منها يحمل ضميرا ضرورة كونه مشتقا وذلك الضمير إنما يعود إلى الله وهو باعتبار ظهورها اسم وقد اشتملت على آخر مضمر فتكون جملة العدد على هذا أحدا وعشرين اسما فأجريت معه وجها لطيفا وهو أن الاسم المشتق لا يحتمل الضمير بعد صيرورته بالتسمية علما على الأصح وهذه الصفات كلها أسماء الله تعالى ثم ولو فرضناها محتملة للضمائر بعد التسمية على سبيل التنزل فالمشتق إنما يقع على موصوفه باعتبار تحمله ضميره ألا تراك إذا قلت زيد كريم إذا وجدت كريما إنما يقع على زيد لأن فيه ضميره حتى لو جردت النظر إليه لم تجده مختصا بزيد بل لك أن توقعه على كل موصوف بالكرم من الناس ولا تجده مختصا بزيد إلا باعتبار اشتماله على ضميره فليس المشتق إذا مستقلا بوقوعه على موصوفه إلا بضميمة الضمير إليه فلا يمكن أن تجعله له حكم الانفراد عن الضمير مع الحكم برجوعه إلى معين البتة قال فرضي عن هذا البحث وصوبه

وقال الغزالي في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس " إن ذلك لأن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر والنشر وهو مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فجعلت قلب القرآن لذلك واستحسنه فخر الدين الرازي
قال الجويني: سمعته يترحم عليه بسبب هذا الكلام
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه آل حم ديباج القرآن
وقال ابن عباس لكل شيء لباب ولباب القرآن آل حم أو قال الحواميم
وقال مسعر بن كدام كان يقال لهن العرائس
روى ذلك كله أبو عبيد في كتاب فضائل القرآن
وقال حميد بن زنجويه حدثنا عبيد الله بن موسى حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال إن مثل القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دمثات فقال عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب فقيل له إن مثل الغيث الأول مثل عظم القرآن وإن مثل هذه الروضات الدمثات مثل آل حم في القرآن أورده البغوي
وروى أبو عبيد عن بعض السلف منهم محمد بن سيرين كراهة أن يقال الحواميم وإنما يقال آل حم
وفي الترمذي عن ابن عباس قال قال أبو بكر رضي الله عنه للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يا رسول الله قد شبت قال: "شيبتني هود والواقعة والمرسلات وعم يتساءلون وإذا الشمس كورت" خص هذه السور بالشيب لأنهن أجمع لكيفية القيامة وأهوالها

من غيرهن ولهذا قال في حديث آخر "من أحب أن يرى القيامة رأي العين فليقرأ : {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}
وروى الترمذي من حديث ابن عباس ومن حديث أنس: "إذا زلزلت تعدل نصف القرآن وقل يأيها الكافرون تعدل ربعه " وقال: في كل منهما غريب
وقد تكلم ابن عبد البر على حديث: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تعدل ثلث القرآن" وحكى خلاف الناس فيه فقيل لأنه سمع شخصا يكررها تكرار من يقرأ ثلث القرآن فخرج الجواب على هذا
وفيه بعد عن ظاهر الحديث
قيل: لأن القرآن يشتمل على قصص وشرائع وصفات وقل هو الله أحد كلها صفات فكانت ثلثا بهذا الاعتبار واعترض على ذلك باستلزام كون آية الكرسي وآخر الحشر ثلث القرآن ولم يرد فيه
وقيل تعدل في الثواب وهو الذي يشهد لظاهر الحديث
قلت: ضعف ابن عقيل هذا وقال: لا يجوز أن يكون المعنى فله أجر ثلث القرآن
لقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ القرآن فله بكل حرف عشر حسنات"
ثم قال ابن عبد البر على أني أقول السكوت في هذه المسألة أفضل من الكلام فيها وأسلم ثم أسند إلى إسحاق بن منصور قلت لأحمد بن حنبل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن" ما وجهه فلم يقم لي فيها على أمر وقال لي إسحاق بن راهويه معناه أن الله لما فضل كلامه على سائر الكلام جعل لبعضه أيضا فضلا

في الثواب لمن قرأه تحريضا على تعلمه لا أن من قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثلاث مرات كان كمن قرأ القرآن جميعه هذا لا يستقيم ولو قرأها مائتي مرة
قال أبو عمرو وهذان إمامان بالسنة ما قاما ولا قعدا في هذه المسألة
قلت: وأحسن ما قيل فيه أن القرآن قسمان: خبر وإنشاء والخبر قسمان خبر عن الخالق وخبر عن المخلوق فهذه ثلاثة وسورة الإخلاص أخلصت الخبر عن الخالق فهي بهذا الاعتبار ثلث القرآن
فائدة: في أي آية في القرآن أرجى
اختلف في أرجى آية في القرآن على بضعة عشر قولا:
الأول : آية الدين ومأخذه أن الله تعالى أرشد عباده إلى مصالحهم الدنيوية حتى انتهت العناية بمصالحهم إلى أن أمرهم بكتابة الدين الكبير والحقير فبمقتضى ذلك يرجى عفو الله تعالى عنهم لظهور أمر العناية العظيمة بهم حتى في مصلحتهم الحقيرة
الثاني: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} إلى قوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} وهذا رواه مسلم في الصحيح أثر حديث الإفك عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك
الثالث : قال الشبلي: في قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ

سَلَفَ}
فالله تعالى لما أذن الكافرين بدخول الباكل إذا أتوا بالتوحيد والشهادة أتراه يخرج الداخل فيها والمقيم عليها
الرابع: قوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}
الخامس: قوله: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}
السادس : قوله تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
السابع: قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}
الثامن: قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}
حكى هذه الأقوال الخمسة الأخيرة الشيخ محيى الدين في رءوس المسائل
التاسع: رأيت في مناقب الشافعي للإمام أبي محمد إسماعيل الهروي صاحب الحاكم بإسناده عن ابن عبد الحكم قال: سألت الشافعي: أي آية أرجى؟قال قوله تعالى: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } قال: وسألته عن أرجى حديث للمؤمن؟قال: حديث: "إذا كان يوم القيامة يدفع إلى كل مسلم رجل من الكفار فيذهب به إلى النار"
العاشر: والحادي عشر: روى الحاكم في مستدركه عن محمد بن المنكدر قال التقى ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص فقال ابن عباس أي آية في كتاب الله أرجى عندك فقال عبد الله بن عمرو: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} قال

لكن قول إبراهيم: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} هذا لما في الصدور من وسوسة الشيطان فرضي الله تعالى من إبراهيم بقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه
وقال النحاس في سورة الأحقاف: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} فقال إن هذه الآية من أرجى آية في القرآن إلا أن ابن عباس قال أرجى آية في القرآن: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ}
وأما أخوف آية فعن الإمام أبي حنيفة أنه قال هي قوله تعالى: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ولو قيل إنها {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} لكان له وجه ولهذا قال بعضهم: لو سمعت هذه الكلمة من خفير الحارة لم أنم
النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوتها وكيفيتها...
النوع التاسع والعشرون: في آداب تلاوته وكيفيتها
اعلم أنه ينبغي لمح موقع النعم على من علمه الله تعالى القرآن العظيم أو بعضه بكونه أعظم المعجزات لبقائه ببقاء دعوة الإسلام ولكونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاتم الأنبياء والمرسلين فالحجة بالقرآن العظيم قائمة على كل عصر وزمان لأنه كلام رب العالمين وأشرف كتبه جل وعلا فلير من عنده القرآن أن الله أنعم عليه نعمة عظيمة وليستحضر من أفعاله أن يكون القرآن حجة له لا عليه لأن القرآن مشتمل على طلب أمور والكف عن أمور وذكر أخبار قوم قامت عليهم الحجة فصاروا عبرة للمعتبرين حين زاغوا فأزاغ الله قلوبهم وأهلكوا لما عصوا وليحذر من علم حالهم أن يعصي فيصير مآله مآلهم فإذا استحضر صاحب القرآن علو شأنه بكونه طريقا لكتاب الله تعالى وصدره مصحفا له انكفتت نفسه عند التوفيق عن الرذائل وأقبلت على العمل الصالح الهائل وأكبر معين على ذلك حسن ترتيله وتلاوته وقال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} وقال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً}
فحق على كل امرئ مسلم قرأ القرآن أن يرتله وكمال ترتيله تفخيم ألفاظه والإبانة عن حروفه والإفصاح لجميعه بالتدبر حتى يصل بكل ما بعده

وأن يسكت بين النفس والنفس حتى يرجع إليه نفسه وألا يدغم حرفا في حرف لأن أقل ما في ذلك أن يسقط من حسناته بعضها وينبغي للناس أن يرغبوا في تكثير حسناتهم فهذا الذي وصفت أقل ما يجب من الترتيل
وقيل: أقل الترتيل أن يأتي بما يبين ما يقرأ به وإن كان مستعجلا في قراءته وأكمله أن يتوقف فيها ما لم يخرجه إلى التمديد والتمطيط فمن أراد أن يقرأ القرآن بكمال الترتيل فليقرأه على منازله فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ المتهدد وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم
وينبغي أن يشتغل قلبه في التفكر في معنى ما يلفظ بلسانه فيعرف من كل آية معناها ولا يجاوزها إلى غيرها حتى يعرف معناها فإذا مر به آية رحمة وقف عندها وفرح بما وعده الله تعالى منها واستبشر إلى ذلك وسأل الله برحمته الجنة وإن قرأ آية عذاب وقف عندها وتأمل معناها فإن كانت في الكافرين اعترف بالإيمان فقال آمنا بالله وحده وعرف موضع التخويف ثم سأل الله تعالى أن يعيذه من النار
وإن هو مر بآية فيها نداء للذين آمنوا فقال يأيها الذين آمنوا وقف عندها وقد كان بعضهم يقول لبيك ربي وسعديك ويتأمل ما بعدها مما أمر به ونهي عنه فيعتقد قبول ذلك فإن كان من الأمر الذي قد قصر عنه فيما مضى اعتذر عن فعله في ذلك الوقت واستغفر ربه في تقصيره وذلك مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً}
وعلى كل أحد أن ينظر في أمر أهله في صلاتهم وصيامهم وأداء ما يلزمهم في طهاراتهم

وجناياتهم وحيض النساء ونفاسهن وعلى كل أحد أن يتفقد ذلك في أهله ويراعيهم بمسألتهم عن ذلك فمن كان منهم يحسن ذلك كانت مسألته تذكيرا له وتأكيدا لما في قلبه وإن كان لا يحسن كان ذلك تعليما له ثم هكذا يراعي صغار ولده ويعلمهم إذا بلغوا سبعا أو ثماني سنين ويضربهم إذا بلغوا العشر على ترك ذلك فمن كان من الناس قد قصر فيما مضى اعتقد قبوله والأخذ به فيما يستقبل وإن كان يفعل ذلك وقد عرفه فإنه إذا مر به تأمله وتفهمه
وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} فإذا قرأ هذه الآية تذكر أفعاله في نفسه وذنوبه فيما بينه وبين غيره من الظلامات والغيبة وغيرها ورد ظلامته واستغفر من كل ذنب قصر في عمله ونوى أن يقوم بذلك ويستحل كل من بينه وبينه شيء من هذه الظلامات من كان منهم حاضرا وأن يكتب إلى من كان غائبا وأن يرد ما كان يأخذه على من أخذه منه فيعتقد هذا في وقت قراءة القرآن حتى يعلم الله تعالى منه أنه قد سمع وأطاع فإذا فعل الإنسان هذا كان قد قام بكمال ترتيل القرآن فإذا وقف على آية لم يعرف معناها يحفظها حتى يسأل عنها من يعرف معناها ليكون متعلما لذلك طالبا للعمل به وإن كانت الآية قد اختلف فيها اعتقد من قولهم أقل ما يكون وإن احتاط على نفسه بأن يعتقد أوكد ما في ذلك كان أفضل له وأحوط لأمر دينه
وإن كان ما يقرؤه من الآي فيما قص الله على الناس من خبر من مضى من الأمم فلينظر في ذلك وإلى ما صرف الله عن هذه الأمة منه فيجدد لله على ذلك شكرا

وإن كان ما يقرؤه من الآي مما أمر الله به أو نهى عنه أضمر قبول الأمر والائتمار والانتهاء عن المنهي والاجتناب له فإن كان ما يقرؤه من ذلك وعيدا وعد الله به المؤمنين فلينظر إلى قلبه فإن جنح إلى الرجاء فزعه بالخوف وإن جنح إلى الخوف فسح له في الرجاء حتى يكون خوفه ورجاؤه معتدلين فإن ذلك كمال الإيمان
وإن كان ما يقرؤه من الآي من المتشابه الذي تفرد الله بتأويله فليعتقد الإيمان به كما أمر الله تعالى فقال
: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} يعنى عاقبة الأمر منه ثم قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ}
وإن كان موعظة اتعظ بها فإنه إذا فعل هذا فقد نال كمال الترتيل
وقال بعضهم الناس في تلاوة القرآن ثلاثة مقامات:
الأول: من يشهد أوصاف المتكلم في كلامه ومعرفة معاني خطابه فينظر إليه من كلامه وتكلمه بخطابه وتمليه بمناجاته وتعرفه من صفاته فإن كل كلمة تنبئ عن معنى اسم أو وصف أو حكم أو إرادة أو فعل لأن الكلام ينبئ عن معاني الأوصاف ويدل على الموصوف وهذا مقام العارفين من المؤمنين لأنه لا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث أنه منعم عليه بل هو مقصور الفهم عن المتكلم موقوف الفكر عليه مستغرق بمشاهدة المتكلم ولهذا قال جعفر بن محمد الصادق لقد تجلى الله لخلقه بكلامه ولكن لا يبصرون
ومن كلام الشيخ أبي عبد الله القرشي لو طهرت القلوب لم تشبع من التلاوة للقرآن
الثاني: من يشهد بقلبه كأنه تعالى يخاطبه ويناجيه بألطافه ويتملقه بإنعامه

وإحسانه فمقام هذا الحياء والتعظيم وحاله الإصغاء والفهم وهذا لعموم المقربين
الثالث: من يرى أنه يناجي ربه سبحانه فمقام هذا السؤال والتمكن وحاله الطلب وهذا المقام لخصوص أصحاب اليمين فإذا كان العبد يلقي السمع من بين يدي سميعه مصغيا إلى سر كلامه شهيد القلب لمعاني صفاته ناظرا إلى قدرته تاركا لمعقوله ومعهود علمه متبرئا من حوله وقوته معظما للمتكلم متفرغا إلى الفهم بحال مستقيم وقلب سليم وصفاء يقين وقوة علم وتمكين سمع فصل الخطاب وشهد غيب الجواب لأن الترتيل في القرآن والتدبر لمعاني الكلام وحسن الاقتصاد إلى المتكلم في الإفهام والإيقاف على المراد وصدق الرغبة في الطلب سبب للاطلاع على المطلع من المسر المكنون المستودع وكل كلمة من الخطاب تتوجه عشر جهات للعارف من كل جهة مقام ومشاهدات أولها الإيمان بها والتسليم لها والتوبة إليها والصبر عليها والرضا بها والخوف منها والرجاء إليها والشكر عليها والمحبة لها والتوكل فيها فهذه المقامات العشر هي مقامات المتقين وهي منطوية في كل كلمة يشهدها أهل التمكين والمناجاة ويعرفها أهل العلم والحياة لأن كلام المحبوب حياة للقلوب لا ينذر به إلا حي ولا يحيا به إلا مستجيب كما قال تعالى: { لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً} وقال تعالى: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ولا يشهد هذه العشر مشاهدات إلا من يتنقل في العشر المقامات المذكورة في سورة الأحزاب أولها مقام المسلمين وآخرها مقام الذاكرين وبعد مقام

الذكر هذه المشاهدات العشر فعندها لا تمل المناجاة لوجود المصافاة وعلم كيف تجلى له تلك الصفات الإلهية في طي هذه الأدوات ولولا استتار كنه جمال كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ترى ولا تمكن لفهم عظيم الكلام إلا على حد فهم الخلق فكل أحد يفهم عنه بفهمه الذي قسم له حكمة منه
قال بعض العلماء: في القرآن ميادين وبساتين وعرائس وديابيج ورياض فالميمات ميادين القرآن والراءات بساتين القرآن والحاءات مقاصير القرآن والمسبحات عرائس القرآن والحواميم ديابيج القرآن والمفصل رياضه وما سوى ذلك فإذا دخل المريد في الميادين وقطف من البساتين ودخل المقاصير وشهد العرائس ولبس الديابيج وتنزه في الرياض وسكن غرفات المقامات اقتطعه عما سواه وأوقفه ما يراه وشغله المشاهد له عما عداه ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعرفوا القرآن والتمسوا غرائبه وغرائبه فروضه وحدوده فإن القرآن على خمسة حلال وحرام ومحكم وأمثال ومتشابه فخذوا الحلال ودعوا الحرام واعملوا بالمحكم وآمنوا بالتمشابه واعتبروا بالأمثال
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن
قال ابن سبع في كتاب شفاء الصدر: هذا الذي قال أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسيره الظاهر وقد قال بعض العلماء لكل آية ستون ألف فهم وما بقى من فهمه أكثر وقال آخرون القرآن يحتوى على سبعة وسبعين ألف علم إذ لكل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعا إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله

فصل: في كراهة قراءة القرآن بلا تدبر
تكره قراء القرآن بلا تدبر وعليه محل حديث عبد الله بن عمرو لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث وقول ابن مسعود لمن أخبره أنه يقوم بالقرآن في ليلة "أهَذًّا كهذِّ الشعر"
وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صفة الخوارج: "يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم ولا حناجرهم" ذمهم بإحكام ألفاظه وترك التفهم لمعانيه
فصل: في تعلم القرآن
ثبت في صحيح البخاري من حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وفي رواية أفضلكم وعن عبد الله يرفعه: "إن القرآن مأدبة الله فتعلموا مأدبته ما استطعتم" رواه البيهقى

وروي أيضا عن أبى العالية قال: "تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يأخذه من جبريل عليه السلام خمسا خمسا" وفي رواية "من تعلمه خمسا خمسا لم ينسه"
قال أصحابنا: تعليم القرآن فرض كفاية وكذلك حفظه واجب على الأمة صرح به الجرجاني في الشافي والعبادي وغيرهما والمعنى فيه كما قاله الجويني ألا ينقطع عدد التواتر فيه ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف فإن قام بذلك قوم سقط عن الباقين وإلا فالكل آثم فإذا لم يكن في البلد أو القرية من يتلو القرآن أثموا بأسرهم ولو كان هناك جماعة يصلحون للتعليم وطلب من بعضهم وامتنع لم يأثم في الأصح كما قاله النووي في التبيان وهو نظير ما صححه في كتاب السير أن المفتي والمدرس لا يأثمان بالامتناع إذا كان هناك من يصلح غيره وصورة المسألة فيما إذا كانت المصلحة لا تفوت بالتأخير فإن كانت تفوت لم يجز الامتناع كالمصلي يريد تعلم الفاتحة ولو رده لخرج الوقت بسبب ذهابه إلى الآخر ولضيق الوقت عن التعليم
وينبغي تعليمه على التأليف المعهود فإنه توقيفي وقد ورد عن ابن مسعود سئل عن الذي يقرأ القرآن منكوسا قال ذاك منكوس القلب
قال أبو عبيد وجهه عندي أن يبتدئ من آخر القرآن من آخر المعوذتين ثم يرتفع إلى البقرة كنحو ما تفعل الصبيان في الكتاب لأن السنة خلاف هذا وإنما وردت الرخصة في تعليم الصبي والعجمي من المفصل لصعوبة السور الطوال عليهما

مسألة: في جواز أخذ الأجر على تعليم القرآن
ويجوز أخذ الأجرة على التعليم ففي صحيح البخاري: "إن أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله" وقيل إن تعين عليه لم يجز واختاره الحليمي وقال استنصر الناس المعلمين لقصرهم زمانهم على معاشرة الصبيان ثم النساء حتى أثر ذلك في عقولهم ثم لابتغائهم عليه الأجعال وطمعهم في أطعمة الصبيان فأما نفس التعليم فإنه يوجب التشريف والتفضيل
وقال أبو الليث في كتاب البستان: التعليم على ثلاثة أوجه:
أحدها: للحسبة ولا يأخذ به عوضا والثاني أن يعلم بالأجرة والثالث أن يعلم بغير شرط فإذا أهدى إليه قبل
فالأول: مأجور عليه وهو عمل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
والثاني: مختلف فيه قال أصحابنا المتقدمون لا يجوز لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بلغوا عنى ولو آية" وقال جماعة من المتأخرين يجوز مثل عصام بن يوسف ونصر بن يحيى وأبى نصر بن سلام وغيرهم قالوا: والأفضل للمعلم أن يشارط الأجرة للحفظ

وتعليم الكتابة فإن شارط لتعليم القرآن أرجو أنه لا بأس به لأن المسلمين قد توارثوا ذلك واحتاجوا إليه
وأما الثالث: فيجوز في قولهم جميعا لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان معلما للخلق وكان يقبل الهدية ولحديث اللديغ لما رقوه بالفاتحة وجعلوا له جعلا وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "واضربوا لي معكم فيها بسهم"
فصل: في دوام تلاوة القرآن بعد تعلمه
وليدمن على تلاوته بعد تعلمه قال الله تعالى مثنيا على من كان دأبه تلاوة آيات الله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ} وسماه ذكرا وتوعد المعرض عنه ومن تعلمه ثم نسيه وفي الصحيحين: "تعاهدوا القرآن فوالذي نفس محمد بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقالها وقال بئسما لأحدهم أن يقول نسيت آية كيت وكيت بل هو نسي واستذكروا القرآن فلهو اشد تفصيا في صدور الرجال من النعم في عقالها"

مسألة: في استحباب الاستياك والتطهر للقراءة
يستحب الاستياك وتطهير فمه والطهارة للقراءة باستياكه وتطهير بدنه بالطيب المستحب تكريما لحال التلاوة لابسا من الثياب ما يتجمل به بين الناس لكونه بالتلاوة بين يدي المنعم المتفضل بهذا الإيناس فإن التالي للكلام بمنزلة المكالم لذي الكلام وهذا غاية التشريف من فضل الكريم العلام ويستحب أن يكون جالسا مستقبل القبلة سئل سعيد بن المسيب عن حديث وهو متكئ فاستوى جالسا وقال أكره أن أحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا متكئ وكلام الله تعالى أولى
ويستحب أن يكون متوضئا ويجوز للمحدث قال إمام الحرمين وغيره لا يقال إنها مكروهة فقد صح أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ مع الحدث وعلى كل حال سوى الجنابة وفي معناها الحيض والنفاس وللشافعي قول قديم في الحائض تقرأ خوف النسيان
وقال أبو الليث لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض أقل من آية واحدة قال وإذا أرادت الحائض التعلم فينبغي لها أن تلقن نصف آية ثم تسكت ولا تقرأ آية واحدة بدفعة واحدة وتكره القراءة حال خروج الريح وأما غيره من النواقض كاللمس والمس ونحوه فيحتمل عدم الكراهة لأنه غير مستقذر عادة ولأنه في حال خروج الريح يبعد بخلاف هذه

مسألة: في التعوذ وقراءة البسملة عند التلاوة
يستحب التعوذ قبل القراءة فإن قطعها قطع ترك وأراد العود جدد وإن قطعها لعذر عازما على العود كفاه التعوذ الأول ما لم يطل الفصل ولا بد من قراءة البسملة أول كل سورة تحرزا من مذهب الشافعي وإلا كان قارئا بعض السور لا جميعها فإن قرأ من أثنائها استحب له البسملة أيضا نص عليه الشافعي رحمه الله فيما نقله العبادي
وقال الفاسى في شرح القصيدة: كان بعض شيوخنا يأخذ علينا في الأجزاء القرآنية بترك البسملة ويأمرنا بها في حزب: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} وفي حزب {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} لما فيهما بعد الاستعاذة من قبح اللفظ وينبغي لمن أراد ذلك أن يفعله إذا ابتدأ مثل ذلك نحو: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} {وَهُوَ الَّذِي

أَنْشَأَ جَنَّاتٍ} لوجود العلة المذكورة وقد كان مكي يختار إعادة الآية قبل كل حزب من الحزبين المذكورين للعلة المذكورة
مسألة
ولتكن تلاوته بعد أخذه القرآن من اهل الإتقان لهذا الشأن الجامعين بين الدراية والرواية والصدق والأمانة وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجتمع به جبريل في رمضان فيدراسه القرآن
مسألة: في قراءة القرآن في المصحف أفضل أم على ظهر قلب
وهل القراءة في المصحف أفضل أم على ظهر القلب أم يختلف الحال ثلاثة أقوال:
أحدها أنها من المصحف أفضل لأن النظر فيه عبادة فتجتمع القراءة والنظر وهذا قاله القاضي الحسين والغزالي قال وعلة ذلك أنه لا يزيد على. . . . . . وتأمل المصحف وجمله ويزيد في الأجر بسبب ذلك وقد قيل الختمة في المصحف بسبع وذكر أن الأكثرين من الصحابة كانوا يقرءون في المصحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف

ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رحمه الله تعالى المسجد وبين يديه المصحف فقال شغلكم الفقه عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف في يدي فما أطبقه حتى الصبح
وقال عبد الله بن أحمد كان أبي يقرأ في كل يوم سبعا من القرآن لا يتركه نظرا
وروى الطبراني من حديث أبي سعيد بن عون المكي عن عثمان بن عبيد الله بن أوس الثقفي عن جده قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قراءة الرجل في غير المصحف ألف درجة وقراءته في المصحف تضاعف على ذلك إلى ألفي درجة" وأبو سعيد قال فيه ابن معين لا بأس به
وروى البيهقي في شعب الإيمان من طريقين إلى عثمان بن عبد الله بن أوس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ القرآن في المصحف كانت له ألفا حسنة ومن قرأه في غير المصحف فأظنه قال كألف حسنة" وفي الطريق الأخرى قال درجة وجزم بألف إذا لم يقرأ في المصحف
وروى ابن أبي داود بسنده عن أبي الدرداء مرفوعا: "من قرأ مائتي آية كل يوم نظرا شفع في سبعة قبور حول قبره وخفف العذاب عن والديه وإن كانا مشركين"
وروى أبو عبيد في فضائل القرآن بسنده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "فضل القرآن نظرا على من قرأ ظاهرا كفضل الفريضة على النافلة" وبسنده عن ابن عباس قال كان عمر إذا دخل البيت نشر المصحف يقرأ فيه

وروى أبو داود بسنده عن عائشة مرفوعا: "النظر إلى الكعبة عبادة والنظر في وجه الوالدين عبادة والنظر في المصحف عبادة"
وعن الأوزاعي كان يعجبهم النظر في المصحف بعد القراءة هنيهة قال بعضهم وينبغي لمن كان عنده مصحف أن يقرأ فيه كل يوم آيات يسيرة ولا يتركه مهجورا
والقول الثاني : أن القراءة على ظهر القلب أفضل واختاره أبو محمد بن عبد السلام فقال في أماليه قيل القراءة في المصحف أفضل لأنه يجمع فعل الجارحتين وهما اللسان والعين والأجر على قدر المشقة وهذا باطل لأن المقصود من القراءة التدبر لقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} والعادة تشهد أن النظر في المصحف يخل بهذا المقصود فكان مرجوحا
والثالث: واختاره النووي في الأذكار إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من المصحف فالقراءة من الحفظ أفضل وإن استويا فمن المصحف أفضل قال وهو مراد السلف
مسألة
في استحباب الجهر بالقراءة يستحب الجهر بالقراءة صح ذلك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واستحب بعضهم

الجهر ببعض القراءة والإسرار ببعضها لأن المسر قد يمل فيأنس بالجهر والجاهر قد يكل فيستريح بالإسرار إلا أن من قرأ بالليل جهر بالأكثر وإن قرأ بالنهار أسر بالأكثر إلا أن يكون بالنهار في موضع لا لغو فيه ولا صخب ولم يكن في صلاة فيرفع صوته بالقرآن ثم روى بسنده عن معاذ بن جبل يرفعه: "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة" نعم من قرأ والناس يصلون فليس له أن يجهر جهرا يشغلهم به فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج على أصحابه وهم يصلون في المسجد فقال: "يأيها الناس كلكم يناجي ربه فلا يجهر بعضكم على بعض في القراءة"
مسألة: في كراهة قطع القرآن لمكالمة الناس
ويكره قطع القرآن لمكالمة الناس وذلك أنه إذا انتهى في القراءة إلى آية وحضره كلام فقد استقبله التي بلغها والكلام فلا ينبغي أن يؤثر كلامه على قراءة القرآن قاله الحليمي وأيده البيهقي بما رواه البخاري كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه
مسألة: في حكم قراءة القرآن بالعجمية
لا تجوز قراءته بالعجمية سواء أحسن العربية أم لا في الصلاة وخارجها لقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً}

وقيل عن أبي حنيفة تجوز قراءته بالفارسية مطلقا وعن أبى يوسف إن لم يحسن العربية لكن صح عن أبي حنيفة الرجوع عن ذلك حكاه عبد العزيز في شرح البزرودي
واستقر الإجماع على أنه تجب قراءته على هيئته التي يتعلق بها الإعجاز لنقص الترجمة عنه ولنقص غيره من الألسن عن البيان الذي اختص به دون سائر الألسنة وإذا لم تجز قراءته بالتفسير العربي لمكان التحدي بنظمه فأحرى أن لا تجوز الترجمة بلسان غيره ومن هاهنا قال القفال من أصحابنا عندي أنه لا يقدر أحد أن يأتي بالقرآن بالفارسية قيل له فإذن لا يقدر أحد أن يفسر القرآن قال ليس كذلك لأن هناك يجوز أن يأتي ببعض مراد الله ويعجز عن البعض أما إذا أراد أن يقرأه بالفارسية فلا يمكن أن يأتي بجميع مراد الله أي فإن الترجمة إبدال لفظه بلفظة تقوم مقامها وذلك غير ممكن بخلاف التفسير وما أحاله القفال من ترجمة القرآن ذكره أبو الحسين بن فارس في فقه العربية أيضا فقال لا يقدر أحد من التراجم على أن ينقل القرآن إلى شيء من الألسن كما نقل الإنجيل عن السريانية إلى الحبشية والرومية وترجمت التوراة والزبور وسائر كتب الله تعالى بالعربية لأن العجم لم تتسع في الكلام اتساع العرب ألا ترى أنك لو أردت أن تنقل قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} لم تستطع أن

تأتي بهذه الألفاظ مؤدية عن المعنى الذي أودعته حتى تبسط مجموعها وتصل مقطوعها وتظهر مستورها فتقول إن كان بينك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضا فأعلمهم أنك قد نقضت ما شرطته لهم وآذنهم بالحرب لتكون أنت وهم في العلم بالنقض على سواء وكذلك قوله تعالى: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً} انتهي
فظهر من هذا أن الخلاف في جواز قراءته بالفارسية لا يتحقق لعدم إمكان تصوره ورأيت في كلام بعض الأئمة المتأخرين أن المنع من الترجمة مخصوص بالتلاوة فأما ترجمته للعمل به فإن ذلك جائز للضرورة وينبغي أن يقتصر من ذلك على بيان المحكم منه والغريب المعنى بمقدار الضرورة من التوحيد وأركان العبادات ولا يتعرض لما سوى ذلك ويؤمر من أراد الزيادة على ذلك بتعلم اللسان العربي وهذا هو الذي يقتضيه الدليل ولذلك لم يكتب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى قيصر إلا بآية واحدة محكمة لمعنى واحد وهو توحيد الله والتبري من الإشراك لأن النقل من لسان إلى لسان قد تنقص الترجمة عنه كما سبق فإذا كان معنى المترجم عنده واحدا قل وقوع التقصير فيه بخلاف المعاني إذا كثرت وإنما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لضرورة التبليغ أو لأن معنى تلك الآية كان عندهم مقررا في كتبهم وإن خالفوه
وقال الكواشي في تفسير سورة الدخان: أجاز أبو حنيفة القراءة بالفارسية بشريطة وهي أن يؤدي القارئ المعاني كلها من غير أن ينقص منها شيئا أصلا قالوا وهذه الشريطة تشهد أنها إجازة كلا إجازة لأن كلام العرب خصوصا القرآن الذي هو

معجز فيه من لطائف المعاني والإعراب ما لا يستقل به لسان من فارسية وغيرها
وقال الزمخشري ما كان أبو حنيفة يحسن الفارسية فلم يكن ذلك منه عن تحقيق وتبصر وروى علي بن الجعد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة مثل صاحبيه في القراءة بالفارسية
مسألة: في عدم جواز القراءة بالشواذ
ولا تجوز قراءته بالشواذ وقد نقل ابن عبد البر الإجماع على منعه فقد سبق في الحديث كان يمد مدا يعنى أنه يمكن الحروف ولا يحذفها وهو الذي يسميه القراء بالتجويد في القرآن والترتيل أفضل من الإسراع فقراءة حزب مرتل مثلا في مقدار من الزمان أفضل من قراءة حزبين في مثله بالإسراع
مسألة: في استحباب قراءة القرآن بالتفخيم
يستحب قراءته بالتفخيم والإعراب لما يروى نزل القرآن بالتفخيم قال الحليمي معناه أن يقرأ على قراءة الرجال ولا يخضع الصوت فيه ككلام النساء قال ولا يدخل في كراهة الإمالة التي هي اختيار بعض القراء وقد يجوز أن يكون القرآن نزل بالتفخيم فرخص مع ذلك في إمالة ما يحسن إمالته على لسان جبريل عليه السلام
وروى البيهقي من حديث ابن عمر: "من قرأ القرآن فأعرب في قراءته كان له بكل حرف عشرون حسنة ومن قرأه بغير إعراب كان له بكل حرف عشر حسنات"

مسألة: في فصل السور بعضها عن بعض
وأن يفصل كل سورة عما قبلها إما بالوقف أو التسمية ولا يقرأ من أخرى قبل الفراغ من الأولى ومنه الوقف على رءوس الآي وإن لم يتم المعنى قال أبو موسى المديني وفيه خلاف بينهم لوقفه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قراءة الفاتحة على كل آية وإن لم يتم الكلام قال أبو موسى ولأن الوقف على آخر السور لا شك في استحبابه وقد يتعلق بعضها ببعض كما في سورة الفيل مع قريش
وقال البيهقي رحمه الله وقد ذكر حديث كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقطع قراءته آية آية ومتابعة السنة أولى فيما ذهب إليه أهل العلم بالقراءات من تتبع الأغراض والمقاصد
ومنها أن يعتقد جزيل ما أنعم الله عليه إذ أهله لحفظ كتابه ويستصغر عرض الدنيا أجمع في جنب ما ما خوله الله تعالى ويجتهد في شكره ومنها ترك المباهاة فلا يطلب به الدنيا بل ما عند الله وألا يقرأ في المواضع القذرة وأن يكون ذا سكينة ووقار مجانبا للذنب محاسبا نفسه يعرف القرآن في سمته وخلقه لأنه صاحب كتاب الملك والمطلع على وعده ووعيده وليتجنب القراءة في الأسواق قاله الحليمي وألحق به الحمام وقال النووي: لا بأس به في الطريق سرا حيث لا لغو فيها
مسألة: في ترك خلط سورة بسورة
عد الحليمي من الآداب ترك خلط سورة بسورة وذكر الحديث الآتي
قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة

النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخذه عن جبريل فالأولى بالقارئ أن يقرأه على التأليف المنقول المجتمع عليه وقد قال ابن سيرين تأليف الله خير من تاليفكم ونقل القاضي أبو بكر الإجماع على عدم جواز قراءة آية آية من كل سورة وقد روى أبو داود في سننه من حديث أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بأبي بكر وهو يقرأ يخفض صوته وبعمر يجهر بصوته وذكر الحديث وفيه فقال "وقد سمعتك يا بلال وأنت تقرأ من هذه السورة ومن هذه السورة فقال كلام طيب يجمعه الله بعضه إلى بعض فقال كلكم قد أصاب"
وفي رواية لأبي عبيد في فضائل القرآن قال بلال أخلط الطيب بالطيب فقال اقرأ السورة على وجهها أو قال على نحوها وهذه زيادة مليحة وفي رواية إذا قرأت السورة فأنفذها
وروى عن خالد بن الوليد أنه أم الناس فقرأ من سور شتى ثم التفت إلى الناس حين انصرف فقال شغلني الجهاد عن تعلم القرآن
وروى المنع عن ابن سيرين ثم قال أبو عبيد الأمر عندنا على الكراهة في قراءة القراء هذه الآيات المختلفة كما أنكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على بلال وكما اعتذر خالد عن فعله ولكراهة ابن سيرين له ثم قال إن بعضهم روى حديث بلال وفيه فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذلك حسن وهو أثبت وأشبه بنقل العلماء انتهى
ورواه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وزاد مثل بلال كمثل نحلة غدت تأكل من الحلو والمر ثم يصير حلوا كله
قال: وإنما شبهه بالنحلة في ذلك لأنها تأكل من الثمرات حلوها وحامضها ورطبها ويابسها وحارها وباردها فتخرج هذا الشفاء وليست كغيرها من الطير تقتصر على الحلو فقط لحظ شهوته فلا جرم أعاضها الله الشفاء فيما تلقيه كقوله: "عليكم

بألبان البقرة فإنها ترم من كل الشجر" فتأكل فبلال رضي الله عنه كان يقصد آيات الرحمة وصفات الجنة فأمره أن يقرأ السورة على نحوها كما جاءت ممتزجة كما أنزل الله تعالى فإنه أعلم بدواء العباد وحاجتهم ولو شاء لصنفها أصنافا وكل صنف على حدة ولكنه مزجها لتصل القلوب بنظام لا يمل قال: ولقد أذهلني يوما قوله تعالى {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ}
فقلت: يا لطيف عملت أن قلوب أوليائك الذين يعقلون هذه الأوصاف عنك وتتراءى لهم تلك الأهوال لا تتمالك فلطفت بهم فنسبت{ الْمُلْكُ} إلى أعم اسم في الرحمة فقلت {الرَّحْمَنِ} ليلاقي هذا الاسم تلك القلوب التي يحل بها الهول فيمازج تلك الأهوال ولو كان بدله اسما آخر من عزيز وجبار لتفطرت القلوب فكان بلال يقصد لما تطيب به النفوس فأمره أن يقرأ على نظام رب العالمين فهو أعلم بالشفاء
مسألة: في استحباب استيفاء الحروف عند القراءة
يستحب استيفاء كل حرف أثبته قارئ قال الحليمى هذا ليكون القارئ قد أتى على جميع ما هو قرآن فتكون ختمة أصح من ختمة إذا ترخص بحذف حرف أو كلمة قرئ بهما ألا ترى أن صلاة كل من استوفي كل فعل امتنع عنه كانت صلاته أجمع من صلاة من ترخص فحذف منها مالا يضر حذفه
فصل: في ختم القرآن
ويستحب ختم القرآن في كل أسبوع: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقرأ القرآن

في كل سبع ولا تزد" رواه أبو داود وروى الطبراني بسند جيد سئل أصحاب رسول الله صلى الله عليه كيف كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يجزئ القرآن قال كان يجزئه ثلاثا وخمسا وكره قوم قراءته في أقل من ثلاث وحملوا عليه حديث "لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث" رواه الأربعة وصححه الترمذي
والمختار وعليه أكثر المحققين أن ذلك يختلف بحال الشخص في النشاط والضعف والتدبر والغفلة لأنه روى عن عثمان رضي الله عنه كان يختمه في ليلة واحدة ويكره تأخير ختمه أكثر من أربعين يوما رواه أبو داود
وقال أبو الليث في كتاب البستان ينبغي أن القرآن في السنة مرتين إن لم يقدر على الزيادة وقد روى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة أنه قال من قرأ القرآن في كل سنة مرتين فقد أدى للقرآن حقه لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عرضه على جبريل في السنة التي قبض فيها مرتين
وقال أبو الوليد الباجي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الله بن عمرو أن يختم في سبع أو ثلاث يحتمل أنه الأفضل في الجملة أو أنه الأفضل في حق ابن عمرو لما علم من ترتيله في قراءته وعلم من ضعفه عن استدامته أكثر مما حد له وأما من استطاع أكثر من ذلك فلا تمنع الزيادة عليه وسئل مالك عن الرجل يختم القرآن في كل ليلة فقال ما أحسن ذلك إن القرآن إمام كل خير
وقال بشر بن السري إنما الآية مثل التمرة كلما مضغتها استخرجت حلاوتها فحدث به أبو سليمان فقال صدق إنما يؤتى أحدكم من أنه إذا ابتدأ السورة أراد آخرها

مسألة: في ختم القرآن في الشتاء وفي الصيف
يسن ختمه في الشتاء أول الليل وفي الصيف أول النهار قال ذلك ابن المبارك وذكره أبو داود لأحمد فكأنه أعجبه ويجمع أهله عند ختمه ويدعو
وقال بعض السلف إذا ختم أول النهار صلت عليه الملائكة حتى يمسي وإذا ختم في أول الليل صلت عليه الملائكة حتى يصبح رواه أبو داود
مسألة: في التكبير بين السور ابتداء من سورة الضحى
يسحب التكبير من أول سورة الضحى إلى أن يختم وهي قراءة أهل مكة أخذها ابن كثير عن مجاهد عن ابن عباس وابن عباس عن أبي وأبي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رواه ابن خزيمة والبيهقي في شعب الإيمان وقواه ورواه من طريق موقوفا على أبي بسند معروف وهو حديث غريب وقد أنكره أبو حاتم الرازي على عادته في التشديد واستأنس له الحليمي بأن القراءة تنقسم إلى أبعاض

متفرقة فكأنه كصيام الشهر وقد أمر الناس أنه إذا أكملوا العدة أن يكبروا الله على ما هداهم فالقياس أن يكبر القارئ إذا أكمل عدة السور
وذكر غيره أن التكبير كان لاستشعار انقطاع الوحي قال وصفته في آخر هذه السور أنه كلما ختم سورة وقف وقفة ثم قال الله أكبر ثم وقف وقفة ثم ابتدأ السورة التي تليها إلى آخر القرآن ثم كبر كما كبر من قبل ثم أتبع التكبير الحمد والتصديق والصلاة على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والدعاء
وقال سليم الرازي في تفسيره يكبر القارئ بقراءة ابن كثير إذا بلغ والضحى بين كل سورتين تكبيرة إلى أن يختم القرآن ولا يصل آخر السورة بالتكبير بل يفصل بينهما بسكتة وكأن المعنى في ذلك ما روي أن الوحي كان تأخر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما فقال ناس إن محمدا قد ودعه صاحبه وقلاه فنزلت هذه السورة فقال الله أكبر قال ولا يكبر في قراءة الباقين ومن حجتهم أن في ذلك ذريعة إلى الزيادة في القرآن بأن زيد عليه فيتوهم أنه من القرآن فيثبتوه فيه
مسألة: في تكرير الإخلاص
مما جرت به العادة من تكرير سورة الإخلاص عند الختم نص الإمام أحمد على

المنع ولكن عمل الناس على خلافه
قال: بعضهم والحكمة في التكرير ما ورد أنها تعدل ثلث القرآن فيحصل بذلك ختمة
فإن قيل: فعلى هذا كان ينبغي أن يقرأ ثلاثا بعد الواحدة التي تضمنتها الختمة فيحصل ختمتان
قلنا: مقصود الناس ختمة واحدة فإن القارئ إذا قرأها ثم أعادها مرتين كان على يقين من حصول ختمة إما التي قرأها من الفاتحة إلى آخر القرآن وإما التي حصل ثوابها بقراءة سورة الإخلاص ثلاثا وليس المقصود ختمة أخرى
مسألة: فيما يفعله القارئ عند ختم القرآن
ثم إذا ختم وقرأ المعوذتين قرأ الفاتحة وقرأ خمس آيات من البقرة إلى قوله: {هُمُ الْمُفْلِحُونَ} لأن آية عند الكوفيين وعند غيرهم بعض آية وقد روى الترمذي أي العمل أحب إلى الله قال الحال المرتحل قيل المراد به الحث على تكرار الختم وختمة بعد ختمة وليس فيه ما يدل على أن الدعاء لا يتعقب الختم

فائدة
روى البيهقي في دلائل النبوة وغيره أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يدعو عند ختم القرآن اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي أمانا ونورا وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل واجعله لي حجة يا رب العالمين رواه في شعب الإيمان بأطول من ذلك فلينظر فيه
مسألة: في آداب الاستماع
استماع القرآن والتفهم لمعانيه من الآداب المحثوث عليها ويكره التحدث بحضور القراءة قال الشيخ أبو محمد بن محمد عبد السلام والاشتغال عن السماع بالتحدث بما لا يكون أفضل من الاستماع سوء أدب على الشرع وهو يقتضي أنه لا بأس بالتحدث للمصلحة
مسألة: في حكم من يشرب شيئا كتب من القرآن
وأفتى الشيخ أيضا بالمنع من أن يشرب شيئا كتب من القرآن لأنه تلاقيه النجاسة الباطنة
وفيما قاله لأنها في معدنها لا حكم لها

وممن صرح بالجواز من أصحابنا العماد النيهي تلميذ البغوي فيما رأيته بخط ابن الصلاح
قال: لا يجوز ابتلاع رقعة فيها آية من القرآن فلو غسلها وشرب ماءها جاز وجزم القاضي الحسين والرافعي بجواز أكل الأطعمة التي كتب عليها شيء من القرآن
وقال: البيهقي أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي في ذكر منصور بن عمار أنه أوتي الحكمة وقيل إن سبب ذلك أنه وجد رقعة في الطريق مكتوبا عليها {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فأخذها فلم يجد لها موضعا فأكلها فأري فيما يرى للنائم كأن قائلا قد قال له قد فتح الله عليك باحترامك لتلك الرقعة فكان بعد ذلك يتكلم بالحكمة
مسألة:
القيام للمصاحف بدعة
وقال الشيخ أيضا في القواعد القيام للمصاحف بدعة لم تعهد في الصدر الأول

والصواب ما قاله النووي في التبيان من استحباب ذلك والأمر به لما فيه من التعظيم وعدم التهاون به وسئل العماد بن يونس الموصلي عن ذلك هل يستحب للتعظيم أو يكره خوف الفتنة؟فأجاب لم يرد في ذلك نقل مسموع والكل جائز ولكل نيته وقصده
مسألة: في حكم الأوراق البالية من المصحف
وإذا احتيج لتعطيل بعض أوراق المصحف لبلاء ونحوه فلا يجوز وضعه في شق أو غيره ليحفظ لأنه قد يسقط ويوطأ ولا يجوز تمزيقها لما فيه من تقطيع الحروف وتفرقه الكلم وفي ذلك إزراء بالمكتوب كذا قاله الحليمي قال وله غسلها بالماء وإن أحرقها بالنار فلا بأس أحرق عثمان مصاحف فيها آيات وقراءات منسوخة ولم ينكر عليه
وذكر غيره أن الإحراق أولى من الغسل لأن الغسالة قد تقع على الأرض وجزم القاضي الحسين في تعليقه بامتناع الإحراق وأنه خلاف الاحترام والنووي بالكراهة فحصل ثلاثة أوجه
وفي الواقعات من كتب الحنفية أن المصحف إذا بلى لا يحرق بل تحفر له في الأرض ويدفن
ونقل عن الإمام أحمد أيضا وقد يتوقف فيه لتعرضه للوطء بالأقدام

مسألة: في أحكام تتعلق باحترام المصحف وتبجيله
ويستحب تطييب المصحف وجعله على كرسي ويجوز تحليته بالفضة إكراما له على الصحيح روى البيهقي بسنده إلى الوليد بن مسلم قال سألت مالكا عن تفضيض المصاحف فأخرج إلينا مصحفا فقال حدثني أبي عن جدي أنهم جمعوا القرآن في عهد عثمان رضي الله عنه وأنهم فضضوا المصاحف على هذا ونحوه وأما بالذهب فالأصح يباح للمرأة دون الرجل وخص بعضهم الجواز بنفس المصحف دون علاقته المنفصلة عنه والأظهر التسوية
ويحرم توسد المصحف وغيره من كتب العلم لأن فيه إذلالا وامتهانا وكذلك مد الرجلين إلى شيء من القرآن أو كتب العلم
ويستحب تقبيل المصحف لأن عكرمة بن أبي جهل كان يقبله وبالقياس على تقبيل الحجر الأسود ولأنه هدية لعباده فشرع تقبيله كما يستحب تقبيل الولد الصغير
وعن أحمد ثلاث روايات الجواز والاستحباب والتوقف وإن كان فيه رفعة وإكرام لأنه لا يدخله قياس ولهذا قال عمر في الحجر لولا أني رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبلك ما قبلتك
ويحرم السفر بالقرآن إلى أرض العدو للحديث فيه خوف أن تناله أيديهم وقيل كثر الغزاة وأمن استيلاؤهم عليه لم يمنع لقوله "مخافة أن تناله أيديهم"

ويحرم كتابة القرآن بشيء نجس وكذلك ذكر الله تعالى وتكره كتابته في القطع الصغير رواه البيهقي عن علي وغيره وعنه تنوق رجل في {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فغفر له
وقال: الضحاك بن مزاحم ليتني قد رأيت الأيدي تقطع فيمن كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} يعنى لا يجعل له سنات قال وكان ابن سيرين يكره ذلك كراهة شديدة
ويستحب تجريد المصحف عما سواه وكرهوا الأعشار والأخماس معه وأسماء السور وعدد الآيات وكانوا يقولون جردوا المصحف وقال الحليمي يجوز لأن النقط ليس له قرار فيتوهم لأجلها ما ليس بقرآن قرآنا وإنما هي دلالات على هيئة المقروء فلا يضر إثباتها لمن يحتاج إليها
وروى ابن أبي شيبة في مصنفه في الصلاة وفي فضائل القرآن حدثنا وكيع عن سفيان عن الأعمش عن إبراهيم قال عبد الله بن مسعود: "جردوا القرآن" وفي رواية "لا تلحقوا به ما ليس منه" ورواه عبد الرزاق في مصنفه في أواخر الصوم ومن طريقه رواه الطبراني في معجمه ومن طريق ابن أبي شيبة رواه إبراهيم الحربي في كتابه غريب الحديث وقال قوله جردوا يحتمل فيه أمران أحدهما أي جردوه في التلاوة ولا تخلطوا به غيره
والثاني: أي جردوه في الخط من النقط والتعشير
قلت: الثاني أولى لأن الطبراني أخرج في معجمه عن مسروق عن ابن مسعود أنه كان يكره التعشير في المصحف وأخرجه البيهقي في كتاب المدخل وقال قال أبو عبيد كان إبراهيم يذهب به إلى نقط المصاحف
ويروى عن عبد الله أنه كره التعشير في المصحف قال البيهقي وفيه وجه آخر أبين منه وهو أنه أراد لا تخلطوا به غيره من الكتب لأن ما خلا القرآن من كتب الله تعالى إنما يؤخذ عن اليهود والنصارى

وليسوا بمأمونين عليها وقوي هذا الوجه بما أخرجه عن الشعبي عن قرظة بن كعب قال لما خرجنا إلى العراق خرج معنا عمر بن الخطاب يشيعنا فقال إنكم تأتون أهل قرية لهم دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تشغلوهم بالأحاديث فتصدوهم جردوا القرآن
قال فهذا معناه أي لا تخلطوا معه غيره
خاتمة
روى البخاري في تاريخه الكبير بسند صالح حديث "من قرأ القرآن عند ظالم ليرفع منه لعن بكل حرف عشر لعنات"
النوع الثلاثون: في أنه هل يجوز في التصانيف والرسائل والخطب استعمال بعض آيات القرآنوهل يقتبس منه في شعر ويغير نظمه بتقديم وتأخير وحركة إعراب
جوز ذلك بعضهم للمتمكن من العربية وسئل الشيخ عز الدين فقال ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَجَّهْتُ وَجْهِيَ" والتلاوة {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}
وما روى البخاري في كتاب إلى هرقل: "سلام على من اتبع الهدى: "{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ}"
ومن دعائه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "اللهم آتنا في الدنيا حسنة"
وفي حديث آخر لابن عمر: " قد كان لكم في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسوة حسنة"
وقال عليه السلام: "اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا اقض عني الدين وأغنني من الفقر"

وفي سياق كلام لأبي بكر: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} فقصد الكلام ولم يقصد التلاوة
وقول علي رضي الله عنه: إني مبايع صاحبكم: {لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً}
وقول الخطيب ابن نباتة: هناك يرفع الحجاب ويوضع الكتاب ويجمع من له الثواب وحق عليه العذاب فضرب بينهم بسور له باب
وقال النووي رحمه الله إذا قال: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} وهو جنب وقصد غير القرآن جاز له وله أن يقول: { سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}
قال إمام الحرمين: إذا قصد القرآن بهذه الآيات عصى وإن قصد الذكر ولم يقصد شيئا لم يعص
وللطرطوشي:
رحل الظاعنون عنك وأبقوا
في حواشي الأحشاء وجدا مقيما
قد وجدنا السلام بردا سلاما
إذ وجدنا النوى عذابا أليما
وثبت عن الشافعي:

أنلني بالذي استقرضت خطا
وأشهد معشرا قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا
عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول إذا تداينتم بدين
إلى أجل مسمى فاكتبوه
ذكر القاضي أبو بكر الباقلاني أن تضمين القرآن في الشعر مكروه وأئمة البيان جوزوه وجعلوه من أنواع البديع وسماه القدماء تضمينا والمتأخرون اقتباسا وسموا ما كان من شعر تضمينا
مسألة:
يكره ضرب الأمثال بالقرآن
يكره ضرب الأمثال بالقرآن نص عليه من أصحابنا العماد النيهي صاحب البغوي كما وجدته في رحلة ابن الصلاح بخطه.
وفي كتاب فضائل القرآن لأبي عبيد عن النخعي قال كانوا يكرهون أن يتلو الآية عند شيء يعرض من أمور الدنيا.
قال: أبو عبيد وكذلك الرجل يريد لقاء صاحبه أو يهم بحاجته فيأتيه من غير طلب فيقول كالمازح: {جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} فهذا من الاستخفاف بالقرآن ومنه قول ابن شهاب لا تناظر بكتاب الله ولا بسنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال أبو عبيد يقول لا تجعل لهما نظيرا من القول ولا الفعل

تنبيه
لا يجوز تعدي أمثلة القرآن
لا يجوز تعدي أمثلة القرآن ولذلك أنكر على الحريري في قوله في مقامته الخامسة عشرة فأدخلني بيتا أحرج من التابوت وأوهى من بيت العنكبوت فأي معنى أبلغ من معنى أكده الله من ستة أوجه حيث قال {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ} فأدخل إن وبنى أفعل التفضيل وبناه من الوهن وأضافه إلى الجمع وعرف الجمع باللام وأتى في خبر إن باللام وقد قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} وكان اللائق بالحريري ألا يتجاوز هذه المبالغة وما بعد تمثيل الله تمثيل وقول الله أقوم قيل وأوضح سبيل ولكن قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وقد ضرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثالا لما دون ذلك فقال: "لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة " وكذلك قول بعضهم:
ولو أن ما بى من جوى وصبابة
على جمل لم يبق في النار خالد
غفر الله له والله تعالى يقول: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} فقد جعل ولوج الجمل في السم غاية لنفي دخولهم الجنة وتلك غاية لا توجد فلا يزال دخولهم الجنة منفيا وهذا الشاعر وصف جسمه بالنحول بما يناقض الآية ومن هذا

جرت مناظرة بين أبي العباس أحمد بن سريج ومحمد بن داود الظاهري قال أبو العباس له أنت تقول بالظاهر وتنكر القياس فما تقول في قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} من يعمل مثقال نصف ذرة ما حكمه؟فسكت محمد طويلا وقال أبلعني ريقي قال له أبو العباس قد أبلعتك دجلة قال أنظرني ساعة قال أنظرتك إلى قيام الساعة وافترقا ولم يكن بينهما غير ذلك
وقال: بعضهم وهذا من مغالطات ابن سريج وعدم تصور ابن داود لأن الذرة ليس لها أبعاض فتمثل بالنصف والربع وغير ذلك من الأجزاء ولهذا قال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} فذكر سبحانه مالا يتخيل في الوهم أجزاؤه ولا يدرك تفرقه
النوع الحادي والثلاثون: معرفة الأمثال الكائنة فيهوقد روى البيهقي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن القرآن نزل على خمسة أوجه حلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فاعملوا بالحلال واجتنبوا الحرام واتبعوا المحكم وآمنوا بالمتشابه واعتبروا بالأمثال".
وقد عده الشافعي مما يجب على المجتهد معرفته من علوم القرآن فقال ثم معرفة ما ضرب فيه من الأمثال الدوال على طاعته المثبتة لاجتناب معصيته وترك الغفلة عن الحفظ والازدياد من نوافل الفضل
وقد صنف فيه من المتقدمين الحسن بن الفضل وغيره وحقيقته إخراج الأغمض إلى الأظهر وهو قسمان ظاهر وهو المصرح به وكامن وهو الذي لا ذكر للمثل فيه وحكمه حكم الأمثال
وقسمه أبو عبد الله البكراباذي إلى أربعة أوجه أحدها إخراج ما لا يقع عليه الحس إلى ما يقع عليه وثانيها إخراج ما لا يعلم ببديهة العقل إلى ما يعلم بالبديهة وثالثها إخراج ما لم تجر به العادة إلى ما جرت به العادة ورابعها إخراج مالا قوة له من الصفة إلى ما له قوة
وضرب الأمثال في القرآن يستفاد منه أمور كثيرة التذكير والوعظ والحث

والزجر والاعتبار والتقرير وترتيب المراد للعقل وتصويره في صورة المحسوس بحيث يكون نسبته للفعل كنسبة المحسوس إلى الحس وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الأجر وعلى المدح والذم وعلى الثواب والعقاب وعلى تفخيم الأمر أو تحقيره وعلى تحقيق أمر وإبطال أمر قال تعالى: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} فامتن علينا بذلك لما تضمنت هذه الفوائد وقال تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} وقال {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ}
والأمثال مقادير الأفعال والمتمثل كالصانع الذي يقدر صناعته كالخياط يقدر الثوب على قامة المخيط ثم يفريه ثم يقطع وكل شيء به قالب ومقدار وقالب الكلام ومقداره الأمثال
وقال الخفاجي: سمي مثلا لأنه ماثل بخاطر الإنسان أبدا أي شاخص فيتأسى به ويتعظ ويخشى ويرجو والشاخص المنتصب وقد جاء بمعنى الصفة كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي الصفة العليا وهو قول لا إله إلا الله وقوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفتها
ومن حكمته تعليم البيان وهو من خصائص هذه الشريعة والمثل أعون شيء على البيان
فإن قلت: لماذا كان المثل عونا على البيان وحاصله قياس معنى بشيء من عرف ذلك المقيس فحقه الاستغناء عن شبيهه ومن لم يعرفه لم يحدث التشبيه عنده معرفة

والجواب أن الحكم والأمثال تصور المعاني تصور الأشخاص فإن الأشخاص والأعيان أثبت في الأذهان لاستعانة الذهن فيها بالحواس بخلاف المعاني المعقولة فإنها مجردة عن الحس ولذلك دقت ولا ينتظم مقصود التشبيه والتمثيل إلا بأن يكون المثل المضروب مجربا مسلما عند السامع
وفي ضرب الأمثال من تقرير المقصود مالا يخفى إذ الغرض من المثل تشبيه الخفي بالجلي والشاهد بالغائب فالمرغب في الإيمان مثلا إذا مثل له بالنور تأكد في قلبه المقصود والمزهد في الكفر إذا مثل له بالظلمة تأكد قبحه في نفسه
وفيه أيضا تبكيت الخصم وقد أكثر تعالى في القرآن وفي سائر كتبه من الأمثال وفي سور الإنجيل سورة الأمثال
قال الزمخشري: التمثيل إنما يصار إليه لكشف المعاني وإدناء المتوهم من المشاهد فإن كان المتمثل له عظيما كان المتمثل به مثله وإن كان حقيرا كان المتمثل به كذلك فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلا بأمر استدعته حال الممثل له ألا ترى أن الحق لما كان واضحا جليا تمثل له بالضياء والنور وأن الباطل لما كان بضده تمثل له بالظلمة وكذلك جعل بيت العنكبوت مثلا في الوهن والضعف
والمثل هو المستغرب قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وقال تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ولما كان المثل السائر فيه غرابة استعير لفظ المثل للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة

أما استعارته للحال فكقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} أي حالهم العجيب الشأن كحال الذي استوقد نارا
وأما استعارته للوصف فكقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} أي الوصف الذي له شأن وكقوله: {مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الأِنْجِيلِ} وكقوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً} وقوله: {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً} وقوله سبحانه: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}
وأما استعارته للقصة فكقوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي فيما قصصنا عليك من العجائب قصة الجنة العجيبة ثم أخذ في بيان عجائبها
لا يقال: إن في هذه الأقسام الثلاثة تداخلا فإن حال الشيء هي وصفه ووصفه هو حاله لأنا نقول الوصف يشعر ذكره بالأمور الثابتة الذاتية أو قاربها من جهة اللزوم للشيء وعدم الانفكاك عنه وأما الحال فيطلق على ما يتلبس به الشخص مما هو غير ذاتي له ولا لازم فتغايرا وإن أطلق أحدهما على الآخر فليس ذلك إطلاقا حقيقيا وقد يكون الشيء مثلا له في الجرم وقد يكون ما تعلقه النفس ويتوهم من الشيء مثلا كقوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} معناه أن الذي يتحصل في النفس الناظر في أمرهم كالذي يتحصل في نفس الناظر من أمر المستوقد قاله ابن عطية وبهذا يزول الإشكال الذي في تفسير قوله: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} وقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} لأن ما يحصل للعقل من وحدانيته وأزليته ونفي ما لا يجوز عليه ليس يماثله فيه شيء

وذلك المتحصل هو المثل الأعلى في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وقد جاء: {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} ففسر بجهة الوحدانية
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} هي الأمثال وقيل العقوبات
وقال الزمخشري: المثل في الأصل بمعنى المثل أي النظير يقال مثل ومثل ومثيل كشبه وشبه وشبيه ثم قال ويستعار للحال أو الصفة أو القصة إذا كان لها شأن وفيها غرابة
وظاهر كلام أهل اللغة أن المثل بفتحتين الصفة كقوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} وكذا: {مَثَلُ الْجَنَّةِ} وما اقتضاه كلامه من اشتراط الغرابة مخالف أيضا لكلام اللغويين وما قاله من أن المثل والمثل بمعنى ينبغي أن يكون مراده باعتبار الأصل وهو الشبه وإلا فالمحققون كما قاله ابن العربي على أن المثل بالكسر عبارة عن شبه المحسوس وبفتحها عبارة عن شبه المعاني المعقولة فالإنسان مخالف للأسد في صورته مشبه له في جراءته وحدته فيقال للشجاع أسد أي يشبه الأسد في الجرأة ولذلك يخالف الإنسان الغيث في صورته والكريم من الإنسان يشابهه في عموم منفعته
وقال غيره لو كان المِثل والمَثل سيان للزم التنافي بين قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وبين قوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} فإن الأولى نافية له والثانية مثبتة له

وفرق الإمام فخر الدين بينهما بأن المِثل هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية والمَثل هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية
وقال حازم في كتاب منهاج البلغاء وأما الحكم والأمثال فإما أن يكون الاختيار فيها بجري الأمور على المعتاد فيها وإما بزوالها في وقت عن المعتاد عن جهة الغرابة أو الندور فقط لتوطن النفس بذلك على ما لا يمكنها التحرز منه إذ لا يحسن منها التحرز من ذلك ولتحذر ما يمكنها التحرز منه ويحسن بها ذلك ولترغب فيما يجب أن يرغب فيه وترهب فيما يجب أن ترهبه وليقرب عندها ما تستبعده ويبعد لديها ما تستقر به وليبين لها أسباب الأمور وجهات الاتفاقات البعيدة الاتفاق بها فهذه قوانين الأحكام والأمثال قلما يشذ عنها من جزئياتها شيء
فمنه قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً}
وقوله: و{أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}
وقوله مثل {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً}
وقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} وقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} إلى قوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} الآيات

وقوله: {كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} الآية
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ثم قال: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} الآية
وقوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}
فهذه أمثال قصار وطوال مقتضية من كلام الكشاف
فإن قلت: في بعض هذه الأمثلة تشبيه أشياء بأشياء لم يذكر فيها المشبهات وهلا صرح بها كما في قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ}
قلت كما جاء ذلك تصريحا فقد جاء مطويا ذكره على طريق الاستعارة كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}
وكقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ}
والصحيح الذي عليه علماء البيان أن التمثيلين من جملة التمثيلات المركبة المقربة لا يتكلف لكل واحد شيء بقدر شبهه به بناء على أن العرب تأخذ أشياء فرادى معزولا بعضها من بعض تشبهها بنظائرها كما جاء في بعض الآيات من القرآن وقد تشبه أشياء قد تضامت وتلاحقت حتى عادت شيئا واحدا بأخرى مثلها وذلك كقوله:

تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} فإن الغرض تشبيه حال اليهود في جهلها بما معها من التوراة وآياتها الباهرة بحال الحمار الذي يحمل أسفار الحكمة وليس له من حملها إلا الثقل والتعب من غير فائدة وكذلك قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ} المراد قلة ثبات زهرة الدنيا كقلة بقاء الخضرة
وقد ضرب الله تعالى لما أنزله من الإيمان والقرآن مثلين مثله بالماء ومثله بالنار فمثله بالماء لما فيه من الحياة وبالنار لما فيه من النور والبيان ولهذا سماه الله روحا لما فيه من الحياة وسماه نورا لما فيه من الإنارة ففي سورة الرعد قد مثله بالماء فقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الآية فضرب الله الماء الذي نزل من السماء فتسيل الأودية بقدرها كذلك ما ينزله من العلم والإيمان فتأخذه القلوب كل قلب بقدره والسيل يحتمل زبدا رابيا كذلك ما في القلوب يحتمل شبهات وشهوات ثم قال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهذا المثل بالنار التي توقد على الذهب والفضة والرصاص والنحاس فيختلط بذلك زبد أيضا كالزبد الذي يعلو السيل قال الله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} كذلك العلم النافع يمكث في القلوب بالتوحيد وعبادة الله وحده
روى ابن أبي حاتم عن قتادة قال هذه ثلاثة أمثال ضربها الله في مثل واحد

يقول كما اضمحل هذا الزبد فصار جفاء لا ينتفع به ولا ترجى بركته وكذلك يضمحل الباطل عن أهله
وفي الحديث الصحيح: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس واستقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ وذلك مثل من فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به"
وقد ضرب الله للمنافقين مثلين مثلا بالنار ومثلا بالمطر فقال: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} الآية يقال أضاء الشيء وأضاءه غيره فيستعمل لازما متعديا فقوله: {أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} هو متعد لأن المقصود أن تضيء النار ما حول من يريدها حتى يراها وفي قوله في البرق: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ} ذكر اللازم لأن البرق بنفسه يضيء بغير اختيار الإنسان فإذا أضاء البرق سار وقد لا يضيء ما حول الإنسان إذ يكون البرق وصل إلى مكان دون مكان فجعل سبحانه المنافقين كالذي أوقد نارا فأضاءت ثم ذهب ضوءها ولم يقل انطفأت بل قال ذهب الله بنورهم وقد يبقى مع ذهاب النور حرارتها فتضر وهذا المثل يقتضي أن المنافق حصل له نور ثم
المجلد الثاني
النوع الثاني والثلاثون: معرفة أحكامه...
بسم الله الرحمن الرحيم
النوع الثاني والثلاثون : معرفة أحكامه
وقد اعتنى بذلك الأئمة وأفردوه، وأولهم الشافعي ثم تلاه من أصحابنا ألكيا الهراسي ومن الحنفية أبو بكر الرازي ومن المالكية القاضي إسماعيل وبكر بن العلاء القشيري وابن بكير ومكي وابن العربي وابن الفرس ومن الحنابلة القاضي أبو يعلى الكبير.
ثم قيل: إن آيات الأحكام خمسمائة آية وهذا ذكره الغزالي وغيره وتبعهم الرازي ولعل مرادهم المصرح به فإن آيات القصص والأمثال وغيرها يستنبط منها كثير

من الأحكام ومن أراد الوقوف على ذلك فليطالع كتاب الإمام الشيخ عز الدين بن عبد السلام.
ثم هو قسمان:
أحدهما : ما صرح به في الأحكام؛ وهو كثير وسورة البقرة والنساء والمائدة والأنعام مشتملة على كثير من ذلك والثاني : ما يؤخذ بطريق الاستنباط. ثم هو على قسمين: أحدهما : ما يستنبط من غير ضميمة إلى آية أخرى كاستنباط الشافعي تحريم الاستمناء باليد من قوله تعالى: {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} إلى قوله: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} واستنباط صحة أنكحة الكفار من قوله تعالى: {امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} ونحوه.
واستنباطه عتق الأصل والفرع بمجرد الملك من قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إن إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فجعل العبودية منافية للولادة حيث ذكرت في مقابلتها فدل على أنهما لا يجتمعان.
واستنباطه حجية الإجماع من قوله: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} واستنباطه صحة صوم الجنب من قوله تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى قوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} فدل على جواز الو قاع في جميع الليل، ويلزم منه تأخير الغسل إلى النهار؛ وإلا لوجب أن يحرم الوطء إلى آخر جزء من الليل بمقدار ما يقع الغسل فيه.

والثاني: ما يستنبط مع ضميمة آية أخرى، كاستنباط علي وابن عباس رضي الله عنهما أن أقل الحمل ستة أشهر من قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} مع قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ}؛ وعليه جرى الشافعي واحتج بها أبو حنيفة على أن أكثر الرضاع سنتان ونصف ثلاثون شهرا.
ووجهه أن الله تعالى قدر لشيئين مدة واحدة فانصرفت المدة بكمالها إلى كل واحد منهما، فلما قام النص في أحدهما بقي الثاني على أصله، ومثل ذلك بالأجل الواحد للدينين، فإنه مضروب بكماله لكل واحد منهما، وأيضا فإنه لابد من اعتبار مدة يبقى فيها الإنسان بحيث يتغير الغذاء، فاعتبرت مدة يعتاد الصبي فيها غذاء طبيعيا غير اللبن، ومدة الحمل قصيرة، فقدمت الزيادة على الحولين.
فإن قيل: العادة الغالبة في مدة الحمل تسعة أشهر، وكان المناسب في مقام الامتنان ذكر الأكثر المعتاد، لا الأقل النادر كما في جانب الفصال.
قلنا: لأن هذه المدة أقل مدة الحمل، ولما كان الولد لا يعيش غالبا إذا وضع لستة أشهر، كانت مشقة الحمل في هذه المدة موجودة لا محالة في حق كل مخاطب، فكان ذكره أدخل في باب المناسبة، بخلاف الفصال لأنه لا حد لجانب القلة فيه، بل يجوز أن يعيش الولد بدون ارتضاع من الأم؛ ولهذا اعتبر فيه الأكثر، لأنه الغالب، ولأنه اختياري؛ كأنه قيل: حملته ستة أشهر لا محالة إن لم تحمله أكثر.
ومثله استنباط الأصوليين أن تارك الأمر يستحق العقاب من قوله تعالى: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} ، وكذلك

استنباط بعض المتكلمين أن الله خالق لأفعال العباد، من قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} مع قوله تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} فإذا ثبت أنه يخلق ما يشاء، وأن مشيئة العبد لا تحصل إلا إذا شاء الله أنتج أنه تعالى خالق لمشيئة العبد.
فائدة: في ضرورة معرفة المفسر قواعد أصول الفقه ولا بد من معرفة قواعد أصول الفقه فإنه من أعظم الطرق في استثمار الأحكام من الآيات.
فيستفاد عموم النكرة في سياق النفي من قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} وقوله: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وفي الاستفهام من قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}.
وفي الشرط من قوله: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً}، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}.
وفي النهي من قوله: {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ}.
وفي سياق الإثبات بعموم القلة المقتضى من قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}

وقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}.
وإذا أضيف إليها "كل" نحو: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ} ويستفاد عموم المفرد المحلى باللام من قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ} {وَيَقُولُ الْكَافِرُ}.
وعموم المفرد المضاف من قوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} وقوله: {هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} ؛والمراد جميع الكتب التي اقتضت فيها أعمالهم.
وعموم الجمع المحلى باللام في قوله: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} ، وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} إلى آخرها.
والشرط من قوله: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} ، وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ

يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقوله: {وإذا وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ} .
هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين الآيتين فإن كان ماضيا لم يلزم العموم.
وكقوله: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} و{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وإن كان مستقبلا فأكثر موارده للعموم كقوله: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} وقوله: {نَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ}.
وقد لا يعم كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ}.
ويستفاد كون الأمر المطلق للوجوب من ذمه لمن خالفه وتسميته إياه عاصيا، وترتيبه العقاب العاجل أو الآجل على فعله.
ويستفاد كون النهي من ذمه لمن ارتكبه وتسميته عاصيا، وترتيبه العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالأمر بالتصريح بالإيجاب، والفرض، والكتب، ولفظة "على"ولفظة "حق على العباد" و"على المؤمنين" وترتيب الذم والعقاب على الترك، وإحباط العمل بالترك وغير ذلك.
ويستفاد التحريم من النهي والتصريح بالتحريم، والحظر والوعيد على الفعل، وذم الفاعل وإيجاب الكفارة، وقوله "لا ينبغي" فإنها في لغة القرآن والرسول للمنع شرعا أو عقلا، ولفظة "ما كان لهم كذا وكذا" و"لم يكن لهم" وترتيب الحد على

الفعل، ولفظة "لا يحل" و"لا يصلح" ووصف الفعل بأنه فساد، أو من تزيين الشيطان وعمله، وأن الله لا يحبه، وأنه لا يرضاه لعباده، ولا يزكي فاعله، ولا يكلمه، ولا ينظر إليه، ونحو ذلك.
ويستفاد الإباحة من الإذن والتخيير، والأمر بعد الحظر، ونفي الجناح والحرج والإثم والمؤاخذة، والإخبار بأنه يعفو عنه، وبالإقرار على فعله في زمن الوحي، وبالإنكار على من حرم الشيء، والإخبار بأنه خلق لنا وجعله لنا وامتنانه علينا به، وإخباره عن فعل من قبلنا له غير ذام لهم عليه، فإن اقترن بإخباره مدح دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا.
فصل
ويستفاد التعليل من إضافة الحكم إلى الوصف المناسب، كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا}، فكما يفهم منه وجوب الجلد والقطع يفهم منه كون السرقة والزنا علة، وأن الوجوب كان لأجلهما مع أن اللفظ من حيث النطق لم يتعرض لذلك؛ بل يتبادر إلى الفهم من فحوى الكلام.
وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} أي: لبرهم، {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} أي: لفجورهم وكذا كل كلام خرج مخرج الذم والمدح في حق العاصي والمطيع، وقد يسمى هذا في علم الأصول لحن الخطاب.

فصل
وكل فعل عظمه الله ورسوله، أو مدحه أو مدح فاعله لأجله، أو أحبه، أو أحب فاعله، أو رضي به أو رضي عن فاعله، أو وصفه بالطيب أو البركة أو الحسن، أو نصبه سببا لمحبته، أو لثواب عاجل أو آجل، أو نصبه سببا لذكره لعبده، أو لشكره له، أو لهدايته إياه، أو لإرضاء فاعله، أو لمغفرة ذنبه وتكفير سيئاته، أو لقبوله، أو لنصرة فاعله، أو بشارة فاعله أو وصف فاعله بالطيب، أو وصف الفعل بكونه معروفا، أو نفي الحزن والخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن، أو نصبه سببا لولايته، أو أخبر عن دعاء الرسول بحصوله، أو وصفه بكونه قربة، أو أقسم به وبفاعله؛كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها، فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب والندب.
فصل
وكل فعل طلب الشرع تركه، أو ذم فاعله، عتب عليه أو لعنه، أو مقت فاعله، أو نفي محبته إياه أو محبة فاعله، أو نفي الرضا به أو الرضا عن فاعله، أو شبه فاعله بالبهائم أو بالشياطين، أو جعله مانعا من الهدى أو من القبول، أو وصفه بسوء أو كراهة أو استعاذ الأنبياء منه، أو أبغضوه، أو جعل سببا لنفي الفلاح، أو لعذاب عاجل أو آجل، أو لذم أو لوم، أو ضلالة أو معصية، أو وصف بخبث أو رجس أو نجس، أو بكونه فسقا أو إثما، أو سببا لإثم أو رجس أو غضب، أو زوال نعمة، أو حلول نقمة، أو حد من

الحدود أو قسوة أو خزي أو امتهان نفس، أو لعداوة الله ومحاربته والاستهزاء به، أو سخريته، أو جعله الرب سببا لنسيانه لفاعله، أو وصف نفسه بالصبر عليه، أو بالحلم أو بالصفح عنه، أو دعا إلى التوبة منه، أو وصف فاعله بخبث أو احتقار، أو نسبه إلى عمل الشيطان وتزيينه، أو تولى الشيطان لفاعله، أو وصف بصفة ذم؛ مثل كونه ظلما أو بغيا أو عدوانا أو إثما، أو تبرأ الأنبياء منه أو من فاعله، أو شكوا إلى الله من فاعله، أو جاهروا فاعله بالعداوة، أو نصب سببا لخيبة فاعله عاجلا أو آجلا، أو ترتب عليه حرمان من الجنة، أو وصف فاعله بأنه عدو لله، أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله، أو حمل فاعله إثم غيره، أو قيل فيه "لا ينبغي هذا" و"لا يصلح" أو أمر بالتقوى عند السؤال عنه، أو أمر بفعل يضاده، أو هجر فاعله، أو يلاعن في الآخرة، أو يتبرأ بعضهم من بعض، أو وصف صاحبه بالضلالة، أو أنه ليس من الله في شيء، أو أنه ليس من الرسول وأصحابه، أو قرن بمحرم ظاهر التحريم في الحكم، أو أخبر عنهما بخبر واحد، أو جعل اجتنابه سببا للفلاح، أو جعله سببا لإيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين، أو قيل لفاعله: "هل أنت مُنْتَهٍ" أو نهى الأنبياء عن الدعاء لفاعله، أو رتب عليه أبعادا وطردا، أو لفظة "قُتل من فعله" أو "قاتل الله من فعله" أو أخبر أن فاعله لا يكلمه الله يوم القيامة ولا ينظر إليه ولا يزكيه، أو أن الله لا يصلح عمله، أو لا يهدي كيده، أو أن فاعله لا يفلح، أو لا يكون في القيامة من الشهداء، ولا من الشفعاء، أو أن الله تعالى يغار من فعله، أو نبه على وجود المفسدة فيه، أو أخبر أنه لا يقبل من فاعله صرفا ولا عدلا، أو أخبر أن من فعله قيض له الشيطان فهو له قرين، أو جعل الفعل سببا لإزاغة الله قلب فاعله، أو صرفه عن آيات الله وفهم الآية، وسؤاله

سبحانه عن علة الفعل نحو: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ}، {لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}، {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ}، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} ، ما لم يقترن به جواب عن السؤال؛ فإذا قرن به جواب كان بحسب جوابه.
فهذا ونحوه يدل على المنع من الفعل ودلالته على التحريم أطرد من دلالته على مجرد الكراهة.
وأما لفظ "يكرهه الله ورسوله"، وقوله: {عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} فأكثر ما يستعمل في المحرم؛ وقد يستعمل في كراهة التنزيه.
وأما لفظ "أما أنا فلا أفعل" فالمحقق فيه الكراهة كقوله: "أما أنا فلا آكل متكئا"، وأما لفظ "ما يكون لك" و"ما يكون لنا" فاطرد استعمالها في المحرم، نحو: {فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا}، {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا}، {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ}.
فصل
وتستفاد الإباحة من لفظ الإحلال، ورفع الجناح، والإذن والعفو و، "إن شئت فافعل" و"إن شئت فلا تفعل" ومن الامتنان بما في الأعيان من المنافع وما يتعلق بها

الأفعال؛ نحو: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً}، {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ومن السكوت عن التحريم ومن الإقرار على الفعل في زمن الوحي وهو نوعان: إقرار الرب تعالى وإقرار رسوله إذا علم الفعل، فمن إقرار الرب قول جابر: "كنا نعزل والقرآن ينزل" ومن إقرار رسوله قول حسان: "كنت أنشد وفيه من هو خير منك".
فائدة
قوله تعالى: { يََا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} جمعت أصول أحكام الشريعة كلها، فجمعت الأمر والنهي والإباحة والتخيير.
فائدة
تقديم العتاب على الفعل من الله تعالى يدل على تحريمه، فقد عاتب الله سبحانه في خمسة مواضع من كتابه: في الأنفال، وبراءة، والأحزاب، والتحريم،

وعبس خلافا للشيخ عز الدين بن عبد السلام حيث جعل العتب من أدلة النهي.
فائدة
لا يصح الامتنان بممنوع عنه؛ خلافا لمن زعم أنه يصح ويصرف الامتنان إلى خلقه للصبر عليهم
فائدة
التعجب كما يدل على محبة الله للفعل نحو: "عجب ربك من شاب ليست له صبوة" و"تعجب ربك من رجل ثار من فراشه ووطائه إلى الصلاة" ونحو ذلك؛ فقد يدل على بغض الفعل كقوله: {وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} ، وقوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} ، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ} {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}.
وقد يدل على امتناع الحكم وعدم حسنه، كقوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ}.
ويدل على حسن المنع منه وأنه لا يليق به فعله كقوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ}.

قاعدة : في الإطلاق والتقييد
إن وجد دليل على تقييد المطلق صير إليه، وإلا فلا، والمطلق على إطلاقه، والمقيد على تقييده؛ لأن الله تعالى خاطبنا بلغة العرب.
والضابط أن الله تعالى إذا حكم في شيء بصفة أو شرط ثم ورد حكم آخر مطلقا نظر؛ فإن لم يكن له أصل يرد إليه إلا ذلك الحكم المقيد وجب تقييده به، وإن كان له أصل غيره لم يكن رده إلى أحدهما بأولى من الآخر.
فالأول مثل اشتراط الله العدالة في الشهود على الرجعة والفراق والوصية، وإطلاقه الشهادة في البيوع وغيرها، والعدالة شرط في الجميع.
ومنه تقييد ميراث الزوجين بقوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وإطلاقه الميراث فيما أطلق فيه، وكان ما أطلق من المواريث كلها بعد الوصية والدين.
وكذلك ما اشترط في كفارة القتل من الرقبة المؤمنة، وأطلقها في كفارة الظهار واليمين، والمطلق كالمقيد في وصف الرقبة.
وكذلك تقييد الأيدي إلى المرافق في الوضوء، وإطلاقه في التيمم.
وكذلك: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فأطلق الإحباط عليه وعلقه بنفس الردة، ولم يشترط الموافاة عليه.
وقال في الآية الأخرى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ

مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} وقيد الردة بالموت عليها والموافاة على الكفر، فوجب رد الآية المطلقة إليها وألا يقضي بإحباط الأعمال إلا بشرط الموافاة عليها؛ وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، وإن كان قد تورع في هذا التقرير.
ومن هذا الإطلاق تحريم الدم وتقييده في موضع آخر بالمسفوح.
وقوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} وقال في موضع آخر: {مِنْهُ}.
وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} فإنه لو قيل: نحن نرى من يطلب الدنيا طلبا حثيثا ولا يحصل له منها شيء! قلنا: قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فعلق ما يريد بالمشيئة والإرادة.
ومثله قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، فإنه معلق.
تنبيه
اختلف الأصوليون في أن حمل المطلق على المقيد: هل هو من وضع اللغة أو بالقياس على مذهبين، والأولون يقولون: العرب من مذهبها استحباب الإطلاق اكتفاء بالمقيد

وطلبا للإيجاز والاختصار؛ وقد قال تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ}.
والمراد "عن اليمين قعيد" ولكن حذف لدلالة الثاني عليه.
وزعم بعضهم أن القرآن كالآية الواحدة؛ لأن كلام الله تعالى واحد فلا بعد أن يكون المطلق كالمقيد.
قال إمام الحرمين: وهذا غلط لأن الموصوف بالاتحاد الصفة القديمة المختصة بالذات، وأما هذه الألفاظ والعبارات فمحسوس تعددها، وفيها الشيء ونقيضه، كالإثبات والنفي، والأمر والنهي، إلى غير ذلك من أنواع النقائض التي لا يوصف الكلام القديم بأنه اشتمل عليها.
والثاني: كإطلاق صوم الأيام في كفارة اليمين، وقيدت بالتتابع في كفارة الظهار والقتل، وبالتفريق في صوم التمتع، فلما تجاذب الأصل تركناه على إطلاقه.
هذا كله إذا كان الحكمان بمعنى واحد، وإنما اختلفا في الإطلاق والتقييد، فأما إذا حكم في شيء بأمور لم يحكم في شيء آخر ينقض تلك الأمور وسكت فيه عن بعضها فلا يقتضي الإلحاق، كالأمر بغسل الأعضاء الأربعة في الوضوء، وذكر في التيمم عضوين فلم يكن في الأمر بمسح الرأس وغسل الرجلين في الوضوء دليل على مسحهما بالتراب في التيمم.
ومن ذلك ذكر العتق والصوم والطعام في كفارة الظهار، ولم يذكر الإطعام في كفارة القتل فلم يجمع بينهما في إبدال الطعام عن الصيام.
وقريب من هذا قول السلف في قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ} إن اللام مبهمة، وعنوا بذلك أن الشرط في الربائب خاصة.

قاعدة: في العموم والخصوص
لا يستدل بالصفة العامة إذا لم يظهر تقييد عدم التعميم؛ ويستفاد ذلك من السياق، ولهذا قال الشافعي: اللفظ بَيِّن في مقصوده ويحتمل في غير مقصوده.
فمنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} لا يصلح الاحتجاج بها في إيجاب الزكاة في قليل الذهب والفضة وكثيره، وفي المتنوع منهما من الحلي وغيره.
ألا ترى أن من ملك دون النصاب منهما غير داخل في جملة المتوعدين بترك الإنفاق منهما! وهذا يدل على إن القصد من الآية إثبات الحكم في ترك أداء الواجب من الزكاة منهما، وفيها دليل على وجوب الزكاة فيهما وليس فيها بيان مقدار ما يجب من الحق فيهما.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} الآية، القصد منها مدح قوم صانوا فروجهم عما لا يحل، ولم يواقعوا بها إلا من كان بملك النكاح أو اليمين، وليس في الآية بيان ما يحل منها وما لا يحل.
ثم إذا احتيج إلى تفصيل ما يحل بالنكاح وملك اليمين صير إلى ما قصد وتفصيله بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية.

كذا قاله القفال الشاشي وفيه نظر لما سبق.
ومثله قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} إلى قوله: {مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} ، فلو تعلق متعلق بقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} في إباحة أكل أو شرب كل شيء قد اختلف فيه لكان لا معنى له؛ لأن المخاطب قد غفل عن أنها لم ترد مبينة لذلك، بل مبينة لحكم جواز الأكل والشرب والمباشرة إلى الفجر دفعا لما كان الناس عليه من حظر ذلك على من نام، فبين في الآية إباحة ما كان محظورا ثم أطلق لفظ الأكل والشرب ذوالمباشرة لا معنى إبانة الحكم فيما يحل من ذلك وما يحرم.
ألا ترى أنه لا يدخل فيه شرب الخمر والدم وأكل الميتة ولا المباشرة فيما لا يبتغى منه الولد، ومثله في القرآن كثير.
وهذا يدل على أن النظر في العموم إلى المعاني لا لإطلاق اللفظ قال القفال ومن ضبط هذا الباب أفاد علما كثيرا
فصل
الأحكام المستنبطة من تنبيه الخطاب
ومما تستثمر منه الأحكام تنبيه الخطاب وهو إما في الطلب كقوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} فنهيه عن القليل منبه على الكثير، وقوله: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} يدل على تحريم الإحراق والإتلاف.

وإما في الخبر
فإما أن يكون بالتنبيه بالقليل على الكثير كقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} فنبه على أن الرطل والقنطار لا يضيع لك عنده. وكقوله: {مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} {وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً} {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} {وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ} فإنه يدل على أن من لم يملك نقيرا أو قطميرا مع قلتهما فهو عن ملك ما فوقهما أولى وعلم أن من لم يعزب عنه مثقال ذرة مع خفائه ودقته فهو بألا يذهب عنه الشيء الجليل الظاهر أولى.
وإما بالكثير على القليل كقوله تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فهذا من التنبيه على أنه يؤدى إليك الدينار وما تحته ثم قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فهذا من الأول وهو التنبيه بالقليل على الكثير فدل بالتنبيه على أنك لا تأمنه بقنطار بعكس الأول.
ومثل قوله في فرش أهل الجنة: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وقد علمنا أن أعلى ما عندنا هو الإستبرق الذي هو الخشن من الديباج فإذا كان بطائن فرش أهل الجنة ذلك فعلم أن وجوهها في العلو إلى غاية لا يعقل معناها. وكذلك قوله في شراب أهل الجنة: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} وإنما يرى من الكأس الختام وأعلى ما عندنا رائحة المسك وهو أدنى شراب أهل الجنة فليتبين

اللبيب إذا كان الثفل الذي فيك المسك أيش يكون حشو الكأس فيظهر فضل حشو الكأس بفضل الختام وهذا من التنبيه الخفي
وقوله: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} فنبه على حصول البركة فيه من باب أولى.
واعلم أن هذا النوع البديع ينظر إليه من ستر رقيق وطريق تحصيله فهم المعنى وتقييده من سياق الكلام كما في آية التأفيف فإنا نعلم أن الآية إنما سيقت لاحترام الوالدين وتوقيرهما ففهمنا منه تحريم الشتم والضرب ولو لم يفهم المعنى لا يلزم ذلك لأن الملك الكبير يتصور أن يقول لبعض عبيده اقتل قرني ولا تقل له أف ويكون قصده الأمن عن مزاحمته في الملك فثبت أن ذلك إنما جاء لفهم المعنى.
فإن قيل فإذا ابتنى الفهم على تخيل المعنى كان بطريق القياس كما صار إليه الشافعي.
قيل ما يتأخر من نظم الكلام وما يتقدم فهمه على اللفظ ويقترن به لا يكون قياسا حقيقيا لأن القياس ما يحتاج فيه إلى استنباط وتأمل فإن أطلق القائل بأنه قياس اسم القياس عليه وأراد ما ذكرناه فلا مضايقة في التسمية.
فصل: في الحكم على الشيء مقيدا بصفة
وقد يحكم على الشيء مقيدا بصفة ثم قد يكون ما سكت عنه بخلافه وقد يكون

مثله فمن الأول قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وقوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وقوله: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} ؛ فاشترط أولاد الصلب تنبيها على إباحة حلائل أبناء الرضاع وليس في ذكر الحلائل إباحة من وطئه الأبناء من الإماء بملك اليمين وهذه الآية مما اجتمع فيه النوعان أعنى المخالفة والمماثلة.
وكذلك قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ} الآية، فيه وقوع الجناح في إبداء الزينة لمن عدا المذكورين من الأجانب ولم يكن فيه إبداؤها لقرابة الرضاع.
ومن الثاني قوله تعالى في الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فإن القتل إتلاف والإتلاف عمده وخطؤه فيستدل به على أن التعمد ليس بشرط.
فإن قيل: فما فائدة التقييد في هذا القسم إذا كان المسكوت عنه مثله وهلا حذفت الصفة واقتصر على قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ} ؟
قلنا: لتخصيص الشيء بالذكر فوائد: منها اختصاصه في جنسه بشيء لا يشركه فيه غيره من جملة الجنس؛ كما في هذه الآية-أعني قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً}.

إلى قوله: {فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} إن المتعمد إنما خص بالذكر لما عطف عليه في آخر الآية من الانتقام الذي لا يقع إلا في العمد دون الخطأ.
ومنها ما يخص بالذكر تعظيما له على سائر ما هو من جنسه كقوله تعالى: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} فخص النهي عن الظلم فيهن وإن كان الظلم منهيا عنه في جميع الأوقات تفضيلا لهذه الأشهر وتعظيما للوزر فيها. وقوله: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}.
ومنها أن يكون ذلك الوصف هو الغالب عليه كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} الآية فإن الغالب من حال الربيبة أنها تكون في حجر أمها. ونحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} إلى قوله: {ثلاثَ مَرَّاتٍ} الآية خص هذه الأوقات الثلاثة بالاستئذان لأن الغالب تبذل البدن فيهن وإن كان في غير هذه الأوقات ما يوجب الاستئذان فيجب
وكذلك قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فالافتداء يجوز مع الأمر. وقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} وقوله: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجرى التقييد بالسفر؛ لأن الكاتب إنما يعدم غالبا فيه ولا يدل على منع الرهن إلا في السفر كما صار إليه مجاهد
النوع الثالث والثلاثون: في معرفة جدلهوقد أفرده من المتأخرين بالتصنيف العلامة نجم الدين الطوفي رضي الله عنه
اعلم أن القرآن العظيم قد اشتمل على جميع أنواع البراهين والأدلة وما من برهان ودلالة وتقسيم وتحديد شيء من كليات المعلومات العقلية والسمعية إلا وكتاب الله تعالى قد نطق به لكن أورده تعالى على عادة العرب دون دقائق طرق أحكام المتكلمين لأمرين:
أحدهما : بسبب ما قاله: {وما وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}. الآية
والثاني: أن المائل إلى دقيق المحاجة هو العاجز عن إقامة الحجة بالجليل من الكلام فإن من استطاع أن يفهم بالأوضح الذي يفهمه الأكثرون لم يتخط إلى الأغمض الذي لا يعرفه إلا الأقلون ولم يكن ملغزا فأخرج تعالى مخاطباته في محاجة خلقه في أجل صورة تشتمل على أدق دقيق لتفهم العامة من جليلها ما يقنعهم ويلزمهم الحجة وتفهم الخواص من أثنائها ما يوفي على ما أدركه فهم الخطباء

وعلى هذا حمل الحديث المروي: "إن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حرف حدا ومطلعا" لا على ما ذهب إليه الباطنية ومن هذا الوجه كل من كان حظه في العلوم أوفر كان نصيبه من علم القرآن أكثر ولذلك إذا ذكر تعالى حجة على ربوبيته ووحدانيته أتبعها مرة بإضافته إلى أولي العقل ومرة إلى السامعين ومرة إلى المفكرين ومرة إلى المتذكرين تنبيها أن بكل قوة من هذه القوى يمكن إدراك حقيقته منها وذلك نحو قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وغيرها من الآيات.
واعلم أنه قد يظهر منه بدقيق الفكر استنباط البراهين العقلية على طرق المتكلمين فمن ذلك الاستدلال على حدوث العالم بتغير الصفات عليه وانتقاله من حال إلى حال وهو آية الحدوث وقد ذكر الله تعالى في احتجاج إبراهيم الخليل عليه السلام استدلاله بحدوث الأقل على وجود المحدث والحكم على السماوات والأرض بحكم النيرات الثلاث وهو الحدوث طردا للدليل في كل ما هو مدلوله لتساويها في علة الحدوث وهي الجسمانية
ومن ذلك الاستدلال على أن صانع العالم واحد بدلالة التمانع المشار إليه في قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} لأنه لو كان للعالم صانعان لكان لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على إحكام ولكان العجز يلحقهما أو أحدهما وذلك لو أراد أحدهما إحياء جسم وأراد الآخر إماتته فإما أن تنفذ إرادتهما فتتناقض لاستحالة تجزؤ الفعل إن فرض الاتفاق أو لامتناع اجتماع الضدين إن فرض الاختلاف

وإما لا تنفذ إرادتهما فيؤدي إلى عجزهما أو لا تنفذ إرادة أحدهما فيؤدي إلى عجزه والإله لا يكون عاجزا
ومن ذلك الاستدلال على المعاد الجسماني بضروب
أحدها : قياس الإعادة على الابتداء قال تعالى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ}.
ثانيها: قياس الإعادة على خلق السماوات والأرض بطريق الأولى نحو: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ}.
ثالثها : قياس الإعادة على إحياء الأرض بعد موتها بالمطر والنبات وهو في كل موضع ذكر فيه إنزال المطر غالبا نحو: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ}.
رابعها: قياس الإعادة على إخراج النار من الشجر الأخضر وقد ورد أن أبي بن خلف لما جاء بعظام بالية ففتها وذرها في الهواء وقال: يا محمد من يحي العظام وهي رميم! فأنزل الله تعالى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}.
فعلم سبحانه كيفية الاستدلال برد النشأة الأخرى إلى الأولى والجمع بينهما بعلة الحدوث ثم زاد في الحجاج بقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً}.

وهذا في غاية البيان في رد الشيء إلى نظيره والجمع بينهما من حيث تبديل الأعراض عليهما
خامسها: في قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} .
وتقريرها كما قاله ابن السيد: إن اختلاف المختلفين في الحق لا يوجب انقلاب الحق في نفسه وإنما تختلف الطرق الموصلة إليه والحق في نفسه واحد فلما ثبت أن هاهنا حقيقة موجودة لا محالة وكان لا سبيل لنا في حياتنا هذه إلى الوقوف عليها وقوفا يوجب الائتلاف ويرفع عنا الاختلاف إذ كان الاختلاف مركوزا في فطرنا وكان لا يمكن ارتفاعه وزواله إلا بارتفاع هذه الجبلة ونقلها إلى جبلة غيرها صح ضرورة أن لنا حياة أخرى غير هذه الحياة فيها يرتفع الخلاف والعناد وهذه هي الحال التي وعد الله بالمصير إليها فقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} ، ولابد من كون ذلك باضطرار إذ كان جواز الخلاف يقتضي الائتلاف لأنه نوع من المضاف وكان لابد من حقيقته فقد صار الخلاف الموجود كما ترى أوضح دليل على كون البعث الذي ينكره المنكرون
النوع الرابع والثلاثون: معرفة ناسخه من منسوخهوالعلم به عظيم الشأن وقد صنف فيه جماعة كثيرون منهم قتادة بن دعامة السدوسي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو داود السجستاني وأبو جعفر النحاس وهبة الله بن سلام الضرير وابن العربي وابن الجوزي وابن الأنباري ومكي وغيرهم

ومن ظريف ما حكي في كتاب هبة الله أنه قال في قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً} منسوخ من هذه الجملة {وَأَسِيراً} والمراد بذلك أسير المشركين فقرئ الكتاب عليه وابنته تسمع فلما انتهى إلى هذا الموضع قالت: أخطأت يا أبت في هذا الكتاب! فقال لها: وكيف يا بنية! قالت: أجمع المسلمون على أن الأسير يطعم ولا يقتل جوعا.
قال الأئمة: ولا يجوز لأحد أن يفسر كتاب الله إلا بعد أن يعرف منه الناسخ والمنسوخ وقد قال علي بن أبي طالب لقاص: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال: الله أعلم قال: هلكت وأهلكت
والنسخ يأتي بمعنى الإزالة ومنه قوله تعالى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ}.
ويأتي بمعنى التبديل كقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ}
وبمعنى التحويل كتناسخ المواريث- يعني تحويل الميراث من واحد إلى واحد.
ويأتي بمعنى النقل من موضع إلى موضع ومنه: "نسخت الكتاب" إذا نقلت ما فيه حاكيا للفظه وخطه. قال مكي: وهذا الوجه لا يصح أن يكون في القرآن وأنكر على النحاس إجازته ذلك محتجا بأن الناسخ فيه لا يأتي بلفظ المنسوخ وإنما يأتي بلفظ آخر وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات السعدي يشهد لما قاله النحاس قوله تعالى:

{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال: {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} ومعلوم أن ما نزل من الوحي نجوما جميعه في أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ كما قال: {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ. لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}.
ثم اختلف العلماء فقيل المنسوخ ما رفع تلاوة تنزيله كما رفع العمل به ورد بما نسخ الله من التوراة بالقرآن والإنجيل وهما متلوان
وقيل: لا يقع النسخ في قرآن يتلى وينزل والنسخ مما خص الله به هذه الأمة في حكم من التيسير ويفر هؤلاء من القول بأن الله ينسخ شيئا بعد نزوله والعمل به وهذا مذهب اليهود في الأصل ظنا منهم أنه بداء كالذي يرى الرأي ثم يبدو له وهو باطل لأنه بيان مدة الحكم ألا ترى الإحياء بعد الإماتة وعكسه والمرض بعد الصحة وعكسه والفقر بعد الغنى وعكسه وذلك لا يكون بداء فكذا الأمر والنهي
وقيل: إن الله تعالى نسخ القرآن من اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب فأنزله على نبيه والنسخ لا يكون إلا من أصل.
والصحيح جواز النسخ ووقوعه سمعا وعقلا.
ثم اختلفوا فقيل: لا ينسخ قرآن إلا بقرآن لقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ

أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} قالوا: ولا يكون مثل القرآن وخيرا منه إلا قرآن
وقيل: بل السنة لا تنسخ السنة
وقيل: السنة إذا كانت بأمر الله من طريق الوحي نسخت وإن كانت باجتهاد فلا تنسخه حكاه ابن حبيب النيسابوري في تفسيره
وقيل: بل إحداهما تنسخ الأخرى ثم اختلفوا فقيل: الآيتان إذا أوجبتا حكمين مختلفين وكانت إحداهما متقدمة الأخرى فالمتأخرة ناسخة للأولى كقوله تعالى: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} ثم قال بعد ذلك: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} قالوا: فهذه ناسخة للأولى ولا يجوز أن يكون لهما الوصية والميراث
وقيل: بل ذلك جائز وليس فيهما ناسخ ولا منسوخ وإنما نسخ الوصية للوارث بقوله عليه السلام "لا وصية لوارث" وقيل: ما نزل بالمدينة ناسخ لما نزل بمكة
ويجوز نسخ الناسخ فيصير الناسخ منسوخا وذلك كقوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} نسخها بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثم نسخ هذه أيضا بقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ} وقوله: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} وناسخه قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} ثم نسخها: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}.

مسألة: في جواز النسخ بالكتاب
لا خلاف في جواز نسخ الكتاب بالكتاب قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وقال: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} ، ولذلك نسخ السنة بالكتاب كالقصة في صوم عاشوراء برمضان وغيره.
واختلف في نسخ الكتاب بالسنة قال ابن عطية حذاق الأمة على الجواز وذلك موجود في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لا وصية لوارث".
وأبى الشافعي ذلك والحجة عليه من قوله في إسقاط الجلد في حد الزنا عن الثيب الذي رجم فإنه لا مسقط لذلك إلا السنة فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قلنا: أما آية الوصية فقد ذكرنا أن ناسخها القرآن وأما ما نقله عن الشافعي فقد اشتهر ذلك لظاهر لفظ ذكره في الرسالة وإنما مراد الشافعي أن الكتاب والسنة لا يوجدان مختلفين إلا ومع أحدهما مثله ناسخ له وهذا تعظيم لقدر الوجهين وإبانة تعاضدهما وتوافقهما وكل من تكلم على هذه المسألة لم يفهم مراده
وأما النسخ بالآية فليس بنسخ بل تخصيص ثم إنه ثابت بالقرآن الذي نسخت تلاوته وهو "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"

فصل: فيما يقع فيه النسخ
الجمهور على أنه لا يقع النسخ إلا في الأمر والنهي وزاد بعضهم الأخبار وأطلق وقيدها آخرون بالتي يراد بها الأمر والنهي
تنبيهات
التنبيه الأول:
في تقسيم سور القرآن بحسب ما دخله من النسخ وما لم يدخله
اعلم أن سور القرآن العظيم تنقسم بحسب ما دخله النسخ وما لم يدخل إلى أقسام:
أحدها: ما ليس فيه ناسخ ولا منسوخ وهي ثلاث وأربعون سورة وهي: الفاتحة ثم يوسف ثم يس ثم الحجرات ثم الرحمن ثم الحديد ثم الصف ثم الجمعة ثم التحريم ثم الملك ثم الحاقة ثم نوح ثم الجن ثم المرسلات ثم النبأ ثم النازعات ثم الانفطار ثم المطففين ثم الانشقاق ثم البروج ثم الفجر ثم البلد ثم الشمس ثم الليل ثم الضحى ثم الانشراح ثم القلم ثم القدر ثم الانفكاك ثم الزلزلة ثم العاديات ثم القارعة ثم ألهاكم ثم الهمزة ثم الفيل ثم قريش ثم الدين ثم الكوثر ثم النصر ثم تبت ثم الإخلاص ثم المعوذتين

وهذه السور تنقسم إلى ما ليس فيه أمر ولا نهي وإلى ما فيه نهي لا أمر
والثاني: ما فيه ناسخ وليس فيه منسوخ وهي ست سور: الفتح والحشر والمنافقون والتغابن والطلاق والأعلى
الثالث: ما فيه منسوخ وليس فيه ناسخ وهو أربعون: الأنعام والأعراف ويونس وهود والرعد والحجر والنحل وبنو إسرائيل والكهف وطه والمؤمنون والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان والمضاجع والملائكة والصافات وص والزمر والمصابيح والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف وسورة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والباسقات والنجم والقمر والرحمن والمعارج والمدثر والقيامة والإنسان وعبس والطارق والغاشية والتين والكافرون
الرابع: ما اجتمع فيه الناسخ والمنسوخ وهي إحدى وثلاثون سورة: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأعراف والأنفال والتوبة وإبراهيم والنحل وبنو إسرائيل ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان والشعراء والأحزاب وسبأ والمؤمن والشورى والقتال والذاريات والطور والواقعة والمجادلة والممتحنة والمزمل والمدثر والتكوير والعصر
ومن غريب هذا النوع آية أولها منسوخ وآخرها ناسخ قيل ولانظير لها في القرآن وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا

اهْتَدَيْتُمْ} يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا ناسخ لقوله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ذكره ابن العربي في أحكامه
التنبيه الثاني:
في ضروب النسخ في القرآن
النسخ في القرآن على ثلاثة أضرب:
الأول: ما نسخ في تلاوته وبقي حكمه فيعمل به إذا تلقته الأمة بالقبول كما روى أنه كان يقال في سورة النور "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبته نكالا من الله" ولهذا قال عمر: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي رواه البخاري في صحيحه معلقا
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بن كعب قال: كانت سورة الأحزاب توازي سورة النور فكان فيها "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما"
وفي هذا سؤالان: الأول : ما الفائدة في ذكر الشيخ والشيخة؟ وهلا قال المحصن والمحصنة؟
وأجاب ابن الحاجب في أماليه عن هذا بأنه من البديع في المبالغة وهو أن يعبر عن الجنس في باب الذم بالأنقص فالأنقص وفي باب المدح بالأكثر والأعلى فيقال: لعن الله السارق يسرق ربع دينار فتقطع يده والمراد: يسرق ربع دينار فصاعدا إلى أعلى ما يسرق وقد يبالغ فيذكر مالا تقطع به كما جاء في الحديث "لعن الله السارق

يسرق البيضة فتقطع يده" وقد علم أنه لا تقطع في البيضة وتأويل من أوله ببيضة الحرب تأباه الفصاحة
الثاني: أن ظاهر قوله: "لولا أن يقول الناس الخ" أن كتابتها جائزة وإنما منعه قول الناس والجائز في نفسه قد يقوم من خارج ما يمنعه وإذا كانت جائزة لزم أن تكون ثابتة لأن هذا شأن المكتوب وقد يقال: لو كانت التلاوة باقية لبادر عمر رضي الله عنه ولم يعرج على مقال الناس لأن مقال الناس لا يصلح مانعا
وبالجملة فهذه الملازمة مشكلة ولعله كان يعتقد أنه خبر واحد والقرآن لا يثبت به وإن ثبت الحكم ومن هنا أنكر ابن ظفر في "الينبوع" عد هذا مما نسخ تلاوته قال: لأن خبر الواحد لا يثبت القرآن. قال: وإنما هذا من المنسأ لا النسخ، وهما مما يلتبسان والفرق بينهما: أن المنسأ لفظه قد يعلم حكمه ويثبت أيضا وكذا قاله في غيره القراءات الشاذة كإيجاب التتابع في صوم كفارة اليمين ونحوه أنها كانت قرآنا فنسخت تلاوتها لكن في العمل بها الخلاف المشهور في القراءة الشاذة
ومنهم من أجاب عن ذلك بأن هذا كان مستفيضا عندهم وأنه كان متلوا من القرآن فأثبتنا الحكم بالاستفاضة وتلاوته غير ثابتة بالاستفاضة
ومن هذا الضرب ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري: إنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني أحفظ منها "لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا

ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب" وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها "يأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة".
وذكر الإمام المحدث أبو الحسين أحمد بن جعفر المنادي في كتابه الناسخ والمنسوخ مما رفع رسمه من القرآن ولم يرفع من القلوب حفظه سورتا القنوت في الوتر قال: ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب وأنه ذكر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أقرأه إياهما وتسمى سورتي الخلع والحفد
هنا سؤال وهو أن يقال: ما الحكمة في رفع التلاوة مع بقاء الحكم؟ وهلا أبقيت التلاوة ليجتمع العمل بحكمها وثواب تلاوتها؟ وأجاب صاحب الفنون فقال: إنما كان كذلك ليظهر به مقدار طاعة هذه الأمة في المسارعة إلى بذل النفوس بطريق الظن من غير استفصال لطلب طريق مقطوع به فيسرعون بأيسر شيء كما سارع الخليل إلى ذبح ولده بمنام والمنام أدنى طرق الوحي
الضرب الثاني: ما نسخ حكمه وبقي تلاوته وهو في ثلاث وستين سورة كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} الآية فكانت المرأة إذا مات زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولا كاملا ونفقتها في مال الزوج ولا ميراث لها وهذا معنى قوله: {مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} الآية فنسخ الله

ذلك بقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وهذا الناسخ مقدم في النظم على المنسوخ
قال القاضي أبو المعالي: وليس في القرآن ناسخ تقدم على المنسوخ إلا في موضعين: هذا أحدهما والثاني قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} الآية فإنها ناسخة لقوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}.
قلت: وذكر بعضهم موضعا آخر وهو قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} هي متقدمة في التلاوة ولكنها منسوخة بقوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}.
وقيل: في تقديم الناسخة فائدة وهي أن تعتقد حكم المنسوخة قبل العلم بنسخها
ويجيء موضع رابع وهو آية الحشر في قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية فإنه لم يذكر فيها شيء للغانمين ورأى الشافعي أنها منسوخة بآية الأنفال وهي قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}.
واعلم أن هذا الضرب ينقسم إلى ما يحرم العمل به ولا يمتنع كقوله: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} ثم نسخ الوجوب. ومنه قوله: {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قيل: منسوخ بقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}.

وقوله: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} نسختها آيات القيامة والكتاب والحساب.
وهنا سؤال وهو أن يسأل: ما الحكمة في رفع الحكم وبقاء التلاوة؟ والجواب من وجهين: أحدهما أن القرآن كما يتلى ليعرف الحكم منه والعمل به فيتلى لكونه كلام الله تعالى فيثاب عليه فتركت التلاوة لهذه الحكمة
وثانيهما: أن النسخ غالبا يكون للتخفيف فأبقيت التلاوة تذكيرا بالنعمة ورفع المشقة وأما حكمة النسخ قبل العمل كالصدقة عند النجوى فيثاب على الإيمان به وعلى نية طاعة الأمر
الثالث: نسخهما جميعا فلا تجوز قراءته ولا العمل به كآية التحريم بعشر رضعات فنسخن بخمس قالت عائشة: " كان مما أنزل عشر رضعات معلومات فنسخن بخمس معلومات فتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهي مما يقرأ من القرآن" رواه مسلم
وقد تكلموا في قولها وهي "مما يقرأ" فإن ظاهره بقاء التلاوة وليس كذلك فمنهم من أجاب بأن المراد قارب الوفاة والأظهر أن التلاوة نسخت أيضا ولم يبلغ ذلك كل الناس إلا بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتوفي وبعض الناس يقرؤها
وقال أبو موسى الأشعري: نزلت ثم رفعت.
وجعل الواحدي من هذا ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه قال كنا نقرأ لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر وفيه نظر
وحكى القاضي أبو بكر في الانتصار عن قوم إنكار هذا القسم لأن

الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع على إنزال قرآن ونسخه بأخبار آحاد لا حجة فيها
وقال أبو بكر الرازي نسخ الرسم والتلاوة إنما يكون بأن ينسيهم الله إياه ويرفعه من أوهامهم ويأمرهم بالإعراض عن تلاوته وكتبه في المصحف فيندرس على الأيام كسائر كتب الله القديمة التي ذكرها في كتابه في قوله: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} ولا يعرف اليوم منها شيء ثم لا يخلو ذلك من أن يكون في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إذا توفي لا يكون متلوا في القرآن أو يموت وهو متلو موجود في الرسم ثم ينسيه الله ويرفعه من أذهانهم وغير جائز نسخ شيء من القرآن بعد وفاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فائدة
قال ابن العربي: قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ} ناسخة لمائة وأربع عشرة آية ثم صار آخرها ناسخا لأولها وهي قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ}.
قالوا: وليس في القرآن آية من المنسوخ ثبت حكمها ست عشرة سنة إلا قوله في الأحقاف: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} وناسخها أول سورة الفتح

قال ابن العربي: ومن أغرب آية في النسخ قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} أولها وآخرها منسوخان ووسطها محكم
وقسمه الواحدي أيضا إلى نسخ ما ليس بثابت التلاوة كعشر رضعات وإلى نسخ ما هو ثابت التلاوة بما ليس بثابت التلاوة كنسخ الجلد في حق المحصنين بالرجم والرجم غير متلو الآن وإنه كان يتلى على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالحكم ثبت والقراءة لا تثبت كما يجوز أن تثبت التلاوة في بعض ولا يثبت الحكم وإذا جاز أن يكون قرآن ولا يعمل به جاز أن يكون قرآن يعمل به ولا يتلى وذلك أن الله عز وجل أعلم بمصالحنا وقد يجوز أن يعلم من مصلحتنا تعلق العمل بهذا الوجه
التنبيه الثالث
في تقسيم القرآن على ضروب من وجه آخر
قسم بعضهم النسخ من وجه آخر إلى ثلاثة أضرب:
الأول: نسخ المأمور به قبل امتثاله وهذا الضرب هو النسخ على الحقيقة كأمر الخليل بذبح ولده وكقوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ثم نسخه سبحانه بقوله: {أَأَشْفَقْتُمْ} الآية
الثاني: ويسمى نسخا تجوزا وهو ما أوجبه الله على من قبلنا كحتم القصاص

ولذلك قال عقب تشريع الدية: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} وكذلك ما أمرنا الله به أمرا إجماليا ثم نسخ كنسخه التوجه إلى بيت المقدس بالكعبة فإن ذلك كان واجبا علينا من قضية أمره باتباع الأنبياء قبله وكنسخ صوم يوم عاشوراء برمضان
الثالث: ما أمر به لسبب ثم يزول السبب كالأمر حين الضعف والقلة بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها ثم نسخه إيجاب لذلك وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسء كما قال تعالى: {أَوْ نُنْسِئُهَا} فالمنسأ هو الأمر بالقتال إلى أن يقوى المسلمون وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى
وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف وليست كذلك بل هي من المنسأ بمعنى أن كل أمر ورد يجب امتثاله في وقت ما لعلة توجب ذلك الحكم ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر وليس بنسخ إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبدا وإلى هذا أشار الشافعي في الرسالة إلى النهي عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الرأفة ثم ورد الإذن فيه فلم يجعله منسوخا بل من باب زوال الحكم لزوال علته حتى لو فاجأ أهل ناحية جماعة مضرورون تعلق بأهلها النهي
ومن هذا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية كان ذلك في ابتداء الأمر فلما قوي الحال وجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

والمقاتلة عليه ثم لو فرض وقوع الضعف كما أخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ" عاد الحكم وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فإذا رأيت هوى متبعا وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك"
وهو سبحانه وتعالى حكيم أنزل على نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين ضعفه ما يليق بتلك الحال رأفة بمن تبعه ورحمة إذ لو وجب لأورث حرجا ومشقة فلما أعز الله الإسلام وأظهره ونصره أنزل عليه من الخطاب ما يكافئ تلك الحالة من مطالبة الكفار بالإسلام أو بأداء الجزية إن كانوا أهل كتاب أو الإسلام أو القتل إن لم يكونوا أهل كتاب ويعود هذان الحكمان أعني المسألة عند الضعف والمسايفة عند القوة بعود سببهما وليس حكم المسايفة ناسخا لحكم المسالمة بل كل منهما يجب امتثاله في وقته
فائدة
قيل في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ} ولم يقل من القرآن لأن القرآن ناسخ مهيمن على كل الكتب وليس يأتي بعده ناسخ له وما فيه من ناسخ ومنسوخ فمعلوم وهو قليل بين الله ناسخه عند منسوخه كنسخ الصدقة عند مناجاة الرسول والعدة والفرار في الجهاد ونحوه وأما غير ذلك فمن تحقق علما بالنسخ علم أن غالب ذلك من المنسأ ومنه ما يرجع لبيان الحكم المجمل كالسبيل في حق الآتية بالفاحشة فبينته السنة وكل ما في القرآن مما يدعى نسخه بالسنة عند من يراه فهو بيان لحكم

القرآن وقال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ}
وأما بالقرآن على ما ظنه كثير من المفسرين فليس بنسخ وإنما هو نسأ وتأخير أو مجمل أخر بيانه لوقت الحاجة أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره أو مخصوص من عموم أو حكم عام لخاص أو لمداخلة معنى في معنى وأنواع الخطاب كثيرة فظنوا ذلك نسخا وليس به وأنه الكتاب المهيمن على غيره وهو في نفسه متعاضد وقد تولى الله حفظه فقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
النوع الخامس والثلاثون: معرفة موهم المختلفوهو ما يوهم التعارض بين آياته وكلام الله جل جلاله منزه عن الاختلاف كما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} ولكن قد يقع للمبتدئ ما يوهم اختلافا وليس به فاحتيج لإزالته كما صنف في مختلف الحديث وبيان الجمع بينهما وقد رأيت لقطرب فيه تصنيفا حسنا جمعه على السور وقد تكلم فيه الصدر الأول ابن عباس وغيره
وقال الإمام: وقد وفق الحسن البصري بين قوله تعالى: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} بأن قال: ليس المراد في آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ليلة ثم بعد ذلك وعده بعشر لكنه وعده أربعين ليلة جميعا انتهى
وقيل تجري آية الأعراف على ظاهره من أن الوعد كان ثلاثين ثم أتم بالعشر فاستقرت الأربعون ثم أخبر في آية البقرة بما استقر

وذكره الخطابي قال وسمعت ابن أبي هريرة يحكي عن أبي العباس بن سريج قال سأل رجل بعض العلماء عن قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} فأخبر أنه لا يقسم بهذا ثم أقسم به في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} فقال ابن سريج: أي الأمرين أحب إليك أجيبك ثم أقطعك أو أقطعك ثم أجيبك فقال بل اقطعني ثم أجبني فقال اعلم أن هذا القرآن نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحضرة رجال وبين ظهراني قوم وكانوا أحرص الخلق على أن يجدوا فيه مغمزا وعليه مطعنا فلو كان هذا عندهم مناقضة لتعلقوا به وأسرعوا بالرد عليه ولكن القوم علموا وجهلت فلم ينكروا منه ما أنكرت ثم قال له: إن العرب قد تدخل "لا" في أثناء كلامها وتلغي معناها وأنشد فيه أبياتا والقاعدة في هذا أشباهه أن الألفاظ إذا اختلفت وكان مرجعها إلى أمر واحد لم يوجب ذلك اختلافا
فائدة عن الغزالي في معنى الإختلاف
سئل الغزالي عن معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} فأجاب بما صورته: الاختلاف لفظ مشترك بين معان وليس المراد نفي اختلاف الناس فيه بل نفي الاختلاف عن ذات القرآن يقال هذا كلام مختلف أي لا يشبه أوله آخره في الفصاحة إذ هو مختلف أي بعضه يدعو إلى الدين وبعضه يدعو إلى الدنيا أو هو مختلف النظم فبعضه على وزن الشعر وبعضه منزحف وبعضه على

أسلوب مخصوص في الجزالة وبعضه على أسلوب يخالفه وكلام الله تعالى منزه عن هذه الاختلافات فإنه على منهاج واحد في النظم مناسب أوله آخره وعلى مرتبة واحدة في غاية الفصاحة فليس يشتمل على الغث والسمين ومسوق لمعنى واحد وهو دعوة الخلق إلى الله تعالى وصرفهم عن الدنيا إلى الدين وكلام الآدميين يتطرق إليه هذه الاختلافات إذ كلام الشعراء والمترسلين إذا قيس عليه وجد فيه اختلاف في منهاج النظم ثم اختلاف في درجات الفصاحة بل في أصل الفصاحة حتى يشتمل على الغث والسمين فلا تتساوى رسالتان ولا قصيدتان بل تشتمل قصيدة على أبيات فصيحة وأبيات سخيفة وكذلك تشتمل القصائد والأشعار على أغراض مختلفة لأن الشعراء والفصحاء {كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} فتارة يمدحون الدنيا وتارة يذمونها وتارة يمدحون الجبن فيسمونه حزما وتارة يذمونه ويسمونه ضعفا وتارة يمدحون الشجاعة ويسمونها صراحة وتارة يذمونها ويسمونها تهورا ولا ينفك كلام آدمي عن هذه الاختلافات لأن منشأ هذه الاختلافات اختلاف الأغراض واختلاف الأحوال والإنسان تختلف أحواله فتساعده الفصاحة عند انبساط الطبع وفرحه ويتعذر عليه عند الانقباض ولذلك تختلف أغراضه فيميل إلى الشيء مرة ويميل عنه أخرى فيوجب اختلاف الأحوال والأغراض اختلافا في كلامه بالضرورة فلا تصادف اللسان يتكلم في ثلاث وعشرين سنة وهي مدة نزول القرآن فيتكلم على غرض واحد وعلى منهج واحد ولقد كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشرا تختلف أحواله فلو كان هذا كلامه أو كلام غيره من البشر لوجد فيه اختلاف كثير فأما اختلاف الناس فهو تباين في آراء الناس لا في نفس القرآن وكيف يكون هذا المراد وقد قال تعالى: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} فقد ذكر في القرآن أنه في نفسه

غير مختلف وهو مع هذا سبب لاختلاف الخلق في الضلال والهدى فلو لم يختلف فيه لكانت أمثال هذه الآيات خلفا وهي أشد أنواع الاختلاف والله أعلم
فصل: في القول عند تعارض الآي
قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفرابيني: إذا تعارضت الآي وتعذر فيها الترتيب والجمع طلب التاريخ وترك المتقدم منهما بالمتأخر ويكون ذلك نسخا له وإن لم يوجد التاريخ وكان الإجماع على استعمال إحدى الآيتين علم بإجماعهم أن الناسخ ما أجمعوا على العمل بها
قال: ولا يوجد في القرآن آيتان متعارضتان تعريان عن هذين الوصفين وذكروا عند التعارض مرجحات:
الأول: تقديم المكي على المدني وإن كان يجوز أن تكون المكية نزلت عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد عوده إلى مكة والمدنية قبلها فيقدم الحكم بالآية المدنية على المكية في التخصيص والتقديم إذ كان غالب الآيات المكية نزولها قبل الهجرة
الثاني: أن يكون أحد الحكمين على غالب أحوال أهل مكة والآخر على غالب

أحوال أهل المدينة فيقدم الحكم بالخبر الذي فيه أحوال أهل المدينة كقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} مع قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} فإذا أمكن بناء كل واحدة من الآيتين على البدل جعل التخصيص في قوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} كأنه قال: إلا من وجب عليه القصاص ومثل قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ونهيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قتل صيد مكة مع قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} فجعل النهي فيمن اصطاده في الحرم وخص من اصطاده في الحل وأدخله حيا فيه
الثالث : أن يكون أحد الظاهرين مستقلا بحكمه والآخر مقتضيا لفظا يزاد عليه فيقدم المستقل بنفسه عند المعارضة والترتيب كقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} مع قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وقد أجمعت الأمة على أن الهدي لا يجب بنفس الحصر وليس فيه صريح الإحلال بما يكون سببا له فيقدم المنع من الإحلال عند المرض بقوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} على ما عارضه من الآية الرابع: أن يكون كل واحد من العمومين محمولا على ما قصد به في الظاهر عند الاجتهاد فيقدم ذلك على تخصيص كل واحد منهما من المقصود بالآخر كقوله: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} بقوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فيخص الجمع بملك

اليمين بقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فتحمل آية الجمع على العموم والقصد فيها بيان ما يحل وما يحرم وتحمل آية الإباحة على زوال اللوم فيمن أتى بحال
الخامس: أن يكون تخصيص أحد الاستعمالين على لفظ تعلق بمعناه والآخر باسمه كقوله: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} مع قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الآية فيمكن أن يقال في الآية بالتبين عند شهادة الفاسق إذا كان ذلك من كافر على مسلم أو مسلم فاسق على كافر وأن يقبل الكافر على الكافر وإن كان فاسقا أو يحمل ظاهر قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} على القبيلة دون الملة ويحمل الأمر بالتثبت على عموم النسيان في الملة لأنه رجوع إلى تعيين اللفظ وتخصيص الغير بالقبيلة لأنه رجوع إلى الاسم على عموم الغير
السادس: ترجيح ما يعلم بالخطاب ضرورة على ما يعلم منه ظاهرا كتقديم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} على قوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} فإن قوله: {وَأَحَلَّ} يدل على حل البيع ضرورة ودلالة النهي على فساد البيع إما ألا تكون ظاهرة أصلا أو تكون ظاهرة منحطة عن النص

فصل في القول عند تعارض أي القرآن والآثار
قال القاضي أبو بكر في التقريب: لا يجوز تعارض أي القرآن والآثار وما توجبه أدلة العقل فلذلك لم يجعل قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} معارضا لقوله: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً} وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} وقوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} لقيام الدليل العقلي أنه لا خالق غير الله تعالى فيتعين تأويل ما عارضه فيؤول قوله: {وَتَخْلُقُونَ} بمعنى تكذبون لأن الإفك نوع من الكذب وقوله: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ} أي تصور
ومن ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لا يعارضه قوله: {أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ} فإن المراد بهذا مالا يعلمه أنه غير كائن ويعلمونه وقوع ما ليس بواقع لا على أن من المعلومات ما هو غير عالم به وإن علمتموه
وكذلك لا يجوز جعل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ} معارضا لقوله: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} وقوله: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} معارضا لقوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} في تجويز الرؤية وإحالتها

لأن دليل العقل يقضي بالجواز ويجوز تخليص النفي بالدنيا والإثبات بالقيامة وكذلك لا يجوز جعل قوله: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} معارضا لقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} بل يجب تأويل أهون على هين ولا جعل قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} معارضا لأمره نبيه وأمته بالجدال في قوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فيحمل الأول على ذم الجدال الباطل ولا يجوز جعل قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} معارضا لقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ}
فصل في تعارض القراءتين في آية واحدة
وقد جعلوا تعارض القراءتين في آية واحدة كتعارض الآيتين كقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب والجر وقالوا يجمع بينهما بحمل إحداهما على مسح الخف والثانية على غسل الرجل إذا لم يجد متعلقا سواهما

وكذلك قراءة: {يَطْهُرن} و{ يَطَّهَّرن} حملت الحنفية إحداهما على ما دون العشرة والثانية على العشرة
واعلم أنه إذا لم يكن لها متعلق سواهما تصدى لنا الإلغاء أو الجمع فأما إذا وجدنا متعلقا سواهما فالمتعلق هو المتبع
فائدة في القول في الاختلاف والتناقض
قال أبو بكر الصيرفي في شرح رسالة الشافعي: جماع الاختلاف والتناقض أن كل كلام صح أن يضاف بعض ما وقع الاسم عليه إلى وجه من الوجوه فليس فيه تناقض وإنما التناقض في اللفظ ما ضاده من كل جهة على حسب ما تقتضيه الأسماء ولن يوجد في الكتاب ولا في السنة شيء من ذلك أبدا وإنما يوجد فيه النسخ في وقتين بأن يوجب حكما ثم يحله وهذا لا تناقض فيه وتناقض الكلام لا يكون إلا في إثبات ما نفي أو نفي ما أثبت بحيث يشترك المثبت والمنفي في الاسم والحدث والزمان والأفعال والحقيقة فلو كان الاسم حقيقة في أحدهما وفي الآخر مستعارا ونفي أحدهما وأثبت الآخر لم يعد تناقضا هذا كله في الأسماء وأما المعاني وهو باب القياس فكل من أوجد علة وحررها

وأوجب بها حكما من الأحكام ثم ادعى تلك العلة بعينها فيما يأباه الحكم فقد تناقض فإن رام الفرق لم يسمع منه لأنه في فرقه تناقض والزيادة في العلة نقص أو تقصير عن تحريرها في الابتداء وليس هذا على السائل
وكل مسألة يسأل عنها فلا تخلو من أحد وجهين إما أن يسأل فيما يستحق الجواب عنه أو لا فأما المستحق للجواب فهو ما يمكن كونه ويجوز وأما ما استحال كونه فلا يستحق جوابا لأن من علم أنه لا يجتمع القيام والقعود فسأل هل يكون الإنسان قائما منتصبا جالسا في حال واحدة فقد أحال وسأل عن محال فلا يستحق الجواب فإن كان لا يعرف القيام والقعود عرف فإذا عرفه فقد استحال عنده ما سأله قال وقد رأيت كثيرا مما يتعاطى العلم يسأل عن المحال ولا يدري أنه محال ويجاب عنه والآفات تدخل على هؤلاء لقلة علمهم بحق الكلام
فصل في الأسباب الموهمة الاختلاف
وللاختلاف أسباب
الأول: وقوع المخبر به على أحوال مختلفة وتطويرات شتى كقوله تعالى في خلق آدم إنه: {مِنْ تُرَابٍ} ومرة {مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ} ومرة {مِنْ طِينٍ لازِبٍ} ومرة {مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} وهذه الألفاظ مختلفة ومعانيها في أحوال مختلفة

لأن الصلصال غير الحمأ والحمأ غير التراب إلا أن مرجعها كلها إلى جوهر وهو التراب ومن التراب تدرجت هذه الأحوال
ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ} وفي موضع {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ} والجان: الصغير من الحيات والثعبان الكبير منها وذلك لأن خلقها خلق الثعبان العظيم واهتزازها وحركاتها وخفتها كاهتزاز الجان وخفته
السبب الثاني : لاختلاف الموضوع كقوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} وقوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} مع قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ} قال الحليمي: فتحمل الآية الأولى على السؤال عن التوحيد وتصديق الرسل والثانية على ما يستلزم الإقرار بالنبوات من شرائع الدين وفروعه حمله غيره على اختلاف الأماكن لأن في القيامة مواقف كثيرة فموضع يسأل ويناقش وموضع آخر يرحم ويلطف به وموضع آخر يعنف ويوبخ وهم الكفار وموضع آخر لا يعنف وهم المؤمنون
وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} مع قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقيل: المنفي كلام التلطف والإكرام والمثبت سؤال التوبيخ والإهانة فلا تنافي
وكقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} مع قوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ

الْعَذَابُ } والجواب أن التضعيف هنا ليس على حد التضعيف في الحسنات بل هو راجع لتضاعيف مرتكباتهم فكان لكل مرتكب منها عذاب يخصه فليس التضعيف من هذا الطريق على ما هو في الطريق الآخر وإنما المراد هنا تكثيره بحسب كثرة المجترحات لأن السيئة الواحدة يضاعف الجزاء عليها بدليل سياق تلك الآية وهو قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فهؤلاء كذبوا على ربهم وصدوا عن سبيله وبغوها عوجا وكفروا فهذه مرتكبات عذبوا بكل مرتكب منها
وكقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} مع قوله: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} فإن الأولى تقتضي أنهم كتموا كفرهم السابق والجواب من وجهين أحدهما أن للقيامة مواطن ففي بعضها يقع منهم الكذب وفي بعضها لا يقع كما سبق والثاني أن الكذب يكون بأقوالهم والصدق يكون من جوارحهم فيأمرها الله تعالى بالنطق فتنطق بالصدق
وكقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} مع قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} والجواب أن المراد: لا تكسب شرا ولا إثما بدليل سبب

النزول أو ضمن معنى تجني وهذه الآية اقتصر فيها على الشر والأخرى ذكر فيها الأمران ولهذا لما ذكر القسمين ذكر ما يميز أحدهما عن الآخر وهاهنا لما كان المراد ذكر أحدهما اقتصر عليه بـ فعل ولم يأت بـ افتعل
ومنه قوله تعالى: {تَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} مع قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يحكى عن الشيخ العارف أبي الحسن الشاذلي رحمه الله أنه جمع بينهما فحمل الآية الأولى على التوحيد والثانية على الأعمال والمقام يقتضي ذلك لأنه قال بعد الأولى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
وقيل: بل الثانية ناسخة قال ابن المنير الظاهر أن قوله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} إنما نسخ حكمه لا فضله وأجره وقد فسر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {حَقَّ تُقَاتِهِ} بأن قال: "هو أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر" فقالوا: أينا يطيق ذلك؟ فنزلت {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وكان التكليف أولا باستيعاب العمر بالعبادة بلا فترة ولا نعاس كما كانت الصلاة خمسين ثم صارت بحسب الاستطاعة خمسا والاقتدار منزل على هذا الاعتبار ولم ينحط من درجاته

وقال الشيخ كمال الدين الزملكاني: وفي كون ذلك منسوخا نظر وقوله: {مَا اسْتَطَعْتُمْ} هو {حَقَّ تُقَاتِهِ} إذ به أمر فإن {حَقَّ تُقَاتِهِ} الوقوف على أمره ودينه وقد قال بذلك كثير من العلماء انتهى والحديث الذي ذكره ابن المنير في تفسيره {حَقَّ تُقَاتِهِ} لم يثبت مرفوعا بل هو من كلام ابن مسعود رواه النسائي وليس فيه قول الصحابة: "أينا يطيق ذلك" ونزول قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
ومنه قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} مع قوله في أواخر السورة: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ} فالأولى تفهم إمكان العدل والثانية تنفيه
والجواب أن المراد بالعدل في الأولى العدل بين الأزواج في توفية حقوقهن وهذا ممكن الوقوع وعدمه والمراد به في الثانية الميل القلبي فالإنسان لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض وقد كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقسم بين نسائه ثم يقول: "اللهم هذا قسمي في ما أملك فلا تؤاخذني بما لا أملك" يعني ميل القلب وكان عمر يقول: "الله قلبي فلا أملكه وأما ما سوى ذلك فأرجو أن أعدل"
ويمكن أن يكون المراد بالعدل في الثانية العدل التام أشار إليه ابن عطية وقد يحتاج الاختلاف إلى تقدير فيرتفع به الإشكال كقوله تعالى: {لا يَسْتَوِي

الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} ثم قال سبحانه: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً} والأصل في الأولى وفضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر درجة والأصل في الثانية وفضل الله المجاهدين على القاعدين من الأصحاء درجات
وممن ذكر أن المحذوف كذلك الإمام بدر الدين بن مالك في شرح الخلاصة في الكلام على حذف النعت وللزمخشري فيه كلام آخر
وكقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} مع قوله: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} والمعنى: أمّرناهم وملكناهم وأردنا منهم الصلاح فأفسدوا والمراد بالأمر في الأولى أنه لا يأمر به شرعا ولكن قضاء لاستحالة أن يجري في ملكه مالا يريد وفرق بين الأمر الكوني والديني
الثالث: لاختلافهما في جهتي الفعل كقوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ} أضيف القتل إليهم على جهة الكسب والمباشرة ونفاه عنهم باعتبار التأثير ولهذا قال الجمهور إن الأفعال مخلوقة لله تعالى مكتسبة للآدميين فنفي الفعل بإحدى الجهتين لا يعارضه إثباته بالجهة الأخرى

وكذا قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} رمى أي ما رميت خلقا إذ رميت كسبا وقيل إن الرمي يشتمل على القبض والإرسال وهما بكسب الرامي وعلى التبليغ والإصابة وهما بفعل الله عز وجل قال ابن جرير الطبري: وهي الدليل على أن الله خالق لأفعال العباد فإن الله تعالى أضافه إلى نبيه ثم نفاه عنه وذلك فعل واحد لأنه من الله تعالى التوصيل إليهم ومن نبيه بالحذف والإرسال وإذا ثبت هذا لزم مثله في سائر أفعال العباد المكتسبة فمن الله تعالى الإنشاء والإيجاد ومن الخلق الاكتساب بالقوى
ومثله قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} وقال تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} فقيام الانتصاب لا ينافي القيام بالأمر لاختلاف جهتي الفعل
الرابع: لاختلافهما في الحقيقة والمجاز كقوله: {وترى وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} وهو يرجع لقول المناطقة الاختلاف بالإضافة أي وترى الناس سكارى بالإضافة إلى أهوال القيامة مجازا وما هم بسكارى بالإضافة إلى الخمر حقيقة
ومثله في الاعتبارين قوله تعالى: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} وقوله تعالى:

{وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} فإنه لا يلزم من نفي النظر نفي الإبصار لجواز قولهم نظرت إليه فلم أبصره
الخامس: بوجهين واعتبارين وهو الجامع للمفترقات كقوله: {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} وقال: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} قال قطرب: {فَبَصَرُكَ} أي: علمك ومعرفتك بها قوية من قولهم بصر بكذا وكذا أي علم وليس المراد رؤية العين قال الفارسي: ويدل على ذلك قوله: { فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} وصف البصر بالحدة
وكقوله تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} مع قوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} فقيل: يجوز أن يكون معناه: ويذرك وآلهتك إن ساغ لهم ويكون إضافة الآلهة إليه ملكا كان يعبد في دين قومه ثم يدعوهم إلى أن يكون هو الأعلى كما تقول العرب موالي من فوق وموالي من أسفل فيكون اعتقادهم في الآلهة مع فرعون أنها مملوكة له فيحسن قولهم وآلهتك
وقوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} مع قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فقد يظن أن الوجل خلاف

الطمأنينة وجوابه أن الطمأنينة إنما تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد والوجل يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى فتوجل القلوب لذلك وقد جمع بينهما في قوله: {قْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فإن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفي عنهم الشك
وكقوله: {خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}وفي موضع {أَلْفَ سَنَةٍ} وأجيب بأنه باعتبار حال المؤمن والكافر بدليل: {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} وكقوله: {بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ} وفي آية أخرى: {ثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ} قيل: إن الألف أردفهم بثلاثة آلاف وكان الأكثر مددا للأقل وكان الألف مردفين بفتحها
وكقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وفي آية أخرى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} ولا تنافي بينهما فالأول دال على أن الأرض وما فيها خلقت قبل السماء وذلك صحيح ثم دحيت الأرض بعد خلق السماء وبذلك تتفق معاني الآيات في سورة القمر والمؤمن والنازعات

وكقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} إلى قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وذلك يبلغ ثمانية أيام والجواب أن المراد بقوله: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} إلى قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} مع اليومين المتقدمين ولم يرد بذكر الأربعة غير ما تقدم ذكره وهذا كما يقول الفصيح سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيام وسرت إلى الكوفة في ثلاثة عشر يوما ولا يريد سوى العشرة بل يريد مع العشرة ثلاثة ثم قال تعالى: {قَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} وأراد سوى الأربعة وذلك لا مخالفة فيه لأن المجموع يكون ستة
ومنه قوله تعالى: في السجدة: {عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} بلفظ الذي على وصف العذاب وفي سبأ {عَذَابَ النَّارِ الَّتِي} بلفظ التي على وصف النار وفيه أربعة أوجه أحدها أنه وصف العذاب في السجدة لوقوع النار موقع الضمير الذي لا يوصف وإنما وقعت موقع الضمير لتقدم إضمارها مع قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} فحق الكلام وقيل لهم ذوقوا عذابها فلما وضعها موضع المضمر الذي لا يقبل الوصف

عدل إلى وصف العذاب وأما في سبأ فوصفها لعدم المانع من وصفها والثاني أن الذي في السجدة وصف النار أيضا وذكر حملا على معنى الجحيم والحريق والثالث أن الذي في السجدة في حق من يقر بالنار ويجحد العذاب وفي سبأ في حق من يجحد أصل النار والرابع أنه إنما وصف العذاب في السجدة لأنه لما تقدم ذكر النار مضمرا ومظهرا عدل إلى وصف العذاب ليكون تلوينا للخطاب فيكون أنشط للسامع بمنزلة العدول من الغيبة إلى الخطاب
ومنه قوله تعالى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} وقوله: {تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ} وبين قوله: {قل قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} وبين قوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ} وجمع البغوي بينها لأن توفي الملائكة بالقبض والنزع وتوفي ملك الموت بالدعاء والأمر يدعو الأرواح فتجيبه ثم يأمر أعوانه بقبضها وتوفي الله سبحانه خلق الموت فيه
ومنه قوله تعالى في البقرة: {فَاتَّقُوا النَّارَ} وفي سورة التحريم: {نَاراً} بالتنكير لأنها نزلت بمكة قبل آية البقرة فلم تكن النار التي وقودها الناس والحجارة معروفة فنكرها ثم نزلت آية البقرة بالمدينة مشارا بها إلى ما عرفوه أولا
وقال في سورة البقرة: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً} وفي سورة إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} لأنه في الدعوة الأولى كان مكانا فطلب منه أن يجعله بلدا آمنا وفي الدعوة الثانية كان بلدا غير آمن فعرفه وطلب له الأمن أو كان بلدا آمنا وطلب

ثبات الأمن ودوامه وكون سورة البقرة مدنية وسورة إبراهيم مكية لا ينافي هذا لأن الواقع من إبراهيم كونه على الترتيب المذكور والإخبار عنه في القرآن على غير ذلك الترتيب أو لأن المكي منه ما نزل قبل الهجرة فيكون المدني متأخرا عنها ومنه ما نزل بعد فتح مكة فيكون متأخرا عن المدني فلم قلتم إن سورة إبراهيم من المكي الذي نزل قبل الهجرة
فصل في الإجابة عن بعض الاستشكالات
ومما استشكلوه قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} فإنه يدل على حصر المانع من الإيمان في أحد هذين الشيئين وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً}فهذا حصر في ثالث غيرهما
وأجاب ابن عبد السلام بأن معنى الآية: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا} إلا إرادة أن تأتيهم سنة من الخسف وغيره {أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً} في الآخرة فأخبر أنه أراد أن يصيبهم أحد الأمرين ولا شك أن إرادة الله مانعة من وقوع ما ينافي المراد فهذا حصر في السبب الحقيقي لأن الله هو المانع في الحقيقة ومعنى الآية الثانية: {وَمَا مَنَعَ

النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى} إلا استغراب بعثه بشرا رسولا لأن قولهم ليس مانعا من الإيمان لأنه لا يصلح لذلك وهو يدل على الاستغراب بالالتزام وهو المناسب للمانعية واستغرابهم ليس مانعا حقيقيا بل عاديا لجواز خلو الإيمان معه بخلاف إرادة الله تعالى فهذا حصر في المانع العادي والأولى حصر في المانع الحقيقي فلا تنافي انتهى
وقوله" ليس مانعا من الإيمان" فيه نظر لأن إنكارهم بعثه بشرا رسولا كفر مانع من الإيمان وفيه تعظيم لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن إنكارهم بعثته مانع من الإيمان
فصل في وقوع التعارض بين الآية والحديث
وقد يقع التعارض بين الآية والحديث ولا بأس بذكر شيء للتنبيه لأمثاله فمنه قوله تعالى والله يعصمك من الناس وقد صح أنه شج يوم أحد وأجيب بوجهين:
أحدهما: أن هذا كان قبل نزول هذه الآية لأن غزوة أحد كانت سنة ثلاث من الهجرة وسورة المائدة من أواخر ما نزل بالمدينة
والثاني: بتقدير تسليم الأخير فالمراد العصمة من القتل وفيه تنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء فما أشد تكليف الأنبياء

ومنه قوله تعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} مع قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لن يدخل أحدكم الجنة بعمله"
وأجيب بوجهين:
أحدهما: ونقل عن سفيان وغيره- كانوا يقولون: النجاة من النار بعفو الله ودخول الجنة برحمته وانقسام المنازل والدرجات بالأعمال ويدل له حديث أبي هريرة: "إن أهل الجنة إذا دخلوها نزلوا فيها بفضل أعمالهم" رواه الترمذي
والثاني: أن الباء في الموضعين مدلولها مختلف ففي الآية باء المقابلة وهي الداخلة على الأعراض وفي الحديث للسببية لأن المعطي بعوض قد يعطي مجانا وأما المسبب فلا يوجد بدون السبب ومنهم من عكس هذا الجواب وقال الباء في الآية للسببية وفي الحديث للعوض وقد جمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "سددوا وقاربوا واعلموا أن أحدا منكم لن ينجو بعمله" قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: "ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته" ومنه قوله تعالى مخبرا عن خلق السماوات والأرض وما بينهما: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} فإنه يقتضي أن يكون يوما من أيام الجمعة بقي لم يخلق فيه شيء والظاهر من الأحاديث الصحاح أن الخلق ابتدأ يوم الأحد وخلق آدم يوم الجمعة آخر الأشياء فهذا يستقيم مع الآية الشريفة ووقع في صحيح مسلم أن الخلق ابتدأ يوم السبت فهذا بخلاف الآية اللهم إلا أن يكون أراد في الآية الشريفة جميع الأشياء غير آدم ثم يكون يوم الجمعة هو الذي لم يخلق فيه شيء مما بين السماء والأرض لأن آدم حينئذ لم يكن فيما بينهما
النوع السادس والثلاثون: معرفة المحكم من المتشابهقال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} قيل ولا يدل على الحصر في هذين الشيئين فإنه ليس فيه شيء من الطرق الدالة عليه وقد قال لتبين للناس ما نزل إليهم والمتشابه لا يرجى بيانه والمحكم لا توقف معرفته على البيان
وقد حكى الحسين بن محمد بن حبيب النيسابوري في هذه المسألة ثلاثة أقوال:
أحدها: أن القرآن كله محكم لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} والثاني: كله متشابه لقوله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً} والثالث: -وهو الصحيح- أن منه محكما ومنه متشابها لقوله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ}
فأما المحكم فأصله لغة المنع تقول أحكمت بمعنى رددت ومنعت والحاكم لمنعه الظالم من الظلم وحكمه اللجام هي التي تمنع الفرس من الاضطراب وأما في الاصطلاح فهو ما أحكمته بالأمر والنهي وبيان الحلال والحرام

وقيل هو مثل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وقيل: هو الذي لم ينسخ لقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وقوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} إلى آخر الآيات وهي سبعة عشر حكما مذكورة في سورة الأنعام وفي سورة بني إسرائيل وقيل: هو الناسخ وقيل: الفرائض والوعد والوعيد وقيل: الذي وعد عليه ثوابا أو عقابا وقيل: الذي تأويله تنزيله بجعل القلوب تعرفه عند سماعه كقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقيل: مالا يحتمل في التأويل إلا وجها واحدا وقيل ما تكرر لفظه
وأما المتشابه فأصله أن يشتبه اللفظ في الظاهر مع اختلاف المعاني كما قال تعالى في وصف ثمر الجنة {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً} أي متفق المناظر مختلف الطعوم ويقال للغامض: متشابه لأن جهة الشبه فيه كما تقول لحروف التهجي والمتشابه مثل المشكل لأنه أشكل أي دخل في شكل غيره وشاكله واختلفوا فيه فقيل: هو المشتبه الذي يشبه بعضه بعضا وقيل: هو المنسوخ الغير معمول به وقيل: القصص والأمثال وقيل: ما أمرت أن تؤمن به وتكل علمه إلى عالمه وقيل: فواتح السور وقيل:

ما لا يدرى إلا بالتأويل ولا بد من صرفه إليه كقوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} و{عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} وقيل: الآيات التي يذكر فيها وقت الساعة ومجيء الغيث وانقطاع الآجال كقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}وقيل: ما يحتمل وجوها والمحكم ما يحتمل وجها واحدا وقيل: مالا يستقل بنفسه إلا برده إلى غيره وقيل: غير ذلك وكلها متقارب
وفصل الخطاب في ذلك أن الله سبحانه قسم الحق بين عباده فأولاهم بالصواب من عبر بخطابه عن حقيقة المراد قال سبحانه: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} ثم قال: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} أي على لسانك وألسنه العلماء من أمتك وكلام السلف راجع إلى المشتبه بوجه لا إلى المقصود المعبر عنه بالمتشابه في خطابه لأن المعاني إذا دقت تداخلت وتشابهت على من لا علم له بها كالأشجار إذا تقارب بعضها من بعض تداخلت أمثالها واشتبهت أي على من لم يمعن النظر في البحث عن منبعث كل فن منها قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} إلى قوله: {مُتَشَابِهاً} وهو على اشتباكه غير متشابه وكذلك سياق معاني القرآن العزيز قد تتقارب المعاني ويتقدم الخطاب بعضه على بعض ويتأخر بعضه عن بعض لحكمة الله في ترتيب الخطاب والوجود فتشتبك المعاني وتشكل إلا على أولي الألباب فيقال في هذا الفن متشابه بعضه ببعض وأما المتشابه من القرآن العزيز فهو يشابه بعضه بعضا في الحق والصدق والإعجاز والبشارة والنذارة وكل ما جاء به وأنه من

عند الله فذم سبحانه الذين يتبعون ما تشابه منه عليهم افتتانا وتضليلا فهم بذلك يتبعون ما تشابه عليهم تناصرا وتعاضدا للفتنة والإضلال
تفريعات
الأول: الأشياء التي يجب ردها عند الإشكال إلى أصولها فيجب رد المتشابهات في الذات والصفات إلى محكم ليس كمثله شيء ورد المتشابهات في الأفعال إلى قوله: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ} وكذلك الآيات الموهمة نسبة الأفعال لغير الله تعالى من الشيطان والنفس ترد إلى محكم قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} وما كان من ذلك عن تنزل الخطاب أو ضرب مثال أو عبارة عن مكان أو زمان أو معية أو ما يوهم التشبيه فمحكم ذلك قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وقوله: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}
ومنه ضرب في تفصيل ذكر النبوة ووصف إلقاء الوحي ومحكمه قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}
ومنه ضرب في الحلال والحرام ومن ثم اختلف الأئمة في كثير من الأحكام بحسب فهمهم لدلالة القرآن

ومنه شيء يتقارب فيه بين اللمتين لمة الملك ولمة الشيطان لعنه الله ومحكم ذلك قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} الآية ولهذا قال عقبه: {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي عندما يلقى العدو الذي لا يأمر بالخير بل بالشر والإلباس
ومنه الآيات التي اختلف المفسرون فيها على أقوال كثيرة تحتملها الآية ولا يقطع على واحد من الأقوال وأن مراد الله منها غير معلوم لنا مفصلا بحيث يقطع به
الثاني: أن هذه الآية من المتشابه أعني قوله وأخر متشابهات الآية من حيث تردد الوقف فيها بين أن يكون على {إِلَّا اللَّهَ} وبين أن يكون على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وتردد الواو في {وَالرَّاسِخُونَ} بين الاستئناف والعطف ومن ثم ثار الخلاف في ذلك
فمنهم من رجح أنها للاستئناف وأن الوقف على وَالرَّاسِخُونَ {إِلَّا اللَّهُ} وأن الله تعبد من كتابه بما لا يعلمون وهو المتشابه كما تعبدهم من دينه بما لا يعقلون وهو التعبدات ولأن قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} متردد بين كونه حالا فضلة وخبرا عمدة والثاني أولى.
ومنهم من رجح أنها للعطف لأن الله تعالى لم يكلف الخلق بما لا يعلمون وضعف الأول لأن الله لم ينزل شيئا من القرآن إلا لينتفع به عباده ويدل به على معنى أراده فلو كان المتشابه لا يعلمه غير الله للزمنا ولا يسوغ لأحد أن يقول إن رسول الله

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعلم المتشابه فإذا جاز أن يعرفه الرسول مع قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} جاز أن يعرفه الربانيون من صحابته والمفسرون من أمته ألا ترى أن ابن عباس كان يقول: أنا من الراسخين في العلم ويقول عند قراءة قوله في أصحاب الكهف: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} أنا من أولئك القليل
وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعلمونه ويقولون آمنا به ولو لم يكن للراسخين في العلم حظ من المتشابه إلا أن يقولوا آمنا لم يكن لهم فضل على الجاهل لأن الكل قائلون ذلك ونحن لم نر المفسرين إلى هذه الغاية توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هو متشابه لا يعلمه إلا الله بل أمروه على التفسير حتى فسروا الحروف المقطعة
فإن قيل: كيف يجوز في اللغة أن يعلم الراسخون والله يقول: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} وإذا أشركهم في العلم انقطعوا عن قوله: {يَقُولُونَ} لأنه ليس هنا عطف حتى يوجب للراسخين فعلين! قلنا: إن {يَقُولُونَ} هنا في معنى الحال كأنه قال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} قائلين آمنا كما قال الشاعر: الريح تبكي شجوها
والبرق يلمع في غمامه
أي لامعا
وقيل المعنى: يعلمون ويقولون فحذف واو العطف كقوله { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } والمعنى يقولون: علمنا وآمنا لأن الإيمان قبل العلم محال

إذ لا يتصور الإيمان مع الجهل وأيضا لو لم يعلموها لم يكونوا من الراسخين ولم يقع الفرق بينهم وبين الجهال
الثالث: ومن هذا الخلاف نشأ الخلاف في أنه هل في القرآن شيء لا تعلم الأمة تأويله قال الراغب في مقدمة تفسيره وذهب عامة المتكلمين إلى أن كل القرآن يجب أن يكون معلوما وإلا لأدى إلى إبطال فائدة الانتفاع به وحملوا قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} بالعطف على قوله: {إِلَّا اللَّهَ} وقوله: {يَقُولُونَ} جملة حالية
قال: ذهب كثير من المفسرين إلى أنه يصح أن يكون في القرآن بعض مالا يعلم تأويله إلا الله قال ابن عباس: أنزل الله القرآن على أربعة أوجه حلال وحرام ووجه لا يسع أحد جهالته ووجه تعرفه العرب ووجه تأويل لا يعلمه إلا الله
وقال بعضهم: المتشابه اسم لمعنيين:
أحدهما: لما التبس من المعنى لدخول شبهة بعضه في بعض نحو قوله: {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} الآية والثاني: اسم لما يوافق بعضه بعضا ويصدقه قوله تعالى: {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} الآية فإن كان المراد بالمتشابه في القرآن الأول فالظاهر أنه لا يمكنهم الوصول إلى مراده وإن جاز أن يطلعهم عليه بنوع من لطفه لأنه اللطيف الخبير وإن كان المراد الثاني جاز أن يعلموا مراده

الرابع: قيل: ما الحكمة في إنزال المتشابه ممن أراد لعباده البيان والهدى؟ قلنا: إن كان مما يمكن علمه فله فوائد:
منها : ليحث العلماء على النظر الموجب للعلم بغوامضه والبحث عن دقائق معانيه فإن استدعاء الهمم لمعرفة ذلك من أعظم القرب وحذرا مما قال المشركون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وليمتحنهم ويثيبهم كما قال: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية وقوله: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فنبههم على أن أعلى المنازل هو الثواب فلو كان القرآن كله محكما لا يحتاج إلى تأويل لسقطت المحنة وبطل التفاضل واستوت منازل الخلق ولم يفعل الله ذلك بل جعل بعضه محكما ليكون أصلا للرجوع إليه وبعضه متشابها يحتاج إلى الاستنباط والاستخراج ورده إلى المحكم ليستحق بذلك الثواب الذي هو الغرض وقد قال تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}
ومنها: إظهار فضل العالم على الجاهل ويستدعيه علمه إلى المزيد في الطلب في تحصيله ليحصل له درجة الفضل والأنفس الشريفة تتشوف لطلب العلم وتحصيله
وأما إن كان مما لا يمكن علمه فله فوائد:
منها: إنزاله ابتلاء وامتحانا بالوقف فيه والتعبد بالاشتغال من جهة التلاوة وقضاء فرضها وإن لم يقفوا على ما فيها من المراد الذي يجب العمل به اعتبارا بتلاوة المنسوخ

من القرآن وإن لم يعجز العمل بما فيه من المحكم ويجوز أن يمتحنهم بالإيمان بها حيث ادعوا وجوب رعاية الأصلح
ومنها: إقامة الحجة بها عليهم وذلك إنما نزل بلسانهم ولغتهم ثم عجزوا عن الوقوف على ما فيها مع بلاغتهم وإفهامهم فيدل على أن الذي أعجزهم عن الوقوف هو الذي أعجزهم عن تكرر الوقوف عليها وهو الله سبحانه
الخامس: أثار بعضهم سؤالا وهو هل للمحكم مزية على المتشابه بما يدل عليه أو هما سواء والثاني خلاف الإجماع والأول ينقض أصلكم أن جميع كلامه سبحانه سواء وأنه نزل بالحكمة وأجاب أبو عبد الله محمد بن أحمد البكراباذي بأن المحكم كالمتشابه من وجه ويخالفه من وجه فيتفقان في أن الاستدلال بهما لا يمكن إلا بعد معرفة حكمة الواضع وأنه لا يختار القبيح ويختلفان في أن المحكم بوضع اللغة لا يحتمل إلا الوجه الواحد فمن سمعه أمكنه أن يستدل به في الحال والمتشابه يحتاج إلى ذكر مبتدأ ونظر مجدد عند سماعه ليحمله على الوجه المطابق ولأن المحكم أصل والعلم بالأصل أسبق ولأن المحكم يعلم مفصلا والمتشابه لا يعلم إلا مجملا
فإن قيل: إذا كان المحكم بالوضع كالمتشابه وقد قلتم إن من حق هذه اللغة أن يصح فيها الاحتمال ويسوغ التأويل فبما يميز المحكم في أنه لا بد له من مزية سيما والناس قد اختلفوا فيهما كاختلافهم في المذاهب فالمحكم عند السني متشابه عند القدري؟ فالجواب أن الوجه الذي أوردته يلجئ إلى الرجوع إلى العقول فيما يتعلق

بالتفريد والتنزيه فإن العلم بصحة خطابه يفتقر إلى العلم بحكمته وذلك يتعلق بصفاته فلا بد من تقدم معرفته ليصح له مخرج كلامه فأما في الكلام فيما يدل على الحلال والحرام فلا بد من مزية للمحكم وهو أن يدل ظاهره على المراد أو يقتضي بانضمامه أنه مما لا يحتمل الوجه الواحد
وللمحكم في باب الحجاج عند غير المخالف مزية لأنه لا يمكن أن يبين له أنه مخالف للقرآن وأن ظاهر المحكم يدل على خلاف ما ذهب إليه وإن تمسك بمتشابه القرآن وعدل عن محكمه لما أنه تمسك بالشبه العقلية وعدل عن الأدلة السمعية وذلك لطف وبعث على النظر لأن المخالف المتدين يؤثر ذلك ليتفكر فيه ويعمل فإن اللغة وإن توقفت محتملة ففيها ما يدل ظاهره على أمر واحد وإن جاز صرفه إلى غيره بالدليل ثم يختلف ففيه ما يكره صرفه لاستبعاده في اللغة
النوع السابع والثلاثون: في حكم الآيات المتشابهات الواردة في الصفاتوقد اختلف الناس في الوارد منها في الآيات والأحاديث على ثلاث فرق
أحدها: أنه لا مدخل للتأويل فيها بل تجري على ظاهرها ولا تؤول شيئا منها وهم المشبهة
والثاني : أن لها تأويلا ولكنا نمسك عنه مع تنزيه اعتقادنا عن الشبه والتعطيل ونقول لا يعلمه إلا الله وهو قول السلف
والثالث: أنها مؤولة وأولوها على ما يليق به
والأول باطل والأخيران منقولان عن الصحابة فنقل الإمساك عن أم سلمة أنها سئلت عن الاستواء فقالت: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة وكذلك سئل عنه مالك فأجاب بما قالته أم سلمة إلا أنه زاد فيها أن من عاد إلى هذا السؤال عنه أضرب عنقه وكذلك سئل سفيان الثوري فقال: أفهم من قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ما أفهم من قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} وسئل الأوزاعي عن تفسير هذه الآية فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} كما قال: وإني لأراك ضالا وسئل ابن راهويه عن الاستواء أقائم هو أم قاعد فقال لا يمل القيام حتى يقعد ولا يمل القعود حتى يقوم وأنت إلى هذا السؤال أحوج
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وسادتها

وإياها اختار أئمة الفقهاء وقادتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها وأفصح الغزالي عنهم في غير موضع بتهجين ما سواها حتى ألجم آخرا في إلجامه كل عالم أو عامي عما عداها قال وهو كتاب إلجام العوام عن علم الكلام آخر تصانيف الغزالي مطلقا آخر تصانيفه في أصول الدين حث فيه على مذاهب السلف ومن تبعهم وممن نقل عنه التأويل علي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وقال الغزالي في كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة: إن الإمام أحمد أول في ثلاثة مواضع وأنكر ذلك عليه بعض المتأخرين
قلت: وقد حكى ابن الجوزي عن القاضي أبي يعلى تأويل أحمد في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} قال: وهل هو إلا أمره بدليل قوله: {أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ}!
واختار ابن برهان وغيره من الأشعرية التأويل قال: ومنشأ الخلاف بين

الفريقين: أنه هل يجوز في القرآن شيء لا يعلم معناه فعندهم يجوز فلهذا منعوا التأويل واعتقدوا التنزيه على ما يعلمه الله
وعندنا لا يجوز ذلك بل الراسخون يعلمونه
قلت: وإنما حملهم على التأويل وجوب حمل الكلام على خلاف المفهوم من حقيقته لقيام الأدلة على استحالة المتشابه والجسمية في حق البارئ تعالى والخوض في مثل هذه الأمور خطره عظيم وليس بين المعقول والمنقول تغاير في الأصول بل التغاير إنما يكون في الألفاظ واستعمال المجاز لغة العرب وإنما قلنا: لا تغاير بينهما في الأصول لما علم بالدليل أن العقل لا يكذب ما ورد به الشرع إذ لا يرد الشرع بما لا يفهمه العقل إذ هو دليل الشرع وكونه حقا ولو تصور كذب العقل في شيء لتصور كذبه في صدق الشرع فمن طالت ممارسته العلوم وكثر خوضه في بحورها أمكنه التلفيق بينهما لكنه لا يخلو من أحد أمرين إما تأويل يبعد عن الأفهام أو موضع لا يتبين فيه وجه التأويل لقصور الأفهام عن إدراك الحقيقة والطمع في تلفيق كل ما يرد مستحيل المرام والمرد إلى قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ونحن نجري في هذا الباب على طريق المؤولين حاكين كلامهم
فمن ذلك صفة الاستواء فحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس أن استوى بمعنى استقر وهذا إن صح يحتاج إلى تأويل فإن الاستقرار يشعر بالتجسيم وعن المعتزلة بمعنى استولى وقهر ورد بوجهين:

أحدهما: بأن الله تعالى مستول على الكونين والجنة والنار وأهلهما فأي فائدة في تخصيص العرش!
الثاني: أن الاستيلاء إنما يكون بعد قهر وغلبة والله تعالى منزه عن ذلك قاله ابن الأعرابي وقال أبو عبيد: بمعنى صعد ورد بأنه يوجب هبوطا منه تعالى حتى يصعد وهو منفي عن الله وقيل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فجعل علا فعلا لا حرفا حكاه الأستاذ إسماعيل الضرير في تفسيره ورد بوجهين:
أحدهما: أنه جعل الصفة فعلا ومصاحف أهل الشام والعراق والحجاز قاطعة بأن على هنا حرف ولو كان فعلا لكتبوها باللام ألف كقوله ولعلا بعضهم على بعض
والثاني: أنه رفع العرش ولم يرفعه أحد من القراء وقيل: تم الكلام عند قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ} ثم ابتدأ بقوله: {اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وهذا ركيك يزيل الآية عن نظمها ومرادها

قال الأستاذ والصواب ما قاله الفراء والأشعري وجماعة من أهل المعاني إن معنى قوله: {اسْتَوَى} أقبل على خلق العرش وعمد إلى خلقه فسماه استواء كقوله: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي قصد وعمد إلى خلق السماء فكذا هاهنا قال: وهذا القول مرضي عند العلماء ليس فيه تعطيل ولا تشبيه قال الأشعري: على هنا بمعنى في كما قال تعالى: {عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} ومعناه أحدث الله في العرش فعلا سماه استواء كما فعل فعلا سماه فضلا ونعمة قال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} فسمى التحبيب والتكريه فضلا ونعمة وكذلك قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} أي فخرب الله بنيانهم وقال: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي قصدهم وكما أن التخريب والتعذيب سماهما إتيانا فكذلك أحدث فعلا بالعرش سماه استواء قال: وهذا قول مرضي عند العلماء لسلامته من التشبيه والتعطيل وللعرش خصوصية ليست لغيره من المخلوقات لأنه أول خلق الله وأعظم والملائكة حافون به ودرجة الوسيلة متصلة به وأنه سقف الجنة وغير ذلك

وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} قيل: النفس هاهنا الغيث تشبيها له بالنفس لأنه مستتر كالنفس
قوله: {ويحذركم الله نفسه} أي عقوبته وقيل: يحذركم الله إياه قوله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} اختار البيهقي معناه أنه المعبود في السماوات والأرض مثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ} وهذا القول هو أصح الأقوال وقال الأشعري في الموجز: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} أي عالم بما فيهما وقيل: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} جملة تامة {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ} كلام آخر وهذا قول المجسمة واستدلت الجهمية بهذه الآية على أنه تعالى في كل مكان وظاهر ما فهموه من الآية من أسخف الأقوال
قوله تعالى: {وجاء ربك والملك} قيل: استعارة الواو موضع الباء لمناسبة بينهما في معنى الجمع إذ الباء موضوعة للإلصاق وهو جمع والواو موضوعة للجمع والحروف ينوب بعضها عن بعض وتقول عرفا: جاء الأمير بالجيش إذا كان مجيئهم مضافا إليه بتسليطه أو بأمره ولا شك أن الملك إنما يجيء بأمره على ما قال تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} فصار كما لو صرح به وقال: جاء الملك بأمر ربك وهو كقوله:

{اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ} أي اذهب أنت بربك أي بتوفيق ربك وقوته إذ معلوم أنه إنما يقاتل بذلك من حيث صرف الكلام إلى المفهوم في العرف
قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قال قتادة: عن شدة وقال إبراهيم النخعي: أي عن أمر عظيم قال الشاعر: *وقامت الحرب عن ساق*
وأصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى معاناة وجد فيه شمر عن ساقه فاستعيرت الساق في موضع الشدة
قوله تعالى: {مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} قال اللغويون: معناه ما فرطت في طاعة الله وأمره لأن التفريط لا يقع إلا في ذلك والجنب المعهود من ذوي الجوارح لا يقع فيه تفريط البتة فكيف يجوز وصف القديم سبحانه بما لا يجوز!
قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} فرغ يأتي بمعنى قطع شغلا أتفرغ لك أي أقصد قصدك والآية منه أي سنقصد لعقوبتكم ونحكم جزاءكم
قوله تعالى: {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً} إن قيل: لأي علة نسب الظن إلى الله وهو شك

قيل: فيه جوابان: أحدهما: أن يكون الظن لفرعون وهو شك لأنه قال قبله: {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} وإني لأظن موسى كاذبا فالظن على هذا لفرعون والثاني : أن يكون تم الكلام عند قوله: {أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} على معنى وإني لأعلمه كاذبا فإذا كان الظن لله كان علما ويقينا ولم يكن شكا كقوله: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ}
وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لم يرد سبحانه بنفي النوم والسنة عن نفسه إثبات اليقظة والحركة لأنه لا يقال لله تعالى يقظان ولا نائم لأن اليقظان لا يكون إلا عن نوم ولا يجوز وصف القديم به وإنما أراد بذلك نفي الجهل والغفلة كقوله: ما أنا عنك بغافل
قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} قال السهيلي: اليد في الأصل كالمصدر عبارة عن صفة لموصوف ولذلك مدح سبحانه وتعالى بالأيدي مقرونة مع الإبصار في قوله: {أُولِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} ولم يمدحهم بالجوارح لأن المدح إنما يتعلق بالصفات لا بالجواهر قال: وإذا ثبت هذا فصح قول الأشعري: إن اليدين في قوله تعالى: {مَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} صفة ورد بها الشرع ولم يقل إنها في معنى القدرة كما قال المتأخرون من أصحابه ولا بمعنى النعمة ولا قطع بشيء من التأويلات تحرزا منه عن مخالفة السلف وقطع بأنها صفة تحرزا عن مذاهب المشبهة

فإن قيل: وكيف خوطبوا بما لا يعلمون إذ اليد بمعنى الصفة لا يعرفونه ولذلك لم يسأل أحد منهم عن معناها ولا خاف على نفسه توهم التشبيه ولا احتاج إلى شرح وتنبيه وكذلك الكفار لو كان لا يعقل عندهم إلا في الجارحة لتعلقوا بها في دعوى التناقض واحتجوا بها على الرسول ولقالوا: زعمت أن الله ليس كمثله شيء ثم تخبر أن له يدا ولما لم ينقل ذلك عن مؤمن ولا كافر علم أن الأمر عندهم كان جليا لا خفاء به لأنها صفة سميت الجارحة بها مجازا ثم استمر المجاز فيها حتى نسيت الحقيقة ورب مجاز كثير استعمل حتى نسي أصله وتركت صفته والذي يلوح من معنى هذه الصفة أنها قريبة من معنى القدرة إلا أنها أخص والقدرة أعم كالمحبة مع الإرادة والمشيئة فاليد أخص من معنى القدرة ولذا كان فيها تشريف لازم
وقال البغوي في تفسير قوله تعالى: {مَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} في تحقيق الله التثنية في اليد دليل على أنه ليس بمعنى النعمة والقوة والقدرة وإنما هما صفتان من صفات ذاته قال مجاهد: اليد هاهنا بمعنى التأكيد والصلة مجازه لما خلقت كقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} قال البغوي: وهذا تأويل غير قوي لأنها لو كانت صلة لكان لإبليس أن يقول إن كنت خلقته فقد خلقتني وكذلك في القدرة والنعمة لا يكون لآدم في الخلق مزية على إبليس وأما قوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فإن العرب تسمي الاثنين جمعا كقوله تعالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا}

وأما العين في الأصل فهي صفة ومصدر لمن قامت به ثم عبر عن حقيقة الشيء بالعين قال: وحينئذ فإضافتها للبارئ في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} حقيقة لا مجاز كما توهم أكثر الناس لأنه صفة في معنى الرؤية والإدراك وإنما المجاز في تسمية العضو بها وكل شيء يوهم الكفر والتجسيم فلا يضاف إلى البارئ سبحانه لا حقيقة ولا مجازا
قال السهيلي: ومن فوائد هذه المسألة أن يسأل عن المعنى الذي لأجله قال: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بحرف على وقال: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} وما الفرق والفرق أن الآية الأولى وردت في إظهار أمر كان خفيا وإبداء ما كان مكنونا فإن الأطفال إذ ذاك كانوا يغذون ويصنعون شرا فلما أراد أن يصنع موسى ويغذى ويربى على جلي أمن وظهور أمر لا تحت خوف واستسرار دخلت على في اللفظ تنبيها على المعنى لأنها تعطي معنى الاستعلاء والاستعلاء ظهور وإبداء فكأنه سبحانه يقول: ولتصنع على أمن لا تحت خوف وذكر العين لتضمنها معنى الرعاية والكلأ وأما قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} فإنه إنما يريد في رعاية منا وحفظ ولا يريد إبداء شيء ولا إظهاره بعد كتم فلم يحتج الكلام إلا معنى على ولم يتكلم السهيلي على حكمة الإفراد في قصة موسى والجمع في الباقي وهو سر لطيف وهو إظهار الاختصاص الذي خص به موسى في قوله: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}

فاقتضى الاختصاص الاختصاص الآخر في قوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} بخلاف قوله: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} واصنع الفلك بأعيننا فليس فيه من الاختصاص ما في صنع موسى على عينه سبحانه
قال السهيلي رحمه الله: وأما النفس فعبارة عن حقيقة الوجود دون معنى زائد وقد استعمل من لفظها النفاسة والشيء النفيس فصلحت للتعبير عنه سبحانه بخلاف ما تقدم من الألفاظ المجازية وأما الذات فقد استوى أكثر الناس بأنها معنى النفس والحقيقة ويقولون ذات البارئ هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله
قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا وإلا لقيل عبدت ذات الله واحذر ذات الله وهو غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في المستحل معناه في حق البارئ تعالى لكن حيث وقع فالمراد به الديانة والشريعة التي هي ذات الله فذات وصف للديانة هذا هو المفهوم من كلام العرب وقد بان غلط من جعلها عبارة عن نفس ما أضيف إليه ومنه إطلاق العجب على الله تعالى في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ} على قراءة حمزة والكسائي بضم التاء على معنى أنهم قد حلوا محل من يتعجب منهم قال الحسين بن الفضل العجب من الله تعالى إنكار الشيء وتعظيمه وهو لغة

العرب وفي الحديث: "عجب ربكم من زللكم وقنوطكم" وقوله: "إن الله يعجب من الشاب إذا لم يكن له صبوة"
قال البغوي وسمعت أبا القاسم النيسابوري قال سمعت أبا عبد الله البغدادي يقول سئل الجنيد عن هذه الآية فقال إن الله لا يعجب من شيء ولكن الله وافق رسوله فقال وإن تعجب فعجب قولهم أي هو كما يقوله
فائدة
كل ما جاء في القرآن العظيم من نحو قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أو {تَتَّقُونَ} أو {تَشْكُرُونَ} فالمعتزلة يفسرونه بالإرادة لأن عندهم أنه تعالى لا يريد إلا الخير ووقوع الشر على خلاف إرادته وأهل السنة يفسرونه بالطلب لما في الترجي من معنى الطلب والطلب غير الإرادة على ما تقرر في الأصول فكأنه قال: كونوا متقين أو مفلحين إذ يستحيل وقوع شيء في الوجود على خلاف إرادته تعالى بل كل الكائنات مخلوقة له تعالى ووقوعها بإرادته تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا
النوع الثامن والثلاثون: معرفة إعجازهوقد اعتنى بذلك الأئمة وأفردوه بالتصنيف منهم القاضي أبو بكر بن الباقلاني قال ابن العربي: ولم يصنف مثله وكتاب الخطابي والرماني والبرهان لعزيزي وغيرهم وهو علم جليل عظيم القدر لأن نبوة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معجزتها الباقية القرآن وهو يوجب الاهتمام بمعرفة الإعجاز قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} وقال سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} فلولا أن سماعه إياه حجة عليه لم يقف أمره على سماعه ولا تكون حجة إلا وهي معجزة وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} فأخبر

الكتاب آية من آياته وأنه كاف في الدلالة قائم مقام معجزات غيره وآيات سواه من الأنبياء ولما جاء به صلى الله عيه وسلم إليهم وكانوا أفصح الفصحاء ومصاقع الخطباء تحداهم على أن يأتوا بمثله وأمهلهم طول السنين فلم يقدروا يقال تحدى فلان فلانا إذا دعاه إلى أمر ليظهر عجزه فيه ونازعه الغلبة في قتال أو كلام غيره ومنه أنا حدياك أي ابرزلي وحدك
واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تحدى العرب قاطبة بالقرآن حين قالوا افتراه فأنزل الله عز وجل عليه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} فلما عجزوا عن الإتيان بعشر سور تشاكل القرآن قال تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} ثم كرر هذا فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} أي من كلام مثله وقيل من بشر مثله ويحقق القول الأول الآيتان السابقتان فلما عجزوا عن أن يأتوا بسورة تشبه القرآن على كثرة الخطباء فيهم والبلغاء قال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فقد ثبت أنه تحداهم به وأنهم لم يأتوا بمثله لعجزهم عنه لأنهم لو قدروا على ذلك لفعلوا ولما عدلوا إلى العناد تارة والاستهزاء أخرى فتارة قالوا: سحر وتارة قالوا: شعر وتارة قالوا: أساطير الأولين كل ذلك من التحير والانقطاع

قال ابن أبي طالب مكي في اختصاره نظم القرآن للجرجاني قال المؤلف: أنزله بلسان عربي مبين بضروب من النظم مختلفة على عادات العرب ولكن الأعصار تتغير وتطول فيتغير النظم عند المتأخرين لقصور أفهامهم والنظر كله جار على لغة العرب ولا يجوز أن ينزله على نظم ليس من لسانهم لأنه لا يكون حجة عليهم بدليل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وفي قوله: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} فأخبر أنهم لم يعلموه لجهلهم به وهو كلام عربي
قال أبو محمد: لا يحتمل أن يكون جهلهم إلا من قبل أنهم أعرضوا عن قبوله ولا يجوز أن يكون نزل بنظم لم يعرفوه إذ لا يكون عليهم حجة وجهلنا بالنظم لتأخرنا عن رتب القوم الذي نزل عليهم جائز ولا يمنع فمن نزل عليهم كان يفهمه إذا تدبره لأنه بلغته ونحن إنما نفهم بالتعليم انتهى وهذا الذي قاله مشكل فإن كبار الصحابة رضي الله عنهم حفظوا البقرة في مدة متطاولة لأنهم كانوا يحفظون مع التفهم وإعجاز القرآن ذكر من وجهين:
أحدهما: إعجاز متعلق بنفسه
والثاني: بصرف الناس عن معارضته

ولا خلاف بين العقلاء أن كتاب الله معجز واختلفوا في إعجازه فقيل إن التحدي وقع بالكلام القديم الذي هو صفة الذات وإن العرب كلفت في ذلك مالا تطيق وفيه وقع عجزها والجمهور على أنه إنه إنما وقع بالدال على القديم وهو الألفاظ فإذا ثبت ذلك فاعلم أنه لا يصح التحدي بشيء مع جهل المخاطب بالجهة التي وقع بها التحدي ولا يتجه قول القائل لمثله إن صنعت خاتما كنت قادرا على أن تصنع مثله إلا بعد أن يمكنه من الجهة التي تدعي عجز المخاطب عنها فنقول الإعجاز في القرآن العظيم إما أن يعني بالنسبة إلى ذاته أو إلى عوارضه من الحركات والتأليف أو إلى مدلوله أو إلى المجموع أو إلى أمر خارج عن ذلك لا جائز أن يكون الإعجاز حصل من جهة ذوات الكلم المفردة فقط لأن العرب قاطبة كانوا يأتون بها ولا جائز أن يكون الإعجاز وقع بالنسبة إلى العوارض من الحركات والتألف فقط لأنه يحوج إلى ما تعاطاه مسيلمة من الحماقة: إنا أعطيناك الجواهر فصل لربك وهاجر إن شانئك هو الكافر ولو كان الإعجاز راجعا في الإعراب والتأليف المجرد لم يعجز صغيرهم عن تأليف ألفاظ معربة فضلا عن كبيرهم ولا جائز أن يقع بالنسبة إلى المعاني فقط لأنها ليست من صنيع البشر وليس لهم قدرة على إظهارها من غير ما يدل عليها ولا جائز أن ترجع إلى المجموع لأنا قد بينا بطلانه بالنسبة إلى كل واحد فيتعين أن يكون الإعجاز لأمر خارج غير ذلك
بيان الأقوال المختلفة في وجوه الإعجاز
وقد اختلف فيه على أقوال
أحدهما- وهو قول النظام-: إن الله صرف العرب عن معارضته وسلب عقولهم وكان

مقدورا لهم لكن عاقهم أمر خارجي فصار كسائر المعجزات وهو قول فاسد بدليل قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرتهم ولو سلبوا القدرة لم يبق فائدة لاجتماعهم لمنزلته منزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى بكبير يحتفل بذكره هذا مع أن الإجماع منعقد على إضافة الإعجاز إلى القرآن فكيف يكون معجزا غيره وليس فيه صفة إعجاز بل المعجز هو الله تعالى حيث سلبهم قدرتهم عن الإتيان بمثله وأيضا يلزم من القول بالصرفة فساد آخر وهو زوال الإعجاز بزوال زمان التحدي وخلو القرآن من الإعجاز وفي ذلك خرق لإجماع الأمة فإنهم أجمعوا على بقاء معجزة الرسول العظمى ولا معجزة له باقية سوى القرآن وخلوه من الإعجاز يبطل كونه معجزة
قال القاضي أبو بكر: ومما يبطل القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا وإنما يكون المنع معجزا فلا يتضمن الكلام فضلا على غيره في نفسه وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكل قادرون على الإتيان بمثله وإنما تأخروا عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه ولا بأعجب من قول

فريق منهم: إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله في هذا الباب وإنما يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد وزعم قوم أن ابن المقفع عارض القرآن وإنما وضع حكما
الثاني: أن وجه الإعجاز راجع إلى التأليف الخاص به لا مطلق التأليف وهو بأن اعتدلت مفرداته تركيبا وزنة وعلت مركباته معنى بأن يوقع كل فن في مرتبته العليا في اللفظ والمعنى واختاره ابن الزملكاني في البرهان
الثالث: ما فيه من الإخبار عن الغيوب المستقبلة ولم يكن ذلك من شأن العرب كقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ} وقوله في أهل بدر: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ

وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} وقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا} وكقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ} وقوله: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} وغير ذلك مما أخبر به بأنه سيقع فوقع ورد هذا القول بأنه يستلزم أن الآيات التي لا خبر فيها بذلك لا إعجاز فيها وهو باطل فقد جعل الله كل سورة معجزة بنفسها
الرابع: ما تضمن من إخباره عن قصص الأولين وسائر المتقدمين حكاية من شاهدها وحضرها وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ} الآية وهو مردود بما سبق نعم هذا والذي قبله من أنواع الإعجاز إلا أنه غير منحصر فيه
الخامس: إخباره عن الضمائر من غير أن يظهر ذلك منهم بقول أو فعل كقوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} وقوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ} وقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ} الآية وكإخباره عن اليهود أنهم لا يتمنون الموت أبدا

السادس: -وصححه ابن عطية وقال-: إنه الذي عليه الجمهور والحذاق وهو الصحيح في نفسه وأن التحدي إنما وقع بنظمه وصحة معانيه وتوالي فصاحة ألفاظه ووجه إعجازه أن الله أحاط بكل شيء علما وأحاط بالكلام كله علما فإذا ترتبت اللفظة من القرآن علم بإحاطته أي لفظة تصلح أن تلي الأولى ويتبين المعنى بعد المعنى ثم كذلك من أول القرآن إلى آخره والبشر معهم الجهل والنسيان والذهول ومعلوم بالضرورة أن أحدا من البشر لا يحيط بذلك وبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة وبهذا النطق يبطل قول من قال: إن العرب كان في قدرتها الإتيان بمثله فلما جاءهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صرفوا عن ذلك وعجزوا عنه
والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين ولهذا ترى البليغ ينقح الخطبة أو القصيدة حولا ثم ينظر فيها فيغير فيها وهلم جرا وكتاب الله سبحانه لو نزعت منه لفظة ثم أدبر لسان العرب على لفظه أحسن منها لم توجد ونحن تتبين لنا البراعة في أكثره ويخفي وجهها في مواضع لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام وقامت الحجة على العالم بالعرب إذ كانوا أرباب الفصاحة ومظنة المعارضة كما قامت

الحجة في معجزة عيسى بالأطباء وفي موسى بالسحرة فإن الله تعالى إنما جعل معجزات الأنبياء بالوجه الشهير أبرع ما تكون في زمن النبي الذي أراد إظهاره فكان السحر في مدة موسى قد انتهى إلى غايته وكذا الطب في زمان عيسى والفصاحة في مدة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
السابع: أن وجه الإعجاز الفصاحة وغرابة الأسلوب والسلامة من جميع العيوب وغير ذلك مقترنا بالتحدي واختاره الإمام فخر الدين وهو قريب مما سبق وقد قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} والمراد: بمثل نظمه بدليل قوله تعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقول من قال: إن الضمير في {مِّنْ مِثْلِهِ} عائد على الله ضعيف بقوله: {بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ} والسياق واحد
الثامن: ما فيه من النظم والتأليف والترصيف وأنه خارج عن جميع وجوه النظم المعتاد في كلام العرب ومباين لأساليب خطاباتهم واختاره القاضي أبو بكر قال: ولهذا لم يمكنهم معارضته

قال: ولا سبيل إلى معرفة إعجاز القرآن من أصناف البديع التي أدعوها في الشعر لأنه ليس مما يخرق العادة بل يمكن استدراكه بالتعلم والتدريب والتصنع له كقول الشعر ورصف الخطب وصناعة الرسالة والحذق في البلاغة وله طريق يسلك فأما شأو نظم القرآن فليس له مثال يحتذى عليه ولا إمام يقتدى به ولا يصح وقوع مثله اتفاقا
قال: ونحن نعتقد أن الإعجاز في بعض القرآن أظهر وفي بعض أدق وأغمض ثم قال القاضي: فإن قيل ما الذي وقع التحدي به؟ أهو الحروف المنظومة؟ أو الكلام القائم بالذات؟ أو غيره؟ قلنا: الذي تحداهم به أن يأتوا على الحروف التي هي نظم القرآن منظومة حكمها متتابعها كتتابعها مطردة كاطرادها ولم يتحدهم إلى أن يأتوا بالكلام القديم الذي لا مثل له وقال بعض الأئمة: ليس الإعجاز المتحدى به إلا في النظم لا في المفهوم لأن المفهوم

لم يمكن الإحاطة به ولا الوقوف على حقيقة المراد منه فكيف يتصور أن يتحدى بما لا يمكن الوقوف عليه إذ هو يسع كل شيء فأي شيء قوبل به ادعى أنه غير المراد ويتسلسل
التاسع: أنه شيء لا يمكن التعبير عنه وهو اختيار السكاكي حيث قال في المفتاح واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة وكما يدرك طيب النغم العارض لهذا الصوت ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوي الفطر السليمة إلا بإتقان علمي المعاني والبيان والتمرن فيهما وقال أبو حيان التوحيدي في البصائر: لم أسمع كلاما ألصق بالقلب وأعلق بالنفس من فصل تكلم به بندار بن الحسين الفارسي وكان بحرا في العلم وقد سئل عن موضع الإعجاز من القرآن فقال هذه مسألة فيها حيف على المفتي وذلك أنه شبيه بقولك ما موضع الإنسان من الإنسان فليس للإنسان موضع من الإنسان بل متى أشرت إلى جملته فقد حققته ودللت على ذاته كذلك القرآن لشرفه لا يشار إلى شيء منه إلا وكان ذلك المعنى آية في نفسه ومعجزة لمحاوله وهدى لقائله وليس في طاقة البشر الإحاطة بأغراض الله في كلامه وأسراره في كتابه فلذلك حارت العقول وتاهت البصائر عنده

العاشر: وهو قول حازم في منهاج البلغاء: إن الإعجاز فيه من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمرارا لا توجد له فترة ولا يقدر عليه أحد من البشر وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة والبلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير المعدود ثم تعرض الفترات الإنسانية فتقطع طيب الكلام ورونقه فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه بل توجد في تفاريق وأجزاء منه والفترات في الفصاحة تقع للفصيح إما بسهو يعرض له في الشيء من غير أن يكون جاهلا به أو من جهل به أو من سآمة تعتري فكره أو من هوى للنفس يغلب عليها فيما يحوش عليها خاطره من اقتناص المعاني سمينا كان أو غثا فهذه آفات لا يخلو منها الإنسان الفاضل والطبع الكامل وهو قريب مما ذكره ابن الزملكاني وابن عطية
الحادي عشر : قال الخطابي في كتابه- وإليه ذهب الأكثرون من علماء النظر -: إن وجه الإعجاز فيه من جهة البلاغة لكن لما صعب عليهم تفصيلها صغوا فيه إلى حكم الذوق والقبول عند النفس قال: والتحقيق أن أجناس الكلام مختلفة ومراتبها في درجة البيان متفاوتة ودرجاتها في البلاغة متباينة غير متساوية فمنها البليغ الرصين الجزل ومنها الفصيح

القريب السهل ومنها الجائز الطلق الرسل وهذه أقسام الكلام الفاضل المحمود دون النوع الهجين المذموم الذي لا يوجد في القرآن شيء منه البتة فالقسم الأول أعلاه والثاني أوسطه والثالث أدناه وأقربه فحازت بلاغات القرآن من كل قسم من هذه الأقسام حصة وأخذت من كل نوع شعبة فانتظم لها بامتزاج هذه الأوصاف نمط من الكلام يجمع صفتي الفخامة والعذوبة وهما على الانفراد في نعوتهما كالمتضادين لأن العذوبة نتاج السهولة والجزالة والمتانة في الكلام يعالجان نوعا من الوعورة فكان اجتماع الأمرين في نظمه مع نبو كل منهما عن الآخر فضيلة خص بها القرآن يسرها الله بلطيف قدرته ليكون آية بينة لنبيه ودلالة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه
وإنما تعذر على البشر الإتيان بمثله لأمور:
منها : أن علمهم لا يحيط بجميع أسماء اللغة العربية وأوضاعها التي هي ظروف المعاني والحوامل ولا تدرك أفهامهم جميع معاني الأشياء المحمولة على تلك الألفاظ ولا تكمل معرفتهم باستيفاء جميع وجوه النظوم التي بها يكون ائتلافها وارتباط بعضها ببعض فيتوصلوا باختيار الأفضل عن الأحسن من وجوهها إلا أن يأتوا بكلام مثله
وإنما يقوم الكلام بهذه الأشياء الثلاثة لفظ حامل ومعنى به قائم ورباط لهما ناظم وإذا تأملت القرآن وجدت هذه الأمور منه في غاية الشرف والفضيلة حتى لا ترى

شيئا من الألفاظ أفصح ولا أجزل ولا أعذب من ألفاظه ولا ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تلاؤما وتشاكلا من نظمه وأما معانيه فكل ذي لب يشهد له بالتقديم في أبوابه والرقي في أعلى درجاته وقد توجد هذه الفضائل الثلاث على التفرق في أنواع الكلام وأما أن توجد مجموعة في نوع واحد منه فلم توجد إلا في كلام العليم القدير الذي أحاط بكل شيء علما وأحصى كل شيء عددا
فخرج من هذا أن القرآن إنما صار معجزا لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنا أصح المعاني من توحيد الله تعالى وتنزيهه في صفاته ودعاء إلى طاعته وبيان لطريق عبادته في تحليل وتحريم وحظر وإباحة ومن وعظ وتقويم وأمر بمعروف ونهي عن منكر وإرشاد إلى محاسن الأخلاق وزجر عن مساويها واضعا كل شيء منها موضعه الذي لا يرى شيء أولى منه ولا يتوهم في صورة العقل أمر أليق به منه مودعا أخبار القرون الماضية وما نزل من مثلات الله بمن عصى وعاند منهم منبئا عن الكوائن المستقبلة في الأعصار الماضية من الزمان جامعا في ذلك بين الحجة والمحتج له والدليل والمدلول عليه ليكون ذلك أوكد للزوم ما دعا إليه وإنباء عن وجوب ما أمر به ونهى عنه

ومعلوم أن الإتيان بمثل هذه الأمور والجمع بين أشتاتها حتى تنتظم وتتسق أمر تعجز عنه قوى البشر ولا تبلغه قدرتهم فانقطع الخلق دونه وعجزوا عن معارضته بمثله ومناقضته في شكله ثم صار المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه منظوما ومرة إنه سحر لما رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه وقد كانوا يجدون له وقعا في القلب وقرعا في النفس يريبهم ويحيرهم فلم يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من الاعتراف ولذلك قالوا: إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وكانوا مرة لجهلهم وحيرتهم يقولون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} مع علمهم أن صاحبهم أمي وليس بحضرته من يملي أو يكتب شيئا ونحو ذلك من الأمور التي أوجبها العناد والجهل والعجز وقد حكى الله عن بعض مردتهم -وهو الوليد بن المغيرة المخزومي- أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه وضرب له الأخماس من رأيه في الأسداس فلم يقدر على أكثر من قوله: {نْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} عنادا وجهلا به وذهابا عن الحجة وانقطاعا دونها
ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمعا لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ

التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما تبدل المعنى الذي يفسد به الكلام أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس كالعلم والمعرفة والشح والبخل والنعت والصفة وكذا بلى ونعم ومن وعن ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك لأن كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بقض معانيها وإن اشتركا في بعضها
ولهذا قال أبو العالية في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} أنه الذي ينصرف ولا يدري عن شفع أو وتر فرد عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال الذين هم في صلاتهم فلم يفرق أبو العالية بين في وعن حتى تنبه له الحسن وقال: المراد به إخراجها عن وقتها
فإن قيل: فهلا جعل في كل سورة نوعا من الأنواع؟ قيل: إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة وفي الآي المجموعة القليلة العدد ليكون أكثر لفائدته وأعم لمنفعته ولو كان لكل باب منه قبيل ولكل معنى سورة مفردة لم تكثر عائدته ولكان الواحد من الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع السورة لا تقوم عليه الحجة به إلا في النوع الواحد الذي تضمنته السورة الواحدة فقط وكان في اجتماع المعاني الكثيرة في السورة الواحدة أوفر حظا وأجدى نفعا من التخيير لما ذكرناه

قال الخطابي: وقلت في إعجاز القرآن وجها آخر ذهب عنه الناس فلا يكاد يعرفه إلا الشاذ في آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس فإنك لا تسمع كلاما غير القرآن منظوما ولا منثورا إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في حال أخرى ما يخلص منه إليه قال الله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ} وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} الآية
قلت: ولهذا أسلم جبير بن مطعم لما سمع قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للطور حتى انتهى إلى قوله: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} قال: خشيت أن يدركني العذاب وفي لفظ كاد قلبي يطير فأسلم وفي أثر آخر أن عمر لما سمع سورة طه أسلم وغير ذلك وقد صنف بعضهم كتابا فيمن مات بسماع آية من القرآن
الثاني عشر: - وهو قول أهل التحقيق-: إن الإعجاز وقع بجميع ما سبق من الأقوال لا بكل واحد عن انفراده فإنه جمع كله فلا معنى لنسبته إلى واحد منها بمفرده مع اشتماله على الجميع بل وغير ذلك مما لم يسبق
فمنها الروعة التي له في قلوب السامعين وأسماعهم سواء المقرين والجاحدين ثم إن سامعه إن كان مؤمنا به بداخله روعة في أول سماعه وخشية ثم لا يزال بجد في قلبه

=============

ج4. كتاب : البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي



هشاشة إليه ومحبة له وإن كان جاحدا وجد فيه مع تلك الروعة نفورا وعيا لانقطاع مادته بحسن سمعه
ومنها: أنه لم يزل ولا يزال غضا طريا في أسماع السامعين وعلى ألسنة القارئين
ومنها: ما ينتشر فيه عند تلاوته من إنزال الله إياه في صورة كلام هو مخاطبة من الله لرسوله تارة ومخاطبة أخرى لخلقه لا في صورة كلام يستمليه من نفسه من قد قذف في قلبه وأوحى إليه ما شاء أن يلقيه إلى عباده على لسانه فهو يأتي بالمعاني التي ألهمها بألفاظه التي يكسوها إياه كما يشاهد من الكتب المتقدمة
ومنها جمعه بين صفتي الجزالة والعذوبة وهما كالمتضادين لا يجتمعان غالبا في كلام البشر لأن الجزالة من الألفاظ التي لا توجد إلا بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة والعذوبة منها ما يضادها من السلاسة والسهولة فمن نحا نحو الصورة الأولى فإنما يقصد الفخامة والروعة في الأسماع مثل الفصحاء من الأعراب وفحول الشعراء منهم ومن نحا نحو الثانية قصد كون الكلام في السماع أعذب وأشهى وألذ مثل أشعار المخضرمين ومن داناهم من المولدين المتأخرين وترى ألفاظ القرآن قد جمعت في نظمه كلتا الصفتين وذلك من أعظم وجوه البلاغة والإعجاز
ومنها جعله آخر الكتب غنيا عن غيره وجعل غيره من الكتب المتقدمة قد يحتاج إلى بيان يرجع فيه إليه كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}

فصل في قدر المعجز من القرآن
قال القاضي أبو بكر: ذهب عامة أصحابنا وهو قول أبي الحسن الأشعري في كتبه إلى أن أقل ما يعجز عنه من القرآن السورة قصيرة كانت أو طويلة أو ما كان بقدرها
قال: فإذا كانت الآية بقدر حروف سورة وإن كانت كسورة الكوثر فذلك معجز قال ولم يقم دليل على عجزهم عن المعارضة في أقل من هذا القدر وذهبت المعتزلة إلى أن كل سورة برأسها فهي معجزة وقد حكي عنهم نحو قولنا إلا أن منهم من لم يشترط كون الآية بقدر السورة بل شرط الآيات الكبيرة وقد علمنا أنه تحداهم تحديا إلى السور كلها ولم يخص ولم يأتوا بشيء منها فعلم أن جميع ذلك معجزوأما قوله تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} فلا يخالف هذا لأن الحديث التام لا تتحصل حكايته في أقل من كلمات سورة قصيرة وهو يؤكد مذهب أصحابنا وإن كان قد يتأول قوله: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} مثله على القبيل دون التفصيل وكذلك يحمل

قولة تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} على القبيل لأنه لم يجعل الحجة عليهم عجزهم عن الإتيان بجميعه من أوله إلى آخره
فإن قيل: هل يعرف إعجاز السور القصار بما يعرف به إعجاز الطوال وهل يعرف إعجاز كل قدر من القرآن بلغ الحد الذي قدرتموه على ما تعرفون به إعجاز سورة البقرة ونحوها؟
قلنا: إن أبا الحسن الأشعري قد أجاب عن ذلك بأن كل سورة قد علم كونها معجزة بعجز العرب عنها وسمعت بعض الكبراء من أهل هذا الشأن يقول إنه يصح أن يكون علم ذلك توقيفا والطريقة الأولى أسد وتظهر فائدتهما في أن الأولى تبين أن ما علم به كون جميع القرآن معجزا موجود في كل سورة قصرت أو طالت فيجب أن يكون الحكم في الكل واحدا والأخرى تتضمن تقدير معرفة إعجاز القرآن بالطريق التي سلكناها

فصل
اعلم أنه سبحانه تحداهم أولا في الإتيان بمثله فقال: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} ثم تحداهم بعشر سور منه وقطع عذرهم بقوله: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} وإنما قال: {مُفْتَرَيَاتٍ} من أجل أنهم قالوا لا علم لنا بما فيه من الأخبار الخالية والقصص البالغة فقيل لهم: مفتريات إزاحة لعللهم وقطعا لأعذارهم فعجزوا فردهم من العشر إلى سورة واحدة من مثله مبالغة في التعجيز لهم فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي يشهدون لكم أنها في نظمه وبلاغته وجزالته فعجزوا فقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} مبالغة في التعجيز وإفحاما لهم {اتَّقُوا النَّارَ} وهذه مبالغة في الوعيد مع أن اللغة لغتهم والكلام كلامهم وناهيك بذلك أن الوليد بن المغيرة- لعنه الله- كان سيد قريش وأحد فصحائهم لما سمعه أخرس لسانه وبلد جنانه وأطفئ بيانه وقطعت حجته وقصم ظهره وظهر عجزه وذهل عقله حتى قال: فد عرفنا الشعر كله هزجه ورجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر! قالت له قريش: فساحر قال: وما هو بساحر قد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثه ولا عقده والله إن لقوله لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمغدق وإن أعلاه لمثمر

وإنه ليعلو ولا يعلى سمعت قولا يأخذ القلوب قالوا: مجنون قال: لا، والله ما هو بمجنون ولا بخنقه ولا بوسوسته ولا رعشته قالوا: كاهن قال: قد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكهان ولا بسجعهم ثم حملته الحمية فنكص على عقبيه وكابر حسه فقال: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}
مسألة في أن التحدي إنما وقع للإنس دون الجن
التحدي إنما وقع للإنس دون الجن لأن الجن ليسوا من أهل اللسان العربي الذي جاء القرآن على أساليبه وإنما ذكروا في قوله: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ} تعظيما لإعجازه لأن الهيئة الاجتماعية لها من القوة ما ليس للأفراد فإذا فرض اجتماع جميع الإنس والجن وظاهر بعضهم بعضا وعجزوا عن المعارضة كان الفريق الواحد أعجز ونظيره في الفقه تقدم الأخ الشقيق على الأخ للأب في ولاية النكاح مع أن الأمومة ليس لها مدخل في النكاح
فصل في أنه هل يعلم إعجاز القرآن ضرورة
قال القاضي: ذهب أبو الحسن الأشعري إلى أن ظهور ذلك على النبي صلى الله عليه

وسلم يعلم ضرورة وكونه معجزا يعلم بالاستدلال وهذا المذهب يحكى عن المخالفين والذي نقوله إن الأعجمي لا يمكنه أن يعلم إعجازه إلا استدلالا وكذلك من ليس ببليغ فأما البليغ الذي أحاط بمذاهب العرب وغرائب الصنعة فإنه يعلم من نفسه ضرورة عجزه وعجز غيره عن الإتيان بمثله
مسألة في الحكمة في تنزيه النبي عليه السلام عن الشعر
قيل: للحكمة تنزيه الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الشعر وجوه:
أحدها: أنه سبحانه أخبر عن الشعراء بأنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون وأن للشعر شرائط لا يسمى الإنسان بغيرها شاعرا كما قال بعضهم وقد سئل عن الشاعر فقال إن هزل أضحك وإن جد كذب فالشاعر بين كذب وإضحاك فنزه الله نبيه عن هاتين الخصلتين وعن كل أمر دنيء وإنا لا نكاد نجد شاعرا إلا مادحا ضارعا أو هاجيا ذا قذع وهذه أوصاف لا تصلح للنبي
والثاني : أن أهل العروض مجمعون كما قال ابن فارس على أنه لا فرق بين صناعة العروض وصناعة الإيقاع إلا أن صناعة الإيقاع تقسم الزمان بالنغم وصناعة العروض تقسمه

بالحروف المتنوعة فلما كان الشعر ذا ميزان يناسب الإيقاع والإيقاع ضرب من الملاهي لم يصلح ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد قال: "لست من دد ولا دد مني"
وأما ما حكي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ألفاظ الوزن فالجواب عنها من وجهين:
أحدهما: أنه لم يقصد بها الشعر ومن حقيقة الشعر قصده قال ابن فارس: الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى ويكون أكثر من بيت لأنه يجوز اتفاق شطر واحد بوزن يشبه وزن الشعر من غير قصد والثاني : أنه صلى الله عليه سلم كان إذا أنشد شيئا من ذلك غيره
فصل في تنزيه الله القرآن عن أن يكون شعرا
مع أن الموزون في الكلام رتبته فوق رتبة المنظوم غير الموزون فإن كل موزون منظوم ولا عكس وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} فأعلم سبحانه أنه نزه القرآن عن نظم الشعر والوزن لأن القرآن مجمع الحق ومنبع الصدق وقصارى أمر الشاعر التحصل بتصوير الباطل في صورة الحق والإفراط في الإطراء والمبالغة في الذم والإيذاء دون إظهار الحق وإثبات الصدق منه كان بالعرض ولهذا قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} أي كاذب ولم يعن أنه

ليس بشعر فإن وزن الشعر أظهر من أن يشتبه عليهم حتى يحتاج إلى أن ينفي عنه ولأجل شهرة الشعر بالكذب سمى المنطقيون القياسات المؤدية في أكثر الأمر إلى البطلان والكذب شعرية
فإن قيل: فقد وجد في القرآن ما وافق شعرا موزونا إما بيت تام أو أبيات أو مصراع كقول القائل:
وقلت لما حاولوا سلوتي
{هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
وقوله: {وَجُفُونٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ } قالوا هذا من الرمل وكقوله: { وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ } قالوا هو مجزوء من الخفيف وقوله: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } قالوا هو من المتقارب أي بإسقاط "مخرجا" وقوله: { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } ويشبعون حركة الميم فيبقى من الرجز وحكي أن أبا نواس ضمنه فقال:
وفتية في مجلس وجوههم
ريحانهم قد عدموا التثقيلا
دانية عليهمو ظلالها
{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً}

وقوله تعالى: {وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} قالوا: هو من الوافر وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ. فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قالوا: هو من الخفيف وقوله تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً. فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً} ونحوه قوله: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً. فَالْحَامِلاتِ وِقْراً. فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} وهو عندهم شعر من بحر البسيط وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} وقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وقوله تعالى:} {فلا فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} وقوله تعالى: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} وقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}

وقوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وقوله تعالى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ }وقوله تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}
ويحكى أنه سمع أعرابي قارئا يقرأ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} قال: كسرت إنما قال: {ياأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ.... إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ } فقيل له: هذا القرآن وليس بشعر
فالجواب قال القاضي أبو بكر: إن الفصحاء منهم لما أورد عليهم القرآن لو اعتقدوه شعرا ولم يروه خارجا عن أساليبهم لبادروا إلى معارضته لأن الشعر منقاد إليهم فلما لم يعمدا إلى ذلك دل على أنهم لم يعتقدوا فيه ذلك فمن استدرك فيه شعرا زعم أنه خفي على أولئك النفر وهم ملوك الكلام مع شدة حاجتهم إلى الطعن في القرآن والغض منه والتوصل إلى تكذيبه بكل ما قدروا عليه فلن يجوز أن يخفي على أولئك وأن يجهلوه ويعرفه من جاء الآن فهو بالجهل حقيق

وحينئذ فالذي أجاب به العلماء عن هذا بأن البيت الواحد وما كان على وزنه لا يكون شعرا وأقل الشعر بيتان فصاعدا وإلى ذلك ذهب أكثر أهل صناعة العربية من أهل الإسلام
وقالوا: أيضا إن ما كان على وزن بيتين إلا أنه يختلف وزنهما وقافيتهما فليس بشعر أصلا ثم منهم من قال إن الرجز ليس بشعر أصلا لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا وكذا ما يقاربه في قلة الأجزاء وعلى هذا يسقط السؤال
ثم يقول: إن الشعر إنما ينطلق متى قصد إليه على الطريق التي تعمد وتسلك ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوي فيه العامي والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه وما يتفق من كل واحد فليس بشعر فلا يسمى صاحبه شاعرا وإلا لكان الناس كلهم شعراء لأن كل متكلم لا ينفك أن يعرض في جملة كلامه ما يتزن بوزن الشعر وينتظم بانتظامه
وقيل: أقل ما يكون من الرجز شعرا أربعة أبيات وليس ذلك في القرآن بحال قال القاضي وهذه الطريق التي سلكوها في الجواب معتمدة أو أكثرها ولو كان ذلك شعرا لكانت النفوس تتشوق إلى معارضته لأن طريق الشعر غير مستصعب على أهل الزمان الواحد وأهله يتقاربون فيه أو يضربون فيه بسهم

فصل في اختلاف المقامات ووضع كل شيء في موضع بلائمه
مما يبعث على معرفة الإعجاز اختلافات المقامات وذكر في كل موضع ما بلائمه ووضع الألفاظ في كل موضع ما يليق به وإن كانت مترادفة حتى لو أبدل واحد منها بالآخر ذهبت تلك الطلاوة وفاتت تلك الحلاوة
فمن ذلك أن لفظ الأرض لم ترد في التنزيل إلا مفردة وإذا ذكرت والسماء مجموعة لم يؤت بها معها إلا مفردة ولما أريد الإتيان بها مجموعة قال: {وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} تفاديا من جمعها
ولفظ البقعة لم تستعمل فيه إلا مفردة كقوله تعالى: {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ}فإن جمعت حسن ذلك ورودها مضافة كقولهم بقاع الأرض
وكذلك لفظ اللب مرادا به العقل كقوله تعالى: {وَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} {لَذِكْرَى لِأُولِي الأَلْبَابِ} فإنه يعذب دون الإفراد
وكذلك قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وفي موضع آخر: {فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} استعمل الجوف في الأول والبطن في الثاني مع اتفاقهما

في المعنى ولو استعمل في أحدهما في موضع الآخر لم يكن له من الحسن والقبول عند الذوق ما لاستعمال كل واحد منهما في موضعه
وأما بالنسبة إلى المقامات فانظر إلى مقام الترغيب وإلى مقام الترهيب فمقام الترغيب كقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} نجده تأليفا لقلوب العباد وترغيبا لهم في الإسلام
قيل: وكان سبب نزولها أنه أسلم عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ثم فتنوا وعذبوا فافتتنوا قال: وكنا نقول: قوم لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا أبدا قوم أسلموا ثم تركوا دينهم بعذاب عذبوا به فنزلت وكان عمر كاتبا فكتب بها عمر بن الخطاب إليهم رضي الله عنه حين فهم قصد الترغيب فآمنوا وأسلموا وهاجروا ولا يلزم دلالتها على مغفرة الكفر لكونه من الذنوب فلا يمكن حملها على فضل الترغيب في الإسلام وتأليف القلوب له لوجوه:
منها أن قوله: {يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} عام دخله التخصيص بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} فيبقى معتبرا فيما عداه
ومنها أن لفظ العباد مضافا إليه في القرآن مخصوص بالمؤمنين قال تعالى: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}

فإن قلت: فلم يكونوا مؤمنين حال الترغيب! قلت كانوا مؤمنين قبله بدليل سبب نزولها وعوملوا هذه المعاملة من الإضافة مبالغة في الترغيب
وأما مقام الترهيب فهو مضاد له كقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا} ويدل على قصد مجرد الترهيب بطلان النصوصية من ظاهرها على عدم المغفرة لأهل المعاصي لأن من للعموم لأنها في سياق الشرط فيعم في جميع المعاصي فقد حكم عليهم بالخلود وهو ينافي المغفرة وكذلك كل مقام يضاد الآخر ويعتبر التفاضل بين العبارتين من وجوه:
أحدها: المعاني الإفرادية بأن يكون بعضها أقوى دلالة وأفخم مسمى وأسلس لفظا ونحوه
الثاني: المعاني الإعرابية بأن يكون مسماها أبلغ معنى كالتمييز مع البدل في قوله تعالى: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً} مع اشتعل الرأس شيبة وهذا أبلغ من اشتعل شيب الرأس
الثالث: مواقع التركيب كقوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فإن الأولى جعل اثنين مفعول يتخذوا وإلهين صفة له تقدمت فانتصبت على الحال والتقدير اتخذوا إلهين اثنين لأن اثنين أعم من إلهين

فصل في اشتمال القرآن على أعلى أنواع الإعجاز
وهو أن يقع التركيب بحيث لا يمتنع أن يوجد ما هو أشد تناسا ولا اعتدالا في إفادة ذلك المعنى
وقد اختلف في أنه: هل تتفاوت فيه مراتب الفصاحة واختار القاضي أبو بكر ابن الطيب في كتاب الإعجاز المنع وأن كل كلمة موصوفة بالذروة العليا وإن كان بعض الناس أحسن إحساسا له من بعض وهذا كما أن بعضهم يفطن للوزن بخلاف بعض واختار أبو نصر بن القشيري في تفسيره التفاوت فقال وقد رد على الزجاج وغيره تضعيفهم قراءة {وَالأَرْحَامِ} بالجر ومثل هذا من الكلام مردود عند أئمة الدين لأن القراءات السبع متواترة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا ثبت شيء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمن رد ذلك فكأنما رد على النبوة وهذا

مقام محذور لا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو فإن العربية تتلقى من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يشك أحد في فصاحته ولعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح منه فإنا لا ندعي أن كل ما في القرآن على أرفع الدرجات في الفصاحة
وإلى هذا نحا الشيخ عز الدين في كتاب المجاز وأورد سؤالا فقال: فإن قلت: فلم لم يأت القرآن جميعه بالأفصح والأملح؟ وقال: فيه إشكال يسر الله حله
قال القاضي صدر الدين موهوب الجزري رحمه الله وقد وقع لي حل هذا الإشكال بتوفيق الله تعالى فأقول البارئ جلت قدرته له أساليب مختلفة على مجاري تصريف أقداره فإنه كان قادرا على إلجاء المشركين إلى الإقرار بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} ولكنه سبحانه أرسل رسوله على أساليب الأسباب والمسببات وجاري العوائد الواقعة من أهل الزمان ولذلك تكون حروب الأنبياء سجالا بينهم وبين الكفار ويبتدئ أمر الأنبياء بأسباب خفيفة ولا تزال تنمى وتشتد كل ذلك يدل على أن أساليبهم في الإرسال على ما هو المألوف والمعتاد من أحوال غيرهم
إذا عرف ذلك كان مجيء القرآن بغير الأفصح والأملح جميعه لأنه تحداهم بمعارضته على المعتاد فلو وقع على غير المعتاد لكان ذلك نمطا غير النمط الذي أراده الله عز وجل في الإعجاز
ولما كان الأمر على ما وصفنا جاء القرآن على نهج إنشاءهم الخطب والأشعار وغيرها ليحصل لهم التمكن من المعارضة ثم يعجزوا عنها فيظهر الفلج بالحجة لأنهم لو لم يتمكنوا لكان لهم أن يقولوا قد أتيت بما لا قدرة لنا عليه فكما لا يصح من أعمى معارضة المبصر

في النظر لا يحسن من البصير أن يقول غلبتك أيها الأعمى بنظري فإن للأعمى أن يقول: إنما تتم لك الغلبة لو كنت قادرا وكان نظرك أقوى من نظري فأما إذا فقد أصل النظر فكيف تصح المعارضة!
فإن قلت: فلو كانت المعجزة شيئا لا يقدر عليه البشر كإحياء الموتى وأمثاله فكيف كان ذلك أدعى إلى الانقياد؟
قلت هذا السؤال سبق الجواب عنه في الكلام وإن أساليب الأنبياء تقع على نهج أساليب غيرهم
فإن قلت: فما ذكرته يدل على أن عجز العرب عن معارضته وإنما كانت لصرف دعاويهم مع أن المعارضة كانت مقدورة لهم
قلت: قد ذهب بعض العلماء إلى ذلك ولكن لا أراه حقا ويندفع السؤال المذكور وإن كان الإعجاز في القرآن بأسلوبه الخاص به إلا أن الذين قالوا بأن المعجز فيه هو الصرفة مذهبهم أن جميع أساليبه جميعا ليس على نهج أساليبهم ولكن شاركت أساليبهم في أشياء:
منها: أنه بلغتهم
ومنها: أن آحاد الكلمات قد كانوا يستعملونه في خطهم وأشعارهم ولكن تمتاز بأمور أخر منها غرابة نظمه الخاص الذي ليس مشابها لأجزاء الشعر وأوزانه وهزجه ورجزه وغير ذلك من ضروبه فأما توالي نظمه من أوله إلى آخره بأن يأتي بالأفصح والأملح فهذا مما وقعت فيه المشاركة لكلامهم فبذلك امتاز هذا المذهب عن مذهب من يقول إنه كان جميعه مقدورا لهم وإنما صرفت دواعيهم عن المعارضة انتهى وقد سبق اختيار القاضي أنه ليس على أساليبهم البتة فيبقى السؤال بحاله

تنبيه في أن معرفة مقامات الكلام لا تدرك إلا بالذوق
ذكر ابن أبي الحديد: اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والرشق والجلي والأجلى والعلي والأعلى من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ولا يمكن إقامة الدلالة المنطقية عليه وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة حمرة ودقيقة الشفتين نقية الشعر كحلاء العين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن لكنها أحلى في العيون والقلوب منها وأليق وأملح ولا يدرى لأي سبب كان ذلك لكنه بالذوق والمشاهدة يعرف ولا يمكن تعليله وهكذا الكلام نعم يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها يدركه كل من له عين صحيحة وأما الكلام فلا يعرفه إلا بالذوق وليس كل من اشتغل بالنحو أو باللغة أو بالفقه كان من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة فإلى أولئك ينبغي أن يرجع في معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض


النوع التاسع والثلاثون: معرفة وجوب تواترهلا خلاف أن كل ما هو من القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من علماء أهل السنة كذلك أي يجب أن يكون متواترا فإن العلم اليقيني حاصل أن العادة قاضية بأن مثل هذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وأنه الهادي للخلق إلى الحق المعجز الباقي على صفحات الدهر الذي هو أصل الدين القويم والصراط المستقيم فمستحيل ألا يكون متواترا في ذلك كله إذ الدواعي تتوافر على نقله على وجه التواتر وكيف لا وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} والحفظ إنما يتحقق بالتواتر وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} والبلاغ العام إنما هو بالتواتر فما لم يتواتر مما نقل آحادا نقطع بأنه ليس من القرآن
وذهب كثير من الأصوليين إلى أن التواتر شرط في ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله وليس بشرط في محله ووضعه وترتيبه بل يكثر فيها نقل الآحاد وهو الذي يقتضيه صنع الشافعي في إثبات البسملة من كل سورة ورد بأن الدليل السابق يقتضى التواتر في الجميع ولأنه لو لم يشترط لجاز سقوط

كثير من القرآن المكرر وثبوت كثير مما ليس بقرآن
أما الأول : فلأنا لو لم نشترط التواتر في المحل جاز ألا يتواتر كثير من المتكررات الواقعة في القرآن مثل: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} و{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}
وأما الثاني : فلأنه إذا لم يتواتر بعض القرآن بحسب المحل جاز إثبات ذلك البعض في الموضع بنقل الآحاد وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: ذهب قوم من الفقهاء والمتكلمين إلى إثبات قرآن حكما لا علما بخبر الواحد دون الاستفاضة وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه
وقال قوم من المتكلمين: إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات قراءة وأوجه وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابا في اللغة العربية وإن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وملم قرأها بخلاف موجب رأي القياسيين واجتهاد المجتهدين وأبى ذلك أهل الحق وأنكروه وخطأوا من قال بذلك وصار إليه
قال القاضي: وقد رد الله عنه طعن الطاعنين واختلاف الضالين وليس المعتبر في العلم بصحة النقل والقطع على فنونه بألا يخالف فيه مخالف وإنما المعتبر في ذلك مجيئه عن قوم بهم ثبت التواتر وتقوم الحجة سواء اتفق على نقلهم أو اختلف فيه ولهذا لا يبطل النقل إذا ظهر واستفاض واتفق عليه إذا حدث خلاف في صحته لم يكن من قبل وبذلك يسقط اعتراض الملحدين في القرآن وذلك دليل على صحة نقل القرآن

وحفظه وصيانته من التغيير ونقض مطاعن الرافضة فيه من دعوى الزيادة والنقص كيف وقد قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وقوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} وأجمعت الأمة أن المراد بذلك حفظه على المكلفين للعمل به وحراسته من وجوه الغلط والتخليط وذلك وجب القطع على صحة نقل مصحف الجماعة وسلامته
فصل
والمعوذتان من القرآن واستفاضتهما كاستفاضة جميع القرآن وأما ما روي عن ابن مسعود قال القاضي أبو بكر فلم يصح عنه أنهما ليسا بقرآن ولا حفظ عنه أنه حكهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلات
قال القاضي: ولا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو إلى أبي بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحد من ولده أو عترته جحد آية أو حرف من كتاب الله وتغييره أو قراءته على خلاف الوجه المرسوم في مصحف الجماعة بأخبار الآحاد وأن ذلك لا يحل ولا يسمع بل لا تصلح إضافته إلى أدنى المؤمنين في عصرنا فضلا عن أضافته إلى رجل من الصحابة وإن كلام القنوت المروي عن أبي بن كعب أثبته في مصحفه لم تقم حجة بأنه

قرآن منزل بل هو ضرب من الدعاء وأنه لو كان قرآنا لنقل نقل القرآن وحصل العلم بصحته وأنه يمكن أن يكون منه كلام كان قرآنا منزلا ثم نسخ وأبيح الدعاء به وخلط بكلام ليس بقرآن ولم يصح ذلك عنه وإنما روي عنه أنه أثبته في مصحفه وقد ثبت في مصحفه ما ليس بقرآن من دعاء وتأويل
وقال النووي في شرح المهذب: أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة من القرآن وأن من جحد منها شيئا كفر وما نقل عن ابن مسعود باطل وليس بصحيح
وقال ابن حزم في أول كتابه المحلى: هذا كذب على ابن مسعود وموضوع وإنما صح عنه قراءة عاصم عن زر بن حبيش عنه وفيها المعوذتان والفاتحة
وقال القاضي أبو بكر بن الطيب في كتاب التقريب: لم ينكر عبد الله بن مسعود كون المعوذتين والفاتحة من القرآن وإنما أنكر إثباتهما في المصحف وإثبات الحمد لأنه كانت السنة عنده ألا يثبت إلا ما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإثباته وكتبه ولم نجده كتب ذلك ولا سمع أمره به وهذا تأويل منه وليس جحدا لكونهما قرآنا
وفي صحيح ابن حبان عن زر قلنا لأبي بن كعب: إن ابن مسعود لا يكتب في مصحفه المعوذتين فقال: قال لي رسول الله صلى عليه وسلم: قال لي جبريل: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} فقلتها وقال لي: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} فقلتها فنحن نقول ما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ


النوع الأربعون: في بيان معاضدة السنة للقرآناعلم أن القرآن والحديث أبدا متعاضدان على استيفاء الحق وإخراجه من مدارج الحكمة حتى إن كل واحد منهما يخصص عموم الآخر ويبين إجماله
ثم منه ما هو ظاهر ومعه ما يغمض وقد اعتنى بإفراد ذلك بالتصنيف الإمام أبو الحكم ابن برجان في كتابه المسمى بالإرشاد وقال: ما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من شيء فهو في القرآن وفيه أصله قرب أو بعد فهمه من فهمه وعمه عنه من عمه قال الله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} ألا تسمع إلى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الرجم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" وليس في نص كتاب الله الرجم وقد أقسم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يحكم بينهما بكتاب الله ولكن الرجم فيه تعريض مجمل في قوله تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ}
وأما تعيين الرجم من عموم ذكر العذاب وتفسير هذا المجمل فهو مبين بحكم الرسول وبأمره به وموجود في عموم قوله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ}وقوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ}

وهكذا حكم جميع قضائه وحكمه على طرقه التي أتت عليه وإنما يدرك الطالب من ذلك بقدر اجتهاده وبذل وسعه ويبلغ منه الراغب فيه حيث بلغه ربه تبارك وتعالى لأنه واهب النعم ومقدر القسم
وهذا البيان من العلم جليل وحظه من اليقين جزيل وقد نبهنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على هذا المطلب في مواضع كثيرة من خطابه
منها حين ذكر ما أعد الله تعالى لأوليائه في الجنة فقال: "فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما اطلعتم عليه" ثم قال: "اقرءوا إن شئتم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ}
ومنها قالوا يا رسول الله: ألا نتكل وندع العمل؟ فقال: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له" ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى}
ووصف الجنة فقال: "فيها شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ولا يقطعها" ثم قال: "اقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ}
فأعلمهم مواضع حديثه من القرآن ونبههم على مصداق خطابه من الكتاب ليستخرج علماء أمته معاني حديثه طلبا لليقين ولتستبين لهم السبيل حرصا منه عليه السلام على أن يزيل عنهم الارتياب وأن يرتقوا في الأسباب ثم بدأ رضي الله عنه بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وقال: موضعه نصا في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} إلى قوله: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}

ونظيرها في هود والشورى
وموضع التصريح به قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} و{مَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ}
وأما التعريض فكثير مثل قوله: { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} {من مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} قد علم الله عز وجل أنهم كانوا يريدون الاعتزاز لأن الإنسان مجبول على طلب العزة فمخطئ أو مصيب فمعنى الآية والله أعلم بلغ هؤلاء المتخذين الكافرين أولياء من دون الله من ابتغاء العزة بهم أنهم قد أخطأوا مواضعها وطلبوها في غير مطلبها فإن كانوا يصدقون أنفسهم في طلبها فليوالوا الله جل جلاله وليوالوا من والاه {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فكان ظاهر آية النساء تعريضا لظاهر آية المنافقين وظاهر أية المنافقين تعريضا بنص الحديث المروي
ومن ذلك حديث جبريل في الإيمان والإسلام بين فيه أن الشهادة بالحق والأعمال الظاهرة هي الإسلام وأن عقد القلب على التصديق بالحق هو الإيمان وهو

نص الحديث الذي رواه ابن أبي شيبة في مسنده: الإسلام ظاهر والإيمان في القلب موضعه من القرآن: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً} وقوله: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ} ونظائرها {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قال: بنيت هاتين الصفتين على الصفات العليا صفات الله- تعالى ظهورها- من الأسماء الحسنى: اسم السلام واسم المؤمن
ومن ذلك حديث ضمام بن ثعلبة: "أفلح إن صدق" في قوله: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قال لا إله إلا الله حرمه الله على النار" في قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ} وهو مفهوم من قوله: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} فأخبر أنهم دخلوا النار من أجل استكبارهم وإبائهم من قول لا إله إلا الله مفهوم هذا أنهم إذا قالوها مخلصين بها حرموا على النار
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" في قوله تعالى: {حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ} وقوله: {والْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ} وهذه الأربع كلمات جمعن حسن الصحبة للخلق لأن من كف سره وأذاه وقال خيرا أو صمت عن الشر وأفضل على جاره وأكرم ضيفه فقد نجا من النار ودخل الجنة إذا كان مؤمنا وسبقت له الحسنى فإن

العاقبة مستورة والأمور بخواتيمها ولهذا قيل لا يغرنكم صفاء الأوقات فإن تحتها غوامض الآفات
وقوله: "رأس الكفر نحو المشرق" في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى} الآية فأخبر أن الناظر في ملكوت الله لا بد له من ضروب الامتحان وأن الهداية يمنحها الله للناظر بعد التبري منها والمعصوم من عصمه الله قال تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} وقال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} وطلوع الكواكب نحو المشرق ومن هناك إقبالها وذلك أشرف لها وأكبر لشأنها عند المفتونين وغروبها إدبارها وطلوعها بين قرني الشيطان من أجل ذلك ليزينها لهم قال تعالى: {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} ولما كان في مطلع النيرات من العبر بطلوعها من هناك وظهورها عظمت المحنة بهن ولما في الغروب من عدم تلك العلة التي تتبين هناك قرن بتزيين العدو لها وإليه أشار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "وتغرب بين قرني الشيطان" ولأجل ما بين معنى الإقبال والإدبار كان باب التوبة مفتوحا من جهته إلى يوم تطلع الشمس منه ألا تسمع إلى قوله تعالى: {وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} أي وقعت عقولهم عليها وحجبت بها عن حالتها مع قوله: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ}

وفي قوله عند طلوعها: {هَذَا رَبِّي} وعند غروبها: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} ما يبين تصديق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: "رأس الفتنة والكفر نحو المشرق وإن باب التوبة مفتوح من قبل المغرب"
ومن ذلك بدء الوحي في قوله سبحانه: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} إلى قوله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}
وقول خديجة: "والله لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم" وقوله تعالى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} وقوله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} وفي هذا بين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب الغار الثلاثة إذ قال بعضهم لبعض: ليدع كل واحد منكم بأفضل أعماله لعل الله تعالى أن يفرج عنا
وقول ورقة: " يا ليتني حي إذ يخرجك قومك" إلخ وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ} وقوله تعالى: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا}
وكذلك قوله: "لم يأت أحد بما جئت به إلا عودي" من قوله تعالى: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}
ومن ذلك حديث المعراج مصداقه في سورة الإسراء وفي صدر سورة النجم

وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به" من مفهوم قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً}
وبتصديق كلمة الله اتبعه كونا وملة وهكذا حاله حيث جاءت صدقا وعدلا فتطلب صدق كلماته بترداد تلاوتك لكتابه ونظرك في مصنوعاته فهذا هو قصد سبيل المتقين وأرفع مراتب الإيمان قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} وقال لزكريا: {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً} ولما كان عيسى عليه السلام من أسماء كلماته لم يأت يوم القيامة بذنب لطهارته وزكاته
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن الله لا ينام" في قوله: {سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وقوله: "ولا ينبغي له أن ينام" من قوله: {الْقَيُّومُ} وفسره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "يخفض القسط ويرفعه ويرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل" ومصداقه أيضا قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ}
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصلوات الخمس كفارات لما بينهن" وقال: "الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما وزيادة ثلاثة أيام" و"رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما" في قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} فهذا رمضان بعشرة أشهر العام ويبقى شهران داخلان في كرم الله تعالى وحسن معاملته

قلت: قد جاء في حديث آخر: "وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر" مع قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} انتهى
وقال في الجمعة: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} وكذلك قال في الصوم: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أشار إلى سر في الجمعة وفضل عظيم أراهما الزيارة والرؤية في الجنة فإنها تكون في يوم الجمعة وكذلك أشار في الصيام بقوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إلى سر في الصيام وهو حسن عاقبته وجزيل عائدته فنبه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله يوم القيامة من ريح المسك"
وقوله وقد رأى أعقابهم تلوح لم يصبها الماء: "ويل للأعقاب من النار" في مفهوم {فَاغْسِلُوا} في معنى قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وغسل هو قدميه وعمهما غسلا
وقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} مع قوله: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ}
وقوله: "إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه وخرج من كل خطيئة نظر إليها بعينيه" الحديث من قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} أي من ذنوبكم {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ترقون في درجة الشكر فيتقبل أعمالكم القبول الأعلى

ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وكان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة فله الشكر والشكر درجات" وإنما يتبين بأن يبقى من العمل بعد الكفارة فضل وهو النافلة وهو المسمى بالباقيات الصالحات لمن قلت ذنوبه وكثرت صالحاته فذلك الشكر ومن كثرت ذنوبه وقلت صالحاته فأكلتها الكفارات فذلك المرجو له دخول الجنة ومن زادت ذنوبه فلم تقم صالحاته بكفارة ذنوبه فذلك المخوف عليه {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً}
قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنتم الغر المحجلون يوم القيامة" في قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}
وكذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء" وهذا كله داخل في قوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} وجاءت لام كي ها هنا إشعارا ووعدا وبشارة لهم بنعم أخرى واردة عليهم من الشرائع لم تأت بعد ولذلك قال يوم الإكمال في حجة الوداع {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}
ومن ذلك حديث الأذان وكيفيته بقوله: "أشهد أن لا إله إلا الله" من قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ } وتكرارها في قوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}
وقوله: "أشهد أن محمدا رسول الله" في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ}

{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} مع قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} وتكرار الشهادة للرسول في معنى قوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً} مع قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} والتنبيه أول الكثرة ولأنها عبارة شرعت للإعلام فتكرارها آكد فيما شرعت له
وأما إسراره بهما يعنى بالشهادتين فمن مفهوم قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وأما إجهاره بهما ففي قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} والنداء الإعلام ولا يكون إلا بنهاية الجهر
وقوله: "حي على الصلاة" في قوله: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ}
وقوله: "حي على الفلاح" في قوله: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وقوله: "الصلاة خير من النوم" في قوله: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} وقوله: {وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ}
وقوله: "الله أكبر الله أكبر" من قوله: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}

وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} كررها وختم بها في قوله: {اذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} "وأفضل الذكر لا إله إلا الله" فختم بما بدأ به لقوله: {هُوَ الأَوَّلُ وَالْآخِرُ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صلوا علي فإنه من صلى على واحدة صلى الله عليه بها عشرا" في قوله: { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثم سلوا الله لي الوسيلة" في قوله: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}
وقوله: "حلت له شفاعتي يوم القيامة" في قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك وكل به كلما دعا لأخيه بشيء قال الملك: آمين " "ولك بمثله" في قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى أخر السورة هذا دعاء من يأتي به لنفسه ولجماعة المسلمين بظهر الغيب تقول الملائكة في السماء آمين وقد قال تعالى: "ولعبدي ما سأل"
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن إبراهيم حرم مكة وأنا حرمت المدينة" وقوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} يريد مكة ثم قال: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا

الْبَلَدِ} يمكن أن يريد به المدينة ويكون في الآية تعريض بحرمة البلدين حيث أقسم بهما وتكراره البلد مرتين دليل على ذلك وجعل الاسمين لمعنيين أولى من أن يكونا لمعنى واحد وأن يستعمل الخطاب في البلدين أولى من استعماله في أحدهما بدليل وجود الحرمة فيهما
ومن ذلك حديث الدجال
قلت: وقع سؤال بين جماعة مت الفضلاء في أنه: ما الحكمة أنه لم يذكر الدجال في القرآن وتلمحوا في ذلك حكما ثم رأيت هذا الإمام قال: إن في القرآن تعريضا بقصته في قصة السامري وقوله سبحانه: {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} وقوله في سورة الإسراء في قوله: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} فذكر الوعد الأول ثم ذكر الكرة التي لبني إسرائيل عليه ثم ذكر الآخرة فقال: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} الآية ثم قال: {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} وفيه إشارة إلى خروج عيسى
وكذلك هو في الآيات الأول من سورة الكهف في قوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} والدجال مما على الأرض ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قرأ الآيات من أول سورة الكهف عصمه الله من فتنة الدجال" يريد والله أعلم: من

قرأها بعلم ومعرفة وهو أيضا في المفهوم من قوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} {وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}
ومن الأمر بمجاهدة المشركين والمنافقين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تخرج الأرض أفلاذ كبدها ويحسر الفرات عن جبل من ذهب" في قوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا} فإن الأرض تلقي ما فيها من الذهب والفضة حتى يكون آخر ما تلقي الأموات أحياء
ومصداقه أيضا في عموم قوله: {يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} فتوجه القرآن إلى الإخبار عن إخراجها الأموات أحياء وتوجه الحديث إلى الإخبار عن إخراجها كنوزها ومعادنها
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حتى تعود أرض العرب مروجا" في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ} الآية وذلك يكون عند إتمام كلمة الحق: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وقد تولوا وقوله: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} يومئذ تظهر العقبة ويلقي الأمر بجرانه وتضع الحرب أوزارها ويكن ذلك علما على الساعة وآية على قرب الانقراض
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مثل الدنيا: "إن مما أخاف عليكم ما يفتح عليكم من

زهرة الدنيا وزينتها" في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الإِِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} وقوله: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ}
ومن ذلك قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين" في مفهوم قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى أن الصوم ينتهي نفعه إلى اكتساب التقوى ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الصيام جنة" ولا يكون ذلك إلا بضعف حزب الشيطان فتغلق عنه أبواب المعاصي وهي أبواب جهنم وتفتح له أبواب الطاعة والقربات وهي أبواب الجنات
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تسحروا فإن في السحور بركة" من آثار قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ} ومن بركته حضوره الذي هو وصف نزوله جل وعلا إلى سماء الدنيا كل ليلة فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبتغي البركة في موضع خطاب ربه وفي موضع حضوره أو ذكره أو اسم من أسمائه ومن هنا وقع التعبد باسم المبارك واسم القدوس
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أقبل الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم" في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} وقوله: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} والبركة في اتباع مجارى خطابه وإن كان الخطاب حكمه حكم إباحة كما أن البركة في اتباع السنة والاقتداء ولهذا كان أكثر الصحابة لا يصلون المغرب إلا على فطر وكانوا يؤخرون السحور إلى

بزوغ الفجر ابتغاء البركة في ذلك والخير الموعود به
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقين" في معنى قوله حكاية عن خليله: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} والمعنى بما يفتح الله لخاصته من خلقه الذين لا يطعمون إنما غذاؤهم التسبيح والتهليل والتحميد
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث الصعب بن جثامة: "إنا لم نرده عليك إلا أنّا حُرُم" في مفهوم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والآكل راض والراضي شريك
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث حنظلة: "لو أنكم تدومون على ما كنتم عندي لصافحتكم الملائكة ولكن ساعة وساعة" في قوله: {وَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} وقوله: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ. ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} فذكر تعالى اللجأ إليه عندما يلحق الإنسان الضر وهو ذكر صوري فلو كان الذكر بينهم على الدوام لم تفارقهم الملائكة السياحون الملازمون حلق الذكر كما قال تعالى عنهم: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} ولو قربوا من الملائكة هذا القرب لبدت لهم عيانا ولأكرمهم الله منه بحسن الصحبة وجميل الألفة
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يبعث كل عبد على ما مات عليه" في قوله تعالى:

{سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا أراد الله بقوم عذابا أصاب من كان منهم ثم يبعثون على أعمالهم" في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" في قوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} ومع قوله: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} مع ما جاء من نبإ ابني آدم
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جواب من سأله أي الصدقة أعظم؟ قال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم" والحديث في قوله تعالى: {قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً}
وقوله: "اليد العليا خير من اليد السفلى" في قوله تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} وقد جاء أن اليد السفلى الآخذة والعليا هو المعطية وشاهده قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكاية عن الله تعالى: "من يقرض غير عديم ولا

ظلوم" ووجه ذلك أن العطية من أيدينا مفتقرة إلى من يضع فيها حقا وجب عليها ويطهرها بذلك من ذنوبها وأنجاسها ولولا اليد الآخذة ما قدر صاحب المال على صدقة
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من يرد الله به خيرا يفقهه" في قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} إلى قوله: {لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقوله: {انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} وقوله: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ} ووصف من لم يفهم عن المخلوقات بقوله: {لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ثم أعلم سبحانه سعة مغفرته لمن في الأرض الذين لا يسبحونه ولا يفقهون تسبيح المسبحين من خلقه ثم أعلم بالعلة التي لأجلها حرموا الفقه عن ربهم وأن ذلك هو ختم عقوبة الإعراض بقوله: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً. وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} الآية
وبالجملة فالقرآن كله لم ينزله تعالى إلا ليفهمه ويعلم ويفهم ولذلك خاطب به أولي الألباب الذين يعقلون والذين يعلمون والذين يفقهون والذين يتفكرون ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب
وكذلك ما خلق الله الدنيا إلا مثالا للآخرة فمن فقه عن ربه عز وجل مراده منها فقد أراح نفسه وأجم فكره من هذه الجملة
وفي هذا النوع من الفقه أفنى أولو الألباب أعمارهم وفي تعريفه أتعبوا قلوبهم وواصلوا أفكارهم
رزقنا الله من فضله العظيم نورا نمشي به في الظلمات وفرقانا نفرق به بين المتشابهات


النوع الحادي والأربعون: معرفة تفسيره وتأويلهمعاني العبارات التي يعبر بها عن الأشياء
وهو يتوقف على معرفة تفسيره وتأويله ومعناه قال ابن فارس معاني العبارات التي يعتبر بها عن الأشياء ترجع إلى ثلاثة المعنى والتفسير والتأويل وهي وإن اختلفت فالمقاصد بها متقاربة
فأما المعنى فهو القصد والمراد يقال: عنيت بهذا الكلام كذا أي قصدت وعمدت وهو مشتق من الإظهار يقال عنت القربة إذا لم تحفظ الماء بل أظهرته ومنه عنوان الكتاب
وقيل: مشتق من قولهم عنت الأرض بنبات حسن إذا انبتت نباتا حسنا
قلت: وحيث قال المفسرون: قال أصحاب المعاني فمرادهم مصنفو الكتب في

معاني القرآن كالزجاج ومن قبله وغيرهم وفي بعض كلام الواحدي أكبر أهل المعاني الفراء والزجاج وابن الأنباري قالوا كذا كذا ومعاني القرآن للزجاج لم يصنف مثله وحيث أطلق المتأخرون أهل المعاني فمرادهم بهم مصنفو العلم المشهور
وأما التفسير في اللغة: فهو راجع إلى معنى الإظهار والكشف وأصله في اللغة من التفسرة وهي القليل من الماء الذي ينظر فيه الأطباء فكما أن الطبيب بالنظر فيه يكشف عن علة المريض فكذلك المفسر يكشف عن شأن الآية وقصصها ومعناها والسبب الذي أنزلت فيه وكأنه تسمية بالمصدر لأن مصدر فعل جاء أيضا على تفعلة نحو جرب تجربة وكرم تكرمة
وقال ابن الأنباري: قول العرب فسرت الدابة وفسرتها إذا ركضتها محصورة لينطلق حصرها وهو يؤول إلى الكشف أيضا
فالتفسير كشف المغلق من المراد بلفظه وإطلاق للمحتبس عن الفهم به ويقال: فسرت الشيء أفسره تفسيرا وفسرته أفسره فسرا والمزيد من الفعلين أكثر في الاستعمال وبمصدر الثاني منها سمى أبو الفتح ابن جني كتبه الشارحة الفسر
وقال آخرون: هو مقلوب من سفر ومعناه أيضا الكشف يقال: سفرت المرأة سفورا إذا ألقت خمارها عن وجهها وهي سافرة وأسفر الصبح أضاء وسافر فلان وإنما بنوه على التفعيل لأنه للتكثير كقوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ} {وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ }فكأنه يتبع سورة بعد سورة وآية بعد أخرى

وقال ابن عباس في قوله تعالى: {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} أي تفصيلا
وقال الراغب: الفسر والسفر يتقارب معناهما كتقارب لفظيهما لكن جعل الفسر لإظهار المعنى المعقول ومنه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة وسمي بها قارورة الماء وجعل السفر لإبراز الأعيان للأبصار فقيل سفرت المرأة عن وجهها وأسفر الصبح
وفي الاصطلاح: هو علم نزول الآية وسورتها وأقاصيصها والإشارات النازلة فيها ثم ترتيب مكيها ومدنيها ومحكمها ومتشابهها وناسخها ومنسوخها وخاصها وعامتها ومطلقها ومقيدها ومجملها ومفسرها
وزاد فيها قوم فقالوا: علم حلالها وحرامها ووعدها ووعيدها وأمرها ونهيها وعبرها وأمثالها وهذا الذي منع فيه القول بالرأي
وأما التأويل فأصله في اللغة من الأول ومعنى قولهم: ما تأويل هذا الكلام؟ أي إلام تؤول العاقبة في المراد به كما قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ} أي تكشف عاقبته ويقال آل الأمر إلى كذا أي صار إليه وقال تعالى: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً}
وأصله من المآل وهو العاقبة والمصير وقد أولته فآل أي صرفته فانصرف فكأن التأويل صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني
وإنما بنوه على التفعيل لما تقدم ذكره في التفسير

وقيل: أصله من الإيالة وهى السياسة فكأن المؤول للكلام يسوى الكلام ويضع المعنى فيه موضعه
الفرق بين التفسير والتأويل
ثم قيل: التفسير والتأويل واحد بحسب عرف الاستعمال والصحيح تغايرهما واختلفوا فقيل: التفسير كشف المراد عن اللفظ المشكل ورد أحد الاحتمالين إلى ما يطابق الظاهر
قال الراغب: التفسير أعم من التأول وأكثر استعماله في الألفاظ وأكثر استعمال التأويل في المعاني كتأويل الرؤيا وأكثره يستعمل في الكتب الإلهية والتفسير يستعمل في غيرها والتفسير أكثر ما يستعمل في معاني مفردات الألفاظ
واعلم أن التفسير في عرف العلماء كشف معاني القرآن وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره وبحسب المعنى الظاهر وغيره والتفسير أكثره في الجمل
والتفسير إما أن يستعمل في غريب الألفاظ كالبحيرة والسائبة والوصيلة أو في وجيز مبين بشرح كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} وإما في كلام مضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها كقوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} وقوله: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا} وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا نحو الكفر يستعمل تارة في الجحود المطلق وتارة في جحود

البارئ خاصة والإيمان المستعمل في التصديق المطلق تارة وفي تصديق الحق تارة وإما في لفظ مشترك بين معان مختلفة
وقيل: التأويل كشف ما انغلق من المعنى ولهذا قال البجلي: التفسير يتعلق بالرواية والتأويل يتعلق بالدراية وهما راجعان إلى التلاوة والنظم المعجز الدال على الكلام القديم القائم بذات الرب تعالى
قال أبو نصر القشيري: ويعتبر في التفسير الاتباع والسماع وإنما الاستنباط فيما يتعلق بالتأويل وما لا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين أو أكثر فإن وضع لأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجاز كلفظه المس فإن تنافى الجمع فمجمل يتوقف على البيان من غيره وإن تنافيا فقد قال قوم يحمل على المعنيين والوجه عندنا التوقف
وقال أبو القاسم بن حبيب النيسابوري والبغوي والكواشي وغيرهم: التأويل صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط
قالوا: وهذا غير محظور على العلماء بالتفسير وقد رخص فيه أهل العلم وذلك مثل قوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} قيل: هو الرجل يحمل في الحرب على مائة رجل وقيل: هو الذي يقنط من رحمة الله وقيل: الذي يمسك عن النفقة وقيل: الذي ينفق الخبيث من ماله وقيل: الذي يتصدق بماله كله ثم يتكفف الناس ولكل منه مخرج ومعنى

ومثل قوله تعالى للمندوبين إلى الغزو عند قيام النفير: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} قيل: شيوخا وشبابا وقيل: أغنياء وفقراء وقيل: عزابا ومتأهلين وقيل: نشاطا وغير نشاط وقيل: مرضى وأصحاء وكلها سائغ جائز والآية محمولة عليها لأن الشباب والعزاب والنشاط والأصحاء خفاف وضدهم ثقال
ومثل قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قيل: الزكاة المفروضة وقيل: العارية أو الماء أو النار أو الكلأ أو الرفد أو المغرفة وكلها صحيح لأن مانع الكل آثم
وكقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} فسره أبو عبيد أي لا يدوم وقال ثعلب: أي على شك وكلاهما قريب لأن المراد انه غير ثابت على دينه ولا تستقيم البصيرة فيه
وقيل: في القرآن ثلاث آيات في كل منها مائة قول قوله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} {وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِِحْسَانُ}
فهذا وأمثاله ليس محظورا على العلماء استخراجه بل معرفة واجبة ولهذا قال تعالى: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} ولولا أن له تأويلا سائغا في اللغة لم يبينه سبحانه والوقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ} قال القاضي أبو المعالي: إنه قول الجمهور وهو مذهب ابن مسعود

وأبي بن كعب وابن عباس وما نقله بعض الناس عنهم بخلاف ذلك فغلط
فأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض لقوله تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ} أنهما علي وفاطمة {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما
وكذلك قالوا في قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} إنه معاوية وغير ذلك
قال الإمام أبو القاسم محمد بن حبيب النيسابوري رحمه الله: وقد نبغ في زماننا مفسرون لو سئلوا عن الفرق بين التفسير والتأويل ما اهتدوا إليه لا يحسنون القرآن تلاوة ولا يعرفون معنى السورة أو الآية ما عندهم إلا التشنيع عند العوام والتكثر عند الطغام لنيل ما عندهم من الحطام أعفوا أنفسهم من الكد والطلب وقلوبهم من الفكر والتعب لاجتماع الجهال عليهم وازدحام ذوي الأغفال لديهم لا يكفون الناس من السؤال ولا يأنفون عن مجالسة الجهال مفتضحون عند السبر والذواق زائغون عن العلماء عند التلاق يصادرون الناس مصادرة السلطان ويختطفون ما عندهم اختطاف السرحان يدرسون بالليل صفحا ويحكونه بالنهار شرحا إذا سئلوا غضبوا وإذا نفروا هربوا القحة رأس مالهم والخرق والطيش خير خصالهم يتحلون بما ليس فيهم ويتنافسون فيما يرذلهم الصيانة عنهم بمعزل وهم من الخنى والجهل في جوف منزل وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور" وقد قيل:

من تحلى بغير ما هو فيه
فضحته شواهد الامتحان
وجرى في السباق جرية
سِكِّيت نفته الجياد عند الرهان
قال: حكي عن بعضهم أنه سئل عن الحاقة فقال: الحاقة جماعة من الناس إذا صاروا في المجلس قالوا: كنا في الحاقة وقال آخر في قوله تعالى: {يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} قال: أمر الأرض بإخراج الماء والسماء بصب الماء وكأنه على القلب وعن بعضهم في قوله تعالى: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ} قال: إن الله ليسألكم عن الموءودات فيما بينكم في الحياة الدنيا
وقال آخر في قوله: {فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} قال: إنهم تعبوا في الدنيا فإذا دخلوا الجنة تنعموا
قال أبو القاسم: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى ابن معاذ الرازي يقول: أفواه الرجال حوانيتها وأسنانها صنائعها فإذا فتح الرجل باب حانوته تبين العطار من البيطار والتمار من الزمار والله المستعان على سوء الزمان وقلة الأعوان
فصل في حاجة المفسر إلى الفهم والتبحر في العلوم
كتاب الله بحره عميق وفهمه دقيق لا يصل إلى فهمة إلا من تبحر في العلوم وعامل الله بتقواه في السر والعلانية وأجله عند مواقف الشبهات واللطائف والحقائق لا يفهمها إلا من ألقى السمع وهو شهيد فالعبارات للعموم وهي للسمع والإشارات

للخصوص وهي للعقل وللطائف للأولياء وهي المشاهد والحقائق للأنبياء وهي الاستسلام
وللكل وصف ظاهر وباطن وحد ومطلع فالظاهر التلاوة والباطن الفهم والحد إحكام الحلال والحرام والمطلع أي الإشراق من الوعد والوعيد فمن فهم هذه الملاحظة بان له بسط الموازنة وظهر له حال المعاينة وفي صحيح ابن حيان عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أنزل القرآن على سبعة أحرف لكل آية منه ظهر وبطن"
ثم فوائده على قدر ما يؤهل له سمعه فمن سمعه من التالي ففائدته فيه علم أحكامه ومن سمعه كأنما يسمعه من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرؤه على أمته بموعظته وتبيان معجزته وانشراح صدره بلطائف خطابه ومن سمعه كأنما سمعه من جبريل عليه السلام يقرؤه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشاهد في ذلك مطالعات الغيوب والنطق إلى ما فيه من الوعود ومن سمع الخطاب فيه من الحق فني عنده وامحت صفاته وصار موصوفا بصفات التحقيق عن مشاهدة علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوها
وقال ابن مسعود: من أراد علم الأولين والآخرين فليثوّر القرآن
قال ابن سبع في شفاء الصدور: هذا الذي قاله أبو الدرداء وابن مسعود لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر وقال آخر: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم

إذ لكل كلمة علم ثم يتضاعف ذلك أربعة إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع
وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله تعالى وصفاته وفي القرآن شرح ذاته وصفاته وأفعاله فهذه الأمور تدل على أن فهم معاني القرآن مجالا رحبا ومتسعا بالغا وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير ليتقي به مواضع الغلط ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط والغرائب التي لا تفهم إلا باستماع فنون كثيرة ولا بد من الإشارة إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولا ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر
ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن ادعى البلوغ إلى صدر البيت قبل تجاوز الباب فظاهر التفسير يجري مجرى تعلم اللغة التي لا بد منها للفهم وما لا بد فيها من استماع كثير لأن القرآن نزل بلغة العرب فما كان الرجوع فيه إلى لغتهم فلا بد من معرفتها أو معرفة أكثرها إذ الغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق الفهم ليفتح بابه ويستدل المريد بتلك المعاني التي ذكرناها من فهم باطن علم القرآن ظاهره على أن فهم كلام الله تعالى لا غاية له كما لانهاية للمتكلم به فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه للبشر ومن لم يكن له علم وفهم وتقوى وتدبر لم يدرك من لذة القرآن شيئا
ومن أحاط بظاهر التفسير -وهو معنى الألفاظ في اللغة- لم يكف ذلك في فهم حقائق المعاني ومثاله قوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} فظاهر تفسيره واضح وحقيقة معناه غامضة فإنه إثبات للرمي ونفي له وهما متضادان

في الظاهر ما لم يفهم أنه رمى من وجه ولم يرم من جهة ومن الوجه الذي لم يرم ما رماه الله عز وجل
وكذلك قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فإذا كانوا هم القاتلين كيف يكون الله تعالى هو المعذب وإن كان تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال!
فحقيقة هذا تستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات فلا بد أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة وتفهم وجه ارتباط القدرة بقدره الله تعالى حتى تتكشف وتتضح فمن هذا الوجه تفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير
فصل في أمهات مآخذ التفسير للناظر في القرآن
لطالب التفسير مآخذ كثيرة أمهاتها أربعة:
الأول: النقل عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وهذا هو الطراز الأول لكن يجب الحذر من الضعيف فيه والموضوع فإنه كثير وإن سواد الأوراق سواد في القلب قال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ثلاثة كتب ليس لها أصول المغازي والملاحم والتفسير قال المحققون من أصحابه: ومراده أن الغالب أنها ليس لها أسانيد صحاح متصلة وإلا فقد صح من ذلك كثير
فمن ذلك تفسير الظلم بالشرك في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}

وتفسير الحساب اليسير بالعرض رواهما البخاري
وتفسير القوة في {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} بالرمي رواه مسلم
وبذلك يرد تفسير مجاهد بالخيل
وكتفسير العبادة بالدعاء في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي}
الثاني: الأخذ بقول الصحابي
فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قاله الحاكم في تفسيره
وقال أبو الخطاب من الحنابلة: يحتمل ألا يرجع إليه إذا قلنا إن قوله ليس بحجة والصواب الأول لأنه من باب الرواية لا الرأي
وقد أخرج ابن جرير عن مسروق وقال عبد الله بن مسعود: والذي لا إله إلا هو ما نزلت آية في كتاب الله إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت ولو أعلم مكان أحد اعلم بكتاب الله مني تناله المطايا لأتيته وقال أيضا: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعلم معانيهن والعمل بهن
وصدور المفسرين من الصحابة: علي ثم ابن عباس -وهو تجرد لهذا الشأن والمحفوظ عنه أكثر من المحفوظ عن علي إلا أن ابن عباس كان أخذ عن على- ويتلوه عبد الله بن عمرو بن العاص وكل ما ورد عن غيرهم من الصحابة فحسن مقدم

مسألة في الرجوع إلى أقوال التابعين ثم ذكر طبقات المفسرين
وفي الرجوع إلى قول التابعي روايتان عن أحمد واختار ابن عقيل المنع وحكوه عن شعبة لكن عمل المفسرين على خلافة وقد حكوا في كتبهم أقوالهم كالضحاك ابن مزاحم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة وأبي العالية الرياحي والحسن البصري والربيع بن انس ومقاتل بن سليمان وعطاء بن أبي سلمة الخراساني ومرة الهمداني وعلى بن أبي طلحة الوالبي ومحمد بن كعب القرظي وأبي بكر الأصم عبد الرحمن بن كيسان وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي وعكرمة مولى ابن عباس وعطية العوفي وعطاء بن أبي رباح وعبد الله بن زيد بن أسلم
فهذه تفاسير القدماء المشهورين وغالب أقوالهم تلقوها من الصحابة ولعل اختلاف الرواية عن أحمد إنما هو فيما كان من أقوالهم وآرائهم
ومن المبرزين في التابعين الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير ثم يتلوهم عكرمة والضحاك وإن لم يلق ابن عباس وإنما اخذ عن ابن جبير
وأما عامر السدي فكان عامر الشعبي يطعن عليه وعلى أبي صالح لأنه كان يراهما مقصرين في النظر
وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي في كتابه الكامل: للكلبي أحاديث صالحة وخاصة عن أبي صالح وهو معروف بالتفسير وليس لأحد تفسير أطول منه

ولا أشيع فيه وبعده مقاتل بن سليمان إلا أن الكلبي يفضل على مقاتل لما في مقاتل من المذاهب الرديئة ثم بعد هذه الطبقة ألفت تفاسير تجمع أقوال الصحابة والتابعين كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع بن الجراح وشعبة بن الحجاج ويزيد بن هارون والمفضل وعبد الرزاق بن همام الصنعاني وإسحاق بن راهويه وروح بن عبادة ويحيى ابن قريش ومالك بن سليمان الهروي وعبد بن حميد الكشي وعبد الله بن الجراح وهشيم بن بشير وصالح بن محمد اليزيدي وعلي بن حجر بن إياس السعدي ويحيى ابن محمد بن عبد الله الهروي وعلي بن أبي طلحة وابن مردويه وسنيد والنسائي وغيرهم
ووقع في مسند أحمد والبزار ومعجم الطبراني وغيرهم كثير من ذلك
ثم إن محمد بن جرير الطبري جمع على الناس أشتات التفاسير وقرب البعيد وكذلك عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي وأما أبو بكر النقاش وأبو جعفر النحاس فكثيرا ما استدرك الناس عليهما وعلى سننهما مكي والمهدوي حسن التأليف وكذلك من تبعهم كابن عطية وكلهم متقن مأجور فجزاهم الله خيرا
تنبيه فيما يجب أن يلاحظ عند نقل أقوال المفسرين
يكثر في معنى الآية أقوالهم واختلافهم ويحيكه المصنفون للتفسير بعبارات متباينة الألفاظ ويظن من لا فهم عنده أن في ذلك اختلافا فيحكيه أقوالا وليس كذلك بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى ظهر من الآية وإنما اقتصر عليه لأنه أظهر عند ذلك القائل أو لكونه أليق بحال السائل وقد يكون

بعضهم يخبر عن الشيء بلازمه ونظيره والآخر بمقصوده وثمرته والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا والمراد الجميع فليتفطن لذلك ولا يفهم من اختلاف العبارات اختلاف المرادات كما قيل
عباراتنا شتى وحسنك واحد
وكل إلى ذاك الجمال يشير
هذا كله حيث أمكن الجمع فأما إذا لم يمكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم عنه إن استويا في الصحة وإلا فالصحيح المقدم وكثيرا ما يذكر المفسرون شيئا في الآية على جهة التمثيل لما دخل في الآية فيظن بعض الناس أنه قصر الآية على ذلك ولقد بلغني عن شخص أنه أنكر على الشيخ أبي الحسن الشاذلي قوله في قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ما ذهب الله بولي إلا أتى بخير منه أو مثله
الثالث: الأخذ بمطلق اللغة
فإن القرآن نزل {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} وقد ذكره جماعة ونص عليه أحمد بن حنبل في مواضع لكن نقل الفضل بن زياد عنه وقد سئل عن القرآن تمثل له رجل ببيت من الشعر فقال: ما يعجبني فقيل: ظاهره المنع ولهذا قال بعضهم: في جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد وقيل: الكراهة تحمل على من يصرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ولا يوجد غالبا إلا في الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها
وروي البيهقي في شعب الإيمان عن مالك بن أنس قال لا أوتى برجل غير عالم بلغات العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا

الرابع: التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوة الشرع
وهذا هو الذي دعا به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لابن عباس في قوله: "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل"
وروي البخاري رحمه الله في كتاب الجهاد في صحيحه عن علي: هل خصكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشيء؟ فقال ما عندنا غير ما في هذه الصحيفة أو فهم يؤتاه الرجل
وعلى هذا قال بعض أهل الذوق: للقرآن نزول وتنزل فالنزول قد مضى والتنزل باق إلى قيام الساعة
ومن ها هنا اختلف الصحابة في معنى الآية فأخذ كل واجد برأيه على مقتضى نظره في المقتضى
ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل لقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقوله: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} فأضاف البيان إليهم
وعليه حملوا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" رواه البيهقي من طرق من حديث ابن عباس وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد اخطأ" أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وقال: غريب من حديث ابن جندب

وقال البيهقي في شعب الإيمان: هذا إن صح فإنما أراد -والله أعلم- الرأي الذي يغلب من غير دليل قام عليه فمثل هذا الذي لا يجوز الحكم به في النوازل وكذلك لا يجوز تفسير القرآن به
وأما الرأي الذي يسنده برهان فالحكم به في النوازل جائز وهذا معنى قول الصديق: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي
وقال في المدخل: في هذا الحديث نظر وإن صح فإنما أراد -والله أعلم- فقد أخطأ الطريق فسبيله أن يرجع في تفسير ألفاظه إلى أهل اللغة وفي معرفة ناسخه ومنسوخه وسبب نزوله وما يحتاج فيه إلى بيانه إلى أخبار الصحابة الذين شاهدوا تنزيله وأدوا إلينا من سنن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يكون تبيانا لكتاب الله قال الله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
فما ورد بيانه عن صاحب الشرع ففيه كفاية عن ذكره من بعده وما لم يرد عنه بيان ففيه حينئذ فكرة أهل العلم بعده ليستدلوا بما ورد بيانه على ما لم يرد
قال: وقد يكون المراد به من قال فيه برأيه من غير معرفة منه بأصول العلم وفروعه فتكون موافقته للصواب وإن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في نكته: قد حمل بعض المتورعة هذا الحديث على ظاهره وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده ولو صحبتها الشواهد ولم يعارض شواهدها نص صريح وهذا عدول عما تعبدنا من معرفته من النظر في القرآن واستنباط الأحكام منه كما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}

ولو صح ما ذهب إليه لم يعلم شيء بالاستنباط ولما فهم الأكثر من كتاب الله شيئا وإن صح الحديث فتأويله أن من تكلم في القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق إذ الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " القرآن ذلول ذو وجوه محتملة فاحملوه على أحسن وجوهه"
وقوله: ذلول يحتمل وجهين: أحدهما: أنه مطيع لحامليه ينطق بألسنتهم الثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا تقصر عنه أفهام المجتهدين
وقوله: " ذو وجوه" يحتمل معنيين: أحدهما : أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل والثاني: أنه قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحليل والتحريم
وقوله: " فاحملوه على أحسن وجوهه" يحتمل أيضا وجهين: أحدهما: الحمل على أحسن معانيه والثاني: أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفو دون الانتقام وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد في كتاب الله
وقال أبو الليث: النهي إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ} لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجز التفسير لم تكن الحجة بالغة فإذا كان كذلك جاز لمن عرف لغات العرب وشأن النزول أن يفسره وأما من كان من المكلفين ولم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على سبيل التفسير فلا بأس به ولو أنه يعلم التفسير فأراد أن يستخرج من الآية حكمة أو دليلا لحكم فلا بأس به

ولو قال المراد من الآية كذا من غير أن سمع منه شيئا فلا يحل وهو الذي نهي عنه انتهى
وقال الراغب في مقدمة تفسيره: اختلف الناس في تفسيرالقرآن هل يجوز لكل ذى علم الخوض فيه فمنهم من بالغ ومنع الكلام ولو تفنن الناظر في العلوم واتسع باعه في المعارف إلا بتوقيف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو عمن شاهد التنزيل من الصحابة أو من أخذ منهم من التابعين واحتجوا بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "من فسر القرآن برأيه فقد أخطأ" وفي رواية: "من قال في القرآن برأيه فقد كفر"
وقيل: إن كان ذا معرفة وأدب فواسع له تفسيره والعقلاء والأدباء فوضى في معرفة الأغراض واحتجوا بقوله تعالى: {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ}
أقسام التفسير
وقد روى عبد الرزاق في تفسيره: حدثنا الثوري عن ابن عباس أنه قسم التفسير إلى أربعة أقسام: قسم تعرفه العرب في كلامها وقسم لا يعذر أحد بجهالته يقول من الحلال والحرام وقسم يعلمه العلماء خاصة وقسم لا يعلمه إلا الله ومن ادعى علمه فهو كاذب
وهذا تقسيم صحيح
فأما الذي تعرفه العرب فهو الذي يرجع فيه إلى لسانهم وذلك شأن اللغة والإعراب

فأما اللغة فعلى المفسر معرفة معانيها ومسميات أسمائها ولا يلزم ذلك القارئ ثم إن كان ما تتضمنه ألفاظها يوجب العمل دون العلم كفى فيه خبر الواحد والاثنين والاستشهاد بالبيت والبيتين وإن كان مما يوجب العلم لم يكف ذلك بل لا بد أن يستفيض ذلك اللفظ وتكثر شواهده من الشعر
وأما الإعراب فما كان اختلافه محيلا للمعنى وجب على المفسر والقارئ تعلمه ليتوصل المفسر إلى معرفة الحكم وليسلم القارئ من اللحن وإن لم يكن محيلا للمعنى وجب تعلمه على القارئ ليسلم من اللحن ولا يجب على المفسر ليتوصل إلى المقصود دونه على أن جهله نقص في حق الجميع
إذا تقرر ذلك فما كان من التفسير راجعا إلى هذا القسم فسبيل المفسر التوقف فيه على ما ورد في لسان العرب وليس لغير العالم بحقائق اللغة ومفهوماتها تفسير شيء من الكتاب العزيز ولا يكفي في حقه تعلم اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين
الثاني: ما لا يعذر واحد بجهله وهو ما تتبادر الأفهام إلى معرفة معناه من النصوص المتضمنة شرائع الأحكام ودلائل التوحيد وكل لفظ أفاد معنى واحدا جليا لا سواه يعلم أنه مراد الله تعالى
فهذا القسم لا يختلف حكمه ولا يلتبس تأويله إذ كل أحد يدرك معنى التوحيد من قوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ} وأنه لا شريك له في إلهيته

وإن لم يعلم أن لا موضوعة في اللغة للنفي وإلا للإثبات وأن مقتضى هذه الكلمة الحصر ويعلم كل أحد بالضرورة أن مقتضى قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ونحوها من الأوامر طلب إدخال ماهية المأمور به في الوجود وإن لم يعلم أن صيغة أفعل مقتضاها الترجيح وجوبا أو ندبا فما كان من هذا القسم لا يقدر أحد يدعي الجهل بمعاني ألفاظه لأنها معلومة لكل أحد بالضرورة
الثالث: ما لا يعلمه إلا الله تعالى فهو ما يجرى مجرى الغيوب نحو الآي المتضمنة قيام الساعة ونزول الغيث وما في الأرحام وتفسير الروح والحروف المقطعة وكل متشابه في القرآن عند أهل الحق فلا مساغ للاجتهاد في تفسيره ولا طريق إلى ذلك إلا بالتوقيف من أحد ثلاثة أوجه إما نص من التنزيل أو بيان من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو إجماع الأمة على تأويله فإذا لم يرد فيه توقيف من هذه الجهات علمنا أنه مما استأثر الله تعالى بعلمه
والرابع: ما يرجع إلى اجتهاد العلماء وهو الذي يغلب عليه إطلاق التأويل وهو صرف اللفظ إلى ما يئول إليه فالمفسر ناقل والمؤول مستنبط وذلك استنباط الأحكام وبيان المجمل وتخصيص العموم
وكل لفظ احتمل معنيين فصاعدا فهو الذي لا يجوز لغير العلماء الاجتهاد فيه وعلى العلماء اعتماد الشواهد والدلائل وليس لهم أن يعتمدوا مجرد رأيهم فيه على ما تقدم بيانه وكل لفظ احتمل معنيين فهو قسمان:

أحدهما: أن يكون أحدهما أظهر من الآخر فيجب الحمل على الظاهر إلا أن يقوم دليل على أن المراد هو الخفي دون الجلي فيحمل عليه
الثاني: أن يكونا جليين والاستعمال فيهما حقيقة وهذا على ضربين:
أحدهما : أن تختلف أصل الحقيقة فيهما فيدور اللفظ بين معنيين هو في أحدهما حقيقة لغوية وفي الآخر حقيقة شرعية فالشرعية أولى إلا أن تدل قرينته على إرادة اللغوية نحو قوله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} وكذلك إذا دار بين اللغوية والعرفية فالعرفية أولى لطريانها على اللغة ولو دار بين الشرعية والعرفية فالشرعية أولى لأن الشرع ألزم
الضرب الثاني: لا تختلف أصل الحقيقة بل كلا المعنيين استعمل فيهما في اللغة أو في الشرع أو العرف على حد سواء وهذا أيضا على ضربين:
أحدهما: أن يتنافيا اجتماعا ولا يمكن إرادتهما باللفظ الواحد كالقرء حقيقة في الحيض والطهر فعلى المجتهد أن يجتهد في المراد منهما بالأمارات الدالة عليه فإذا وصل إليه كان هو مراد الله في حقه وإن اجتهد مجتهد آخر فأدى اجتهاده إلى المعنى الآخر كان ذلك مراد الله تعالى في حقه لأنه نتيجة اجتهاده وما كلف به فإن لم يترجح أحد الأمرين لتكافؤ الأمارات فقد اختلف أهل العلم فمنهم من قال يخير في الحمل على أيهما شاء ومنهم من قال يأخذ بأعظمهما حكما ولا يبعد اطراد وجه ثالث وهو أن يأخذ بالأخف كاختلاف جواب المفتين

الضرب الثاني: ألا يتنافيا اجتماعا فيجب الحمل عليهما عند المحققين ويكون ذلك أبلغ في الإعجاز والفصاحة وأحفظ في حق المكلف إلا أن يدل دليل على إرادة أحدهما وهذا أيضا ضربان:
أحدهما: أن تكون دلالته مقتضية لبطلان المعنى الآخر فيتعين المدلول عليه للإرادة
الثاني: ألا يقتضى بطلانه وهذا اختلف العلماء فيه فمنهم من قال: يثبت حكم المدلول عليه ويكون مرادا ولا يحكم بسقوط المعنى الآخر بل يجوز أن يكون مرادا أيضا وأن لم يدل عليه دليل من خارج لأن موجب اللفظ عليهما فاستويا في حكمه وإن ترجح أحدهما بدليل من خارج ومنهم من قال: ما ترجح بدليل من خارج اثبت حكما من الآخر لقوته بمظاهرة الدليل الآخر
فهذا أصل نافع معتبر في وجوه التفسير في اللفظ المحتمل والله أعلم
إذا تقرر ذلك فينزل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " من تكلم في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" على قسمين من هذه الأربعة:
أحدهما: تفسير اللفظ لاحتياج المفسر له إلى التبحر في معرفة لسان العرب
الثاني: حمل اللفظ المحتمل على أحد معنييه لاحتياج ذلك إلى معرفة أنواع من العلوم: علم العربية واللغة والتبحر فيهما ومن علم الأصول ما يدرك به حدود الأشياء وصيغ الأمر والنهي والخبر والمجمل والمبين والعموم والخصوص والظاهر والمضمر والمحكم والمتشابه والمؤول والحقيقة والمجاز والصريح والكناية والمطلق والمقيد ومن علوم الفروع ما يدرك به استنباطا والاستدلال على هذا أقل ما يحتاج إليه ومع ذلك فهو على خطر فعليه أن يقول يحتمل كذا ولا يجزم إلا في حكم اضطر إلى الفتوى به فأدى اجتهاده إليه فيحرم خلافه مع تجويز خلافه عند الله

فإن قيل: فقد ورد عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن ولكن حرف حد ولكل حد مطلع" فما معنى ذلك؟
قلت: أما قوله: "ظهر وبطن" ففي تأويله أربعة أقوال:
أحدها- وهو قول الحسن-: إنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها وقفت على معناها
الثاني- قول أبي عبيدة-: إن القصص ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين وباطنها عظة للآخرين
الثالث - قول ابن مسعود رضي الله عنه-: إنه ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها
الرابع - قاله بعض المتأخرين-: إن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها
وقول أبي عبيدة أقربها
وأما قوله: "ولكل حرف حد" ففيه تأويلان: أحدهما : لكل حرف منتهى فيما أراد الله من معناه الثاني: معناه أن لكل حكم مقدارا من الثواب والعقاب
وأما قوله: "ولكل حد مطلع" ففيه قولان:
أحدهما : لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل إلى معرفته ويوقف على المراد به
والثاني: لكل ما يستحقه من الثواب والعقاب مطلع يطلع عليه في الآخرة ويراه عند المجازاة وقال بعضهم منه ما لا يعلم تأويله إلا الله الواحد القهار وذلك آجال حادثة في أوقات آتية كوقت قيام الساعة والنفخ في الصور ونزول عيسى بن مريم وما أشبه ذلك

لقوله: {لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ }ومنه ما يعلم تأويله كل ذي علم باللسان الذي نزل به القرآن وذلك إبانة غرائبه ومعرفة المسميات بأسمائها اللازمة غير المشتركة منها والموصوفات بصفاتها الخاصة دون ما سواها فإن ذلك لا يجهله أحد منهم وذلك كسامع منهم لو سمع تاليا يتلو: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} لم يجهل أن معنى الفساد هو ما ينبغي تركه مما هو مضرة وأن الصلاح مما ينبغي فعله مما هو منفعة وإن جهل المعاني التي جعلها الله إفسادا والمعاني التي جعلها الله إصلاحا فأما تعليم التفسير ونقله عمن قوله حجة ففيه ثواب وأجر عظيم كتعليم الأحكام من الحلال والحرام
تنبيه في كلام الصوفية في تفسير القرآن
فأما كلام الصوفية في تفسير القرآن فقيل: ليس تفسيرا وإنما هي معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة كقول بعضهم في: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} إن المراد: النفس فأمرنا بقتال من يلينا لأنها أقرب شيء إلينا وأقرب شيء إلى الإنسان نفسه
قال ابن الصلاح في فتاويه: وقد وجدت عن الإمام أبي الحسن الواحدي انه

صنف أبو عبد الرحمن السلمي حقائق التفسير فإن كان اعتقد أن ذلك تفسير فقد كفر
قال: وأنا أقول: الظن بمن يوثق به منهم إذا قال شيئا من أمثال ذلك أنه لم يذكره تفسيرا ولا ذهب به مذهب الشرح للكلمة المذكورة في القرآن العظيم فإنه لو كان كذلك كانوا قد سلكوا مسلك الباطنية وإنما ذلك منهم ذكر لنظير ما ورد به القرآن فإن النظير يذكر بالنظير فمن ذلك مثال النفس في الآية المذكورة فكأنه قال أمرنا بقتال النفس ومن يلينا من الكفار ومع ذلك فياليتهم لم يتساهلوا في مثل ذلك لما فيه من الإبهام والالتباس انتهى
فصل
حكى الشيخ أبو حيان عن بعض من عاصره أن طالب علم التفسير مضطر إلى النقل في فهم معاني تركيبه بالإسناد إلى مجاهد وطاوس وعكرمة وأضرابهم وأن فهم الآيات يتوقف على ذلك ثم بالغ الشيخ في رده لأثر علي السابق
والحق أن علم التفسير منه ما يتوقف على النقل كسبب النزول والنسخ وتعيين المبهم وتبيين المجمل ومنه مالا يتوقف ويكفي في تحصيله التفقه على الوجه المعتبر

وكأن السبب في اصطلاح بعضهم على التفرقة بين التفسير والتأويل التمييز بين المنقول والمستنبط ليحمل على الاعتماد في المنقول وعلى النظر في المستنبط تجويزا له وازديادا وهذا من الفروع في الدين
تنخيل لما سبق
واعلم أن القرآن قسمان: أحدهما ورد تفسيره بالنقل عمن يعتبر تفسيره وقسم لم يرد
والأول ثلاثة أنواع: إما أن يرد التفسير عن النبي صلى الله عيه وسلم أو عن الصحابة أو عن رؤوس التابعين فالأول يبحث في عن صحة السند والثاني ينظر في تفسير الصحابي فإن فسره من حيث اللغة فهم أهل اللسان فلا شك في اعتمادهم وإن فسره بما شاهده من الأسباب والقرائن فلا شك فيه وحينئذ إن تعارضت أقوال جماعة من الصحابة فإن أمكن الجمع فذاك وإن تعذر قدم ابن عباس لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بشره بذلك حيث قال: "اللهم علمه التأويل" وقد رجح الشافعي قول زيد في الفرائض لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أفرضكم زيد" فإن تعذر الجمع جاز للمقلد أن يأخذ بأيها شاء وأما الثالث وهم رؤوس التابعين إذا لم يرفعوه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فحيث جاز التقليد فيما سبق فكذا هنا وإلا وجب الاجتهاد
الثاني: ما لم يرد فيه نقل عن المفسرين وهو قليل وطريق التوصل إلى فهمه النظر إلى مفردات الألفاظ من لغة العرب ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق وهذا يعتني به الراغب كثيرا في كتاب المفردات فيذكر قيدا زائدا على أهل اللغة في تفسير مدلول اللفظ لأنه اقتنصه من السياق

فصل فيما يجب على المفسر البداءة به
الذي يجب على المفسر البداءة به العلوم اللفظية وأول ما يجب البداءة به منها تحقيق الألفاظ المفردة فتحصيل معاني المفردات من ألفاظ القرآن من أوائل المعادن لمن يريد أن يدرك معانيه وهو كتحصيل اللبن من أوائل المعادن في بناء ما يريد أن يبنيه
قالوا: وليس ذلك في علم القرآن فقط بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع وغيره وهو كما قالوا: إن المركب لا يعلم إلا بعد العلم بمفرداته لأن الجزء سابق على الكل في الوجود من الذهني والخارجي فنقول النظر في التفسير هو بحسب أفراد الألفاظ وتراكيبها
وأما بحسب الأفراد فمن وجوه ثلاثة:
من جهة المعاني التي وضعت الألفاظ المفردة بإزائها وهو يتعلق بعلم اللغة
ومن جهة الهيئات والصيغ الواردة على المفردات الدالة على المعاني المختلفة وهو من علم التصريف
ومن جهة رد الفروع المأخوذة من الأصول إليها وهو من علم الاشتقاق
وأما بحسب التركيب فمن وجوه أربعة:
الأول : باعتبار كيفية التراكيب بحسب الإعراب ومقابله من حيث إنها مؤدية أصل المعنى وهو ما دل عليه المركب بحسب الوضع وذلك متعلق بعلم النحو

الثاني: باعتبار كيفية التركيب من جهة إفادته معنى المعنى أعني لازم أصل المعنى الذي يختلف باختلاف مقتضى الحال في تراكيب البلغاء وهو الذي يتكلف بإبراز محاسنه علم المعاني
الثالث: باعتبار طرق تأدية المقصود بحسب وضوح الدلالة وحقائقها ومراتبها وباعتبار الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه وهو ما يتعلق بعلم البيان
والرابع: باعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية والاستحسان ومقابله وهو يتعلق بعلم البديع
مسألة في أن الإعجاز يكون في اللفظ والمعنى والملاءمة
وقد سبق لنا في باب الإعجاز أن إعجاز القرآن لاشتماله على تفرد الألفاظ التي يتركب منها الكلام مع ما تضمنه من المعاني مع ملاءمته التي هي نظوم تأليفه
فأما الأول : وهو معرفة الألفاظ فهو أمر نقلي يؤخذ عن أرباب التفسير ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقرأ قوله تعالى: {فَاكِهَةً وَأَبّاً}فلا يعرفه فيراجع نفسه ويقول: ما الأب ويقول: إن هذا منك تكلف وكان ابن عباس-

وهو ترجمان القرآن- يقول: لا أعرف {حَنَاناً} ولا {غِسْلِينٍ} ولا {الرَّقِيمِ}
وأما المعاني التي تحتملها الألفاظ فالأمر في معاناتها أشد لأنها نتائج العقول
وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه يتصل أجزاء الكلام ويتسم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان فليس المفرد بذرب اللسان وطلاقته كافيا لهذا الشأن ولا كل من أوتي خطاب بديهة ناهضة بحمله ما لم يجمع إليها سائر الشروط
مسألة في أن أحسن طرق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن
قيل: أحسن طريق التفسير أن يفسر القرآن بالقرآن فما أجمل في مكان فقد فصل في موضع آخر وما اختصر في مكان فإنه قد بسط في آخر فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له قال تعالى: {وَمَا

أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه" يعني السنة فإن لم يوجد في السنة يرجع إلى أقوال الصحابة فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن ولما أعطاهم الله من الفهم العجيب فإن لم يوجد ذلك يرجع إلى النظر والاستنباط بالشرط السابق
مسألة فيما يجب على المفسر من التحوط في التفسير
ويجب أن يتحرى في التفسير مطابقة المفسر وأن يتحرز في ذلك من نقص المفسر عما يحتاج إليه من إيضاح المعنى المفسر أو أن يكون في ذلك المعنى زيادة لا تليق بالغرض أو أن يكون في المفسر زيغ عن المعنى المفسر وعدول عن طريقه حتى يكون غير مناسب له ولو من بعض أنحائه بل يجتهد في أن يكون وفقه من جميع الأنحاء وعليه بمراعاة الوضع الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف وأن يوافي بين المفردات وتلميح الوقائع فعند ذلك تتفجر له ينابيع الفوائد
ومن شواهد الإعراب قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ} ولولا الإعراب لما عرف الفاعل من المفعول به
ومن شواهد النظم قوله تعالى: {وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} فإنها منتظمة مع ما قبلها منقطعة عما بعدها

وقد يظهر الارتباط وقد يشكل أمره فمن الظاهر قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} ووجه ظهوره أنه لا يستقيم أن يكون السؤال والجواب من واحد فتعين أن يكون قوله: {قُلِ اللَّهُ} جواب سؤال كأنهم لما سألوا سمعوا ما قبله من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو: {مَنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} أجابهم بقوله: {قُلِ اللَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} فترك ذكر السؤال
ونظيره: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ}
مسألة في النهي عن ذكر لفظ الحكاية عن الله تعالى ووجوب تجنب
إطلاق الزائد على بعض الحروف الواردة في القرآن
وكثيرا ما يقع في كتب التفسير حكى الله تعالى وينبغي تجنبه
قال الإمام أبو نصر القشيري في كتابه المرشد: قال معظم أئمتنا: لا يقال كلام الله يحكى ولا يقال حكى الله لأن الحكاية الإتيان بمثل الشيء وليس لكلامه مثل وتساهل قوم فأطلقوا لفظ الحكاية بمعنى الإخبار وكثيرا ما يقع في كلامهم إطلاق

الزائد على بعض الحروف كما في نحو: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} والكاف في نحو: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ونحوه
والذي عليه المحققون تجنب هذا اللفظ في القرآن إذ الزائد ما لا معنى له وكلام الله منزه عن ذلك
وممن نص على منع ذلك في المتقدمين الإمام داود الظاهري فذكر أبو عبد الله أحمد بن يحيى بن سعيد الداودي في الكتاب المرشد له في أصول الفقه على مذهب داود الظاهري وروى بعض أصحابنا عن أبي سليمان أنه كان يقول: ليس في القرآن صلة بوجه وذكر أبو محمد بن داود وغيره من أصحابنا مثل ذلك والذي عليه أكثر النحويين خلاف هذا ثم حكى عن أبي داود مثله يزعم الصلة فيها كقوله تعالى: {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً} وقال: إن ما ها هنا للتعليل مثل: أحبب حبيبك هَوْنًا ما
فصل في تقسم التأويل إلى منقاد ومستكره
التأويل ينقسم إلى منقاد ومستكره:
فالأول: ما لا تعرض فيه بشاعة أو استقباح وقد يقع فيه الخلاف بين الأئمة: إما الاشتراك في اللفظ نحو: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} هل هو من بصر العين أو القلب

وإما لأمر راجع إلى النظم كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} هل هذا الاستثناء مقصور على المعطوف وحده أو عائد إلى الجميع؟
وأما لغموض المعنى ووجازة النظم كقوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وإما لغير ذلك
وأما المستكره فما يستبشع إذا عرض على الحجة وذلك على أربعة أوجه:
الأول : أن يكون لفظا عاما فيختص ببعض ما يدخل تحته كقوله: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} فحمله بعضهم على علي رضي الله عنه فقط
والثاني: أن يلفق بين اثنين كقول من زعم تكليف الحيوانات في قوله: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} مع قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} إنهم مكلفون كما نحن
الثالث: ما استعير فيه كقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} في حمله على حقيقته
الرابع: ما أشعر باشتقاق بعيد كما قال بعض الباطنية في البقرة: إنه إنسان يبقر عن أسرار العلوم وفي الهدهد إنه إنسان موصوف بجودة البحث والتنقيب
والأول أكثر ما يروج على المتفقه الذي لم يتبحروا في معرفة الأصول والثاني على المتكلم القاصر في معرفة شرائط النظم والثالث على صاحب الحديث الذي لم يتهذب في شرائط قبول الأخبار والرابع على الأديب الذي لم يتهذب بشرائط الاستعارات والاشتقاقات

فائدة فيما نقل عن ابن عباس في تفسير بعض الآيات
روي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى : {أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} فقال: الموت
قال السهيلي: وهو تفسير يحتاج لتفسير
ورأيت لبعض المتأخرين أن مراد ابن عباس أن الموت سيفنى كما يفنى كل شيء كما جاء أنه يذبح على الصراط فكأن المعنى لو كنتم حجارة أو حديدا لبادر إليكم الموت ولو كنتم الموت الذي يكبر في صدوركم فلا بد لكم من الموت والله أعلم بتأويل ذلك
قال: وبقي في نفسي من تأويل هذه الآية شيء حتى يكمل الله نعمته في فهمها
فصل
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر
أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر واعلم أنه لا يحصل للناظر فهم معاني الوحي حقيقة ولا يظهر له أسرار العلم من غيب المعرفة وفي قلبه بدعة أو إصرار على ذنب أو في قلبه كبر أو هوى أو حب الدنيا أو يكون غير متحقق الإيمان

أو ضعيف التحقيق أو معتمدا على قول مفسر ليس عنده إلا علم بظاهر أو يكون راجعا إلى معقوله وهذه كلها حجب وموانع وبعضها آكد من بعض إذا كان العبد مصغيا إلى كلام ربه ملقي السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه ناظرا إلى قدرته تاركا للمعهود من علمه ومعقوله متبرئا من حوله وقوته معظما للمتكلم مفتقرا إلى التفهم بحال مستقيم وقلب سليم وقوة علم وتمكن سمع لفهم الخطاب وشهادة غيب الجواب بدعاء وتضرع وابتئاس وتمسكن وانتظار للفتح عليه من عند الفتاح العليم وليستعن على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكلم من الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والإنذار بالتشديد فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن وفي مثل هذا قال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
وهذا هو الراسخ في العلم جعلنا الله من هذا الصنف والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
فصل في القرآن علم الأولين والآخرين
وفي القرآن علم الأولين والآخرين وما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه لمن فهمه الله تعالى حتى إن بعضهم استنبط عمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثلاثا وستين من قوله تعالى في سورة المنافقين: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} فإنها رأس ثلاث

وستين سورة وعقبها بالتغابن ليظهر التغابن في فقده
وقوله تعالى مخبرا عن عيسى: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ } إلى قوله: {أُبْعَثُ حَيّاً} ثلاث وثلاثون كلمة وعمره ثلاث وثلاثون سنة
وقد استنبط الناس زلزلة عام اثنين وسبعمائة من قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ} فإن الألف باثنين والذال بسبعمائة
وكذلك استنبط بعض أئمة العرب فتح بيت المقدس وتخليصه من أيدي العدو في أول سورة الروم بحساب الجمل وغير ذلك
فصل
قد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء
وقد يستنبط الحكم من السكوت عن الشيء كقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} الآية ولم يذكر الأعمام والأخوال وهم من المحارم وحكمهم حكم

من سمي في الآية وقد سئل الشعبي عن ذلك فقال: لئلا يضعه العم عند ابنه وهو ليس بمحرم لها وكذا الخال فيفضي إلى الفتنة والمعنى فيه أن كل من استثني مشترك بابنه في المحرمية إلا العم والخال وهذا من الدلائل البليغة على وجوب الاحتياط في سترهن
ولقائل أن يقول: هذه المفسدة محتملة في أبناء بعولتهن لاحتمال أن يذرها أبو البعل عند ابنه الآخر وهو ليس بمحرم لها وأبو البعل ينقض قولهم إن من استثنى اشترك هو وابنه في المحرمية
ومنه قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} الآية ولم يذكر الأولاد فقيل لدخولهم في قوله: {بُيُوتِكُمْ}
فصل في تقسيم القرآن إلى ما هو بين بنفسه وإلى ما ليس ببين في نفسه فيحتاج إلى بيان
ينقسم القرآن العظيم إلى:
ما هو بين بنفسه بلفظ لا يحتاج إلى بيان منه ولا من غيره وهو كثير ومنه قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية وقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} الآية

وقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً} وإلى ما ليس ببين بنفسه فيحتاج إلى بيان وبيانه إما فيه في آية أخرى أو في السنة لأنها موضوعة للبيان قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}
والثاني: ككثير من أحكام الطهارة والصلاة والزكاة والصيام والحج والمعاملات والأنكحة والجنايات وغير ذلك كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ولم يذكر كيفية الزكاة ولا نصابها ولا أوقاصها ولا شروطها ولا أحوالها ولا من تجب عليه ممن لا تجب عليه وكذا لم يبين عدد الصلاة ولا أوقاتها
وكقوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} ولم يبين أركانه ولا شروطه ولا ما يحل في الإحرام وما لا يحل ولا ما يوجب الدم ولا ما لا يوجبه وغير ذلك والأول قد أرشدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه بما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود: لما نزل : {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شق ذلك على المسلمين فقالوا: يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه!

قال: "ليس ذلك إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال لقمان لابنه" {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فحمل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الظلم ها هنا على الشرك لمقابلته بالإيمان واستأنس عليه بقول لقمان
وقد يكون بيانه مضمرا فيه كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} فهذا يحتاج إلى بيان لأن {حَتَّى} لا بد لها من تمام وتأويله حتى إذا جاؤوها جاؤوها وفتحت أبوابها
ومثله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أي لكان هذا القرآن على رأي النحويين
قال ابن فارس: ويسمى هذا عند العرب الكف
وقد يومئ إلى المحذوف إما متأخر كقوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} فإنه لم يجئ له جواب في اللفظ لكن أومأ إليه قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} وتقديره: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} كمن قسا قلبه
وإما متقدم كقوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} فإنه أومأ إلى ما قبله: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً} كأنه قال: أهذا الذي هو هكذا خير أم من هو قانت؟ فأضمر المبتدأ

ونظيره: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} ومن هذه صفته: {كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} !
وقد يكون بيانه واضحا وهو أقسام :
أحدها: أن يكون عقبه كقوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} قال محمد بن كعب القرظي: تفسيره: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ}
وكقوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} قال أبو العالية: تفسيره: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} وقال ثعلب: سألني محمد بن طاهر: ما الهلع؟ فقلت: قد فسره الله تعالى
وكقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} فسره بقوله: {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً}
وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} ومعلوم أنه لم يرد به المسيح وعزيرا فنزلت الآية مطلقة اكتفاء بالدلالة الظاهرة على أنه لا يعذبهما الله وكان ذلك بمنزلة الاستثناء باللفظ فلما قال المشركون هذا المسيح وعزير قد عبدا من دون الله أنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}

وقوله: {يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً} ففسر رؤية البرق بأنه ليس في رؤيته إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار وفيها لطيفة وهى تقديم الخوف على الطمع إذ كانت الصواعق تقع من أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد تواتر البرقات فإن تواترها لا يكاد يكذب فقدم الخوف على الطمع ناسخا للخوف كمجيء الفرج بعد الشدة
وكقوله: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ} الآية وفيها لطيفة حيث بدأ بالماشي على بطنه فإنها سيقت لبيان القدرة وهو أعجب من الذي بعده وكذا ما يمشي على رجلين أعجب ممن يمشي على أربع
وكقوله تعالى: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فهذا عام في المسلم والكافر ثم بين أن المراد المؤمنات بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} فخرج تزوج الأمة الكافرة
وقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى} فإن الأول اسم منه والثاني أفعل تفضيل بدليل قوله بعده {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ولهذا قرأ أبو عمرو الأول بالإمالة لأنه اسم والثاني بالتصحيح ليفرق بين ما هو اسم وما هو أفعل منه بالإمالة وتركها
فإن قلت: فقد قال النحويون أفعل التفضيل لا يأتي من الخلق فلا يقال: زيد أعمى من عمرو لأنه لا يتفاوت!
قلت: إنما جاز في الآية لأنه من عمى القلب أي من كان في هذه الدنيا

أعمى القلب عما يرى من القدرة الإلهية ولا يؤمن به فهو عما يغيب عنه من أمر الآخرة أعمى أن يؤمن به أي أشد عمى ولا شك أن عمى البصيرة متفاوت
ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} قال البيهقي في شعب الإيمان: الأشبه أن المراد بالصبر ها هنا الصبر على الشدائد لأنه أتبع مدح الصابرين بقوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} إلى قوله: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}
الثاني: أن يكون بيانه منفصلا عنه في السورة معه أو في غيره كقوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وبيانه في سورة الانفطار بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}
وقوله في سورتي النمل والقصص: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} ولم يبين في ليل ولا نهار وبينه في سورة الدخان بقوله: {فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} ثم بينها في ليلة القدر بقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} فالمباركة في الزمان هي ليلة القدر في هذه السورة لأن الإنزال واحد وبذلك يرد على من زعم أن المباركة ليلة النصف من شعبان وعجب كيف غفل عن ذلك
وقد استنبط بعضهم هنا بيانا آخر وهو أنها ليلة سبعة عشر من قوله تعالى: {وَمَا

أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ} وذلك ليلة سبع عشرة من رمضان وفي ذلك كلام
وقوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} فسره في آية الفتح: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ}
وقوله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} وقد فسره في سورة فاطر: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}
وقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} بين ذلك بقوله في النحل: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى}
وذكر الله الطلاق مجملا وفسره في سورة الطلاق
وقال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فاستثنى الأزواج وملك اليمين ثم حظر تعالى الجمع بين الأختين وبين الأم والابنة والرابة بالآية الأخرى
ومنه قوله تعالى: {نَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} فإن ظاهره مشكل لأن الله سبحانه قد هدى كفارا كثيرا وماتوا مسلمين وإنما المراد لا يهدي من كان في علمه أنه قد حقت عليه كلمة العذاب وبيانه بقوله تعالى في السورة: {أَفَمَنْ

حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} وقوله في سورة أخرى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}
ومنه قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} وكثير من الناس يدعون فلا يستجاب لهم وبيانه بقوله تعالى بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فبين أن الإجابة متعلقة بالمشيئة على أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد فسر الإجابة بقوله: "ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إثم إلا أعطاه الله إحدى ثلاث خصال إما أن يعجل دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها"
ومنه قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا} وكثير من الناس يريد ذلك فلا يحصل له وبيانه في قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فهو كالذي قبله متعلق بالمشيئة
ومنه قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} وقال في آية أخرى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} فإنه قد يستشكل اجتماعهما لأن الوجل خلاف الطمأنينة وهذا غفلة عن المراد لأن الاطمئنان إنما يكون عن ثلج القلب وشرح الصدر بمعرفة التوحيد والعلم وما يتبع ذلك من الدرجة الرفيعة والثواب الجزيل والوجل إنما يكون عند خوف الزيغ والذهاب عن الهدى

وما يستحق به الوعيد بتوجيل القلوب كذلك وقد اجتمعا في قوله تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} لأن هؤلاء قد سكنت نفوسهم إلى معتقدهم ووثقوا به فانتفى عنهم الشك والارتياب الذي يعرض إن كان كلامهم فيمن أظهر الإسلام تعوذا فجعل لهم حكمة دون العلم الموجب لثلج الصدور وانتفاء الشك ونظائره كثيرة
ومنه قوله تعالى في قصة لوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} فلم يستثن امرأته في هذا الموضع وهي مستثناة في المعنى بقوله في الآية الأخرى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاّ امْرَأَتَكَ} فأظهر الاستثناء في هذه الآية
وكقوله: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} الآية فإنها نزلت تفسيرا وبيانا لمجمل قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} لأن هذه لما نزلت لم يفهم مرادها
وقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} هي تفسير لقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية

وقوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} الآية فإن هذه الآية مجملة لا يعلم منها من يرث من الرجال والنساء بالفرض والتعصيب ومن يرث ومن لا يرث ثم بينه في آية أخرى بقوله: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} الآيات
وكقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} فهذا الاستثناء مجمل بينه في آية أخرى بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}
وكقوله: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} الآية فهذا الابتلاء مجمل لا يعلم أحد في الحل أم في الحرم بينه قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية
وكقوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} وهذا المجمل بينه في آية أخرى بقوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} الآية
وكقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} قال العلماء: بيان هذا العهد قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ} الآية فهذا عهده عز وجل وعهدهم تمام الآية في قوله: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} فإذا وفوا العهد الأول أعطوا ما وعدوا

وقوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً} يرد عليهم بقوله: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
وقوله تعالى: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} فقيل لهم: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقيل: بل نزل بعده: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} والتقدير: إن كشفنا العذاب تعودوا
وقوله: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} فرد عليهم بقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ}
وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} بيانه: {الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ}
وقوله: {لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا} فقيل لهم: {لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ}
وقوله: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} فقيل لهم في الجواب: { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} الآية
ومنه: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فقيل لهم: {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ}

ومنه: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} فرد عليهم بقوله: {لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} رد عليهم بقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ. لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
وقوله: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ} فقيل لهم: { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}
وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} فقيل في سورة أخرى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ}
وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ} تفسير هذا الاختصام ما قال في سورة أخرى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} الآية
وقوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} وفسرها في موضع آخر بقوله: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}

ومنه حكاية عن فرعون -لعنه الله-: {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} فرد عليه في قوله: {وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ}
وقوله: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ} وذكر هذا الحلف في قوله: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}
وقوله في قصة نوح عليه السلام: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} بَيَّن في مواضع أخر: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا}
وقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} أي: أوعية للعلم فقيل لهم: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً}
وجعل بعضهم من هذا قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}
قال: فإن آية البقرة وهى قوله: {حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} تدل على أن قوله: {رَبِّ أَرِنِي} لم يكن عن نفسه وإنما أراد به مطالبة قومه ولم يثبت في التوراة أنه سأل الرؤية إلا وقت حضور قومه معه وسؤالهم ذلك
ومن ذلك قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بينه في آية النساء بقوله: {مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ}
فإن قيل: فهلا فسرها آية مريم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ

مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} ؟ الآية قيل: لا نسلم أولا أن هذه الآية في النبيين فقط لقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} وقوله: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} وهذا تصريح بالأنبياء وغيرهم كيف وقد ذكرت مريم وهي صديقة على أحد القولين ولو سلم أنها في الأنبياء خاصة فهم بعض من أنعم الله عليهم وجعلهم في آية النساء صنفا من المنعم عليهم فكانت آية النساء من حيث هي عامة أولى بتفسير قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ولأن آية مريم ليس فيها إلا الإخبار بأن الله أنعم عليهم وذلك هو معنى قوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}
والرغبة إلى الله تعالى في الثبات عليها هي نفس الطاعة لله ولرسوله فإن العبد إذا هدي إلى الصراط المستقيم فقد هدى إلى الطاعة المقتضية أن يكون مع المنعم عليهم وظهر بهذا أن آية النساء أمس بتفسير سورة الحمد من الآية التي في سورة مريم
فصل
قد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره وقد يكون اللفظ مقتضيا لأمر ويحمل على غيره لأنه أولى بذلك الاسم منه وله أمثلة: منها تفسيرهم السبع المثاني بالفاتحة مع أن الله تعالى أخبر أن القرآن كله مثاني

ومنها قوله عن أهل الكساء: "هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا" وسياق القرآن يدل على إرادة الأزواج وفيهن نزلت ولا يمكن خروجهن عن الآية لكن لما أريد دخول غيرهن قيل بلفظ التذكير: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} فعلم أن هذه الإرادة شاملة لجميع أهل البيت الذكور والإناث بخلاف قوله: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ} ودل أن عليا وفاطمة أحق بهذا الوصف من الأزواج
ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المسجد الذي أسس على التقوى: "هو مسجدي هذا" وهو يقتضي أن ما ذكره أحق بهذا الاسم من غيره والحصر المذكور حصر الكمال كما يقال: هذا هو العالم العدل وإلا فلا شك أن مسجد قباء هو مؤسس على التقوى وسياق القرآن يدل على أنه مراد بالآية
فصل
قد يكون اللفظ محتملا لمعنيين في موضع ويعين في موضع آخر
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وفي موضع آخر ما يعينه لأحدهما كقوله تعالى في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} فيحتمل أن يكون السمع معطوفا على ختم ويحتمل الوقف على قلوبهم لأن الختم إنما يكون على القلب وهذا أولى لقوله في الجاثية: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً}

وقوله تعالى في سورة الحجر: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} فالاستثناء منقطع لقوله في الإسراء: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ولو كان متصلا لاستثناهم فلما لم يستثنهم دل على أنهم لم يدخلوا
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} فقد قيل: إن حياة كل شيء إنما هو بالماء قال ابن درستويه: وهذا غير جائز في العربية لأنه لو كان المعنى كذلك لم يكن {حَيٍّ} مجرورا ولكان منصوبا وإنما { حَيٍّ} صفة لشيء ومعنى الآية: خلق الخلق من الماء ويدل له قوله في موضع آخر: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ}
ومما يحتمل قوله تعالى: {فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ} فإن فليلقه يحتمل الأمر والخبر كأنه قال فاقذفيه في اليم يلقيه اليم ونحتمل أن يكون أمرا بإلقائه
ومنه قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} فإنه يحتمل أن يكون خلقته وحيدا فريدا من ماله وولده وفي الآية بحث آخر وهو أن أبا البقاء أجاز فيها وفي قوله: { وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ} أن تكون الواو عاطفة وهو فاسد لأنه يلزم منه أن يكون الله قد أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتركه وكأنه قال: اتركني واترك من خلقت وحيدا وكذلك اتركني واترك المكذبين فيتعين أن يكون

المراد: خل بيني وبينهم وهي واو مع كقوله: "لو تركت الناقة وفصيلها لرضعها"
وقد يكون للفظ ظاهر وباطن كقوله تعالى: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} ظاهره الكعبة وباطنه القلب قال العلماء ونحن نقطع أن المراد بخطاب إبراهيم الكعبة لكن العالم يتجاوز إلى القلب بطريق الاعتبار عند قوم والأولى عند آخرين ومن باطنه إلحاق سائر المساجد به ومن ظاهره عند قوم العبور فيه
فصل في ذكر الأمور التي تعين على المعنى عند الإشكال
ومما يعين على المعنى عند الإشكال أمور
أحدها: رد الكلمة لضدها كقوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي: ولا كفورا والطريقة أن يرد النهي منه إلى الأمر فنقول معنى: أطع هذا أو هذا أطع أحدهما وعلى هذا معناه في النهي ولا تطع واحدا منهما
الثاني: ردها إلى نظيرها كما في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فهذا عام وقوله: {فَوْقَ اثْنَتَيْنِ} قول حُدّ أحد طرفيه وأرخى الطرف الآخر إلى غير نهاية لأن أول ما فوق الثنتين الثلاث وآخره لا نهاية له وقوله: {وَإِنْ كَانَتْ

وَاحِدَةً} محدودة الطرفين فالثنتان خارجتان من هذا الفصل وأمسك الله عن ذكر الثنتين وذكر الواحدة والثلاث وما فوقها وأما قوله في الأخوات: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} الآية فذكر الواحدة والاثنتين وأمسك عن ذكر الثلاث وما فوقهن فضمن كل واحد من الفصلين ما كف عن ذكره في الآخر فوجب حمل كل واحد منهما فيما أمسك عنه فيه على ما ذكره في غيره
الثالث: ما يتصل بها من خبر أو شرط أو إيضاح في معنى آخر كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعز أو تكون العزة له لكن قوله تعالى: {فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} يحتمل أن يكون معناها: من كان يريد أن يعلم لمن العزة فإنها لله
وكذلك قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فإنه لا دلالة فيها على الحال التي هي شرط في عقوبته المعينة وأنواع المحاربة والفساد كثيرة وإنما استفيدت الحال من الأدلة الدالة على أن القتل على من قتل ولم يأخذ المال والصلب على من جمعهما والقطع على من أخذ المال ولم يقتل والنفي على من لم يفعل شيئا من ذلك سوى السعي في الأرض بالفساد
الرابع: دلالة السياق فإنها ترشد إلى تبيين المجمل والقطع بعدم احتمال غير المراد وتخصيص العام وتقييد المطلق وتنوع الدلالة وهو من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظيره وغالط في مناظراته وانظر إلى قوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ

الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير
الخامس: ملاحظة النقل عن المعنى الأصلي وذلك أنه قد يستعار الشيء لمشابهة ثم يستعار من المشابه لمشابه المشابه ويتباعد عن المسمى الحقيقي بدرجات فيذهب عن الذهن الجهة المسوغة لنقله من الأول إلى الآخر وطريق معرفة ذلك بالتدريج كقوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك أن أصل دون للمكان الذي هو أنزل من مكان غيره ومنه الشيء الدون للحقير ثم استعير للتفاوت في الأحوال والرتب فقيل زيد دون عمرو في العلم والشرف ثم اتسع فيه فاستعير في كل ما يتجاوز حدا إلى حد وتخطى حكما إلى حكم آخر كما في الآية المذكورة والتقدير لا تتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين
وكذلك قوله تعالى: {ادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي تجاوزوا الله في دعائكم إلى دعاء آلهتكم الذين تزعمون أنهم يشهدون لكم يوم القيامة أي لا تستشهدوا بالله فإنها حجة يركن إليها العاجز عن البينات من الناس بل ائتوا ببينة تكون حجة عند الحكام وهذا يؤذن بأنه لم يبق تشبث سوى قولهم: "الله يشهد لنا عليكم" هذا إذا جعلت من دون الله متعلقا بادعوا فإن جعلته متعلقا بـ {شُهَدَاءَكُمْ} احتمل معنيين: أحدهما : أن يكون المعنى ادعوا الذين تجاوزتم في زعمكم شهادة الله أي شهادتهم لكم يوم القيامة والثاني: على أن يراد بشهدائكم آلهتكم أي ادعوا الذين تجاوزتم في اتخاذكم ألوهية الله إلى ألوهيتهم

ويحتمل أن يكون التقدير: {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غير المؤمنين يشهدون لكم أنكم آمنتم بمثله وفي هذا إرخاء عنان الاعتماد على أن فصحاءهم تأنف نفوسهم من مساجلة الحق الجلي بالباطل اللجلجي وتعليقه بادعوا على هذا جائز
ومنه قوله تعالى: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ } فإنه عطفه على قوله: {أَلَمْ تَرَ} لأنها بمعنى: هل رأيت
السادس: معرفة النزول وهو من أعظم المعين على فهم المعنى وسبق منه في أول الكتاب جملة وكانت الصحابة والسلف يعتمدونه وكان عروة بن الزبير قد فهم من قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أن السعي ليس بركن فردت عليه عائشة ذلك وقالت: "لو كان كما قلت لقال فلا جناح عليه ألا يطوف بهما" وثبت أنه إنما أتى بهذه الصيغة لأنه كان وقع فزع في قلوب طائفة من الناس كانوا يطوفون قبل ذلك بين الصفا والمروة للأصنام فلما جاء الإسلام كرهوا الفعل الذي كانوا يشركون به فرفع الله ذلك الجناح من قلوبهم وأمرهم بالطواف رواه البخاري في صحيحه فثبت أنها نزلت ردا على من كان يمتنع من السعي
ومن ذلك قصة مروان بن الحكم سؤاله ابن عباس: "لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون" فقال ابن عباس: هذه الآيات

نزلت في أهل الكتاب ثم تلا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} وتلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} قال ابن عباس: سألهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا وقد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ما سألهم عنه
وقد سبق فيه كلام في النوع الأول في معرفة سبب النزول فاستحضره
ومن هذا ما قاله الشافعي في قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} أنه لا متمسك فيها لمالك على العموم لأنهم سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أشياء فأجابهم عن المحرمات من تلك الأشياء وحكاه غير سعيد بن جبير
السابع: السلامة من التدافع كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} فإنه يحتمل أن الطوائف لا تنفر من أماكنها وبواديها جملة بل بعضهم لتحصيل التفقه بوفودهم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإذا رجعوا إلى قومهم أعلموهم بما حصل لهم والفائدة في كونهم لا ينفرون جميعا عن بلادهم حصول المصلحة في حفظ من يتخلف من بعضهم ممن لا يمكن نفيره

ويحتمل أن يكون المراد بالفئة النافرة هي من تسير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه وسراياه والمعنى حينئذ أنه ما كان لهم أن ينفروا أجمعين مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مغازيه لتحصيل المصالح المتعلقة ببقاء من يبقى في المدينة والفئة النافرة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تتفقه في الدين بسبب ما يؤمرون به ويسمعون منه فإذا رجعوا إلى من بقي بالمدينة أعلموهم بما حصل لهم في صحبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العلم والاحتمالان قولان للمفسرين
قال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد: والأقرب عندي هو الاحتمال الأول لأنا لو حملناه على الاحتمال الثاني لخالفه ظاهر قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} وقوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} فإن ذلك يقتضي إما طلب الجميع بالنفير أو إباحته وذلك في ظاهره يخالف النهي عن نفر الجميع وإذا تعارض محملان يلزم من أحدهما معارضته ولا يلزم من الآخر فالثاني أولى ولا نعني بلزوم التعارض لزوما لا يجاب عنه ولا يتخرج على وجه مقبول بل ما هو أعم من ذلك فإن ما أشرنا إليه من الآيتين يجاب عنه بحمل "أو" في قوله: {أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} على التفصيل دون التخيير كما رضيه بعض المتأخرين من النحاة فيكون نفيرهم ثبات مما لا يدعون الحاجة إلى نفيرهم فيه جميعا ونفيرهم جميعا فيما تدعو الحاجة إليه ويحمل قوله: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ} على ما إذا كان الرسول هو النافر للجهاد ولم تحصل الكفاية إلا بنفير الجميع ممن يصلح للجهاد فهذا أولى من قول من يقول بالنسخ

أو أن تكون هذه الآية ناسخة لما اقتضى النفير جميعا
ومن المفسرين من يقول: إن منع النفير جميعا حيث يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة فليس لهم أن ينفروا جميعا ويتركوه وحده
والحمل أيضا على هذا التفسير الذي ذكرناه أولى من هذا لأن اللفظ يقتضي أن نفيرهم للتفقه في الدين والإنذار ونفيرهم مع بقاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدهم لا يناسبه التعليل بالتفقه في الدين إذ التفقه منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعلم الشرائع من جهته فكيف يكون خروجهم عليه معللا للتفقه في الدين
ومنه قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فإنه يحتمل أن يكون من باب التسهيل والتخفيف ويحتمل أن يكون من باب التشديد بمعنى أنه ما وجدت الاستطاعة فاتقوا أي لا تبقى من الاستطاعة شيء
وبمعنى التخفيف يرجع إلى أن المعنى: فاتقوا الله ما تيسر عليكم أو ما أمكنكم من غير عسر
قال الشيخ تقي الدين الفشيري: ويصلح معنى التخصيص قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم"
فصل في الظاهر والمؤول
وقد يكون اللفظ محتملا لمعنيين وهو في أحدهما أظهر فيسمى الراجح ظاهرا والمرجوح مؤولا

مثال المؤول قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فإنه يستحيل حمل المعية على القرب بالذات فتعين صرفه عن ذلك وحمله إما على الحفظ والرعاية أو على القدرة والعلم والرؤية كما قال تعالى: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
وكقوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فإنه يستحيل حمله على الظاهر لاستحالة أن يكون آدمي له أجنحة فيحمل على الخضوع وحسن الخلق
وكقوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} يستحيل أن يشد في القيامة في عنق كل طائع وعاص وغيرهما طير من الطيور فوجب حمله على التزام الكتاب في الحساب لكل واحد منهم بعينه
ومثال الظاهر قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ} فإن الباغي يطلق على الجاهل وعلى الظالم وهو فيه أظهر وأغلب كقوله تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ}
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فيقال: للانقطاع طهر وللوضوء والغسل غير أن الثاني أظهر
وكقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ} فيقال: للابتداء التمام والفراغ غير أن الفراغ أظهر
وقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فيحتمل أن يكون

الخيار في الأجل أو بعده والظاهر الأول لكنه يحمل على أنه مفارقة الأجل
وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } والظاهر يقتضي حمله على الاستحباب لأن قوله: { فَلا جُنَاحَ} بمنزلة قوله: "لا بأس" وذلك لا يقتضي الوجوب ولكن هذا الظاهر متروك بل هو واجب لأن طواف الإفاضة واجب ولأنه ذكره بعد التطوع فقال: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} فدل على أن النهي السابق نهي عن ترك واجب لا نهي عن ترك مندوب أو مستحب
وقد يكون الكلام ظاهرا في شيء فيعدل به عن الظاهر بدليل آخر كقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والشهر اسم لثلاثة لأنه أقل الجمع
وكقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَِلأُمِّهِ السُّدُسُ} فالظاهر اشتراط ثلاثة من الإخوة لكن قام الدليل من خارج على أن المراد اثنان لأنهما يحجبانها عن الثلث إلى السدس
فصل في اشتراك اللفظ بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز
قد يكون اللفظ مشتركا بين حقيقتين أو حقيقة ومجاز ويصح حمله عليهما جميعا كقوله تعالى: {لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ} قيل: المراد يُضَارِر وقيل: يُضَارِر أي الكاتب والشهيد لا يضارر فيكتم الشهادة والخط وهذا أظهر

ويحتمل أن من دعا الكاتب والشهيد لا يضارره فيطلبه في وقت فيه ضرر
وكذلك قوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فعلى هذا يجوز أن يقال أراد الله بهذا اللفظ كلا المعنيين على القولين أما إذا قلنا بجواز استعمال المشترك في معنييه فظاهر وأما إذا قلنا بالمنع فبأن يكون اللفظ قد خوطب به مرتين مرة أريد هذا ومرة هذا وقد جاء عن أبي الدرداء رضي الله عنه: "لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة" رواه أحمد أي اللفظ الواحد يحتمل معاني متعددة ولا يقتصر به على ذلك المعنى بل يعلم أنه يصلح لهذا ولهذا
وقال ابن القشيري في مقدمة تفسيره: مالا يحتمل إلا معنى واحدا حمل عليه وما احتمل معنيين فصاعدا بأن وضع الأشياء متماثلة كالسواد حمل على الجنس عند الإطلاق وإن وضع لمعان مختلفة فإن ظهر أحد المعنيين حمل على الظاهر إلا أن يقوم الدليل وإن استويا سواء كان الاستعمال فيهما حقيقة أو مجازا أو في أحدهما حقيقة وفي الآخر مجازا كلفظ العين والقرء واللمس فإن تنافى الجمع بينهما فهو مجمل فيطلب البيان من غيره وإن لم يتناف فقد مال قوم إلى الحمل على المعنيين والوجه التوقف فيه لأنه ما وضع للجميع بل وضع لآحاد مسميات على البدل وادعاء إشعاره بالجميع بعيد نعم يجوز أن يريد المتكلم به جميع المحامل ولا يستحيل ذلك عقلا وفي مثل هذا يقال: يحتمل أن يكون المراد كذا ويحتمل أن يكون كذا
فصل
قد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين
وقد ينفي الشيء ويثبت باعتبارين كما سبق في قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ

رَمَى} ثم أثبته لسر غامض وهو أن الرمي الثاني غير الأول فإن الأول عني به الرمي بالرعب والثاني عني به بالتراب حين رمى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وجوه أعدائه بالتراب والحصى وقال: "شاهت الوجوه" فانهزموا فأنزل الله يخبره أن انهزامهم لم يكن لأجل التراب وإنما هو بما أوقع في قلوبهم من الرعب
فصل في الإجمال ظاهرا وأسبابه
وأما ما فيه من الإجمال في الظاهر فكثير وله أسباب
أحدها: أن يعرض من ألفاظ مختلفة مشتركة وقعت في التركيب كقوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} قيل: معناه كالنهار مبيضة لا شيء فيها وقيل: كالليل مظلمة لاشيء فيها
وكقوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} قيل: أقبل وأدبر
وكالأمة في قوله تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً} بمعنى الجماعة وفي قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} بمعنى الرجل الجامع للخير المقتدى به وبمعنى الدين في قوله

تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} وبمعنى الزمان في قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ}
وكالذرية فإنها في الاستعمال العرفي الأدنى ومنه: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} وقد يطلق على الأعلى بدليل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} الآية ثم قال: {ذُرِّيَّةً} وبها يجاب عن الإشكال المشهور في قوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} على بحث فيه
وقال مكي في قوله تعالى: {فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي: أول من يعبد الله ومن قال: "الأنِفين" فقوله مردود لأنه يلزم أن يكون العبدين لأنه إنما يقال: عبد من كذا أي أنف
الثاني: من حذف في الكلام كقوله: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قيل معناه ترغبون في نكاحهن لما لهن وقيل معناه: عن نكاحهن لزمانتهن وقلة مالهن والكلام يحتمل الوجهين لأن العرب تقول رغبت عن الشيء إذا زهدت فيه ورغبت في الشيء إذا حرصت عليه فلما ركب الكلام تركيبا حذف معه حرف الجر احتمل التأويلين جميعا وجعل منه بعضهم قوله تعالى في سورة النساء: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ

لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً. مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أي يقولون: {مَا أَصَابَكَ} قال: ولولا هذا التقدير لكان مناقضا لقوله: {قُل كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
وقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً} أي: آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها وليس المراد أن الناقة كانت مبصرة لا عمياء
الثالث: من تعيين الضمير كقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فالضمير في {يَدِهِ} يحتمل عوده على الولي وعلى الزوج ورجح الثاني لموافقته للقواعد فإن الولي لا يجوز أن يعفو عن مال يتيمه بوجه من الوجوه وحمل الكلام المحتمل على القواعد الشرعية أولى
فإن قيل: لو كان خطابا للأزواج لقال: "إلا أن تعفو" بالخطاب لأن صدر الآية خطاب لهم بقوله: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلى قوله: {نِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
قلنا: هو التفات من الخطاب إلى الغيبة وهو من أنواع البديع
ومنه قوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فيحتمل أن يكون الضمير الفاعلي الذي في {يَرْفَعُهُ} عائدا على العمل والمعنى أن الكلم الطيب -وهو التوحيد- يرفع العمل الصالح لأنه لا تصلح الأعمال إلا مع الإيمان ويحتمل أن يكون الضمير عائدا على الكلم ويكون معناه أن العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيب وكلاهما صحيح لأن الإيمان فعل وعمل ونية لا يصح بعضها إلا ببعض

وقوله تعالى: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} فالهاء الأولى كناية عن الحوافر وهي موريات أي أثرن بالحوافر نقعا والثانية كناية عن الإغارة أي المغيرات صبحا {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً} جمع المشركين فأغاروا بجمعهم
وقد صنف ابن الأنباري كتابا في تعيين الضمائر الواقعة في القرآن في مجلدين
الرابع: من مواقع الوقف والابتداء كقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فقوله: {الرَّاسِخُونَ} يحتمل أن يكون معطوفا على اسم الله تعالى ويحتمل أن يكون ابتداء كلام وهذا الثاني هو الظاهر ويكون حذف "أما" المقابلة كقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} ويؤيده آية البقرة: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً}
الخامس : من جهة غرابة اللفظ كقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} {وَسَيِّداً وَحَصُوراً} وغير ذلك مما صنف فيه العلماء من كتب غريب القرآن
السادس: من جهة كثرة استعماله الآن كقوله تعالى: {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}

و{ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} بمعنى: يسمعون ولا يقول أحد الآن: ألقيت سمعي
وكذا قوله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي: متكبرا
وقوله: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي: يسرون ما في ضمائرهم
وكذا: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} أي: نادما
وكذا: {فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} أي: لم يتلقوا النعم بشكر
السابع: من جهة التقديم والتأخير كقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً} تقديره: ولو كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ولولا هذا التقدير لكان منصوبا كالإلزام
وقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} أي: يسألونك عنها كأنك وقوله: {لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ. كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ} فهذا غير متصل وإنما هو عائد على قوله: {قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ} فصارت أنفال الغنائم لك إذا أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره
وقوله: {حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ ِلأَبِيهِ} معناه: {قَدْ كَانَتْ

لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ}
الثامن: من جهة المنقول المنقلب كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ} أي طورسينا
وقوله: {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي: الناس وقيل: إدريس وفي حرف ابن مسعود: إدراس
التاسع: المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} معناه: يدعون من دون الله شركاء إلا الظن
وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} معناه: الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا
فصل فيما ورد فيه مبينا للإجمال
اعلم أن الكتاب هو القرآن المتلو وهو إما نص وهو ما لا يحتمل إلا معنى كقوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} وإما ظاهر وهو ما دل على معنى مع تجويز غيره

والرافع لذلك الاحتمال قرائن لفظية ومعنوية واللفظية تنقسم إلى متصلة ومنفصلة أما المتصلة فنوعان: نوع يصرف اللفظ إلى غير الاحتمال الذي لولا القرينة لحمل عليه ويسمى تخصيصا وتأويلا ونوع يظهر به المراد من اللفظ ويسمى بيانا
فالأول: كقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} فإنه دل على أن المراد من قوله سبحانه: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} البعض دون الكل الذي هو ظاهر بأصل الوضع وبين أنه ظاهر في الاحتمال الذي دلت عليه القرينة في سياق الكلام وللشافعي رحمه الله قول بإجمال البيع لأن الربا مجمل وهو في حكم المستثنى من البيع واستثناء المجهول من المعلوم يعود بالإجمال على أصل الكلام والصحيح الأول فإن الربا عام في الزيادات كلها وكون البعض غير مراد نوع تخصيص فلا تتغير به دلالة الأوضاع
ومثال النوع الثاني : قوله تعالى: {مِنَ الْفَجْرِ} فإنه فسر مجمل قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} إذ لولا {مِنَ الْفَجْرِ} لبقي الكلام الأول على تردده وإجماله
وقد ورد أن بعض الصحابة كان يربط في رجله الخيط الأبيض والأسود ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له لونهما فأنزل الله تعالى بعد ذلك: {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه أراد الليل والنهار
وأما اللفظية المنفصلة فنوعان أيضا: تأويل وبيان
فمثال الأول قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فإنه دل على أن المراد بقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الطلاق

الرجعي إذا لولا هذا القرينة لكان الكل منحصرا في الطلقتين وهذه القرينة وإن كانت مذكورة في سياق ذكر الطلقتين إلا أنها جاءت في آية أخرى فلهذا جعلت من قسم المنفصلة
ومثال الثاني قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ. إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فإنه دل على جواز الرؤية ويفسر به قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} حيث كان مترددا بين نفي الرؤية أصلا وبين نفي الإحاطة والحصر دون أصل الرؤية
وأيضا قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} فإنه لما حجب الفجار عن رؤيته خزيا لهم دل على إثباتها للأبرار وارتفع به الإجمال في قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}
وأما القرائن المعنوية فلا تنحصر ومن مثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} فإن صيغته صيغة الخبر ولكن لا يمكن حمله على حقيقته فإنهن قد لا يتربصن فيقع خبر الله بخلاف مخبره وهو محال فوجب اعتبار هذه القرينة حمل الصيغة على معنى الأمر صيانة لكلام الله تعالى عن احتمال المحال ونظائره كثيرة فيما ورد من صيغة الخبر والمراد بها الأمر

النوع الثاني والأربعون في وجوه المخاطبات والخطاب في القرآن
يأتي على نحو من أربعين وجها:
الأول: خطاب العام المراد به العموم
كقوله تعالى: {إِِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً}
وقوله: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً} وهو كثير في القرآن
{يَا أَيُّهَا الإِِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}
الثاني: خطاب الخاص والمراد به الخصوص
من ذلك قوله تعالى: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}

{هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ}
{ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ}
وقوله: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا} وغير ذلك
الثالث: خطاب الخاص والمراد به العموم
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فافتتح الخطاب بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد سائر من يملك الطلاق
ومنه قوله تعالى: {يأيها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
وقال أبو بكر الصيرفي: كان ابتداء الخطاب له فلما قال في الموهوبة: {خَالِصَةً لَكَ} علم أن ما قبلها له ولغيره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وقوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وجرى أبو يوسف على الظاهر فقال: إن صلاة الخوف من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأجاب الجمهور بأنه لم يذكر {فِيهِمْ} على أنه شرط بل على أنه صفة حال والأصل في الخطاب أن يكون لمعين
وقد يخرج على غير معين ليفيد العموم كقوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} وفائدته الإيذان بأنه خليق بأن يؤمر به كل أحد ليحصل مقصوده الجميل
وكقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ} أخرج في صورة الخطاب لما أريد العموم للقصد إلى تقطيع حالهم وأنها تناهت في الظهور حتى امتنع خفاؤها فلا تخص بها رؤية راء بل كل من يتأتى منه الرؤية داخل في هذا الخطاب كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} لم يرد به مخاطب معين بل عبر بالخطاب ليحصل لكل واحد فيه مدخل مبالغة فيما قصد الله من وصف ما في ذلك المكان من النعيم والملك ولبناء الكلام في الموضعين على العموم لم يجعل لـ: "ترى" ولا لـ: "رأيت" مفعولا ظاهرا ولا مقدرا ليشيع ويعم
وأما قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فقيل: إنه من هذا الباب ومنعه قوم وقال: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولو للتمني لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كالترجي في {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} لأنه تجرع من

عداوتهم الغصص فجعله الله كأنه تمنى أن يراهم على تلك الحالة الفظيعة من نكس الرؤوس صما عميا ليشمت بهم
ويجوز أن تكون: "لو" امتناعية وجوابها محذوف أي لرأيت أسوأ حال يرى
الرابع: خطاب العام والمراد الخصوص
وقد اختلف العلماء في وقوع ذلك في القرآن فأنكره بعضهم لأن الدلالة الموجبة للخصوص بمنزلة الاستثناء المتصل بالجملة كقوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً} والصحيح أنه واقع كقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} وعمومه يقتضي دخول جميع الناس في اللفظين جميعا والمراد بعضهم لأن القائلين غير المقول لهم والمراد بالأول نعيم بن سعيد الثقفي والثاني أبو سفيان وأصحابه قال الفارسي: ومما يقوي أن المراد بالناس في قوله: {نَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} واحد قوله: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} فوقعت الإشارة بقوله: {ذَلِكُمْ} إلى واحد بعينه ولو كان المعنى به جمعا لكان "إنما الشياطين الشياطين" فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ وقيل بل وضع فيه "الذين" موضع "الذي"

وقوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} يعني: عبد الله بن سلام
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قال الضحاك: وهو الأقرع بن حابس
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} لم يدخل فيه الأطفال والمجانين
ثم التخصيص يجيء تارة في آخر الآية كقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} فهذا عام في البالغة والصغيرة عاقله أو مجنونة ثم خص في آخرها بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} الآية فخصها بالعاقلة البالغة لأن من عداها عبارتها ملغاة في العفو
ونظيره قوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} فإنه عام في البائنة والرجعية ثم خصها بالرجعية بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} لأن البائنة لا تراجع
وتارة في أولها كقوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} فإن هذا خاص في الذي أعطاها الزوج ثم قال بعد: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فهذا عام فيما أعطاها الزوج أو غيره إذا كان ملكا لها
وقد يأخذ التخصيص من آية أخرى كقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ

دُبُرَهُ} الآية فهذا عام في المقاتل كثيرا أو قليلا ثم قال: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآية
ونظيره قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} وهذا عام في جميع الميتات ثم خصه بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فأباح الصيد الذي يموت في فم الجارح المعلم
وخصص أيضا عمومه في آية أخرى قال: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} تقديره: وإن كانت ميتة فخص بهذه الآية عموم تلك
ومثله قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ}
ونظيره قوله : {وَالدَّمَ} وقال في آية أخرى: {إِِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} يعني إلا الكبد والطحال فهو حلال
ثم هذه الآية خاصة في سورة الأنعام وهي مكية والآية العامة في سورة المائدة وهي مدنية وقد تقدم الخاص على العام في هذا الموضع كما تقدم في النزول آية الوضوء على أنه التيمم وهذا ماش على مذهب الشافعي في أن العبرة بالخاص سواء تقدم أم تأخر

ومثله قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} والآية وهذا عام سواء رضيت المرأة أم لا ثم خصها بقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ} وخصها بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
ومثله قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} الآية فهذا عام في المدخول بها وغيرها ثم خصها فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية فخص الآيسة والصغيرة والحامل فالآيسة والصغيرة بالأشهر والحامل بالوضع
ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ} الآية وهذا عام في الحامل والحائل ثم خص بقوله: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
ونظيره قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} الآية وهذا عام في ذوات المحارم والأجنبيات ثم خص بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} الآية
وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} عام في الحرائر والإماء ثم خصه بقوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ} فإن الخلة عامة ثم خصها بقوله: {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ}
وكذلك قوله: {وَلا شَفَاعَةٌ} بشفاعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

فائدة في العموم والخصوص
قد يكون الكلامان متصلين وقد يكون أحدهما خاصا والآخر عاما وذلك نحو قولهم لمن أعطى زيدا درهما: أعط عمرا فإن لم تفعل فما أعطيت يريد إن لم تعط عمرا فأنت لم تعط زيدا أيضا وذاك غير محسوب لك
ذكره ابن فارس وخرج عليه قوله تعالى: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} قال: فهذا خاص به يريد هذا الأمر المحدد بلغه {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ} ولم تبلغ هذا {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} يريد جميع ما أرسلت به
قلت: وهو وجه حسن وفي الآية وجوه أخر
أحدها: أن المعنى أنك إن تركت منها شيئا كنت كمن لا يبلغ شيئا منها فيكون ترك البعض محبطا للباقي قال الراغب: وكذلك أن حكم الأنبياء عليهم السلام في تكليفاتهم أشد وليس حكمهم كحكم سائر الناس الذين يتجاوز عنهم إذا خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وروي هذا المعنى عن ابن عباس رضي الله عنهما
والثاني: قال الإمام فخر الدين: إنه من باب قوله:
*أنا أبو النجم وشعري شعري*
معناه: أن شعري قد بلغ في المتانة والفصاحة إلى حد شيء قيل في نظم إنه شعري فقد

انتهى مدحه إلى الغاية فيفيد تكرير المبالغة التامة في المدح من هذا الوجه وكذا جواب الشرط ها هنا يعني به أنه لا يمكن أن يوصف ترك بعض المبلغ تهديدا أعظم من أنه ترك التبليغ فكان ذلك تنبيها على غاية التهديد والوعيد وضعف الوجه الذي قبله بأن من أتى بالبعض وترك البعض لو قيل: إنه ترك الكل كان كذبا ولو قيل إن الخلل في ترك البعض كالخلل في ترك الكل فإنه أيضا محال
وفي هذا التضعيف الذي ذكره الإمام نظر لأنه إذا كان متى أتي به غير معتد به فوجده كالعدم كقول الشاعر:
سئلت فلم تمنع ولم تعط نائلا
فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي: ولم تعط ما يعد نائلا وإلا يتكاذب البيت
الثالث: أنه لتعظيم حرمة كتمان البعض جعله ككتمان الكل كما في قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}
الرابع: أنه وضع السبب موضع المسبب ومعناه: إن لم تفعل ذلك فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العذاب
ذكر هذا والذي قبله صاحب الكشاف

تنبيه: قال الإمام أبو بكر الرازي: وفي هذه الآية دلالة على أن كل ما كان من الأحكام للناس إليه حاجة عامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد بلغه الكافة وإنما وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر نحو الوضوء من مس الفرج ومن مس المرأة ومما مست النار ونحوها لعموم البلوى بها فإذا لم نجد ما كان فيها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل انتهى
وهذه الدلالة ممنوعة لأن التبليغ مطلق غير مقيد بصورة التواتر فيما تعم به البلوى فلا تثبت زيادة ذلك إلا بدليل ومن المعلوم أن الله سبحانه لم يكلف رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إشاعة شيء إلى جمع يتحصل بهم القطع غير القرآن لأنه المعجز الأكبر وطريق معرفته القطع فأما باقي الأحكام فقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرسل بها إلى الآحاد والقبائل وهي مشتملة على ما تعم به البلوى قطعا
الخامس: خطاب الجنس
نحو: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} فإن المراد جنس الناس لا كل فرد وإلا فمعلوم أن غير المكلف لم يدخل تحت هذا الخطاب وهذا يغلب في خطاب أهل مكة كما سبق ورجح الأصوليون دخول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الخطاب بـ يأيها الناس وفي القرآن سورتان أولهما {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إحداهما: في النصف الأول وهي السورة الرابعة منه

وهي سورة النساء والثانية في النصف الثاني: منه وهي سورة الحج والأولى تشتمل على شرح المبدأ والثانية تشتمل على شرح المعاد فتأمل هذا الترتيب ما أوقعه في البلاغة
قال الراغب: والناس قد يذكر ويراد به الفضلاء دون من يتناوله اسم الناس تجوزا وذلك إذا اعتبر معنى الإنسانية وهو وجود العقل والذكر وسائر القوى المختصة به فإن كل شيء عدم فعله المختص به لا يكاد يستحق اسمه كاليد فإنها إذا عدمت فعلها الخاص بها فإطلاق اليد عليها كإطلاقه على يد السرير ومثله بقوله تعالى: {آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} أي: كما يفعل من يوجد فيه معنى الإنسانية ولم يقصد بالإنسان عينا واحدا بل قصد المعنى وكذلك قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ} أي: من وجد فيهم معنى الإنسانية أي إنسان كان
قال: وربما قصد به النوع من حيث هو كقوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ}
السادس: خطاب النوع
نحو: {يَا بَنِي إِسْرائيلَ} والمراد: بنو يعقوب وإنما صرح به للطيفة سبقت في النوع السادس وهو علم المبهمات

السابع: خطاب العين
نحو: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
{يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ}
{يَا إِبْرَاهِيمُ. قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}
{يَا مُوسَى}
{يَا عِيسَى}
ولم يقع في القرآن النداء بـ "يا محمد" بل بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} و{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} تعظيما له وتبجيلا وتخصيصا بذلك عن سواه
الثامن: خطاب المدح
نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وهذا وقع خطابا لأهل المدينة الذين آمنوا وهاجروا تمييزا لهم عن أهل مكة وقد سبق أن كل آية فيها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}

لأهل مكة وحكمه ذلك أنه يأتي بعد {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} الأمر بأصل الإيمان ويأتي بعد { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} الأمر بتفاصيل الشريعة وإن جاء بعدها الأمر بالإيمان كان من قبيل الأمر بالاستصحاب
وقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} قيل: يرد الخطاب بذلك باعتبار الظاهر عند المخاطب وهم المنافقون فإنهم كانوا يتظاهرون بالإيمان كما قال سبحانه: {قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ}
وقد جوز الزمخشري في تفسير سورة المجادلة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أن يكون خطابا للمنافقين الذين آمنوا بألسنتهم وأن يكون للمؤمنين
ومن هذا النوع الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ولهذا تجد الخطاب بالنبي في محل لا يليق به الرسول وكذا عكسه كقوله في مقام الأمر بالتشريع العام: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ } وفي مقام الخاص: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} ومثله: {إن إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ}
وتأمل قوله: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في مقام الاقتداء بالكتاب والسنة ثم قال: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فكأنه جمع له المقامين معنى النبوة والرسالة تعديدا للنعم في الحالين

وقريب منه في المضاف إلى الخاص: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} ولم يقل: "يا نساء الرسول" لما قصد اختصاصهن عن بقية الأمة
وقد يعبر بالنبي في مقام التشريع العام لكن مع قرينة إرادة التعميم كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ولم يقل طلقت
التاسع: خطاب الذم
نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}
ولتضمنه الإهانة لم يقع في القرآن في غير هذين الموضعين
وكثر الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} على المواجهة وفي جانب الكفار على الغيبة إعراضا عنهم كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} ثم قال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فواجه بالخطاب المؤمنين وأعرض بالخطاب عن الكافرين ولهذا كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا عتب على قوم قال: "ما بال رجال يفعلون كذا" فكنى عنه تكرما وعبر عنهم بلفظ الغيبة إعراضا

العاشر: خطاب الكرامة
نحو: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}
وقوله: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ}
الحادي عشر: خطاب الإهانة
نحو قوله لإبليس: {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ}
وقوله: {قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
وقوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ}
قالوا: ليس هذا إباحة لإبليس وإنما معناه أن ما يكون منك لا يضر عباده كقوله: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ}
الثاني عشر: خطاب التهكم
وهو الاستهزاء بالمخاطب مأخوذ من تهكم البئر إذا تهدمت كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} وهو خطاب لأبي جهل لأنه قال: "ما بين

جبليها -يعني مكة- أعز ولا أكرم مني"
وقال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} جعل العذاب مبشرا به
وقوله: {هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}
وقوله: {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} والنزل لغة: هو الذي يقدم للنازل تكرمة له قبل حضور الضيافة
وقوله تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ. لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} على تفسير المعقبات بالحرس حول السلطان يحفظونه -على زعمه- من أمر الله وهو تهكم فإنه لا يحفظه من أمر الله إذا جاءه
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} وهو تعالى يعلم حقيقتهم ويعلم ما يسرون وما يعلنون لا تخفي عليه خافية
وقوله تعالى: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} وذلك لأن الظل

من شأنه الاسترواح واللطافة فنفي هنا وذلك أنهم لا يستأهلون الظل الكريم
الثالث عشر: خطاب الجمع بلفظ الواحد
كقوله: {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ} {يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} والمراد: الجميع بدليل قوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}
وكان الحجاج يقول في خطبته: "يا أيها الإنسان وكلكم ذلك الإنسان"
وكثيرا ما يجيء ذلك في الخبر كقوله تعالى" {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيفِي} ولم يقل ضيوفي لأنه مصدر
وقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} ولم يقل الأعداء
وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} أي : رفقاء
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ }
وفي الوصف كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}

وقوله: {الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وقوله: {فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيّاً} وجمعه أنجية من المناجاة
وقوله: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} فأوقع الطفل جنسا
قال ابن جني: وهذا باب يغلب عليه الاسم لا الصفة نحو الشاة والبعير والإنسان والملك قال تعالى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} ومن مجيئه في الصفة قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} وقوله: {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}
وقال: وكل واحد من هذه الصفات لا تقع هذا الموقع إلا بعد أن تجري مجرى الاسم الصريح
الرابع عشر: خطاب الواحد بلفظ الجمع
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً} إلى قوله: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} فهذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إذ لا نبي معه قبله ولا بعده

وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} خاطب به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} الآية
وقوله: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} الآية خاطب بذلك أبا بكر الصديق لما حرم مسطحا رفده حين تكلم في حديث الإفك
وقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا} والمخاطب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضا لقوله: {قُلْ فَأْتُوا}
وقوله تعالى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ}
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي: ارجعني وإنما خاطب الواحد المعظم بذلك لأنه يقول نحن فعلنا فعلى هذا الابتداء خوطبوا بما في الجواب وقيل {رَبِّ} استغاثة و{ارْجِعُونِ} خطاب الملائكة فيكون التفاتا أو جمعا لتكرار القول كما قال: "قفا نبك"
وقال السهيلي: هو قول من حضرته الشياطين وزبانية العذاب فاختلط ولا يدري ما يقول من الشطط وقد اعتاد أمرا يقوله في الحياة من رد الأمر إلى المخلوقين

ومنه قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية وهذا مما لا تشريك فيه
وقال المبرد في الكامل: "لا ينبغي أن يستعمل ضمير الجمع في واحد من المخلوقين على حكم الاستلزام لأن ذلك كبر وهو مختص به سبحانه
ومن هذا ما حكاه الحريري في شرح الملحة عن بعضهم أنه منع من إطلاق لفظة نحن على غير الله تعالى من المخلوقين لما فيها من التعظيم وهو غريب وحكى بعضهم خلافا في نون الجمع الواردة في كلامه سبحانه وتعالى فقيل: جاءت للعظمة يوصف بها سبحانه وليس لمخلوق أن ينازعه فيها فعلى هذا القول يكره للملوك استعمالها في قولهم: نحن نفعل كذا وقيل في علتها: إنها كانت تصاريف أقضيته تجري على أيدي خلقه تنزلت أفعالهم منزلة فعله فلذلك ورد الكلام مورد الجمع فعلى هذا القول يجوز مباشرة النون لكل من لايباشر بنفسه
فأما قول العالم: "نحن نبين" "ونحن نشرح" فمفسوح له فيه لأنه يخبر بنون الجمع عن نفسه وأهل مقالته

وقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} والمراد: الإنس لأن الرسل لا تكون إلا من بني آدم وحكى بعضهم فيه الإجماع لكن عن الضحاك أن من الجن رسولا اسمه يوسف لقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} واحتج الجمهور بقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} ليحصل الاستئناس وذلك مفقود في الجن وبقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً} الآية وأجمعوا أن المراد بالاصطفاء النبوة
وأجيب عن تمسك الضحاك بالآية بأن البعضية صادقة بكون الرسل من بني آدم ولا يلزم إثبات رسل من الجن بطريق إثبات نفر من الجن يستمعون القرآن من رسل الإنس ويبلغونه إلى قومهم وينذرونهم ويصدق على أولئك النفر من حيث إنهم رسل الرسل وقد سمى الله رسل عيسى بذلك حيث قال: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ}
وفي تفسير القرآن لقوام السنة إسماعيل بن محمد بن الفضل الحوري قال: قوم من الجن رسل للآية
وقال الأكثرون: الرسل من الإنس ويجيء من الجن كقوله في قصة بلقيس: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والمراد به واحد بدليل قوله: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} وفيه نظر من جهة أنه يحتمل أن يكون الخطاب لرئيسهم فإن العادة جارية

لاسيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا وقرأ ابن مسعود ارجعوا إليهم أراد الرسول ومن معه
وقوله: {أُولَئِكَ مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} يعني: عائشة وصفوان
وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} والمراد بالمرسلين نوح كقولك: فلان يركب الدواب ويلبس البرود وماله إلا دابة وبرد قاله الزمخشري
وقوله تعالى: {نْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ} قال قتادة: هذا رجل كان لا يمالئهم على ما كانوا يقولون في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسماه الله سبحانه طائفة وقال البخاري ويسمى الرجل طائفة
وقوله: {لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ} والمراد خلة بدليل الآية الأخرى والموجب للجمع مناسبة رؤوس الآي
فائدة
وأما قوله تعالى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} فجوز الفارسي فيه تقديرين:
أحدهما: أن إمام هنا جمع لأنه المفعول الثاني لجعل والمفعول الأول جمع والثاني هو الأول فوجب أن يكون جمعا وواحده آم لأنه قد سمع هذا في واحدة

قال تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فهذا جمع "آم" مسلما وقياسه على حد قيام وقائم فأما أئمة فجمع إمام الذي هو مقدر على حد عنان وأعنه وسنان وأسنة والأصل أيمة فقلبت الفاء
والثاني: أنه جمع الإمام لأن المعنى: "أئمة" فيكون إمام على هذا واحدا وجمعه أئمة وإمام
وقال ابن الضائع: قيدت عن شيخنا الشلوبين فيه احتمالين غير هذين: أن يكون مصدرا كالإمام وأن يكون من الصفات المجراة مجرى المصادر في ترك التثنية والجمع كحسب ويحتمل أن يكون محمولا على المعنى كقولهم دخلنا على الأمير وكسانا حلة والمراد كل واحد منا حلة وكذلك هو واجعل كل واحد منا إماما
الخامس عشر: خطاب الواحد والجمع بلفظ الاثنين
كقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} والمراد: مالك خازن النار
وقال الفراء: الخطاب لخزنة النار والزبانية وأصل ذلك أن الرفقة أدنى ما تكون من ثلاثة نفر فجرى كلام الواحد على صاحبيه ويجوز أن يكون الخطاب للملكين الموكلين من قوله: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ}

وقال أبو عثمان: لما ثنى الضمير استغنى عن أن يقول ألق ألق يشير إلى إرادة التأكيد اللفظي
وجعل المهدوي منه قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} قال: الخطاب لموسى وحده لأنه الداعي وقيل: لهما وكان هارون قد أمن على دعائه والمؤمن أحد الداعيين
السادس عشر: خطاب الاثنين بلفظ الواحد
كقوله تعالى: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي: ويا هارون وفيه وجهان:
أحدهما: أنه أفرد موسى عليه السلام بالنداء بمعنى التخصيص والتوقف إذا كان هو صاحب عظيم الرسالة وكريم الآيات وذكره ابن عطية
والثاني: لما كان هارون أفصح لسانا منه على ما نطق به القرآن ثبت عن جواب الخصم الألد ذكره صاحب الكشاف وانظر إلى الفرق بين الجوابين
ومثله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} قال ابن عطية: إنما أفرده بالشقاء من حيث كان المخاطب أولا والمقصود في الكلام وقيل: بل ذلك لأن الله جعل

الشقاء في معيشة الدنيا في حيز الرجال ويحتمل الإغضاء عن ذكر المرأة ولهذا قيل من الكرم ستر الحرم
وقوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
ونحوه في وصف الاثنين بالجمع قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
وقال: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا} ولم يقل: اختصما
وقال: {فَتَابَ عَلَيْهِ} ولم يقل: عليهما اكتفاء بالخبر عن أحدهما بالدلالة عليه
السابع عشر: خطاب الجمع بعد الواحد
كقوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ} الآية فجمع ثالثها والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال ابن الأنباري: إنما جمع في الفعل الثالث ليدل على أن الأمة داخلون مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده وإنما جمع تفخيما له وتعظيما كما في قوله تعالى: { أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ}
وكذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} فثنى في الأول ثم جمع ثم أفرد لأنه خوطب أولا موسى وهارون لأنهما المتبوعان ثم سيق الخطاب عاما

لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها لأنه واجب عليهم ثم خص موسى بالبشارة تعظيما له
الثامن عشر: خطاب عين والمراد غيره
كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} الخطاب له والمراد المؤمنون لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان تقيا وحاشاه من طاعة الكافرين والمنافقين والدليل على ذلك قوله في سياق الآية: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً}
وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ} بدليل قوله في صدر الآية بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي}
ومنهم من أجراه على حقيقته وأوله قال أبو عمر الزاهد في الياقوتة: سمعت الإمامين ثعلب والمبرد يقولان: معنى {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ} أي قل يا محمد: إن كنت في شك من القرآن فاسأل من أسلم من اليهود إنهم أعلم به من أجل أنهم أصحاب كتاب

وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} قال ابن فورك: معناه وسع الله عنك على وجه الدعاء و{لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} تغليظ على المنافقين وهو في الحقيقة عتاب راجع إليهم وإن كان في الظاهر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقوله: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ}
وقوله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى} قيل: إنه أمية وهو الذي تولى دون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ألا ترى أنه لم يقل: "عبست"
وقوله: {لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
وقوله: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
وبهذا يزول الإشكال المشهور في أنه كيف يصح خطابه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع ثبوت عصمته عن ذلك كله؟ ويجاب أيضا بأن ذلك على سبيل الفرض والمحال يصح فرضه لغرض
والتحقيق أن هذا ونحوه من باب خطاب العام من غير قصد شخص معين والمعنى

اتفاق جميع الشرائع على ذلك ويستراح حينئذ من إيراد هذا السؤال من أصله
وعكس هذا أن يكون المراد عاما والمراد الرسول قوله: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} بدليل قوله في سياقها: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}
وأما قوله في سورة الأنعام: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فليس من هذا الباب
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون التقدير: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} في ألا تعلم أن الله لو شاء لجمعهم ويحتمل أن يهتم بوجود كفرهم الذي قدره الله وأراده
ثم قال: ويظهر تباين ما بين قوله تعالى لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وبين قوله عز وجل لنوح عليه السلام: {نِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} وقد تقرر أن محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الأنبياء
وقال مكي والمهدوي: الخطاب بقوله: { فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد أمته وهذا ضعيف ولا يقتضيه اللفظ
وقال قوم: وُقِّر نوح عليه السلام لسنه وشيبه
وقال قوم: جاء الحمل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقربه من الله ومكانته كما يحمل العاتب على قريبه أكثر من حمله على الأجانب
قال: والوجه القوي عندي في الآية هو أن ذلك لم يجيء بحسب النبيين وإنما جاء بحسب الأمر من الله ووقع النبي عنهما والعقاب فيهما

التاسع عشر: خطاب الاعتبار
كقوله تعالى حاكيا عن صالح لما هلك قومه: { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ} خاطبهم بعد هلاكهم إما لأنهم يسمعون ذلك كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأهل بدر وقال: "والله ما أنتم بأسمع منهم" وإما للاعتبار كقوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا} وقوله: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}
العشرون: خطاب الشخص ثم العدول إلى غيره
كقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم قال للكفار: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} بدليل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}
وقوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}
قال ابن خالويه: في كتاب المبتدأ

الحادي والعشرون: خطاب التلوين
وسماه الثعلبي المتلون كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} وتسميه أهل المعاني الالتفات وسنتكلم عليه إن شاء الله تعالى بأقسامه
الثاني والعشرون: خطاب الجمادات خطاب من يعقل
كقوله تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} تقديره: طائعة
وقيل: لما كانت ممن يقول وهي حالة عقل جرى الضمير في {طَائِعِينَ} عليه كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}
وقد اختلف -أن هذه المقالة حقيقة بأن جعل لها حياة وإدراكا يقتضي نطقها أو مجازا بمعنى ظهر فيها من اختيار الطاعة والخضوع بمنزلة هذا القول- على قولين:
قال ابن عطية: والأول أحسن لأنه لاشيء يدفعه والعبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر

ومنه قوله تعالى: { ياجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} فأمرها كما تؤمر الواحدة المخاطبة المؤنثة لأن جميع مالا يعقل كذلك يؤمر
الثالث والعشرون: خطاب التهييج
كقوله: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} ولا يدل على أن من لم يتوكل ينتفي عنهم الإيمان بل حث لهم على التوكل
وقوله: {فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فإنه سبحانه وصفهم بالإيمان عند الخطاب ثم قال: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} فقصد حثهم على ترك الربا وأن المؤمنين حقهم أن يفعلوا ذلك
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ}
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ}
وهذا أحسن من قول من قال: "إِنْ" هاهنا بمعنى: "إذ"

الرابع والعشرون: خطاب الإغضاب
كقوله تعالى: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
وقوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً}
وقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الخامس والعشرون: خطاب التشجيع والتحريض
وهو الحث على الاتصاف بالصفات الجميلة كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وكفى بحث الله سبحانه تشجيعا على منازلة الأقران ومباشرة الطعان
وقوله تعالى: {بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ}
وقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} وكيف لا يكون للقوم صبر والملك

الحق جل جلاله قد وعدهم بالمدد الكريم فقال: { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} وقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}
وقد جاء في مقابلة هذا القسم ما يراد منه الآخذ بالحزم والتأني بالحرب والاستظهار عليها بالعدة كقوله تعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} وقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}
ونحو ذلك في الترغيب والترهيب ما جاء في قصص الأشقياء تحذيرا لما نزل من العذاب وإخبارا للسعداء فيما صاروا إليه من الثواب
السادس والعشرون: خطاب التنفير
كقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} فقد جمعت هذه الآية أوصافا وتصويرا لما يناله المغتاب من عرض من يغتابه على أفظع وجه وفي ذلك محاسن كالاستفهام الذي معناه التقريع والتوبيخ وجعل ما هو الغاية في الكراهة موصولا بالمحبة وإسناد الفعل إلى {أَحَدُكُمْ} وفيه إشعار بأن أحدا لا يحب ذلك ولم يقتصر على تمثيل الاعتبار بأكل لحم الإنسان حتى جعله أخا ولم يقتصر على لحم الأخ حتى

جعله ميتا وهذه مبالغات عظيمة ومنها أن المغتاب غائب وهو لا يقدر على الدفع لما قيل فيه فهو كالميت
السابع والعشرون: خطاب التحنن والاستعطاف
كقوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}
الثامن والعشرون: خطاب التحبيب
نحو: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ}
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ}
{يا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي}
ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا عباس يا عم رسول الله"
التاسع والعشرون: خطاب التعجيز
نحو: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
{فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ}

{قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ}
{فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ}
وجعل منه بعضهم: {قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} ورد ابن عطية بان التعجيز يكون حيث يقتضي بالأمر فعل ما لا يقدر عليه المخاطب وإنما معنى الآية: كونوا بالتوهم والتقدير كذا
الثلاثون: التحسير والتلهف
كقوله تعالى: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ}
الحادي والثلاثون: التكذيب
نحو قوله: {قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ}
الثاني والثلاثون: خطاب التشريف
وهو كل ما في القرآن العزيز مخاطبة بـ"قل" كالقلاقل
وكقوله: {قُلْ آمَنَّا} وهو تشريف منه سبحانه لهذه الأمة بأن يخاطبها

بغير واسطة لتفوز بشرف المخاطبة إذ ليس من الفصيح أن يقول الرسول للمرسل إليه قال لي المرسل قل كذا وكذا ولأنه لا يمكن إسقاطها فدل على أن المراد بقاؤها ولا بدلها من فائدة فتكون أمرا من المتكلم للمتكلم بما يتكلم به أمره شفاها بلا واسطة كقولك لمن تخاطبه افعل كذا
الثالث والثلاثون: خطاب المعدوم
ويصح ذلك تبعا لموجود كقوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} فإنه خطاب لأهل ذلك الزمان ولكل من بعدهم وهو على نحو ما يجري من الوصايا في خطاب الإنسان لولده وولد ولده ما تناسلوا بتقوى الله وإتيان طاعته
قال الرماني في تفسيره: وإنما جاز خطاب المعدوم لأن الخطاب يكون بالإرادة للمخاطب دون غيره وأما قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} فعند الأشاعرة أن وجود العالم حصل بخطاب "كن"
وقالت الحنفية: التكوين أزلي قائم بذات البارئ سبحانه وهو تكوين لكل جزء من أجزاء العالم عند وجوده لا أنه يوجد عند كاف ونون
وذهب فخر الإسلام شمس الأئمة منهم إلى أن خطاب كن موجود عند إيجاد كل شيء فالحاصل عندهم في إيجاد الشيء شيئان: الإيجاد وخطاب كن

واحتج الأشاعرة بظاهر قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وقوله: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} ولو حصل وجود العلم بالتكوين لم يكن في خطاب كن فائدة عند الإيجاد وأجاب الحنفية بأنا نقول لموجها ولا تستقل بالفائدة كالمتشابه فيقول بوجود خطاب كن عند الإيجاد في غير تشبيه ولا تعطيل

النوع الثالث والأربعون: في بيان حقيقته ومجازه
لا خلاف أن كتاب الله يشتمل على الحقائق وهي كل كلام بقي على موضوعه كالآيات التي لم يتجوز فهيا والآيات الناطقة ظواهرها بوجود الله تعالى وتوحيده وتنزيهه والداعية إلى أسمائه وصفاته كقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الآية وقوله: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَاراً} {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} {أَمَّنْ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ}
وقوله تعالى: {مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ } وقوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ}
قيل: ومنه الآيات التي لم تنسخ وهي كالآيات المحكمات والآيات المشتملة

ولا تقديم فيه ولا تأخير كقول القائل: أحمد الله على نعمائه وإحسانه وهذا أكثر الكلام قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وأكثر ما يأتي من الآي على هذا
وأما المجاز فاختلف في وقوعه في القرآن والجمهور على الوقوع وأنكره جماعه منهم ابن القاص من الشافعية وابن خويز منداذ من المالكية وحكي عن داود الظاهري وابنه وأبي مسلم الأصبهاني
وشبهتهم أن المتكلم لا يعدل عن الحقيقة إلى المجاز إلا إذا ضاقت به الحقيقة فيستعير وهو مستحيل على الله سبحانه
وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن
وقد أفرده بالتصنيف الإمام أبو محمد بن عبد السلام وجمع فأوعى

وأما معناه فقال الحاتمي: معناه طريق القول ومأخذه مصدر جزت مجازا كما يقال: "قمت مقاما"
قال الأصمعي: كلام العرب إنما هو مثال شبه الوحي
نوعا المجاز
وله سببان: أحدهما: الشبه ويسمى المجاز اللغوي وهو الذي يتكلم فيه الأصولي والثاني: الملابسة وهذا هو الذي يتكلم فيه أهل اللسان ويسمى المجاز العقلي وهو أن تسند الكلمة إلى غير ما هي له أصالة بضرب من التأويل كسب زيد أباه إذا كان سببا فيه
المجاز في المركب وأقسامه
والأول مجاز في المفرد وهذا مجاز في المركب
ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} ونسبت الزيادة التي هي فعل الله إلى الآيات لكونها سببا فيها
وكذا قوله تعالى: { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} وقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ} والفاعل غيره ونسب الفعل إليه لكونه الأمر به
وكقوله: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} نسب النزع الذي هو فعل الله إلى إبليس

-لعنه الله- لأن سببه أكل الشجرة وسبب أكلها وسوسته ومقاسمته إياهما إنه لهما لمن الناصحين
وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} جعل التجارة الرابحة
وقوله: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} لأن الأمر هو المعزوم عليه بدليل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}
وقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} فنسب الإحلال الذي هو فعل الله إلى أكابرهم لأن سببه كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر
وقوله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} نسب الفعل إلى الظرف لوقوعه فيه
وقوله تعالى: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}
وقوله: {فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى}
وقد يقال إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما فالمجاز إفرادي لا إسنادي
وقوله: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} يحتمل معناه: يجعل هوله فهو من مجاز الحذف

وأما قوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} فقيل: على النسب أي: ذات رضا وقيل: بمعنى مرضية وكلاهما مجاز إفراد لا مجاز إسناد لأن المجاز في لفظ راضية لا في إسنادها ولكنهم كأنهم قدروا أنهم قالوا: رضيت عيشته فقالوا: عيشة راضية
وهو على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما طرفاه حقيقتان نحو: أنبت المطر البقل وقوله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وقوله: {وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا}
والثاني: مجازيان نحو: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ}
والثالث : ما كان أحد طرفيه مجازا دون الآخر كقوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} وقوله: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ}
قال بعضهم: ومن شرط هذا المجاز أن يكون للمسند إليه شبه بالمتروك في تعلقه بالعامل
المجاز الإفرادي وأقسامه
وأنواع الإفرادي في القرآن كثير يعجز العد عن إحصائها

كقوله: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى. نَزَّاعَةً لِلشَّوَى. تَدْعُو} قال: الدعاء من النار مجاز
وكقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً} الآية والسلطان هنا هو البرهان أي برهان يستدلون به فيكون صامتا ناطقا كالدلائل المخبرة والعبرة والموعظة
وقوله: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} فاسم الأم الهاوية مجاز أي كما أن الأم كافلة لولدها وملجأ له كذلك أيضا النار للكافرين كافلة ومأوى ومرجع
وقوله: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} {قُتِلَ الإِِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} والفعل في هذه المواضع مجاز أيضا لأنه بمعنى أبعده الله وأذله وقيل قهره وغلبه وهو كثير فلنذكر أنواعه لتكون ضوابط لبقية الآيات الشريفة
الأول: إيقاع المسبب موقع السبب
كقوله تعالى: {قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} وإنما نزل سببه وهو الماء وكقوله: {يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} ولم يقل: "كما فتن أبويكم" لأن الخروج من الجنة هو المسبب الناشئ عن الفتنة فأوقع المسبب موقع السبب أي لا تفتتنوا بفتنة الشيطان فأقيم فيه السبب مقام المسبب وهو سبب خاص فإذا عدم فيعدم المسبب فالنهي في الحقيقة لبني آدم والمقصود عدم وقوع هذا الفعل منهم فلما أخرج السبب من أن يوجد بإيراد النهي عليه كان أدل على امتناع النهي بطريق الأولى

وقوله تعالى: {مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} وهم لم يدعوه إلى النار إنما دعوه إلى الكفر بدليل قوله: {تَدْعُونَنِي ِلأَكْفُرَ بِاللَّهِ} لكن لما كانت النار مسببة عنه أطلقها عليه
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ} أي : العناد المستلزم للنار
وقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} لاستلزام أموال اليتامى إياها
وقوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} إنما أراد -والله أعلم- الشيء الذي ينكح به من مهر ونفقة وما لا بد للمتزوج منه
وقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أي: لا تأكلوها بالسبب الباطل الذي هو القمار وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} أي: عبادة الأصنام لأن العذاب مسبب عنها
وقوله: {وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} أي: وأغلظوا عليهم ليجدوا ذلك وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على انه المقصود لذاته وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته بل لتجدوه
الثاني: عكسه وهو إيقاع السبب موقع المسبب
كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}
وقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}

سمى الجزاء الذي هو السبب سيئة واعتداء فسمى الشيء باسم سببه وإن عبرت السيئة عما ساء أي أحزن لم يكن من هذا الباب لأن الإساءة تحزن في الحقيقة كالجناية
ومنه: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} تجوز بلفظ المكر عن عقوبته لأنه سبب لها
ومنه قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} إنما جعلت المرأتان للتذكير إذا وقع الضلال لا ليقع الضلال فلما كان الضلال سببا للتذكير أقيم مقامه
ومنه إطلاق اسم الكتاب على الحفظ أي المكتوب فإن الكتابة سبب له كقوله تعالى: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} أي: سنحفظه حتى نجازيهم عليه
ومنه إطلاق اسم السمع على القبول كقوله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي: ما كانوا يستطيعون قبول ذلك والعمل به لأن قبول الشيء مرتب على سماعه ومسبب عنه ويجوز أن يكون نفى السمع لابتغاء فائدته ومنه قول الشاعر:
وإن حلفت لا ينقض النَّأْيُ عَهْدَهَا
فليس لمخضوب البَنَاِن يَمِيْنُ
أي: وفاء يمين
ومنه إطلاق الإيمان على ما نشأ عنه من الطاعة كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} أي: أفتعلمون ببعض التوراة وهو فداء الأسارى وتتركون العمل ببعض وهو قتل إخوانهم وإخراجهم من ديارهم

وجعل الشيخ عز الدين من الأنواع نسبة الفعل إلى سبب سببه كقوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} أي: كما أخرج أبويكم فلا يخرجنكما من الجنة: {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} المخرج والنازع في الحقيقة هو الله عز وجل وسبب ذلك أكل الشجرة وسبب أكل الشجرة وسوسة الشيطان ومقاسمته على أنه من الناصحين وقد مثل البيانيون بهذه الآية للسبب وإنما هي لسبب السبب
وقوله: {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} لما أمروهم بالكفر الموجب لحلول النار نسب ذلك إليهم لأنهم أمروهم به فالله هو المحل لدار البوار وسبب إحلالها كفرهم وسبب كفرهم أمر أكابرهم إياهم بالكفر الموجب لحلول النار
الثالث: إطلاق اسم الكل على الجزء
قال تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ} أي: أناملهم وحكمة التعبير عنها بالأصابع الإشارة إلى أنهم يدخلون أناملهم في آذانهم بغير المعتاد فرارا من الشدة فكأنهم جعلوا الأصابع
وقال تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} واليد حقيقة إلى المنكب هذا إن جعلنا "إلى" بمعنى "مع" ولا يجب غسل جميع الوجه إذا ستره بعض الشعور الكثيفة

وقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} والمراد هو البعض الذي هو الرسغ
وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ} أي: من لم يذق
وقوله: {تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} والمراد: وجوههم لأنه لم ير جملتهم
ومنه قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} استشكله الإمام في تفسيره من جهة أن الجزاء إنما يكون بعد تمام الشرط والشرط أن يشهد الشهر وهو اسم لثلاثين يوما وحاصل جوابه أنه أوقع الشهر وأراد جزءا منه وإرادة الكل باسم الجزء مجاز شهير
ونقل عن علي رضي الله عنه أن المعنى: من شهد أول الشهر فليصم جميعه وأن الشخص متى كان مقيما أو في البر ثم سافر يجب عليه صوم الجميع والجمهور على أن هذا عام مخصص بقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية ويتفرع على هذا أن من أدرك الجزء الأخير من رمضان هل يلزمه صوم ما سبق إن كان مجنونا في أوله؟ فيه قولان
الرابع: إطلاق اسم الجزء على الكل
كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ} أي: ذاته ويبقى وجه ربك

وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ. عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} يريد الأجساد لأن العمل والنصب من صفاتها وأما قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} فيجوز أن يكون من هذا عبر بالوجوه عن الرجال ويجوز أن يكون من وصف البعض بصفة الكل لأن التنعم منسوب إلى جميع الجسد
ومنه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} فالوجه المراد به جميع ما تقع به المواجهة لا الوجه وحده
وقد اختلف في تأويل "الوجه" الذي جاء مضافا إلى الله في مواضع من القرآن فنقل ابن عطية عن الحذاق أنه راجع إلى الوجود والعبارة عنه بالوجه مجاز إذ هو أظهر الأعضاء في المشاهدة وأجلها قدرا وقيل -وهو الصواب-: هي صفة ثابتة بالسمع زائدة على ما توجبه العقول من صفات الله تعالى وضعفه إمام الحرمين وأما قوله تعالى: {فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} فالمراد الجهة التي وجهنا إليها في القبلة وقيل: المراد به الجاه أي فثم جلال الله وعظمته
وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} تجوز بذلك عن الجملة
وقوله: {وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} البنان الإصبع تجوز بها عن الأيدي

والأرجل عكس قوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ}
وقوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
وقوله: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} عبر بالأنف عن الوجه {لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}
وكقوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} أضاف الإثم إلى القلب وإن كانت الجملة كلها آثمة من حيث كان محلا لاعتقاد الإثم والبر كما نسبت الكتابة إلى اليد من حيث إنها تفعل بها في قوله تعالى: {مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} وإن كانت الجملة كلها كاتبة ولهذا قال: {وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ}
وكذا قوله: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وقيل: المعنى على حذف المضاف لأن المدرك هو الجملة دون الحاسة فأسند الإدراك إلى الأبصار لأنه بها يكون
وكقوله تعالى: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } أي: إياه
{تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي}
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وحكى ابن فارس عن جماعة أن "من" هنا للتبعيض لأنهم أمروا بالغض عما يحرم النظر إليه
وقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} أي: صل في الليل لأن القيام بعض الصلاة

وكقوله: {وَقُرْآنَ الْفَجْر} أي: صلاة الفجر
ومنه: "المسجد الحرام" والمراد: جميع الحرم
وقوله: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} أي: المصلين
{يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} أي: الوجوه
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} فعبر بالأرض والسماء عن العالم لأن المقام مقام الوعيد والوعيد إنما لو بين أن الله لا يخفى عليه أحوال العباد حتى يجازيهم على كفرهم وإيمانهم والعباد وأحوالهم ليست السماء والأرض بل من العالم فيكون المراد بالسماء والأرض العالم إطلاقا للجزء على الكل
وقوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} قال الفارسي: جعله على المجاز أذنا لأجل إصغائه قال: ولو صغرت أذنا في هذه الآية كان في لحاق تاء فيها وتركها نظر
وجعل الإمام فخر الدين قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} المراد به: جميع الحرم لا صفة الكعبة فقط بدليل قوله: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وقوله: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة قال: وكذلك المسجد الحرام في قوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ

هَذَا} والمراد: منعهم من الحج وحضور مواضع النسك
وقيل في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} أي: نجعلها صفحة مستوية لا شقوق فيها كخف البعير فيعدم الارتفاق بالأعمال اللطيفة كالكتابة والخياطة ونحوها من الأعمال التي يستعان فيها بالأصابع قالوا وذكرت البنان لأنه قد ذكرت اليدان فاختص منها ألطفها
وجوز أبو عبيدة ورود البعض وإرادة الكل وخرج عليه قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي: كله وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وأنشد بيت لبيد:
تَرَّاُكُ أَمْكِنَةٍ إذا لم أَرْضَها
أو يَعْتَلِقْ بعضَ النفوس حِمَامُها
قال: والموت لا يعتلق بعض النفوس دون البعض ويقال للمنية: عَلُوق وعُلاقة انتهى
وهذا الذي قال فيه أمران:
أحدها: أنه ظن أن النبي يجب عليه أن يبين في شريعته جميع ما اختلفوا فيه وليس كذلك بدليل سؤالهم عن الساعة وعن الروح وغيرهما مما لا يعلمه إلا الله وأما الآية

الأخرى فقال ثعلب: إنه كان وعدهم بشيء من العذاب عذاب الدنيا وعذاب الآخرة فقال: يصبكم هذا العذاب في الدنيا -وهو بعض الوعيد- من غير نفي عذاب الآخرة
الثاني: أنه أخطأ في فهم البيت وإنما مراد الشاعر ببعض النفوس نفسه هو لأنها بعض النفوس حقيقة ومعنى البيت: أنا إذا لم أرض الأمكنة أتركها إلى أن أموت أي إذا تركت شيئا لا أعود إليه إلى أن أموت كقول الآخر:
إذا انصرفتْ نفسي عن الشيء لم تَكَدْ
إليه بوجهٍ آخر الدهر تَرْجِعُ
وقال الزمخشري: إن صحت الرواية عن أبي عبيدة فيدخل فيه قول المازني في مسألة العَلْقى: كان أجفى من أن يفقه ما أقول له وأشار الزمخشري بذلك إلى أن أبا عبيدة قال للمازني: ما أكذب النحويين! فقلت له: لم قلت ذلك؟ قال: يقولون: هاء التأنيث تدخل على ألف التأنيث وإن الألف التي في علقى ملحقة ليست للتأنيث قال: فقلت له: وما أنكرت من ذلك؟ قال: سمعت رؤبة ينشد:
فَحَطَّ في عَلْقى وفي مُكُور
فلم ينونها فقلت: ما واحد العلقى فقال: علقاة قال المازني: فأسفت ولم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا!

قلت: ويحتمل قوله يصبكم بعض الذي يعدكم أن الوعيد مما لا يستنكر ترك جميعه فكيف بعضه! ويدل قوله في آخر هذه السورة: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} وفيها تأييد لكلام ثعلب أيضا
وقد يوصف البعض كقوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} وقوله: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} الخطأ صفة الكل فوصف به الناصية وأما الكاذبة فصفة اللسان
وقد يوصف الكل بصفة البعض كقوله: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} والوجل صفة القلب
وقوله: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} والرعب إنما يكون في القلب
الخامس: إطلاق اسم الملزوم على اللازم
كقوله تعالى: {أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ} أي: أنزلنا برهانا يستدلون به وهو يدلهم سمي الدلالة كلاما لأنها من لوازم الكلام
وقوله: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ} فإن الأصل "عمى" لقوله في موضع آخر: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} لكن أتى بالظلمات لأنها من لوازم العمى

فإن قيل: ما الحكمة في دخول الواو هنا وفي التعبير بالظلمات عن العمى بخلافه في الآية الأخرى
السادس: إطلاق اسم اللازم على الملزوم
كقوله تعالى: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} أي: المصلين
السابع: إطلاق اسم المطلق على المقيد
كقوله: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} والعاقر لها من قوم صالح قُدَار لكنه لما رضوا بالفعل نزلوا منزلة الفاعل
الثامن: عكسه
كقوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} والمراد: كلمة الشهادة وهي عدة كلمات
التاسع: إطلاق اسم الخاص وإرادة العام
كقوله تعالى: {إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: رسله
وقال: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} أي: الأعداء

{وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} أي: الذين
وقوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} أي: كل نفس
وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي: كل سيئة
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
العاشر: إطلاق اسم العام وإرادة الخاص
كقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي: للمؤمنين بدليل قوله في موضع آخر: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} ولما خفي هذا على بعضهم زعم أن الأولى منسوخة بالثانية
وكقوله تعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} أي: أهل طاعته لا الناس أجمعون حكاه الواحدي عن ابن عباس وغيره واختاره الفراء
وقوله: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} قيل: المراد بالناس هنا نوح ومن معه في السفينة وقيل: آدم وحواء
وقوله: {وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ} أي: عالمي زمانه ولا يصح العموم

لأنه إذا فضل أحدهم على العالمين فقد فضل على سائرهم لأنه من العالمين فإذا فضل الآخرين على العالمين فقد فضلهم أيضا على الأول لأنه من العالمين فيصير الفاضل مفضولا ولا يصح
وقوله: {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} أي: شيء يحكم عليه بالذهاب بدليل قوله: {فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}
وقوله: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا}
وقوله: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} مع أنها لم تؤت لحية ولا ذكرا
وقوله: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} أي: كل شيء أحبوه
وقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} أي: مما ظنه وقدره
وقوله حكاية عن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} وعن موسى {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} ولم يرد الكل لأن الأنبياء قبله ما كانوا مسلمين ولا مؤمنين
وقال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} ولم يعن كل الشعراء
وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} أي: أخوان فصاعدا وقوله: {وََادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً} أي: بابا من أبوابها قاله المفسرون

وقوله: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا} وإنما قاله فريق منهم {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ} وأراد الآيات التي إذا كذب بها نزل العذاب على المكذب
وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي: من المؤمنين
وقوله: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا}
وقوله: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ} والمراد: بعضهم فإن منهم أفاضل المسلمين والصديق وعليا رضي الله عنهما
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} فإن {النَّاسَ} الأولى لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله تعالى بعد ذلك: {إِنَّ النَّاسَ} ولأن {الَّذِينَ} من {النَّاسَ} فلا يكون الثاني مستغرقا ضرورة خروج {الَّذِينَ} منهم لأنهم لم يقولوا لأنفسهم
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والمراد: شهران وبعض الثالث
الحادي عشر: إطلاق الجمع وإرادة المثنى
كقوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أطلق اسم القلوب على القلبين

الثاني عشر: النقصان
ومنه حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه
كقوله: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أي: أهلها
وقوله: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} أي: على لسان رسلك
وقال: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أي: أنصار دين الله
وقال: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} أي: حبه
{وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ} أي: من قومه قالوا: وإنما يحسن الحذف إذا كان فيه زيادة مبالغة والمحذوفات في القرآن على هذا النمط وسيأتي الإشباع فيه وفي شروطه إن شاء الله تعالى وذهب المحققون إلى أن حذف المضاف ليس من المجاز لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له ولأن الكلمة المحذوفة ليست كذلك وإنما التجوز في أن ينسب إلى المضاف إليه ما كان منسوبا إلى المضاف كالأمثلة السابقة
الثاني عشر: الزيادة
كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ذكره الأصوليون

وللنحويين فيها قولان:
أحدهما: أن مثل زائدة والتقدير: ليس كهو شيء
والثاني -وهو المشهور-: أن الكاف هي الزائدة وأن مثل خبر ليس ولا خفاء أن القول بزيادة الحرف أسهل من القول بزيادة الاسم
وممن قال به ابن جني والسيرافي وغيرهما فقالوا: المعنى ليس مثله شيء والكاف زائدة وإلا لاستحال الكلام لأنها لو لم تكن زائدة كانت بمعنى مثل وإن كانت حرفا فيكون التقدير: ليس مثل مثله شيء وإذا قدر هذا التقدير ثبت له مثل ونفي الشبه عن مثله وهذا محال من وجهين:
أحدهما: أن الله عز وجل لا مثل له
والثاني: أن نفس اللفظ به محال في حق كل أحد وذلك أنا لو قلنا: ليس مثل مثل زيد لاستحال ذلك لأن فيه إثبات أن لزيد مثلا وذلك يستلزم جعل زيد مثلا له لأن ما ماثل الشيء فقد ماثله ذلك الشيء وغير جائز أن يكون زيد مثلا لعمرو وعمرو ليس مثلا لزيد فإذا نفينا المثل عن مثل زيد وزيد هو مثل مثله فقد اختلفنا ولأنه يلزم منه التناقص على تقدير إثبات المثل لأن مثل المثل لا يصح نفيه ضرورة كونه مثلا لشيء وهو مثل له
وأجيب عن الأول بأنا لا نسلم لزوم إثبات المثل غاية ما فيه نفي مثل مثل الله وذلك يستلزم ألا يكون له مثل أصلا ضرورة أن مثل كل شيء فذلك الشيء مثله فإذا انتفى عن شيء أن يكون مثل عمرو انتفى عن عمرو أن يكون مثله

وأما الثاني: فهو مبني على أن هذه العبارات يلزم منها إثبات المثل ونحن قد منعناه بل أحلناه من العبارة وقيل: ليست زائدة إما لاعتبار جواز سلب الشيء عن المعدوم كما تسلب الكتابة عن زيد وهو معدوم أو يحمل المثل على المثل أي الصفة كقوله تعال: ى{مَثَلُ الْجَنَّةِ} أي: صفتها فالتقدير: ليست كصفته شيء
وبهذين التقديرين يحصل التخلص عن لزوم إثبات مثل وإن لم تكن زائدة
وأما القائلون بأن الزائد مثل وإلا لزم إثبات المثل ففيه نظر لاستلزام تقدير دخول الكاف على الضمير وهو ضعيف لا يجيء إلا في الشعر وقد ذكرنا ما يخلص من لزوم إثبات المثل
وقيل: المراد الذات والعين كقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} وقول امرئ القيس:
*على مثل ليلى يقتل المرء نفسه*
فالكاف على بابها وليس كذاك بل المراد حقيقة المثل ليكون نفيا عن الذات بطريق برهاني كسائر الكنايات ثم لا يشترط على هذا أن يكون لتلك الذات الممدوحة مثل في الخارج حصل النفي عنه بل هو من باب التخييل في الاستعارة التي يتكلم فيها البياني
فإن قيل: إنما يكون هذا نفيا عن الذات بطريق برهاني أن لو كانت المماثلة تستدعي المساواة في الصفات الذاتية وغيرها من الأفعال فان اتفاق الشخصيتين بالذاتيات لا يستلزم اتحاد أفعالهما

قيل: ليس المراد بالمثل هنا المصطلح عليه في العلوم العقلية بل المراد من هو مثل حاله في الصفات المناسبة لما سيق الكلام له وليس المراد من هو مثل في كل شيء لأن لفظة مثل لا تستدعي المشابهة من كل وجه وقال الكواشي: يجوز أن يقال: إن الكاف ومثل ليسا زائدتين بل يكون التمثيل هنا على سبيل الفرض كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وتقدير الكلام: لو فرضنا له مثلا لامتنع أن يشبه ذلك المثل المفروض شيء وهذا أبلغ في نفي المماثلة
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} فقيل: إن ما فيه مصدرية وهذا فيه نظر لأن ما لو كانت مصدرية لم يعد إليها من الصلة ضمير وهو الهاء في به لأن الضمير لا يعود على الحروف ولا يعتبر اسما إلا بالصلة والاسم لا يعود عليه ما هو صفته إذ لا يحتاج في ذلك إلى ربط وجوابه أن تكون ما موصولة صلتها {آمَنْتُمْ بِهِ} وقيل: مزيدة والتقدير: فان آمنوا بالذي آمنتم به أي بالله وملائكته وكتبه ورسله وجميع ما جاء به الأنبياء
وقيل: إن مثلا صفة لمحذوف تقديره: فإن آمنوا بشيء مثل ما آمنتم به وفيه نظر لأن ما آمنوا به ليس له مثل حتى يؤمنوا بذلك المثل

وحكى الواحدي عن أكثر المفسرين في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} أن الوجه صلة والمعنى: فثم الله يعلم ويرى قال: والوجه قد ورد صلة مع اسم الله كثيرا كقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ}
قلت: والأشبه حمله على أن المراد به الذات كما في قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} وهو أولى من دعوى الزيادة
ومن الزيادة دعوى أبي عبيدة {يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} أن "إذ" زائدة
وقوله: {وَلأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
وقوله: {وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} وقد سبق
الرابع عشر: تسمية الشيء بما يؤول إليه
كقوله تعالى: {وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} أي صائرا إلى الفجور والكفر
وقوله: {إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً} أي: لأن الذي تأكل الطير منه إنما هو البر لا الخبز ولم يذكر العلماء هذا من جملة الأمثلة إنما اقتصروا في التمثيل

على قوله: {أَعْصِرُ خَمْراً} أي: عنبا فعبر عنه لأنه آيل إلى الخمرية وقيل: لا مجاز فيه فان الخمر العنب بعينه لغة لأزد عمان نقله الفارسي في التذكرة عن غريب القرآن لابن دريد
وقيل: اكتفي بالمسبب الذي هو الخمر عن السبب الذي هو العنب قاله ابن جني في الخصائص
وقيل: ولا مجاز في الاسم بل في الفعل وهو {أَعْصِرُ} فإنه أطلق وأريد به استخرج وإليه ذهب ابن عزيز في غريبه
وقوله: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} سماه زوجا لأن العقد يؤول إلى زوجية لأنها لا تنكح في حال كونه زوجا
وقوله: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} {وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} وصفه في حال البشارة بما يؤول إليه من العلم والحلم
تنبيه: ليس هذا من الحال المقدرة كما يتبادر إلى الذهن لأن الذي يقترن بالفاعل أو المفعول إنما هو تقدير ذلك وإرادته فيكون المعنى في قوله: {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً} مقدار ضحكه

وكذا قوله: {وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً} على قول أبي علي وهذا حمل منه للخرور على ابتدائه وان حمله على انتهائه كانت الحال الملفوظ بها ناجزة غير مقدرة
وكذلك قوله: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي: ادخلوها مقدرين الخلود فيها فإن من دخل مدخلا كريما مقدرا ألا يخرج منه أبدا كان ذلك أتم لسروره ونعيمه ولو توهم انقطاعه لتنغص عليه النعيم الناجز مما يتوهمه من الانقطاع اللاحق
الخامس عشر: تسمية الشيء بما كان عليه
كقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} أي: الذين كانوا يتامى إذ لا يتم بعد البلوغ وقيل: بل هم يتامى حقيقة وأما حديث: "لا يتم بعد احتلام" فهو من تعليم الشرع لا اللغة وهو غريب
وقوله: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} وإذا متن لم يكن أزواجا فسماهن بذلك لأنهن كن أزواجا وقوله: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أي: الذين كانوا أزواجهن
وكذلك: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} لانقطاع الزوجية بالموت
وقوله: {مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} سماه مجرما باعتبار ما كان عليه في الدنيا من الإجرام

وقوله: {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا} ولكن ما رد عليهم مالهم وإنما كانوا قد اشتروا بها الميرة فجعلها يوسف في متاعهم وهي له دونهم فنسبها الله إليهم بمعنى أنها كانت لهم
السادس عشر: إطلاق اسم المحل على الحال
كقوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ}
وقوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي: نساؤه بدليل قوله: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}
وكالتعبير باليد عن القدرة كقوله: {بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ونحوه
والتعبير بالقلب عن الفعل كقوله: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا} أي: عقول
وبالأفواه عن الألسن كقوله: {الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ} {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ}
وإطلاق الألسن على اللغات كقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}
والتعبير بالقرية عن ساكنها نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}

السابع عشر: إطلاق اسم الحال على المحل
كقوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي: في الجنة لأنها محل الرحمة
وقوله: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي: في الليل
وقال الحسن في قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ} أي: في عينك واستبعده الزمخشري وقدر: يعني في رؤياك
وقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} وصف البلد بالأمن وهو صفة لأهله ومثله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ}
وقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ} وصفها بالطيب وهو صفة لهوائها
وقد اجتمع هذا والذي قبله في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وذلك لأن أخذ الزينة غير ممكن لأنها مصدر فيكون المراد محل الزينة ولا يجب أخذ الزينة للمسجد نفسه فيكون المراد بالمسجد الصلاة فأطلق اسم المحل على الحال وفي الزينة بالعكس
الثامن عشر: إطلاق اسم آلة الشيء عليه
كقوله تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} أي: ذكرا حسنا

أطلق اللسان وعبر به عن الذكر لأن اللسان آية للذكر
وقال تعالى: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأى منا لما كانت العين آلة الرؤية وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} أي: بلغة قومه
التاسع عشر: إطلاق اسم الضدين على الآخر
كقوله تعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} وهي من المبتدئ سيئة ومن الله حسنة فحمل اللفظ على اللفظ
وعكسه: {هَلْ جَزَاءُ الإِِحْسَانِ إِلاَّ الإِِحْسَانُ} سمي الأول إحسانا لأنه مقابل لجزائه وهو الإحسان والأول طاعة كأنه قال: هل جزاء الطاعة إلا الثواب!
وكذلك: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} حمل اللفظ على اللفظ فخرج الانتقام بلفظ الذنب لأن الله لا يمكر
وأما قوله تعالى: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} فهو وإن لم يتقدم ذكر مكرهم في اللفظ لكن تقدم في سياق الآية قبله ما يصير إلى مكر والمقابلة لا يشترط فيها ذكر المقابل لفظا بل هو أو ما في معناه
وكذلك قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لما قال: بشر هؤلاء بالجنة قال: بشر هؤلاء بالعذاب والبشارة إنما تكون في الخير لا في الشر
وقوله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} والفعل الثاني ليس بسخرية

العشرون: تسمية الداعي إلى الشيء باسم الصارف عنه
لما بينهما من التعلق ذكره السكاكي وخرج عليه قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} يعني: ما دعاك ألا تسجد؟ واعتصم بذلك في عدم زيادة "لا"
وقيل: معناه ما حماك في ألا تسجد أي من العقوبة أي ما جعلك في منعه من عقوبة ترك السجود
وهذا لا يصح أما الأول: فلم يثبت في اللغة وأما الثاني: فكأن تركيبه ما يمنعك سؤالا عما يمنعه لا بلفظ الماضي لأنه لا تخويف بماض
ويجاب بأن المخالفة تقتضي الأمنة كأنه قيل: ما أمنك حتى خالفت! بيانا لاغتراره وعدم رشده وأنه إنما خالف وحاله حال من امتنع بقوته من عذاب ربه فكني عنه بما منعك تهكما لا أنه امتنع حقيقة وإنما جسر جسارة من هو في منعه
ورد أيضا بأنه أجاب {أَنَا خَيْرٌ} وهو لا يصلح جوابا إلا لترك السجود
وأجيب بأنه لم يجب ولكن عدل بذلك جواب مالا يمكن جوابه

الحادي والعشرون: إقامة صيغة مقام أخرى
وله صور:
فمنه: فاعل بمعنى مفعول كقوله: {لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} أي: لا معصوم
وقوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} أي: مدفوق
و{فِي عِيشَةٍ} أي: مرضية بها وقيل على النسب أي: ذات رضا وهو مجاز إفراد لا تركيب
وقوله: {أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} أي: مأمونا
وعكسه: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي: آتيا
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {حِجَاباً مَسْتُوراً} أي: ساترا وحكى الهروي في الغريب عن أصل اللغة وتأويل الحجاب الطبع
وقال السهيلي: الصحيح أنه على بابه أي مستورا عن العيون ولا يحس به أحد

والمعنى: مستور عنك وعنهم كما قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}
وقال الجوهري: أي حجابا على حجاب والأول مستور بالثاني يراد بذلك كثافة الحجاب لأنه جعل على قلوبهم أكنة وفي آذانهم وقرا
قال أبو الفتح في كتابه هذا الفد: وسألته -يعني الفارسي- إذا جعلت فاعلا بمعنى مفعول فعلام ترفع الضمير الذي فيه؟ أعلى حد ارتفاع الضمير في اسم الفاعل أم اسم المفعول؟ فقال: إن كان بمعنى مفعول ارتفع الضمير فيه ارتفاع الضمير في اسم الفاعل وإن جاء على لفظ اسم الفاعل
ومنه "فعيل" بمعنى "مفعول" كقوله: {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} أي: مظهورا فيه ومنه ظهرت به فلم ألتفت إليه
أما نحو: {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فقال بعض النحويين: إنه بمعنى مؤلم ورده النحاس بأن مؤلما يجوز أن يكون قد آلم ثم زال وأليم أبلغ لأنه يدل على الملازمة قال: ولهذا منع النحويون إلا سيبويه أن يعدى فعيل
ومنه مجيء المصدر على فعول كقوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} وقوله: {لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} فإنه ليس المراد

الجمع هنا بل المراد: لا نريد منكم شكرا أصلا وهذا أبلغ في قصد الإخلاص في نفي الأنواع
وزعم السهيلي أنه جمع شكر وليس كذلك لفوات هذا المعنى
ومنها: إقامة الفاعل مقام المصدر نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: تكذيب وإقامة المفعول مقام المصدر نحو: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أي: الفتنة
ومنه وصف الشيء بالمصدر كقوله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} قالوا: إنما وحده لأنه في معنى المصدر كأنه قال: فإنهم عداوة
ومجيء المصدر بمعنى المفعول كقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} أي: من معلومه
وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي: من العلوم
وقوله: {صُنْعَ اللَّهِ} أي: مصنوعه
وقوله: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} أي: مترحم قاله الفارسي
وكذا قوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: مقوى به ألا ترى أنه أراد منهم زبر الحديد والنفخ عليها
وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} أي: مظلوما فيه

وقوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} أي: مكذوب فيه وإلا لو كان على ظاهره لأشكل لأن الكذب من صفات الأقوال لا الأجسام وقال الفراء: يجوز في النحو بدم كذبا بالنصب على المصدر لأن {جَاءُوا} فيه معنى: "كذبوا كذبا" كما قال تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً} لأن العاديات بمعنى الضابحات
وعكسه: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ}
ومنه: فعيل بمعنى الجمع كقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وقوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً}
وقوله: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}
وشرط بعضهم أن يكون المخبر عنه جمعا وأنه لا يجيء ذلك في المثنى ويرده قوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} فإنه نقل الواحدي عن المبرد وابن عطية عن الفراء أن {قَعِيدٌ} أسند لهما
وقد يقع الإخبار بلفظ الفرد عن لفظ الجمع وإن أريد معناه لنكتة كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} فإن سبب النزول وهو قول أبي جهل: نحن ننتصر اليوم يقضي بإعراب منتصر خبرا

ومنه: إطلاق الخبر وإرادة الأمر كقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي: ليرضع الوالدات أولادهن
وقوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي: تتربص المتوفى عنها
وقوله: {تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً} والمعنى: ازرعوا سبع سنين بدليل قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ}
وقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} معناه: آمنوا وجاهدوا ولذلك أجيب بالجزم في قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ} ولا يصح أن يكون جوابا للاستفهام في قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} لأن المغفرة وإدخال الجنان لا يترتبان على مجرد الدلالة قاله أبو البقاء والشيخ عز الدين
والتحقيق ما قاله النبلي: أنه جعل الدلالة على التجارة سببا لوجودها والتجارة هي الإيمان ولذلك فسرها بقوله: {تُؤْمِنُونَ} فعلم أن التجارة من جهة الدلالة هي الإيمان فالدلالة سبب الإيمان والإيمان سبب الغفران وسبب السبب سبب وهذا النوع فيه تأكيد وهو من مجاز التشبيه شبه الطلب في تأكده بخبر الصادق الذي لابد

من وقوعه وإذا شبهة بالخبر الماضي كان آكد
ومنه: عكسه كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} والتقدير: مده الرحمن مدا
وقوله: {اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} أي: نحمل
قال الكواشي: والأمر بمعنى الخبر أبلغ من الخبر لتضمنه اللزوم نحو إن زرتنا فلنكرمك يريدون تأكيد إيجاب الإكرام عليهم كذا قال الشيخ عز الدين مقصوده تأكيد الخبر لأن الأمر للإيجاب يشبه الخبر في إيجابه
وجعل الفارسي منه قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} قال: {كُنْ} لفظه أمر والمراد الخبر والتقدير: يكون فيكون أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي: فهو يكون قال: ولهذا أجمع القراء على رفع {فَيَكُونُ} ورفضوا فيه النصب إلا ما روي عن ابن عامر وسوغ النصب لكونه بصيغة الأمر قال: ولا يجوز أن يكون معطوفا على {نَقُولَ} فيجيء النصب على الفعل المنصوب لأن ذلك لا يطرد بدليل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} إذ لا يستقيم هنا العطف المذكور لأن {قَالَ} ماض

و{يكُونُ} مضارعا فلا يحسن عطفه عليه لاختلافهما
قلت: وهذا الذي قاله الفارسي ضعيف مخالف لقواعد أهل السنة
ومنه: إطلاق الخبر وإرادة النهي كقوله: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} ومعناه: لا تعبدوا
وقوله: {لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: لا تسفكوا ولا تخرجوا
وقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ} أي: ولا تنفقوا
الثاني والعشرون: إطلاق الأمر وإرادة التهديد والتلوين وغير ذلك من المعاني الستة عشر وما زيد عليها من أنواع المجاز ولم يذكروه هنا في أقسامه
الثالث والعشرون: إضافة الفعل إلى ما ليس بفاعل له في الحقيقة
إما على التشبيه كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} فإنه شبه ميله للوقوع بشبه المريد له
وإما لأنه وقع فيه ذلك الفعل كقوله تعالى: {الم. غُلِبَتِ الرُّومُ} فالغلبة واقعة بهم من غيرهم ثم قال: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} فأضاف الغلب إليهم وإنما كان كذلك لأن الغلب وإن كان لغيرهم فهو متصل بهم لوقوعه بهم

ومثله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} فالحب في الظاهر مضاف إلى الطعام والمال وهو في الحقيقة لصاحبهما
ومثله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} أي: مقامه بين يدي
وإما لوقوعه فيه كقوله تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً}
وإما لأنه سببه كقوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} {يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} كما تقدم في أمثلة المجاز العقلي
وقد يقال: إن النزع والإحلال يعبر بهما عن فعل ما أوجبهما فالمجاز إفرادي لا إسنادي
وقوله تعالى: {وْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً} أي: يجعل هو له فهو من مجاز الحذف
الرابع والعشرون إطلاق الفعل والمراد مقاربته ومشارفته لا حقيقته
كقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} أي: قاربن بلوغ الأجل أي انقضاء العدة لأن الإمساك لا يكون بعد انقضاء العدة فيكون بلوغ الأجل تمامه

كقوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أي: أتمن العدة وأردن مراجعة الأزواج ولو كانت مقاربته لم يكن للولي حكم في إزالة الرجعة لأنها بيد الزوج ولو كان الطلاق غير رجعي لم يكن للولي أيضا عليها حكم قبل تمام العدة ولا تسمى عاضلا حتى يمنعها تمام العدة من المراجعة
ومثله قوله تعالى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ} المعنى: قارب وبه يندفع السؤال المشهور فيها إن عند مجيء الأجل لا يتصور تقديم ولا تأخير
وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} أي: قارب حضور الموت
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ. لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ. فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: حتى يشارفوا الرؤية ويقاربوها
ويحتمل أن تحمل الرؤية على حقيقتها وذلك على أن يكون: يرونه فلا يظنونه عذابا {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ} ولا يظنونه واقعا بهم وحينئذ فيكون أخذه لهم بغتة بعد رؤيته
ومن دقيق هذا النوع قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} المراد: قارب النداء لا أوقع النداء لدخول الفاء في فقال فإنه لو وقع النداء لسقطت وكان ما ذكر

تفسيرا للنداء كقوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ} وقوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً. قَالَ رَبِّ} لما فسر النداء سقطت الفاء
وذكر النجاة أن هذه الفاء تفسيريه لأنها عطفت مفسرا على مجمل كقوله: توضأ فغسل وجهه وفائدته ذلك أن نوحا عليه السلام أراد ذلك فرد القصد إليه ولم يقع لا عن قصد
ومنه قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} أي: وليخش الذين إن شارفوا أن يتركوا وإنما أول الترك بمشارفة الترك لأن الخطاب للأوصياء إنما يتوجه إليهم قبل الترك لأنهم بعد أموات
وقريب منه إطلاق الفعل وإرادة إرادته كقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ} أي: إذا أردت
وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} أي: إذا أردتم لأن الإرادة سبب القيام
{إِذَا قَضَى أَمْراً} أي: أراد
{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} أي: أردت الحكم
ومثله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ}
{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} أي أردتم مناجاته

{إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ}
وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قال ابن عباس: من يرد الله هدايته ولقد أحسن رضي الله عنه لئلا يتحد الشرط والجزاء
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} أي: أردتم القول
{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا} أي: أرادوا الإنفاق
وقوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا} لأن الإهلاك إنما هو بعد مجيء البأس وإنما خص هذين الوقتين -أعني البيات والقيلولة- لأنها وقت الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع
وقوله تعالى: {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي: أردنا إهلاكها
{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ} أي: فأردنا الانتقام منهم وحكمته أنا إذا أردنا أمرا نقدر فيه إرادتنا وإن كان خارقا للعادة
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا} أي: أردت جدالنا وشرعت فيه وكان الموجب لهذا التقدير خوف التكرار لأن جادلت فاعلت وهو يعطي التكرار أو أن المعنى لم ترد منا غير الجدال له لا النصيحة
قلت: وإنما عبروا عن إرادة الفعل بالفعل لأن الفعل يوجد بقدرة الفاعل وإرادته وقصده إليه كما عبر بالفعل من القدرة على الفعل في قولهم الإنسان لا يطير والأعمى

لا يبصر أي لا يقدر على الطيران والإبصار وإنما حمل على ذلك دون الحمل على ظاهره للدلالة على جواز الصلاة بوضوء واحد والحمل على الظاهر يوجب أن من جلس يتوضأ ثم قام إلى الصلاة يلزمه وضوء آخر فلا يزال مشغولا بالوضوء ولا يتفرغ للصلاة وفساده بين
الخامس والعشرون: إطلاق الأمر بالشيء للتلبس به والمراد دوامه
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} هكذا أجاب به الزمخشري وغيره وأصل السؤال غير وارد لأن الأمر لا يتعلق بالماضي ولا بالحال وإنما يتعلق بالمستقبل المعدوم حالة توجه الخطاب فليس ذلك تحصيلا للحاصل بل تحصيلا للمعدوم فلا فرق بين أن يكون المخاطب حالة الخطاب على ذلك الفعل أم لا لأن الذي هو عليه عند الخطاب مثل المأمور به لا نفس المأمور به والحاصل أن الكل مأمور بالإنشاء فالمؤمن ينشئ ما سبق له أمثاله والكافر ينشئ ما لم يسبق منه أمثاله
السادس والعشرون: إطلاق اسم البشرى على المبشر به
كقوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} قال أبو علي الفارسي: التقدير: بشراكم دخول جنات أو خلود جنات لأن البشرى مصدر والجنات ذات فلا يخبر بالذات عن المعنى

ونحوه إطلاق اسم المقول على القول كقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ}
ومنه: {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: عن مدلول قولهم
ومنه: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي: من مقولهم وهو الأَدْرة
وإطلاق الاسم على المسمى كقوله تعالى: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا} أي: مسميات {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} أي ربك
وإطلاق اسم الكلمة على المتكلم كقوله تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} أي: لمقتضى عذاب الله و{ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} تجوز بالكلمة عن المسيح لكونه تكون بها من غير أب بدليل قوله: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} ولا تتصف الكلمة بذلك
وأما قوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى} فإن الضمير فيه عائد إلى مدلول الكلمة والمراد بالاسم المسمى فالمعنى المسمى المبشر به المسيح بن مريم

وإطلاق اسم اليمين على المحلوف به كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} أي: لا تجعلوا يمين الله أو قسم الله مانعا لما تحلفون عليه من البر والتقوى بين الناس
إطلاق الهوى عن المهوي ومنه: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} أي: عما تهواه من المعاصي ولا يصح نهيها عن هواها وهو ميلها لأنه تكليف لما لا يطاق إلا على حذف مضاف أي نهى النفس عن اتباع الهوى
التجوز عن المجاز بالمجاز
وهو أن تجعل المجاز المأخوذ عن الحقيقة بمثابة الحقيقة بالنسبة إلى مجاز آخر فتتجوز بالمجاز الأول عن الثاني لعلاقة بينهما
مثاله قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فانه مجاز عن مجاز فان الوطء تجوز عنه بالسر لأنه لا يقع غالبا إلا في السر وتجوز بالسر عن العقد لأنه مسبب عنه فالصحيح للمجاز الأول الملازمة والثاني السببية والمعنى: لا تواعدوهن عقد نكاح
وكذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} إن حمل على ظهره كان من مجاز المجاز لأن قوله لا اله إلا الله مجاز عن تصديق القلب بمدلول هذا اللفظ والتعبير بلا اله إلا الله عن الوحدانية من مجاز التعبير بالمقول عن المقول فيه

والأول من مجاز السببية لأن توحيد اللسان مسبب عن توحيد الجنان
قلت: وهذا يسميه ابن السيد مجاز المراتب وجعل منه قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً} فإن المنزل عليهم ليس هو نفس اللباس بل الماء المنبت للزرع المتخذ منه الغزل المنسوج منه اللباس


النوع الرابع والأربعون: في الكنايات والتعريض في القرآناعلم أن العرب تعد الكناية من البراعة والبلاغة وهي عندهم أبلغ من التصريح
قال الطرطوسي: وأكثر أمثالهم الفصيحة على مجاري الكنايات وقد ألف أبو عبيد وغيره كتبا في الأمثال ومنها قولهم: فلان عفيف الإزار طاهر الذيل ولم يحصن فرجه وفي الحديث: "كان إذا دخل العشر أيقظ أهله وشد المئزر" فكنوا عن ترك الوطء بشد المئزر وكنى عن الجماع بالعُسَيْلة وعن النساء بالقوارير لضعف قلوب النساء ويكنون عن الزوجة بربة البيت وعن الأعمى بالمحجوب

والمكفوف وعن الأبرص بالوضاح وبالأبرش وغير ذلك وهو كثير في القرآن قال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ}
والكناية عن الشيء الدلالة عليه من غير تصريح باسمه
وهي عند أهل البيان: أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا بذكره باللفظ الموضوع له من اللغة ولكن يجيء إلى المعنى هو تاليه ورديفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه فيدل على المراد من طريق أولى مثاله قولهم: "طويل النجاد" و"كثير الرماد" يعنون طويل القامة وكثير الضيافة فلم يذكروا المراد بلفظ الخاص به ولكن توصلوا إليه بذكر معنى آخر هو رديفه في الوجود لأن القامة إذا طالت طال النجاد وإذا كثر القرى كثر الرماد
وقد اختلف في أنها حقيقة أو مجاز فقال الطرطوسي في العمدة: قد اختلف في وجود الكناية في القرآن وهو كالخلاف في المجاز فمن أجاز وجود المجاز فيه أجاز الكناية وهو قول الجمهور ومن أنكر ذلك أنكر هذا
وقال الشيخ عز الدين: الظاهر أنها ليست بمجاز لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له وأردت به الدلالة على غيره ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له وهذا شبيه بدليل الخطاب في مثل قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
أسباب الكناية
ولها أسباب: أحدها: التنبيه على عظم القدرة كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} كناية عن آدم

ثانيها: فطنة المخاطب كقوله تعالى في قصة داود: {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فكنى داود يخصم على لسان ملكين تعريضا
وقوله في قصة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وزيد: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} أي: زيد {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ}
وقوله تعالى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} فإنه كناية عن ألا تعاندوا عند ظهور المعجزة فتمسكم هذه النار العظيمة
وكذا قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً} الآيات فان هذه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمعنى: لا تظن أنك مقصر في إنذارهم فإنا نحن المانعون لهم من الإيمان فقد جعلناهم حطبا للنار ليقوى التذاذ المؤمن بالنعيم كما لا تتبين لذة الصحيح إلا عند رؤية المريض
ثالثها: ترك اللفظ إلى ما هو أجمل منه كقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فكنى بالمرأة عن النعجة كعادة العرب أنها تكني بها عن المرأة
وقوله: {إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ} كنى بالتحيز عن الهزيمة

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} كنى بنفي قبول التوبة عن الموت على الكفر لأنه يرادفه
رابعها: أن يفحش ذكره في السمع فيكنى عنه بما لا ينبو عنه الطبع قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} أي: كنوا عن لفظه ولم يوردوه على صيغته
ومنه قوله تعالى في جواب قوم هود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فكنى عن تكذيبهم بأحسن
ومنه قوله: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} فكنى عن الجماع بالسر
وفيه لطيفة أخرى لأنه يكون من الآدميين في السر غالبا ولا يسره -ما عدا الآدميين- إلا الغراب فانه يسره ويحكى أن بعض الأدباء أسر إلى أبي علي الحاتمي كلاما فقال: ليكن عندك أخفى من سِفاد الغراب ومن الراء في كلام الألثغ فقال: نعم يا سيدنا ومن ليلة القدر وعلم الغيب
ومن عادة القرآن العظيم الكناية عن الجماع باللمس والملامسة والرفث والدخول والنكاح ونحوهن قال تعالى: {فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ} فكنى بالمباشرة عن الجماع لما فيه من التقاء البشرتين
وقوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} إذ لا يخلوا الجماع عن الملامسة

وقوله في الكناية عنهن: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} واللباس من الملابسة وهي الاختلاط والجماع
وكنى عنهن في موضع آخر بقوله: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
وقوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} كناية عما تطلب المرأة من الرجل
وقوله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً}
ومنه قوله تعالى في مريم وابنها: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فكنى بأكل الطعام عن البول والغائط لأنهما منه مسببان إذ لابد للآكل منهما لكن استقبح في المخاطب ذكر الغائط فكنى به عنه
فإن قيل: فقد صرح به في قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
قلنا: لأنه جاء على خطاب العرب وما يألفون والمراد تعريفهم الأحكام فكان لا بد من التصريح به على أن الغائط أيضا كناية عن النجو وإنما هو في الأصل اسم للمكان المنخفض من الأرض وكانوا إذا أرادوا قضاء حاجتهم أبعدوا عن العيون إلى منخفض من الأرض فسمي منه لذلك ولكنه كثر استعماله في كلامهم فصار بمنزلة التصريح
وما ذكرناه في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} هو المشهور وأنكره الجاحظ وقال: بل الكلام على ظاهره ويكفي في الدلالة على عدم الإلهية نفس أكل

الطعام لأن الإله هو الذي لا يحتاج إلى شيء يأكله ولأنه كما لا يجوز أن يكون المعبود محدثا كذلك لا يجوز أن يكون طاعما قال الخفاجي وهذا صحيح
ويقال لهما: الكناية عن الغائط في تشنيع وبشاعة على من اتخذهما آلهة فأما قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ} فهو على حقيقته
قال الوزير ابن هبيرة: وفي هذه الآية فضل العالم المتصدي للخلق على الزاهد المنقطع فإن النبي كالطبيب والطبيب يكون عند المرضى فلو انقطع عنهم هلكوا
ومنه قوله تعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} كنى به عن مصيرهم إلى العذرة فإن الورق إذا أكل انتهى حاله إلى ذلك
وقوله تعالى: {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي: لفروجهم فكنى عنها بالجلود على ما ذكره المفسرون
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} فصرح بالفرج؟
قلنا: أخطأ من توهم هنا الفرج الحقيقي وإنما هو من لطيف الكنايات وأحسنها وهي كناية عن فرج القميص أي لم يعلق ثوبها ريبة فهي طاهرة الأثواب وفروج القميص أربعة: الكُمَّان والأعلى والأسفل وليس المراد غير هذا فان القرآن أنزه معنى

وألطف إشارة وأملح عبارة من أن يريد ما ذهب إليه وهم الجاهل لاسيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس فأضيف القدس إلى القدوس ونزهت القانتة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس ذكره صاحب التعريف والإعلام
ومنه وقوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} يريد الزناة
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} فإنه كناية عن الزنا وقيل: أراد طرح الولد على زوجها من غيره لأن بطنها بين يديها ورجليها وقت الحمل
وقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وإنما يوضع في الأذن السبابة فذكر الأصبع وهو الاسم العام أدبا لاشتقاقها من السب ألا تراهم كنوا عنها بالمسبحة والدعاءة وإنما يعبر بهما عنها لأنها ألفاظ مستحدثة قاله الزمخشري
وقال الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرح الإلمام: يمكن أن يقال إن ذكر الإصبع هنا جامع لأمرين أحدهما التنزه عن اللفظ المكروه والثاني حط منزلة الكفار عن التعبير باللفظ المحمود والأعم يفيد المقصودين معا فأتى به وهو لفظ الإصبع وقد جاء في الحديث الأمر بالتعبير بالأحسن مكان القبيح كما في حديث: "من سبقه الحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه ويخرج" أمر بذلك إرشادا إلى إيهام سبب أحسن من الحدث وهو الرعاف وهو أدب حسن من شرع في ستر العورة وإخفاء القبيح وقد صح نهيه عليه السلام

أن يقال لشجر العنب: الكرم وقال: "إنما الكرم الرجل المسلم" كره الشارع تسميتها بالكرم لأنها تعتصر منها أم الخبائث
وحديث: "كان يصيب من الرأس وهو صائم" قيل: هو إشارة إلى القبلة وليس لفظ القبلة مستهجنا وقوله: "إياكم وخضراء الدمن"
خامسها: تحسين اللفظ كقوله تعالى: {بَيْضٌ مَكْنُونٌ} فإن العرب كانت عادتهم الكناية عن حرائر النساء بالبيض قال امرؤ القيس:
وبَيْضَةُ خِدْرٍ لا يُرام خِباؤُها
تَمَتَّعْتُ مِنْ لَهْوٍ بها غير مُعْجَلِ
وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ومثله قول عنترة:
فَشَككتُ بالرمحِ الطويلِ ثيابَه
ليس الكريم على القنا بمحرَّمِ
سادسها: قصد البلاغة كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} فإنه سبحانه كنى عن النساء بأنهن ينشأن في الترفه والتزين والتشاغل

عن النظر في الأمور ودقيق المعاني ولو أتى بلفظ النساء لم يشعر بذلك والمراد نفي ذلك -أعني الأنوثة- عن الملائكة وكونهم بنات الله تعالى الله عن ذلك
وقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: هم في التمثيل بمنزلة المتعجب منه بهذا التعجب
سابعها: قصد المبالغة في التشنيع كقوله تعالى حكاية عن اليهود لعنهم الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} فإن الغل كناية عن البخل كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} لأن جماعة كانوا متمولين فكذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكف الله عنهم ما أعطاهم وهو سبب نزولها
وأما قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} فيحمل على المجاز على وجه الدعاء والمطابقة للفظ ولهذا قيل: إنهم أبخل خلق الله والحقيقة أنهم تغل أيديهم في الدنيا بالإسار وفي الآخرة بالعذاب وأغلال النار
وقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} كناية عن كرمه وثنى اليد وإن أفردت في أول الآية ليكون أبلغ في السخاء والجود
ثامنها: التنبيه على مصيره كقوله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} أي: جهنمي مصيره إلى اللهب وكقوله: {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: نمامة ومصيرها إلى أن تكون حطبا لجهنم  

التالي بمشيئة الله ج5.وج6.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بلوجر

يا بلوجر متي يهدك ربنا وتتوب عن تدخلك السافر في روابط المدونات وتحويلها الي صفحة المشاركات في كل مدوناتك –اعلم ان جوجل لن يحاسبك عن هذه...