ج5وح6.السيرة الحلبية :علي بن برهان الدين الحلبي
فقد قال
سيخ الإسلام فى شرح ألفية العراقى عند قوله من غير ما شذوذ خرج الشاذ وهو ما خالف
فيه الراوى من هو أرجح منه ولا يرد عليه الشاذ الصحيح عند بعضهم لأن التعريف
للصحيح المجمع على صحته لا مطلقا هذا كلامه
وفى كلام السخاوى نقلا عن شيخه ابن حجر أن من تأمل الصحيحين
وجد فيهما أمثلة من ذلك أى من الصحيح الموصوف بالشذوذ
أقول وكونهما ابنى الخالة أى أن أم كل خالة الآخر هو
المشهور وعليه قال ابن السكيت يقال ابنا خالة ولا يقال ابنا عمة ويقال ابنا عم ولا
يقال ابنا خال لكن فى عيون المعارف للقضاعى أن يحيى إنما هو ابن خالة مريم أم عيسى
لا ابن خالة عيسى لأن أم يحيى أخت أم مريم لا أخت مريم
وكذا فى كلام ابن إسحاق أن عمران وزكريا كلاهما من ذرية
سليمان عليهم الصلاة والسلام وأنهما تزوجا أختين فزوجة زكريا ولدت يحيى قبل عيسى
بستة أشهر ثم ولدت مريم عيسى وزوجة عمران ولدت مريم فأم يحيى أخت أم مريم فعيسى
ابن بنت خالة يحيى وحينئذ يكون قوله صلى الله عليه وسلم فإذا أنا بابنى الخالة على
التجوز وكذا قول عيسى ليحيى يا ابن الخالة كما فى تفسير التسترى على التجوز
ففيه حكى عن يحيى وعيسى عليهما الصلاة والسلام أنهما
خرجا يمشيان فصدم يحيى امرأة فقال له عيسى يا ابن الخالة لقد أخطأت اليوم خطيئة ما
أرى الله عز وجل يغفرها لك قال وما هى قال صدمت امرأة قال والله ما شعرت بها قال
عيسى سبحان الله بدنك معى فأين قلبك قال معلق بالعرش ولو أن قلبى اطمأن إلى جبريل
صلوات الله وسلامه عليه طرفة عين لظننت أنى ما عرفت الله عز وجل ووجه التجوز أنه
أطلق على بنت الأخت لفظ الأخت وقال بعضهم وهو كثير شائع فى كلامهم
ثم رأيت المولى أبا السعود ذكر ما يجمع به بين القولين
وهو أنه قيل إن أم يحيى أخت أم مريم من الأم وأخت مريم من الأب فليتأمل تصويره
بناء على تحريم نكاح المحارم لأن أم مريم حينئذ بنت موطوءة أبيها لأنها ربيبته إلا
أن يكون فى شريعتهم جواز ذلك
ثم رأيت بعضهم ذكر ذلك حيث قال لا يبعد أن عمران تزوج
أولا أم حنة فولدت
أشياع أى
التى هى أم يحيى ثم تزوج حنة بعد ذلك التى هى ربيبته بنت موطوءته فجاء منها بمريم
بناء على جواز ذلك فى شريعتهم
وفيه أنه تقدم أن نوحا عليه الصلاة والسلام بعث بتحريم
نكاح المحارم إلا أن يقال المراد محارم النسب دون المصاهرة ولم يسم أحد يحيى بعد
يحيى هذا إلا يحيى بن خلاد الأنصارى جيء به للنبى صلى الله عليه وسلم يوم ولد
فحنكه بتمرة وقال لأسمينه باسم لم يسم به بعد يحيى بن زكريا فسماه يحيى
ومما يدل على شرف سيدنا يحيى بن زكريا ما فى الكشاف عن
ابن عباس رضى الله تعالى عنهما كنا فى المسجد نتذاكر فضل الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم فذكرنا نوحا بطول عبادته وإبراهيم بخلته وموسى بتكليم الله تعالى
إياه وعيسى برفعته إلى السماء وقلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل منهم بعث
إلى الناس كافة وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو خاتم الأنبياء أى فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال فيم أنتم فذكرنا له فقال لا ينبغى لأحد أن يكون خيرا
من يحيى بن زكريا فذكر أنه لم يعمل سيئة قط ولا هم بها أى ففى الحديث مامن أحد إلا
ويلقى الله عز وجل وقد هم بمعصية عملها إلا يحيى بن زكريا فإنه لم يهم بها ولم
يعملها فليتأمل ما فى ذلك
وقد ذكر أن والد زكريا لامه على كثرة العبادة والبكاء
فقال له أنت أمرتنى بذلك يا أبت ألست أنت القائل إن بين الجنة والنار عقبة لا
يجوزها إلا البكاءون من خشية الله عز وجل فقال بلى فجد واجتهد
وقد جاء فى الحديث أن يحيى هو الذى يذبح الموت يوم
القيامة يضجعه ويذبحه بشعرة تكون فى يده والناس ينظرون إليه أى فإن الموت يكون فى
صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ويقال لأهلهما أتعرفون هذا فيقولون نعم هذا
الموت أى يلقى الله عز وجل معرفته فى قلوبهم وتجسم المعانى جاء به الحديث الصحيح
على أنه جاء فى تفسير قوله تعالى خلق الموت والحياة أن
الموت فى صورة كبش لايمر على أحد إلا مات وخلق الحياة فى صورة فرس لا يمر على شيء
إلا حيى وهو بدل على أن الموت جسم وأن الميت يشاهد حلول الموت به
وقيل الذى يذبح الموت جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل إن
فى هذه السماء الثانية إدريس وهو قول شاذ وقيل يوسف جاءت به رواية ذكرها الجلال
السيوطى فى أوائل
والجامع
الصغير وذكر فيها أن ابنى الخالة فى السماء الثالثة كما تقدم وتقدم أن بعضهم ذكر
أنها رواية الشيخين عن أنس
قال أبو حيان وعيسى لفظ أعجمى والظاهر أن مثله يحيى هذا
كلامه وفى كلام غيره أن يحيى عربى ومنع صرفه العلمية ووزن الفعل
وقيل فى عيسى إنه عربى مشتق من العيس وهو بياض يخالطه
صفرة وعلى أنه أعجمى قيل عبرانى وقيل سريانى
ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل من
هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا
فإذا أنا بيوسف صلى الله عليه وسلم أى ومعه نفر من قومه وإذا هو أعطى شطر الحسن أى
وفى رواية صورته صورة القمر ليلة البدر والمراد بشطر الحسن نصف الحسن الذى أعطيه
الناس
وفى الحديث أعطى يوسف وأمه ثلث حسن الدنيا وأعطى الناس
الثلثين ويحتاج للجمع بينها وبين ما جاء فى رواية قسم الله ليوسف من الحسن والجمال
ثلثى حسن الخلق وقسم بين سائر الخلق الثلث وعن وهب بن منبه الحسن عشرة أجزاء تسعة
منها ليوسف وواحد منها بين الناس
وفى كلام بعضهم كان فضل يوسف فى الحسن على الناس كفضل
القمر ليلة البدر على نجوم السماء وكان إذا سار فى أزقة مصر يرى تلألؤ وجهه على
الجدران كما يتلألأ نور الشمس وضوء القمر على الجدران والمراد بالناس غير نبينا
صلى الله عليه وسلم لأن حسن نبينا صلى الله عليه وسلم لم يشارك فى شئ منه كما أشار
إليه صاحب البردة بقوله فجوهر الحسن فيه غير منقسم خلافا لابن المنير حيث ادعى أن
يوسف أعطى شطر الحسن الذى أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم وتبعه على ذلك شارح
تائية الإمام السبكى
وعبارته فإذا هو أى يوسف عليه الصلاة والسلام أعطى شطر
الحسن الذى أعطيه كله صلى الله عليه وسلم
هذا وقد قيل إن يوسف ورث الحسن من إسحاق الذى هو جده
وإسحاق ورث الحسن من سارة التى هى أمه وسارة أعطيت سدس الحسن ورثت ذلك من حواء
أى وفى رواية وصف يوسف وإنه أحسن ما خلق الله تعالى قد
فضل الناس بالحسن كالقمر ليلة البدر على سائر الكواكب أى كفضل القمر ليلة البدر
على بقية الكواكب الليلية والمراد بخلق الله تعالى وبالناس غير نبينا صلى الله
عليه وسلم لما علمت أنه أعطى شطر الحسن الذى لغير نبينا صلى الله عليه وسلم ولأن
المتكلم لا يدخل فى عموم خطابه على ما فيه
وقد جاء إن يوسف أعطى نصف حسن آدم وفى رواية ثلث حسن آدم
وقد جاء كان يوسف يشبه آدم يوم خلقه ربه
وفى الخصائص الصغرى للسيوطى وخص بأنه صلى الله عليه وسلم
أوتى كل الحسن ولم يعط يوسف إلا شطره فلينظر الجمع بين هذه الروايات على تقدير
صحتها
وقد حاء ما بعث الله نبيا إلا حسن الوجه وحسن الصوت وكان
نبيكم أحسنهم وجها أحسنهم صوتا
قال فرحب بى ودعا لى بخير وفى بعض الروايات إن فى هذه
السماء الثالثة ابنى الخالة يحيى وعيسى كما مر ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة
فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد
بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب بى ودعا لى بخير وفى رواية قال مرحبا
بالأخ الصالح
وفي رواية قتادة مرحبا بالابن الصالح قال بعضهم وهو
القياس لأنه جده الأعلى لأنه من ولد شيث بينه وبين شيث أربعة آباء أرسل بعد موت
آدم بمائتي سنة وهو أول من أعطى الرسالة من ولد آدم وهو يقتضي أن شيئا لم يكن
رسولا ونوح من ولده بينه وبينه ابنان فإدريس في عمود نسبه صلى الله عليه وسلم
وحينئذ قوله بالأخ الصالح فى تلك الرواية محمول على التواضع منه خلافا لمن تمسك
بذلك
على أن إدريس ليس جدا لنوح ولا هو من آباء النبى صلى
الله عليه وسلم قال الله عز وجل ورفعناه مكانا عليا أى حال حياته لأنه رفع إلى
السماء قيل من مصر بعد أن خرج منها وجار الأرض كلها وعاد إليها ودعا الخلائق إلى
الله تعالى باثنتين وسبعين لغة خاطب كل قوم بلغتهم وعلمهم العلوم
وهو أول من استخرج علم النجوم أى علم الحوادث التى تكون
فى الأرض باقتران الكواكب
قال الشيخ محيى الدين بن العربى وهو علم صحيح لا يخطيء
فى نفسه وإنما الناظر فى ذلك هو الذى يخطيء لعدم استيفاء النظر ودعوى إدريس عليه
السلام الخلائق يدل على أنه كان رسولا وفى كلام الشيخ محيى الدين لم يجئ نص فى
القرأن برسالة إدريس بل قيل فيه صديقا نبيا
وأول شخص افتتحت به الرسالة نوح عليه الصلاة والسلام ومن
كانوا قبله إنما كانوا أنبياء كل واحد على شريعة من ربه فمن شاء دخل معه فى شرعه
ومن شاء لم يدخل فمن دخل ثم رجع كان كافرا
ومما يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام حب الدنيا والآخرة
لايجتمعان فى قلب أبدا الناس اثنان طالب لايجد وواجد لا يكتفى من ذكر عار الفضيحة
هان عليه لذتها خير الإخوان من نسى ذنبك ومعروفه عندك وقد قبضت روحه فى هذه السماء
الرابعة فصلت عليه الملائكة ومدفنه بها تصلى عليه الملائكة كلما هبطت وحينئذ لا
يقال من كان فى السماء الخامسة والسادسة والسابعة أرفع منه على أنه قيل لما مات
أحياه الله تعالى وأدخله الجنة وهو فيها الآن أي غالب أحواله في الجنة فلا ينافي
وجوده في السماء المذكورة فى تلك الليلة لأنها الجنة أرفع من السموات لأنها فوق
السماء السابعة ولا ما جاء فى الحديث أنه فى السماء حى كعيسى عليهما الصلاة
والسلام وفى بعض الروايات أن فى هذه السماء الرابعة هرون
ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل قيل من هذا
قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا
أنا بهرون أى ونصف لحيته بيضاء ونصف لحيته سوداء تكاد تضرب إلى سرته من طولها
وحوله قوم من بنى إسرائيل وهو يقص عليهم فرحب بى ودعالى بخير أى وفى رواية فقال يا
جبريل من هذا قال هذا الرجل المحبب فى قومه هرون بن عمران أى لأنه كان ألين لهم من
موسى عليه الصلاة والسلام لإن موسى عليه الصلاة والسلام كان فيه بعض الشدة عليهم
ومن ثم كان له منهم بعض الإيذاء
ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل قيل من هذا
قال جبريل قيل
ومن معك
قال محمد قيل وقد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى صلى الله عليه وسلم فرحب بى
ودعا لى بخير أى وفى رواية جعل يمر بالنبى والنبيين معهم القوم والنبى والنبيين
ليس معهم أحد ثم مر بسواد عظيم فقال من هذا قيل موسى وقومه المناسب هذا قوم موسى
كما لا يخفى لكن ارفع رأسك فإذا هو بسواد عظيم قد سد الأفق من ذا الجانب ومن ذا
الجانب فقيل هؤلاء أمتك هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب أى منهم بدليل ما
جاء فى رواية قيل لى هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب
وهم الذين لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقال عكاشة بن
محصن أنا منهم قال نعم ثم قال رجل آخر أنا منهم قال صلى الله عليه وسلم سبقك بها
عكاشة لأن هذا الرجل كان منافقا فلم يقل له صلى الله عليه وسلم لست منهم لأنك
منافقا بل أجابه بما فيه ستر عليه والقول بأن ذلك الرجل هو سعد بن عبادة مردود
وهذا تمثيل أى مثل له صلى الله عليه وسلم أمته أى وأمة موسى أيضا إذ يبعد وجودها
حقيقة فى السماء السادسة وهذا السياق يدل على أن الذى مر بهم من النبى والنبيين فى
السماء السادسة فلما خلصا أى جاوزا ما ذكر من النبى والنبيين والسواد العظيم فإذا
موسى بن عمران رجل آدم طوال كأنه من رجال شنوءة كثير الشعر أى مع صلابته لو كان
عليه قمصان لنفذ الشعر منهما أى وكان إذا غضب يخرج شعر من رأسه من قلنسوته وربما
اشعتلت قلنيونه نارا لشدة غضبه
وفى كلام بعضهم كان إذا غضب خرج شعره من مدرعته كسل
النخل ولشدة غضبه لما فر الحجر بثوبه صار يضربه حتى ضربه ست ضربات أو سبعا مع أنه
لا إدراك له ووجه بأنه لما فر صار كالدابة والدابة إذا جمحت بصاحبها يؤدبها بالضرب
فسلم عليه النبى صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام ثم قال مرحبا بالأخ الصالح
والنبى الصالح ثم دعا له ولأمته بخير وقال يزعم الناس أنى أكرم على الله من هذا بل
هذا أكرم على الله منى فلما جاوزه بكن فقيل له ما يبكيك فقال أبكى لأن غلاما بعث
بعدى يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخل الجنة من أمتى أى وبل من سائر الأمم
فقد ذكر الجلال السيوطى فى الخصائص الصغرى أن مما اختص
به صلى الله عليه وسلم
فى أمته
فى الآخرة أن أهل الجنة أى من الأمم مائة وعشرون صفا هذه الأمة منها ثمانون وسائر
الأمم أربعون
وجاء فى المرفوع كل أمة بعضها فى الجنة وبعضها فى النار
إلا هذه الأمة فإنها كلها فى الجنة
وفى العرائس عن أبى هريرة رضى الله عنه لما كلم الله عز
وجل موسى كان بعد ذلك سيمع دبيب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على الصفا من
مسيرة عشرة فراسخ
وفى الحديث ليس أحد يدخل الجنة إلا جرد مرد إلا موسى بن
عمران فإن لحيته إلى سرته ثم عرج بنا إلى السماء السابعة واسمها عريبا واسم الأرض
السابعة جريبا
روى الخطيب بإسناد صحيح أن وهب بن منبه قال من قرأ
البقرة وأل عمران يوم الجمعة كان له ثواب يملأ ما بين عريبا وجريبا فاستفتح جبريل
قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال نعم قد بعث إليه
ففتح لنا فإذا بإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أى رجل أشمط وفى لفظ كهل ولا ينافى
ذلك ما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم فى وصفه إنه أشبه بصاحبكم يعنى نفسه صلى
الله عليه وسلم خلقا وخلقا جالس عند باب الجنة أى فى جهتها كما تقدم وإلا فالجنة
فوق السماء السابعة على كرسى مسندا ظهره إلى البيت المعمور أى وهو من عقيق ويقال
له الضراح بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره حاء مهملة من ضرح إذا بعد ومنه
الضريح
أى وفى كلام الحافظ ابن حجر يقال له الضراح والضريح وجاء
إنه مسجد بحذاء الكعبة لو خر لخر عليها أى فهو فى تلك السماء فى محل يحاذى الكعبة
أى وقيل فى السماء الرابعة وبه جزم فى القاموس وقيل فى السادسة وقيل فى الأولى
وتقدم أن فى كل سماء بيتا معمورا وأن كل بيت منها بحيال الكعبة وإذا هو يدخله كل
يوم ألف ملك لا يعودون إليه
أقول عن بعضهم أن البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف
ملك وفى رواية سبعون وجيها مع كل وجيه سبعون ألف ملك والوجيه الرئيس ولعله صلى
الله عليه وسلم علم ذلك بإعلام جبريل وإلا فرؤيته صلى الله عليه وسلم له تلك
الليلة لا تقتضى ذلك
ثم رأيت
الشيخ عبدالوهاب الشعرانى أشار إلى ذلك حيث قال وسما له البيت المعمور فنظر إليه
وركع فيه ركعتين وعرفه أي جبريل أنه يدخله كل يوم سبعون ألف ملك من الباب الواحد
ويخرجون من الباب الآخر فالدخول من باب مطالع الكواكب والخروج من باب مغاربها
والظاهر أن دخول هؤلاء الملائكة خاص بالذى فى السماء السابعة
وقال السهيلى وقد ثبت فى الصحيح أن أطفال المؤمنين
والكافرين فى كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال لجبريل حين رأهم مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام من هؤلاء يا جبريل قال هؤلاء
أولاد المؤمنين الذين يموتون صغارا قال له وأولاد الكافرين قال له وأولاد الكافرين
خرجه البخارى فى الحديث الطويل فى كتاب الجنائز وخرجه فى موضع آخر فقال فيه أولاد
الناس
وقد روى فى أطفال الكافرين أيضا أنهم خدم أهل الجنة هذا
كلامه وجاء فى حديث مرفوع لكن سنده ضعيف إن فى السماء الرابعة نهرا يقال له
الحيوان يدخله جبريل كل يوم أى سحرا كما فى بعض الروايات فينغمس ثم يخرج فينتقض
فيخرج منه سبعون ألف قطرة يخلق الله تعالى من كل قطرة ملكا وفى لفظ يخلق الله عز
وجل من كل قطرة كذا وكذا ألف ملك يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور يصلون فيه فهم الذين
يصلون في البيت المعمور ثم لا يعودون إليه أبدا يولى عليهم أحدهم يؤمر أن يقف بهم
فى السماء موقفا يسبحون الله عز وجل إلى أن تقوم الساعة وذكر الشيخ عبد الوهاب
الشعرانى أن جبريل أخبره بذلك فى تلك الليلة والله أعلم وفى رواية وإذا أنا بأمتى
شطرين شطرا عليهم ثياب بيض كأنها القراطيس وشطرا عليهم ثياب رمدة فدخلت البيت
المعمور ودخل معى الذين عليهم الثياب البيض وحجب الآخرون الذين عليهم الثياب
الرمدة فصليت أنا ومن معى فى البيت المعمور أى والظاهر أنه ليس المراد بالشطر
النصف حتى يكون العصاة من أمته بقدر الطائعين منهم وإن الصلاة محتملة للدعاء ولذات
الركوع والسجود ويناسبه ما تقدم من قوله ركعتين وأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام
قال له يا نبى الله إنك لاق ربك الليلة وإن أمتك آخر الأمم وأضعفها فإن استطعت أن
تكون حاجتك فى أمتك فافعل
وفى السيرة الشامية أن سيدنا إبراهيم عليه الصلاة
والسلام قال له صلى الله عليه وسلم
ذلك فى
الأرض قبل وصول بيت المقدس وقال له هنا مر أمتك فليكثروا من غراس الجنة فإن تربتها
طيبة وأرضها واسعة فقال له وما غراس الجنة فقال لا حول ولا قوة إلا بالله وفى
رواية أخرى أقرئ أمتك منى السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأن
غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر
وقد يقال لا مخالفة بين الروايتين لأنه يجوز أن يكون
غراس الجنة مجموع ما ذكر وأن بعض الرواة اقتصر
قال صلى الله عليه وسلم واستقبلتنى جارية لعساء وقد
أعجبتنى فقلت لها يا جارية أنت لمن قالت لزيد بن حارثة أى ولعل تلك الجارية خرجت
من الجنة فيكون استقبالها له صلى الله عليه وسلم بعد مجاوزة السماء السابعة لكن فى
رواية فرأيت فيها أى فى الجنة جارية الحديث
وقد يقال يجوز أن يكون رأها مرتين خارج الجنة وداخلها
فيكون سؤالها فى المرة الأولى واللعس لون الشفة إذا كانت تضرب إلى السواد قليلا
وذلك مستملح قاله فى الصحاح
وفى رواية فلما انتهى إلى السماء السابعة رأى فوقه رعدا
وبرقا وصواعق أى وهذه الرواية ظاهرة فى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك فى السماء
السابعة محتملة لأن يكون رآه قبل دخوله فيها وحينئذ يكون قوله ثم أتى بإناء من خمر
وإناء من لبن وإناء من عسل على الاحتمالين المذكورين
وعند عرض تلك الأوانى عليه صلى الله عليه وسلم أخذ اللبن
فقال جبريل أصبت الفطرة أى بأخذك اللبن الذى هو الفطرة أصاب الله عز وجل بك أمتك
على الفطرة أى أوجدهم على الفطرة ببركتك وفى رواية هذه الفطرة التى أنت عليها
وأمتك أي وتقدم أن المراد بها الإسلام
وورد أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام فى السماء السادسة
وموسى فى السماء السابعة وهذه الرواية فى البخارى عن أنس وتقدم أن ذلك كان فى
الإسراء بروحه صلى الله عليه وسلم لا بجسده وفيه أن رؤيا الأنبياء حق
فالأولى الجمع بين الروايات بالانتقال وأن بعض الأنبياء
نزل من محله إلى ما تحته لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند صعوده وبعضهم خرج عن
محله وصعد إلى
ما فوقه
لملاقاته صلى الله عليه وسلم عند هبوطه فأخبر صلى الله عليه وسلم عنه تارة بأنه فى
سماء كذا وتارة بأنه في سماء كذا والحافظ ابن حجر لايرى الجمع بل يحكم على ما خالف
أصح الروايات بأنه لا يعمل به قال والجمع إنما هو مجرد استرواح لا ينبغى المصير
إليه هذا كلامه
وعندى فيه نظر ظاهر والجمع أولى من إثبات المعارضة
لاسيما بين الأصح والصحيح وإن كان الصحيح شاذا لأنا لا نقدم الأصح أو الصحيح على
غيره إلا حيث تعذر الجمع فليتأمل
وعلى المشهور من الروايات الذى صدرنا به أبدى بعضهم
لاختصاص هؤلاء الأنبياء بملاقاته صلى الله عليه وسلم واختصاص كل واحد منهم بالسماء
الذى لقيه فيها حكمة يطول ذكرها
قال صلى الله عليه وسلم ثم ذهب بى أى جبريل إلى سدرة
المنتهى وإذا أوراقها كآذان الفيلة وفى رواية مثل آذان الفيول وفى رواية الورقة
منها تظل الخلق وفى رواية تكاد الورقة تغطى هذه الأمة وفى رواية لو أن الورقة
الواحدة ظهرت لغطت هذه الدنيا وحينئذ يكون المراد بكونها كآذان الفيلة فى الشكل
وهو الاستدارة لا فى السعة وإذا ثمرها كالقلال وفى رواية كقلال هجر قرية بقرب المدينة
والواحدة من قلالها تسع قربتين ونصفا من قرب الحجاز والقربة تسع من الماء مائة رطل
بغدادى فلما غشيها من أمر الله عز وجل ما غشيها تغيرت أى صار لها حالة من الحسن
غير تلك الحالة التى كانت عليها فما أحد من خلق الله عز وجل يستطيع أن ينعتها من
حسنها أى لأن رؤية الحسن تدهش الرائى وهذا السياق يدل على أن سدرة المنتهى فوق
السماء السابعة أى وهو قول الأكثر وفى بعض الروايات أن أغصانها تحت الكرسى وعن وهب
أن العرش والكرسى فوق السماء السابعة قال ويسأل هل ثمرة سدرة المنتهى كالثمار
المأكولة فى أنه يزول ويعقبه غيره هذا الزائل يؤكل أو يسقط أى فلا يؤكل انتهى
قال صلى الله عليه وسلم ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ
أى بالمعجمة قباب اللؤلؤ وفى لفظ حبائل اللؤلؤ المعقود والقلائد وإذا ترابها المسك
ورمانها كالدلاء وطيرها كالبخت فدخوله صلى الله عليه وسلم للجنة كان قبل عروجه
للسحابة
وفى الحديث ما فى الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهى فى
الجنة حتى الحنظل والذى نفس محمد بيده لا يقطف رجل ثمرة من الجنة فتصل إلى فيه حتى
يبدل الله مكانها خيرا منها وهذا القسم يرشد إلى أن ثمرة الجنة كلها حلوة تؤكل
وأنها تكون على صورة ثمرة الدنيا المرة
وفى كلام الشيخ محيى الدين بن العربى فاكهة الجنة لا
مقطوعة ولا ممنوعة أى تؤكل من غير قطع أى يؤكل منها فالأكل موجود والعين باقية فى
غصن الشجرة وليس المراد أن الفاكهة غير مقطوعة فى شتاء ولا صيف أو يخلق مكان قطعها
أخرى على الفور كما فهمه بعضهم فعين ما يأكل العبد هو عين ما يشهد وأطال فى ذلك
وكأنه لم يقف على هذا الحديث أو لم يثبت عنده فليتأمل
قال ويخرج من أصل تلك الشجرة أربعة أنهار نهران باطنان
أى يبطنان ويغيبان فى الجنة بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة ونهران ظاهران أى
يستمران ظاهرين بعد خروجهما من أصل تلك الشجرة فيجاوزان الجنة فقال ما هذه أى
الأنهار يا جبريل قال أما الباطنان ففى الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات انتهى
أقول قول جبريل أما الباطنان ففى الجنة لا يحسن أن يكون
جوابا عن هذا السؤال أى الذى هو سؤال عن بيان الحقيقة ويحصل بذكر اسمها فكان
المناسب بحسب الظاهر أن يقول وأما الباطنان فنهر كذا ونهر كذا وهذا السياق يدل على
أن النيل والفرات يمران فى الجنة ويجاوزانها وأن ما عداهما كسيحان وجيحان بناء على
أنهما ينبعان من أصل شجرة المنتهى يغيبان فيها ولا يجاوزانها والنيل نهر مصر
والفرات نهر الكوفة ويحتمل أن النهرين اللذين هما ما عدا النيل والفرات بناء على
أنهما سيحان وجيحان يبطنان فى الجنة ولا يظهران إلا بعد خروجهما منها لوجودهما فى
الخارج بخلاف النيل والفرات فإنهما يستمران ظاهرين فيها إلى أن يخرجا منها
وقد جاء فى حديث ما من يوم إلا وينزل ماء من الجنة فى
الفرات قال بعضهم ومصداقه أن الفرات مد فى بعض السنين فوجد فيه رمان كل واحدة مثل
البعير فيقال إنه رمان الجنة وهذا الحديث ذكره ابن الجوزى فى الأحاديث الواهية وفى
حديث موقوف على ابن عباس إذا حان خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله تعالى جبريل فرفع من
الأرض هذه الأنهار والقرآن والعلم والحجر والمقام وتابوت موسى بما فيه إلى السماء
هذا وفى
بعض الروايات ما يدل على أن سيحان وجيحان لا ينبعان من أصل شجرة المنتهى فليسا هما
المراد بالباطنين
وعن مقاتل الباطنان السلسبيل والكوثر أى ومعنى كونهما
باطنين أنهما لم يخرجا من الجنة أصلا ومعنى كون النيل والفرات ظاهرين أنهما يخرجان
منها
وفى السيرة الشامية لم يثبت فى سيحان وجيحان أنهما
ينبعان من أصل شجرة المنتهى فيمتاز النيل والفرات عليهما بذلك وأما الباطنان
المذكوران أى فى الحديث فهما غير سيحان وجيحان قال القرطبى ولعل ترك ذكرهما أى
سيحان وجيحان فى حديث الإسراء كونهما ليسا أصلا برأسهما وإنما يحتمل أن يتفرعا عن
النيل والفرات هذا كلامه ولعل المراد أنهما يتفرعان عنهما بعد خروجهما من الجنة
فهما لم يخرجا من أصل السدرة ولا يبطنان فى الجنة أصلا
قال وإذا فيها فى تلك الشجرة عين أى فى أصلها أيضا يقال
لها السلسبيل فينشق منها نهران أحدهما الكوثر والآخر يقال له نهر الرحمة فاغتسلت
منه فغفر لى ما تقدم من ذنبى وما تأخر انتهى أى فهما يخرجان من أصل سدرة المنتهى
لكن لا من المحل الذى يخرج منه النيل والفرات وحينئذ يحسن القول بأنه يخرج من أصل
تلك الشجرة أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان وفى جعل الكوثر قسما من
السلسبيل يخالفه جعله قسيما كما تقدم عن مقاتل فالباطنان الكوثر ونهر الرحمة
فالأنهار التى تخرج من أصل سدرة المنتهى أربعة بناء على أن سيحان وجيحان لا يخرجان
منها أو ستة بناء على أنهما يخرجان منها
وعلى الأول لا ينافى قول القرطبى ما فى الجنة نهر إلا
ويخرج من أصل سدرة المنتهى لأن المراد إما خروجه بنفسه أو أصله الذى يتفرع منه
بناء على ما تقدم من أن سيحان وجيحان يتفرعان عن النيل والفرات
ولا ينافى ما عند مسلم يخرج من أصلها يعنى سدرة المنتهى
أربعة أنهار من الجنة وهى النيل والفرات وسيحان وجيحان ولا ما عند الطبرانى سدرة
المنتهى يخرج من أصلها أربعة أنهار من ماء غير آسن ومن لبن لم يتغير طعمه ومن خمر
لذة للشاربين ومن عسل مصفى وعن كعب الأحبار إن نهر العسل نهر النيل أى ويدل لذلك
قول بعضهم لولا دخول بحر النيل فى البحر الملح الذى يقال له البحر الأخضر قبل أن
يصل
إلى بحيرة
الزنج ويختلط بملوحته لما قدر أحد على شربه لشدة حلاوته ونهر اللبن نهر جيحان ونهر
الخمر نهر الفرات ونهر الماء نهر سيحان لأن غاية ذلك سكوتهما عن النهرين الآخرين
وهما الكوثر ونهر الرحمة ومعنى كونها تخرج من أصل سدرة المنتهى من الجنة أنه يحتمل
أن تكون سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة والأنهار تخرج من أصلها فصح أنها من الجنة
هكذا ذكره العارف ابن أبى جمرة ولم أقف على ما يدل على ثبوت هذا الاحتمال أى أن
سدرة المنتهى مغروسة فى الجنة ولا حاجة لهذا الاحتمال فى تصحيح هذه الرواية لأن
المعنى أن تلك الأنهار تخرج من أصل تلك الشجرة ثم تكون خارجة من الجنة ثم لايخفى
أن فى كلام القاضى عياض أن سيحان يقال فيه سيحون وجيحان يقال فيه جيحون
ويخالفه قول صاحب النهاية اتفقوا كلهم على أن جيحون غير
جيحان وسيحون غير سيحان ومن ثم أنكر الإمام النووى على القاضى عياض حيث قال الثانى
أى من وجوه الإنكار على القاضى قوله سيحان وجيحان ويقال سيحون وجيحون فجعل الأسماء
مترادفة وليس كذلك فسيحان وجيحان غير سيحون وجيحون هذا كلامه
وذكر صاحب النهاية أن جيحون نهر وراء خراسان عند بلخ
وسكت عن بيان سيحون فليتأمل
قال والذى غشى الشجرة فراش من ذهب والفراش هو الحيوان
الذى يلقى نفسه فى السراج ليحترق وملائكته على كل ورقة ملك يسبح الله تعالى
وملائكه أى آخرون يغشونها كأنهم الغربان يأوون إليها متشوقين إليها متبركين بها
زائرين كما يزور الناس الكعبة انتهى
ورأى صلى الله عليه وسلم جبريل عند تلك السدرة على
الصورة التى خلقه الله عز وجل عليها له ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق
يتناثر من أجنحته تهاويل الدر والياقوت مما لا يعلمه إلا الله عز وجل وغشيت تلك
السدرة سحابة فتأخر جبريل عليه الصلاة والسلام ثم عرج به صلى الله عليه وسلم أى فى
تلك السحابة حتى ظهر لمستوى سمع فيه صرير الأقلام وفى رواية صريف أى صوت حركتها
حال الكتابة أى ما تكتبه الملائكة من الأقضية وهذا السياق يدل على أن جبريل لم
يتعد سدرة المنتهى ويدل
على ما
تقدم من أن سدرة المنتهى فوق السماء السابعة إلى آخر ما تقدم وهو الموافق لقول
بعضهم إنها على يمين العرش
وفى رواية ثم انطلق بى أى جبريل إلى ظهر السماء السابعة
حتى انتهى إلى نهر عليه خيام الياقوت واللؤلؤ والزبرجد وعليه طير أخضر نعم الطير
رأيت قال جبريل هذا الكوثر الذى أعطاك الله فإذا فيه آنية الذهب والفضة يجرى على
رضاض من الياقوت والزمرد بالذال المعجمة كما تقدم وماؤه أشد بياضا من اللبن فأخذت
من آنيته واغترفت من ذلك فشربت فإذا هو أحلى من العسل وأشد رائحة من المسك
أقول قد تقدم أن هذا النهر من العين التى تخرج من سدرة
المنتهى التى يقال لها السلسبيل أى فهو يخرج من تلك الشجرة ويمر على ما ذكر ثم
يدخل الجنة ويستقر بها فلا ينافى كون الكوثر نهرا فى الجنة وأن السلسبيل عين فى
الجنة لأن السلسبيل على ما تقدم أصل الكوثر والله أعلم
وفى رواية إنها أى سدرة المنتهى فى السماء السادسة
وإليها ينتهى ما يعرج من الأرض فيفيض منها وإليها ينتهى ما يهبط من فوقها فيفيض
منها وعندها تقف الحفظة وغيرهم فلا يتعدونها ومن ثم سميت سدرة المنتهى
وعن تفسير ابن سلام عن بعض السلف قال إنما سميت سدرة
المنتهى لأن روح المؤمن ينتهى بها إليها فتصلى عليها هناك الملائكة المقربون وجمع
وجمع الحافظ ابن حجر بين كون سدرة المنتهة فى السادسة وكونها فى السابعة بأن أصلها
فى السادسة وأغصانها فى السابعة أى فوق السابعة أى جاوزت السابعة فلا ينافى القول
بأنها فوق السابعة على ما تقدم وهذا الحمل المقتضى لكون أصلها فى السادسة لا يناسب
كون الأنهار تخرج من أصلها إلى آخر ما تقدم
ويروى أن جبريل لما وصل إلى مقامه وهو سدرة المنتهى فوق
السماء السابعة قال له صلى الله عليه وسلم ها أنت وربك هذا مقامى لا أتعداه فزج بى
فى النور أى لما غشيته تلك السحابة ويعبر عن تلك السحابة بالرفوف قال الشيخ
عبدالوهاب الشعرانى وهو نظير المحفة عندنا
وفى تاريخ الشيخ العينى شارح البخارى عن مقاتل بن حيان
قال انطلق بى جبريل حتى انتهى إلى الحجاب الأكبر عند سدرة المنتهى قال جبريل تقدم
يا محمد قال
فتقدمت
حتى انتهيت إلى سرير من ذهب عليه فراش من حرير الجنة فنادى جبريل من خلفى يل محمد
إن الله يثنى عليك فاسمع وأطع ولا يهولنك كلامه فبدأت بالثناء على الله عز وجل
الحديث أى وفى ذلك النور المستوى الذى يسمع فيه صريف الأقلام ثم العرش والرفوف
والرؤية وسماع الخطاب
وفى رواية أنه لما وقف جبريل قال له صلى الله عليه وسلم
فى مثل هذا المقام يترك الخليل خليله قال إن تجاوزت احترقت بالنار فقال النبى صلى
الله عليه وسلم يا جبريل هل لك من حاجة إلى ربك قال يا محمد سل الله عز وجل لى أن
أبسط جناحى على الصراط لأمتك حتى يجوزوا عليه قال ثم زج بى فى النور فخرق بى إلى
سبعين الف حجاب ليس فيها حجاب يشبه حجابا غلظ كل حجاب خمسمائة عام وانقطع عنى حس
كل ملك فلحقنى عند ذلك استيحاش فعند ذلك نادى مناد بلغة أبى بكر رضى الله تعالى
عنه قف إن ربك يصلى فبينما أنا أتفكر فى ذلك أى فى وجود أبى بكر فى هذا المحل وفى
صلاة ربى فأقول هل سبقنى ابو بكر وكيف يصلى ربى وهو غنى عن أن يصلى كما يدل على
ذلك ما يأتى فإذا النداء من العلى الأعلى ادن يا خير البرية ادن يا أحمد ادن يا
محمد فأدنانى ربى حتى كنت كما قال عز وجل { ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى }
وفى الخصائص الصغرى وخص بالإسراء وما تضمنه اختراق
السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبى مرسل ولا ملك مقرب
وهذه الرواية ككلام الخصائص تدل على أن فاعل دنا وتدلى واحد وكان هو صلى الله عليه
وسلم وحينئذ يكون معنى تدلى زاد فى القرب وجعل بعض العلماء من جملة ما خالف شريك
فيه المشهور من الروايات أنه جعل فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى أى دنا الجبار
رب العزة فتدلى حتى كان من محمد صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى ثم رأيت
الحافظ ابن حجر ذكر عن البيهقى أنه روى بسند حسن ما يوافق ما ذكر شريك ومعلوم أم
معنى الدنو والتدلى الواقعين من الله سبحانه وتعالى كمعنى النزول منه فى ينزل ربنا
تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير وهو أى ذلك عند أهل
الحقائق من مقام التنزل بمعنى أنه تعالى يتلطف بعباده ويتنزل فى خطابه لهم فيطلق
على نفسه ما يطلقونه على أنفسهم فهو فى حقهم حقيقة وفى حقه تعالى مجاز
ورأيت بعضهم ذكر أن فاعل دنا جبريل وفاعل تدلى محمد صلى
الله عليه وسلم أى سجد لربه سبحانه وتعالى شكرا على ما أعطى من الزلفى
ورأيت بعضا آخر ذكر أن فاعل تدلى الرفرف وفاعل دنا محمد
صلى الله عليه وسلم أى تدلى الرفرف لمحمد صلى الله عليه وسلم حتى جلس عليه ثم دنا
محمد صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى أى قرب قرب منزلة وتشريف لا قرب
مكان تعالى الله عز وجل عن ذلك
قال صلى الله عليه وسلم وسألنى ربى فلم أستطع أن أجيبه
عز وجل فوضع يده عز وجل بين كتفى بلا تكييف ولا تحديد أى يد قدرته تعالى لأنه
سبحانه منزه عن الجارحة فوجدت بردها فأورثنى علم الأولين والآخرين وعلمنى علوما
شتى فعلم أخذ على كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على حمله غيرى وعلم خيرنى فيه وعلم
أمرنى بتبليغه إلى العام والخاص من أمتى وهى الإنس والجن أى وكذلك الملائكة على ما
تقدم
أقول هذا التفصيل يدل على أن العلوم الشتى هى هذه العلوم
الثلاثة إلا أن يقال كل علم من هذه الثلاثة يشتمل على أنواع من العلوم والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم ثم قلت اللهم إنه لما لحقنى
استيحاش سمعت مناديا ينادى بلغة تشبه لغة أبى بكر فقال لى قف فإن ربك يصلى فعجبت
من هاتين هل سبقنى أبو بكر إلى هذا المقام وإن ربى لغنى أن يصلى فقال تعالى أنا
الغنى عن أن أصلى لأحد وإنما أقول سبحانى سبحانى سبقت رحمتى غضبى اقرأ يا محمد {
هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما }
فصلاتى رحمة لك ولأمتك وأما أمر صاحبك يا محمد فإن أخاك موسى كان أنسه بالعصا فلما
أردنا كلامه قلنا وما تلك بيمينك يا موسى قال هى عصاى وشغل بذكر العصا عن عظيم
الهيبة وكذلك أنت يا محمد لما كان أنسك بصاحبك أبى بكر خلقنا ملكا على صورته ينادى
بلغته ليزول عنك الاستيحاش لما يلحقك من عظم الهيبة
أقول لعل المراد خلقنا صورة على صورة صوته لأنه ليس فى
الرواية أنه رأى ذلك الملك على صورة أبى بكر وإنما سمع صوته والله أعلم
ثم قال الله عز وجل يا محمد وأين حاجة جبريل فقلت اللهم
إنك أعلم فقال يا محمد قد أجبته فيما سأل ولكن فيمن أحبك وصحبك
أقول لعل المراد بمن صحبك من كان تابعا لك فى دينك عاملا
بسنتك أى وهو مراد جبريل بأمته صلى الله عليه وسلم فى قوله أن أبسط جناحى لأمتك
على الصراط والله أعلم
وفى رواية إنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الحق سبحانه
وتعالى خر ساجدا قال صلى الله عليه وسلم فأوحى الله عز وجل إلى ما أوحى
وقد ذكر الثعلبى والقشعرى فى تفسير قوله تعالى { فأوحى
إلى عبده ما أوحى } أن من جملة ما أوحى إليه إن الجنة حرام على الأنبياء حتى
تدخلها يا محمد وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك قال القشيرى وأوحى إليه خصصتك بحوض
الكوثر فكل أهل الجنة أضيافك بالماء ولهم الخمر واللبن والعسل ففرض على خمسين صلاة
فى كل يوم وليلة
أقول تقدم أن من جملة ما أوحى إليه فى هذا الموطن من
القرآن خواتيم سورة البقرة وبعض سورة الضحى وبعض ألم نشرح وقد تقدم ذلك عند الكلام
على أنواع الوحى وقدمنا أنه يضم لذلك هو الذى يصلى عليكم وملائكته الآية على ما
تقدم
هذا وفى حديث رواته ثقات لما وصلت إلى السماء السابعة
قال لى جبريل عليه السلام رويدا أى قف قليلا فإن ربك يصلى قلت أهو يصلى وفى لفظ
كيف يصلى وفى لفظ أخر قلت يا جبريل أيصلى ربك قال نعم قلت وما يقول قال يقول سبوح
قدوس رب الملائكة والروح سبقت رحمتى غضبى ولا مانع من تكرر وقوع ذلك له صلى الله
عليه وسلم من جبريل ومن غيره فى السماء السابعة وفيما فوقها لكن يبعد تعجبه صلى
الله عليه وسلم من كونه عز وجل يصلى فى المرة الثانية وما بعدها
وورد أن بنى إسرائيل سألوا موسى هل يصلى ربك فبكى موسى
عليه الصلاة والسلام لذلك فقال الله تعالى يا موسى ما قالوا لك فقال قالوا الذى
سمعت قال أخبرهم أنى أصلى وأن صلاتى تطفئ غضبى والله أعلم
قال صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى موسى أى وفى رواية ثم
انجلت تلك السحابة أى عند وصوله إلى سدرة المنتى الذى هو المحل الذى وقف فيه جبريل
فأخذ بيده جبريل فانصرف سريعا فأتى على إبراهيم فلم يقل شيئا ثم أتى على موسى وهذا
يدل على
ما هو المشهور فى الروايات أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السابعة وموسى
كان فى السادسة لا على غير المشهور أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان فى السادسة
وموسى كان فى السابعة كما تقدم
ولما أتى إلى موسى عليه الصلاة والسلام قال له ما فرض
ربك عليك أى وفى لفظ بم أمرت قال خمسين صلاة قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن
أمتك لا تطيق ذلك فإنى بلوت بنى إسرائيل وخبرتهم أى وفى البخارى إن أمتك لا تستطيع
خمسين صلاة كل يوم وإنى والله قد جربت الناس قبلك وعالجت بنى إسرائيل أشد المعالجة
أى فإنه فرض عليهم صلاتان فما قاموا بهما أى ركعتان بالغداة وركعتان بالعشى وقيل
فرض ركعتان عند الزوال أى فما قاموا بذلك
وفى تفسير البيضاوى أن الذى فرض على بنى إسرائيل خمسون
صلاة فى اليوم والليلة وسيأتى ذكر ذلك فى بعض الروايات
ويرده قولهم إن سبب طلب التخفيف أنه استكثر الخمس التى
هى المرة الأخيرة فهو إنما يناسب ما تقدم
ثم رأيت القاضى البيضاوى قال فى تفسير قوله تعالى { ربنا
ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } أن من ذلك الإصر الذى كلفت به
بنو إسرائيل خمسون صلاة فى اليوم والليلة وكتب عليه الجلال السيوطى فى الحاشية أن
كون بنى إسرائيل كلفوا بخمسين صلاة فى اليوم والليلة باطل وبسط الكلام على ذلك
ثم قال موسى فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك أى
وإنما كانت أمته مأمورة بما أمر به ومفروض عليها ما فرض عليه لأن الفرض عليه صلى
الله عليه وسلم فرض على أمته والأمر له صلى الله عليه وسلم أمر لها لأن الأصل أن
ما ثبت فيه حق كل نبى ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية
قال فرجعت إلى ربى أى انتهى إلى الشجرة فغشيته السحابة
وخر ساجدا فقلت يا رب خفيف عن أمتى فحط عنى خمسا فرجعت إلى موسى فقلت حط عنى خمسا
قال إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك واسأله التخفيف قال فلم أزل أرجع بين ربى
تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم حتى قال الله تعالى يا محمد إنهن خمس
صلوات فى كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة ومن هم
بحسنة فلم
يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشرا ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة
فإن عملها كتبت له سيئة واحدة قال صلى الله عليه وسلم فنزلت حتى انتهيت إلى موسى
فأخبرته فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقلت قد رجعت إلى ربى حتى استحييت منه
أى وفي رواية أنه وضع عنه عشر صلوات عشر صلوات إلى أن أمر بخمس صلوات وجاء في
الحديث أكثروا من الصلاة على موسى فما رأيت أحدا من الأنبياء أحوط على أمتى منه
أقول فى الوفاء أن رواية وضعت خمس صلوات من أفراد مسلم
ورواية وضع عنه عشر صلوات أصح لأنه قد أتفق البخارى ومسلم عليها والرواية التى
فيها حط خمسا خمسا غلط من الرواة هذا كلامه فليتأمل
والمتبادر من قوله إلى أن مر بخمس صلوات أنه رفع التعلق
بجمع الخمسين وأثبت تعلقا جديدا بخمس ليست من الخمسين فالمنسوخ جميع الخمسين
ويحتمل أنه رفع التعلق بجملة الخمسين مع إثبات التعلق
بخمسة منها التى هى بعضها فيكون المنسوخ ما عدا الخمس من الخمسين قيل وفى هذا وقوع
النسخ قبل البلاغ وقد اتفق أهل السنة والمعتزلة على منعه
ورد بأن هذا وقع بعد البلاغ بالنسبة للنبى صلى الله عليه
وسلم لأنه كلف بذلك ثم نسخ فقد قال شيخ الإسلام زكريا الأنصارى رحمه الله تعالى
وما قيل إن الخمس فى ليلة الإسراء ناسخة للخمسين إنما هو فى حقه صلى الله عليه
وسلم لبلوغه له لافى حق الأمة أى لعدم بلوغه لهم هذا كلامه وإذا نسخ فى حقه صلى
الله عليه وسلم نسخ فى حق أمته كما هو الأصل إلا أن تثبت الخصوصية بدليل صحيح وهذا
يرد ما فى الخصائص الصغرى للسيوطى رحمه الله تعالى من أن وجوب الخمسين لم ينسخ فى
حقه صلى الله عليه وسلم وإنما نسخ فى حق الأمة ولعل مستنده فى ذلك رواية فرض الله
على أمتى ليلة الإسراء خمسين صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا
فى كل يوم وليلة أى على الأمة كما هو المتبادر وقول موسى عليه الصلاة والسلام له
صلى الله عليه وسلم إن أمتك لا تطيق ذلك وربما يوافق ذلك قول الإمام السبكى فى
تائيته
** وقد كان رب العالمين مطالبا بخمسين فرضا كل يوم وليلة ** **
فأبقيت أجر الكل ما اختل ذرة وخففت الخمسون عنا بخمسة
**
وفيه النسخ قبل التمكن من الفعل وهو يرد قول المعتزلة
القائلين بأنه لا يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل ودخول وقته
والظاهر من الخمسين التى فرضت أولا أن كل صلاة من الخمس
تكرر عشر مرات فما زاد على الخمس مساولها
ويحتمل أن تكون صلوات أخر مغايرة لتلك الخمس ولم أقف على
بيان تلك الصلوات
وعلى أن الخمسين لم تنسخ فى حقه صلى الله عليه وسلم لم
أقف على ما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله
عليه وسلم صلاها ولا على كيفية صلاته صلى الله عيله وسلم لها وإلى عروجه صلى الله
عليه وسلم ورجوعه أشار صاحب الهمزية بقوله ** وطوى الأرض سائرا والسموات العلا
فوقها له إسراء ** **
فصف الليلة التى كان للمختا ر فيها على البراق استواء
** ** وترقى به إلى قاب قوسين وتلك السيادة القعساء ** **
رتب تسقط الأمانى حسرى دونها ما وراءهن وراء
** ** وتلقى من ربه كلمات كل علم فى شمسهن هباء ** **
زاخرات البحار يغرق فى قط رتها العالمون والحكماء
**
أى وطوى الأرض حالة كونه صلى الله عليه وسلم سائرا عليها
إلى المدينة عند الهجرة كما طويت له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك السموات العلا لما
كان له صلى الله عليه وسلم فوقها إسراء أى ليلة الإسراء إلى أن جاوزها جميعها فى
أسرع وقت فصف تلك الليلة التى كان للمختار فيها على البراق استواء واستقرار وصعد
به ذلك البراق إلى مقدار قاب قوسين وتلك الرتبة التى وصل إليها صلى الله عليه وسلم
هى السعادة الثابتة التى لا يعتريها نقص ولا زوال وهذه رتب تسقط دونها الأمانى
حسرى ذات إعياء وتعب ما قدامهن قدام أى ليس بعدها من رتبة ينالها أحد غيره صلى
الله عليه وسلم وتلقى من ربه كلمات ما عداها بالنسبة إليها كالهباء وهو ما يرى فى
ضوء الشمس وبث سبحانه
وتعالى
إليه علوما لا يدرك العلماء الحكماء شذرة منها وكونه صلى الله عليه وسلم صعد
السموات على البراق يوافقه ما فى حياة الحيوان
إن قيل لم عرج بالنبى صلى الله عليه وسلم إلى السماء على
البراق ولم ينزل عند منصرفه عليه فالجواب أنه عرج به إلى دار الكرامة ولم ينزل به
عليه إظهارا لقدرة الله تعالى هذا كلامه فليتأمل
وتقدم عن الحافظ ابن كثير إنكار صعوده صلى الله عليه
وسلم على البراق وقد جاء كان موسى أشد على حين مررت عليه وخيرهم إلى حين رجعت ونعم
الصاحب كان لكم أى فإنه صلى الله عليه وسلم كما تقدم لما جاوزه عند الصعود بكى
فنودى ما يبكيك قال رب هذا غلام أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان حديث السن بالنسبة
لموسى صلى الله عليه وسلم هذا هو المناسب للمقام بعثته بعدي يدخل الجنة من أمته
أكثر ممن يدخل من أمتى وفى رواية تزعم بنو إسرائيل أى وهو يعقوب بن إسحاق عليهما
الصلاة والسلام ومعنى إسرائيل عبدالله وقيل صفوة الله وفى لفظ تزعم الناس أنه أكرم
على الله منى ولو كان هذا وحده هان ولكن معه أمته وهم أفضل الأمم عند الله تعالى
أى انضم إلى شرفه شرف أمته على سائر الأمم
أقول والغرض من هذا وما تقدم عنه عند مروره صلى الله
عليه وسلم على قبره عليه الصلاة والسلام عند الكثيب الأحمر إظهار فضيلة نبينا صلى
الله عليه وسلم وفضيلة أمته بأنه أفضل الأنبياء وأمته بأنها أفضل الأمم وفى رواية
عن ابن عمر كانت الصلاة خمسين والغسل من الجنابة سبع مرات وغسل الثوب من البول سبع
مرات ولم يزل صلى الله عليه وسلم يسأل حتى جعلت الصلاة خمسا وغسل الجنابة مرة وغسل
الثوب من البول مرة
قال وعن أنس رضى الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى مكتوبا على باب الجنة الصدقة بعشر أمثالها والقرض
بثمانية عشر فقلت لجبريل ما بال القرض أفضل من الصدقة قال لأن السائل يسأل وعنده
والمستقرض لا يستقرض إلا من حاجة انتهى هذا والراجح عند أئمتنا أن درهم الصدقة
أفضل من درهم القرض
وبيان كون درهم القرض بثمانية عشر درهما أن درهم القرض
بدرهمين من دراهم
الصدقة
كما جاء فى بعض الرويات ودرهم الصدقة بعشرة تصير الجملة عشرين ودرهم القرض يرجع
للمقرض بدله وهو بدرهمين من عشرين يتخلف ثمانية عشر
وعرضت عليه صلى الله عليه وسلم النار فإذا فيها غضب الله
تعالى أى نقمته لو طرحت فيها الحجارة والحديد لأكلتهما وفى هذه الرواية زيادة على
ما تقدم وهى فإذا قوم يأكلون الجيف فقال صلى الله عليه وسلم من هؤلاء يا جبريل
فقال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس أى وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم رأى هؤلاء فى
الأرض وأن لهم أظفارا من حديد يخمشون بها وجوههم وصدورهم ورآهم فى السماء الدنيا
وأنهم يقطعون اللحم من جنوبهم فيلقمونه ولينظر ولينظر ما الحكمة في تكرير رؤية
هؤلاء دون غيرهم من بقية أهل الكبائر الذين رآهم الأرض وفى السماء الدنيا ولعل
الحكمة فى ذلك المبالغة فى الزجر عن الغيبة لكثرة وقوعها
ورأى فيها رجلا أحمر أزرق فقال من هذا يا جبريل فقال هذا
عاقر الناقة أى لعل دخول الجنة وعرض النار عليه صلى الله عليه وسلم كان قبل أن
تغشاه السحابة ويزج به فى النور ولا مانع من أن تعرض عليه النار وهو فوق السماء
السابعة وهى فى الأرض السابعة
أقول ونقل القرطبى فى تفسيره عن الثعلبى عن أنس بن مالك
رضى الله تعالى عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسرى بى
إلى السماء تحت العرش سبعين مدينة كل مدينة مثل دنياكم هذه سبعين مرة مملوآت من
الملائكة يسبحون الله عز وجل ويقدسونه ويقولون فى تسبيحهم اللهم اغفر لمن شهد
الجمعة أى صلاتها اللهم اغفر لمن اغتسل يوم الجمعة أي لصلاتها وهذا يفيج أن هذه
التسمية أي تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة معروفة عند الملائكة وعنده صلى الله عليه
وسلم وهو يوافق ما قيل إن المسمى لها بذلك كعب بن لؤي كما تقدم ويخالف ما سيأتي من
أن تسمية ذلك اليوم بيوم الجمعة هداية من الله عز وجل للمسلمين بالمدينة وأنه لما
أرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلوها فى ذلك اليوم لم يسمه بيوم
الجمعة بل اقتصر على قوله اليوم الذى يليه اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور
لسبتهم أى فى أكثر الروايات وإلا فقد رأيت السهيلى ذكر حدثنا عن ابن عباس رضى الله
تعالى عنهما أنه سمى ذلك اليوم بيوم الجمعة ونصه كتب صلى الله عليه وسلم إلى مصعب
بن عمير أما بعد فانظر اليوم
الذى يليه
اليوم الذى تجهرفيه اليهود بالزبور لسبتهم فاجمعو نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار
عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله تعالى فيه بركعتين فعلى أكثر
الروايات يجوز أن يكون إخباره صلى الله عليه وسلم بذلك هنا أى قصة المعراج كان بعد
التسمية وصلاة الجمعة وعبر بهذه العبارة لكونها عرفت لهم فيكون الذى سمعه من
الملائكة يوم العروبة مثلا والله أعلم
قال ورأى صلى الله عليه وسلم مالكا خازن النار فإذا هو
رجل عابس يعرف الغضب فى وجهه فبدأ النبى صلى الله عليه وسلم أى بالسلام ثم أغلقت
دونه انتهى
وفى الأصل وفى حديث أبى هريرة رضى الله تعالى عنه وقد
رأيتنى أى يخبر أنه صلى الله عليه وسلم رأى نفسه فى جماعة من الأنبياء فحانت
الصلاة أى حضرت إرادة الصلاة فأممتهم أى صليت بهم إماما قال قائل يا محمد هذا مالك
خازن النار فسلم عليه فبدأنى بالسلام قال وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل
مالى لم آت لأهل سماء إلا رحبوا بى وضحكوا إلا غير واحد سلمت عليه فرد على السلام
ورحب بى ودعا لى ولم يضحك إلى قال ذلك مالك خازن النار لم يضحك منذ خلق ولو ضحك
لأحد لضحك إليك انتهى
أقول وهذا السياق يدل على أن ضحك من لقيه من الأنبياء
والملائكة فى السموات له صلى الله عليه وسلم سقط من جميع روايات المعراج إذ لم
يذكر فى شيء منها على ما علمت ويدل على أن مالكا خازن النار وجده فى السماء
السابعة وأنه مرة بدأ النبى صلى الله عليه وسلم بالسلام ومرة بدأه النبى صلى الله
عليه وسلم بالسلام والمناسب أن يكون فى المرة الأولى هو الذى بدأ النبى صلى الله
عليه وسلم وهو عند الباب ثم رأيت الطيبى صرح بذلك حيث قال إنما بدأ خازن النار
بالسلام عليه ليزيل ما استشعره من الخوف منه لما ذكر من أنه رأى رجلا عابسا يعرف الغضب
فى وجهه فلا ينافيه ما ذكره السهيلى من أنه صلى الله عليه وسلم لم يره على الصورة
التى يراه عليها المعذبون فى الآخرة ولو رآه عليها لم يستطع أن ينظر إليه
وقوله صلى الله عليه وسلم لم آت أهل سماء إلى آخره قد
يعارضه ما جاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالى لم أر ميكائيل ضاحكا قال ما
ضحك منذ خلقت النار وفيه أن هذا يفيد أن ميكائيل كان موجودا قبل خلق النار
وإيجادها وهذا لا ينافى أن
ميكائيل
ضحك بعد ذلك فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم تبسم فى الصلاة فسئل عن ذلك فقال رأيت
ميكائيل راجعا من طلب القوم أى يوم بدر وعلى جناحه الغبار فضحك إلى فتبسمت إليه
ولعل هذا كان بعد ما أخرجه أحمد فى مسنده عن أنس بن مالك
رضى الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لجبريل إنى لم أر
ميكائيل ضاحكا قط قال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار ومما يدل على أن جبريل عليه
الصلاة والسلام خلق قبل النار أيضا ما فى مسند أحمد عن أنس بن مالك قال قال صلى
الله عليه وسلم لجبريل لم تأتنى إلا رأيتك صارا بين عينيك قال إنى لم أضحك منذ
خلقت النار وهذا مع ما تقدم من رؤية الجنة والنار يرد على الجهمية وبعض المعتزلة
كعبد الجبار وأبى هاشم حيث زعموا أن الله تعالى لم يخلق الجنة والنار وأنهما ليستا
موجودتين الآن وإنما يخلقهما سبحانه وتعالى يوم الجزاء مستدلين بأنه لا يحسن من
الحكيم أن يخلق الجنة دار النعمة والنار دار النقمة قبل خلق أهلهما وبأنهما لو
كانا مخلوقتين فى السماء والأرض والأرض لفنيا بفنائهما
وأجيب عن الأول بأنه يحسن من الحكيم خلقهما قبل يوم
الجزاء لأن الإنسان إذا علم ثوابا مخلوقا اجتهد فى العبادة لتحصيل ذلك الثواب وأذا
علم عقابا مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك الثواب وأذا علم عقابا
مخلوقا اجتهد فى اجتناب المعاصى لئلا يصيبه ذلك العقاب فليتأمل
وأجيب عن الثانى بأن الله استثناهما من قوله تعالى {
فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء }
وفيه أن هذه صعقة الموت ولا يتصف بالموت غير ذى الروح
ولأن الجنة كما قيل ليست فى السماء السابعة بل فوقها والنار ليست فى الأرض السابعة
بل تحتها وحينئذ يكون القول بأن الجنة فى السماء السابعة والنار فى الأرض السابعة
فيه تجوز والله أعلم
قال واختلف فى رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه تبارك
وتعالى تلك الليلة فأكثر العلماء على وقوع ذلك أى أنه صلى الله عليه وسلم رآه عز
وجل بعين رأسه واستدل له بحديث رأيت ربى فى أحسن صورة ورد بأن هذا الحديث مضطرب
الإسناد والمتن
وقد قال بعض العارفين شاهد الحق سبحانه وتعالى القلوب
فلم ير قلبا أشوق إليه
من قلب
محمد صلى الله عليه وسلم فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة وأنكرتها عائشة
رضى الله تعالى عنها وقالت من زعم أن محمد رأى ربه أى بعين رأسه فقد أعظم الفرية
على الله عز وجل أى أتى بأعظم الافتراء والكذب على الله عز وجل ووافقها على ذلك من
الصحابة ابن مسعود وأبو هريرة رضى الله تعالى عنهما وجمع من العلماء
ونقل عن الدارمى الحافظ أنه نقل إجماع الصحابة على ذلك
ونظر فيه وذهب إلى الرؤية أى المذكورة أكثر الصحابة وكثير من المحدثين والمتكلمين
بل حكى بعض الحفاظ على وقوع الرؤية له بعين رأسه الإجماع وإلى ذلك يشير صاحب الأصل
بقوله ** ورآه وما رآه سواه رؤية العين يقظة لا المرائى **
واحتجت عائشة رضى الله عنها على منع الرؤية بقوله تعالى
{ لا تدركه الأبصار } قال وروى أن مسروقا قال لها ألم يقل الله عز وجل ولقد رآه
نزلة أخرى أى مرة أخرى أي بناء على أن الضمير المستتر له صلى الله عليه وسلم
والبارز له سبحانه وتعالى فقالت أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم هل رأيت ربك فقال إنما رأيت جبريل منهبطا أي فالضمير البارز إنما هو لجبريل
وفي رواية قال لها ذاك جبريل لم أره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين أى مرة فى
الأرض ومرة فى السماء فى هذه الليلة كما تقدم وعلى ظاهر الآية أى من جعل الضمير
المستتر له صلى الله عليه وسلم والبارز له سبحانه وتعالى وقطع النظر عن هذه
الرواية التى جاءت عن عائشة رضى الله تعالى عنها يلزم أن يكون صلى الله عليه وسلم
رأى الحق سبحانه وتعالى ليلة المعراج مرتين مرة فى قاب قوسين ومرة عند سدرة
المنتهى ولا مانع من ذلك ولعل ذلك هو المعنى بقول الخصائص الصغرى وخص صلى الله
عليه وسلم برؤيته للبارى عز وجل مرتين وفيها وجمع له بين الكلام والرؤية وكلمه عند
سدرة المنتهى وكلم موسى بالجبل
قال بعضهم يجوز أنه صلى الله عليه وسلم خاطب عائشة رضى
اللع تعالى عنها بما ذكر أى بقوله إنما رأيت جبريل إلى آخره على قدر عقلها أى فى
ذلك الوقت انتهى وأيد قولها بما روى عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه قلت يا رسول
الله هل رأيت ربك قال رأيت نورا أى حجبنى ومنعنى عن رؤيته عز وجل ومن ثم جاء فى
رواية نور أنى أراه أى كيف أراه مع وجود النور لأن النور إذا غشى البصر حجبه عن
رؤية
ما وراء
أى وليس المراد أنه سبحانه وتعالى هو النور المرئى له خلافا لمن فهم ذلك وأيده بما
روى نورانى أى لأن هذه الرواية كما قيل تصحيف ومن ثم قال القاضى عياض لم أرها فى
أصل من الأصول ومحال أن تكون ذاته تعالى نورا لأن النور من جملة الأعراض أى لأنه
كيفية تدركها الباصرة أولا وبواسطة تلك الكيفية تدرك سائر المبصرات كالكيفية
الفائضة من النيرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما والله تعالى يتعالى عن ذلك
أى فحجابه تعالى النور كما رواه مسلم أى ومن ثم قيل فى قوله تعالى { الله نور
السماوات والأرض } أى ذو نور أو هو على المبالغة أى وجاء رأيته فى صورة شاب أمرد
عليه حلة خضراء دونه ستر من لؤلؤ وجاء رأيت ربى فى أحسن صورة قال الكمال بن الهمام
إن كان المراد به رؤية اليقظة فهو حجاب الصورة
قال وقيل رآه بفؤاده مرتين لابعينى رأسه فعن بعض الصحابة
قلنا يا رسول الله هل رأيت ربك قال لم أره بعينى رأيته بفؤادى مرتين ثم تلا ثم دنا
فتدلى الآية وهذا السياق يدل على أن فاعل دنا فتدلى الحق سبحانه وتعالى والمراد
بالفؤاد القلب أى خلقت الرؤية فى القلب أو خلق الله لفؤاده بصرا رأى به انتهى
أقول وكون الفؤاد له بصر واضح لقوله تعالى { ما زاغ
البصر وما طغى } وأجيب عما احتجت به عائشة رضى الله عنها من قوله تعالى { لا تدركه
الأبصار } بأنه لا يلزم من الرؤية الإدراك أي الذي هو الإحاطة فالنور إنما منع
الإحاطة به لا من أصل الرؤية وقد قال بعضهم للإمام أحمد بأى معنى تدفع قول عائشة
رضى الله تعالى عنها من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله تعالى الفرية فقال
يدفع بقول النبى صلى الله عليه وسلم رأيت ربى وقول النبى صلى الله عليه وسلم أكبر
من قولها
هذا وقد قال أبو العباس بن تيمية الإمام أحمد إنما يعنى
رؤية المنام فإنه لما سئل عن ذلك قال نعم رآه فإن رؤيا الأنبياء حق ولم يقل إنه
رآه بعين رأسه يقظة ومن حكى عنه ذلك فقد وهم وهذه نصوصه موجودة ليس فيها ذلك
أقول وفيه أنه يبعد أن يكون الإمام أحمد يفهم عن عائشة
رضى الله تعالى عنها أنها تنكر رؤيا المنام حتى يرد عليها وقد ضعف حديث أبى ذر
المتقدم وهو قلت يا رسول الله رأيت ربك فقال نور أنى أراه وهو من جملة الأحاديث
التى فى مسلم التى نظر فيها والله أعلم
قال أبو العباس بن تيمية وأهل السنة متفقون على أن الله
عز وجل لا يراه أحد بعينه فى الدنيا لا نبى ولا غير نبى ولم يقع النزاع إلا فى
نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن أحاديث المعراج المعروفة ليس فى شئ منها أنه
رآه وإنما روى ذلك باسناد موضوع باتفاق أهل الحديث
وفى صحيح مسلم وغيره عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه
قال واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت وقد سأله موسى الرؤية فمنعها
وقد نقل القرطبى عن جماعة من المحققين القول بالوقف فى
هذه المسألة لأنه لا دليل قاطع وغاية ما استدل به الفريقان ظواهر متعارضة قابلة
للتأويل وهو من المعتقدات التى يكتفى فيها بخبر الآحاد الصحيح وهى فلا بد فيها من
الدليل القطعي هذا كلامه
ونازع فيه السبكى بأنه ليس من المعتقدات التي يشترط فيها
الدليل القطعي وهي التي تكلف فاعتقادها كالحشر والنشر بل من المعتقدات التى لم
نكلف باعتقادها كما نحن فيه وفى الخصائص الصغرى وخص صلى الله عليه وسلم برؤيته من
آيات ربه الكبرى وحفظه حتى ما زاغ البصر وما طغى وبرؤيته للبارى مرتين
وفى كلام ابن دحية خص صلى الله عليه وسلم بألف خصلة منها
الرؤية والدنو والقرب قال بعضهم قد صحت الأحاديث عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
فى إثبات الرؤية وحينئذ يجب المصير إلى إثباتها ولا يجترئ أحد أن يظن فى ابن عباس
أن يتكلم فى هذه المسألة بالظن والاجتهاد
قال الإمام النووى والراجح عند أكثر العلماء أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعين رأسه أى وأما رؤيته عز وجل يوم القيامة فى
الموقف فعامة لكل أحد من الخلق الإنس والجن من الرجال والنساء المؤمن والكافر
والملائكة جبريل وغيره
وأما رؤيته عز وجل فقيل لا تراه الملائكة وقيل يراه منهم
جبريل خاصة مرة واحدة قال بعضهم وقياس عدم رؤية الملائكة عدم رؤية الجن ورد ذلك
واختلف في رؤية النساء من هذه الأمة له تعالى فى الجنة فقيل لا يرينه لأنهن
مقصورات
أى محبوسات فى الخيام وقيل يرينه فى أيام الأعياد دون أيام الجمع بخلاف الرجال
فإنهم يرونه فى كل يوم جمعة
فقد جاء أنه تعالى يتجلى فى مثل عيد الفطر ويوم النحر
لأهل الجنة تجليا عاما ومن أهل الجنة مؤمن الجن على الراجح
وجاء إن كل يوم كان للمسلمين عيدا فى الدنيا فإنه عيد
لهم فى الجنة يجتمعون فيه على زيارة ربهم ويتجلى لهم فيه ويدعى يوم الجمعة فى
الجنة بيوم المزيد قال بعضهم هذا لعموم أهل الجنة وأما خواصهم فكل يوم لهم عيد
يرون ربهم فيه بكرة وعيشا
وأما رؤية الله عز وجل فى النوم ففى الخصائص الصغرى ومن
خصائصه صلى الله عليه وسلم أنه يجوز له رؤية الله وعز وجل فى المنام ولا يجوز ذلك
لغيره صلى الله عليه وسلم فى أحد القولين وهو اختيارى وعليه أبو منصور الماتريدى
وفى كلام الإمام النووى قال القاضى عياض اتفق العلماء على صفة لا تليق بجلاله من
صفات الأجساد لأن ذلك المرئى غير ذات الله تعالى والله أعلم
ثم لا يخفى أن أكثر العلماء على أن الإسراء إلى بيت
المقدس ثم المعراج إلى السماء كانا فى ليلة واحدة أى وقيل كان الإسراء وحده فى
ليلة ثم كان هو والمعراج فى ليلة أخرى
قال وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل إلى سماء
الدنيا نظر إلى أسفل منه فإذا هو برهج ودخان وأصوات فقال ما هذا يا جبريل قال هذه
الشياطين يحومون على أعين بنى آدم لا يتفكرون أى وذلك مانع لهم من التفكر فى ملكوت
السموات والأرض أى لعدم نظرهم للعلامات الموصلة لذلك لولا ذلك لرأوا العجائب أى
أدركوها
ثم ركب صلى الله عليه وسلم البراق منصرفا أى بناء على
أنه لم يعرج على البراق فمر بعير لقريش إلى آخر ما تقدم انتهى
أقول ذكر بعضهم أن مما نزل عليه صلى الله عليه وسلم بين
السماء والأرض أى عند نزوله من السماء قوله تعالى { وما منا إلا له مقام معلوم }
الآيات الثلاث وقوله تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا الآية والآيتان من
آخر سورة البقرة وتقدم أنهما نزلتا بقاب قوسين والله أعلم
واستدل على أن كلا من الإسراء والمعراج كان يقظة بجسده
صلى الله عليه وسلم وروحه بقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده ليلا } لأن العبد
حقيقة هو الروح والجسد قال تعالى { أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى } وقال وأنه لما
قام عبد الله يدعوه ولو كان الإسراء مناما لقال بروح عبده ولأن الدواب التى منها
البراق لا تحمل الأرواح وإنما تحمل الأجساد
واستدل على أنه الرؤية كانت بعين بصره صلى الله عليه
وسلم بقوله تعالى { ما زاغ البصر وما طغى } لأن وصف البصر بعدم الإزاغة يقتضى أن
ذلك يقظة ولو كانت الرؤية قلبية لقال ما زاغ قلبه
أقول فيه أن لقائل أن يقول يجوز أن يكون المراد بالبصر
بصر قلبه لما تقدم أن الله تعالى خلق لقلبه بصرا والله أعلم
وقيل كان الإسراء بجسده والمعراج بروحه الشريفة أى
بذاتها عرج بها حقيقة من غير إماتة للجسد وكان حالها فى ذلك أرقى منه كحالها بعد
مفارقتها لجسدها بموته فى صعودها فى السموات حتى بين يدى الله تعالى وهذا أمر فوق
ما يراه النائم وغيره صلى الله عليه وسلم لا تنال ذات روحه الصعود إلا بعد الموت
لجسدها قيل ومن ثم لم يشنع كفار قريش إلا أمر الإسراء دون المعراج
أقول الظاهر أن إخباره صلى الله عليه وسلم بالمعراج لم
يكن عند إخباره بالإسراء بل تأخر عن إخباره بالإسراء بناء على أنهما كان فى ليلة
واحدة وإلا فقد ذكر بعضهم أن المعراج لم يكن ليلة الإسراء الذى أخبر به كفار قريش
قال إذ لو كان أى فى تلك الليلة لأخبر به حين أخبرهم بالأسراء أى ولم يخبر به
حينئذ إذ لو أخبر به حينئذ لنقل ولذكره سبحانه وتعالى مع الإسراء لأن المعراج أبلغ
فى المدح والكرامة وخرق العادة من الإسراء إلى المسجد الأقصى
وأجيب عنه بأنه على تسليم أنه كان فى ليلة الإسراء الذى
أخبر به قريشا هو صلى الله عليه وسلم استدرجهم إلى الإيمان بذكر الإسراء أولا فلما
ظهرت لهم أمارات صدقه على تلك الآية الخارقة التى هى الإسراء أخبرهم بما هو أعظم
منها وهو المعراج بعد ذلك أى وحيث أخبرهم بذلك لم ينكروه لذلك أى لثبوت صدقه صلى
الله عليه وسلم فيما ادعاه من الإسراء وتقدم عن المواهب أنهم لم يسألوه عن علامات
تدل على صدقه صلى الله
عليه وسلم
فى ذلك لعدم علمهم ومعرفتهم بشئ فى السماء والحق سبحانه وتعالى أرشده إلى ذلك أى
إلى أن يخبرهم بالإسراء أولا ثم بالمعراج ثانيا حيث لم ينزل قصة المعراج فى سورة
الإسراء بل أنزل ذلك فى سورة النجم
ومما يؤيد أنهما كانا فى ليلة واحدة قول الإمام البخارى
فى صحيحه باب كيف فرضت الصلاة ليلة الإسراء لأن من المعلوم أن فرض الصلاة أى
الصلوات الخمس إنما هو فى المعراج
وأما إفراده كلا من الإسراء والمعراج بترجمة فلا يخالف
ذلك لأنه إنما أفرد كلا منهما بترجمة لأن كلا منهما يشتمل على قصة منفردة وإن كانا
وقعا معا
وقد خالف الحافظ الدمياطى فى سيرته فذكر أن المعراج كان
فى رمضان والإسراء كان فى ربيع الأول والله أعلم
وقيل الإسراء وقع له صلى الله عليه وسلم أى بعد البعثة
مرتين مناما أولا ويقظة ثانيا أى فكانت مرة المنام توطئة وتبشيرا لوقوعه يقظة
وبذلك يجمع بين الاختلاف الواقع فى الأحاديث أى فبعض الرواة خلط الواقع له صلى
الله عليه وسلم منامنا بالواقع له صلى الله عليه وسلم يقظة
وعلى هذا لا يشكل قول شريك فلما استيقظت لكنه قال إن مرة
المنام كانت قبل البعثة ففى رواية وذلك قبل أن يوحى إلى وقد أنكر الخطابى عليه ذلك
وعده من جملة أو هامه الواقعة فى حديث الإسراء والمعراج ورد على الخطابى الحافظ
ابن حجر فى ذلك بما ينبغى الوقوف عليه
وقيل كان المعراج يقظة ولم يكن ليلا ولم ويكن من بيت
المقدس بل كان من مكة وكان نهارا فقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم كان يسأل ربه عز
وجل أن يريه الجنة والنار فلما كان نائما ظهرا أتاه جبريل وميكائيل فقالا انطلق
إلى ما سألت الله تعالى فانطلقا بى إلى ما بين المقام وزمزم فأتى بالمعراج فإذا هو
أحسن شئ منظرا فعرجا بى إلى السموات سماء سماء الحديث ولا يخفى أن سياق هذا الحديث
يدل على أن ذلك كان مناما فلا يحسن أن يكون دليلا على قوله يقظة
وقد جاء عن أبى ذر رضى الله تعالى عنه أنه قال إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
قال فرج
سقف بيتى وأنا بمكة فنزل جبريل ففرج صدرى ثم غسله بماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب
ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغهما فى صدرى ثم أخذ بيدى فعرج إلى السماء الحديث وقد يدعى
أن فى رواية أبى ذر اختصارا وليس فيها أن ذلك كان مناما أو يقظة
أى وأما ما ادعاه بعضهم أن المعراج تكرر يقظة فغريب إذ
كيف يتكرر يقظة سؤال أهل كل باب من أبواب السماء هل بعث إليه وكيف يتكرر سؤاله صلى
الله عليه وسلم عن كل نبى وكيف يتكرر فرض الصلوات الخمس والمراجعة وأما مناما فلا
بعد فى بكرر ذلك توطئة لوقوعه يقظة أى وهذا منشأ اختلاف الروايات أدخل بعض الرواة
ما وقع فى المنام ما وقع فى اليقضة خلافا لمن زعمه ومن ثم قال الحافظ ابن كثير من
جعل كل رواية خالفت الأخرى مرة واحدة بروحه وجسده يقظة والباقى بروحه رؤيا رآها أى
ومن ذلك ما وقع له صلى الله عليه وسلم فى المدينة بعد الهجرة وهو محمل قول عائشة
رضى الله تعالى عنها ما فقدت جسده الشريف
وفى صبيحة ليلة المعراج حين زالت الشمس من اليوم الذى
يلى الليل التى فرضت فيها الصلوات الخمس كان نزول جبريل عليه الصلاة والسلام
وإمامته بالنبى صلى الله عليه وسلم ليعلمه أوقات الصلوات أى وكيفيتها أى لأنه لا
يلزم من علمه صلى الله عليه وسلم بكيفية صلاة الركعتين وصلاة قيام الليل علم كيفية
الصلوات الخمس وإن قلنا بأن الرباعية منها فرضت ركعتين فأمر صلى الله عليه وسلم
فصيح بأصحابه الصلاة جامعة فاجتمعوا فصلى به صلى الله عليه وسلم جبريل وصلى النبى
صلى الله عليه وسلم بالناس فسميت تلك الصلاة الظهر لأنها أول صلاة ظهرت ولأنها
فعلت عند قيام الظهيرة اى شدة الحر أو عند نهاية ارتفاع الشمس وهذا الحديث ظاهر
بأن صلاته صلى الله عليه وسلم بالناس كانت بعد صلاته مع جبريل محتمل لأن يكون صلى
الله عليه وسلم صلى بصلاة جبريل والناس صلوا بصلاته صلى الله عليه وسلم
ففى بعض
الروايات لما نودى بالصلاة جامعة فزعوا لذلك واجتمعوا فصلى بهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم الظهر أربع ركعات لا يقرأ فيهنى علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى الناس برسول
الله صلى الله عليه وسلم ويقتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبريل ثم يصلى كذلك
فى العصر ولما غابت الشمس صلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب ثلاث ركعات
يقرأ فى الركعتين علانية وركعة لا يقرأ فيها علانية ورسول الله صلى الله عليه وسلم
بين يدى الناس وجبريل بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتدى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بجبريل
وفى كلام الإمام النووى قوله إن جبريل نزل فصلى إمام
رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بكسر الهمزة ويوضحه قوله فى الحديث نزل جبريل
فأمنى واستدل بذلك بعضهم على جواز الاقتداء بمن هو مقتد بغيره لا كما يقوله أئمتنا
من منع ذلك
وأجيب عنه من جانب أئمتنا بأن معنى كونه صلى الله عليه
وسلم مقتديا بجبريل أنه متابع له فى الأفعال من غير نية اقتداء ولا إيقاف فعله على
فعل جبريل فلا يشكل على أئمنتا نعم هذا حينئذ يشكل على أئمتنا القائلين بأنه لا بد
من علم كيفية الصلاة قبل الدخول فيها ولا يكفى علمها بالمشاهدة
وقد يجاب بأنه يجوز أن يكون جبريل عليه الصلاة والسلام
علمه صلى الله عليه وسلم كيفيتها بالقول ثم أتبع القول الفعل وهو صلى الله عليه
وسلم علم أصحابه كذلك وبما تقرر يسقط الإستدلال بذلك على جواز الفرض خلف النفل لأن
تلك الصلاة لم تكن واجبة على جبريل لأن الملائكة ليسوا مكلفين بذلك
وأجيب بأنها كانت واجبة على جبريل لأنه مأمور بتعليمها
له صلى الله عليه وسلم قولا وفعلا وكان ذلك عند البيت أي الكعبة مستقبلا بيت
المقدس أى صخرته واستقباله صلى الله عليه وسلم لبيت المقدس قيل كان باجتهاد منه
وقيل كان بأمر من الله تعالى له قيل بقرآن وقيل بغيره أى وعلى أنه بقرآن يكون مما
نسخت تلاوته وقد قال أئمتنا ونسخ قيام الليل بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس كما
تقدم وكان صلى الله عليه وسلم إذا استقبل بيت المقدس يجعل الكعبة بينه وبينه فيصلى
بين الركن اليمانى وركن الحجر الأسود أى كما صلى به جبريل الركعتين أول البعث كما
تقدم
وحينئذ لا
يخالف هذا قول بعضهم لم يزل صلى الله عليه وسلم يستقبل الكعبة حتى خرج منها أى من
مكة أى لم يستدبرها فلما قدم صلى الله عليه وسلم المدينة استقبل بيت المقدس أى
تمحض استقباله واستدبر الكعبة وظاهر إطلاقهم أن هذا أى استقباله بيت المقدس وجعل
الكعبة بينه وبينه كان شأنه صلى الله عليه وسلم غالبا وإن صلى خارج المسجد بمكة
ونواحيها
والظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك أدبا لا
وجوبا وإلا فقد جاء أن صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم كانت عند باب الكعبة كما
رواه إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه فى الأم
وروى الطحاوى عند باب البيت مرتين أى وذلك فى المحل
المنخفض الذى تسميه العامة المعجنة كما تقدم وصلاته صلى الله عليه وسلم عند باب
الكعبة فى المحل المذكور لبيت المقدس لا يكون مستقبلا للكعبة بل تكون على يساره
لأنه لا يتصور أن يستقبل بيت المقدس ويكون مستقبلا للكعبة أيضا إلا إذا صلى بين
اليمانيين كما تقدم
وأيضا ذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يسجد نحو
بيت المقدس ويجعل الكعبة وراء ظهره وهو بمكة أى فى بعض الأوقات حتى لا يخالف ما
سبق أنه صلى الله عليه وسلم كان يستقبلها لبيت المقدس
ولا ينافى ذلك ما فى زبدة الأعمال أقام صلى الله عليه
وسلم بعد نزول جبريل ثلاث عشرة سنة وكان يصلى إلى بيت المقدس مدة إقامته بمكة
يجعلها أى الكعبة بين يديه ولا يستدبرها لإمكان حمل مدة إقامته على غالبها
ومما يدل على أنه صلى الله عليه وسلم مع الصحابة كانوا
يصلون إلى بيت المقدس وهم بمكة ما سيأتى عن البراء بن معرور أنه لما عدل عن
استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم وسأله عن
ذلك قال له قد كنت على قبلة لو صبرت عليها
وأم به صلى الله عليه وسلم جبريل مرتين مرة أول الوقت
ومرة آخر الوقت لكن الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والصبح لا الآخر الحقيقى
ليعلمه الوقت
أى ولما جاءه صلى الله عليه وسلم جبريل أمر مصيح بأصحابه
الصلاة جامعة كما تقدم أى لأن الإقامة المعروفة للصلوات الخمس لم تشرع إلا
بالمدينة على ما تقدم وسيأتى
قال فقد
جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم وصلى به فى
أول يوم الظهر حين زالت الشمس كما تقدم أى عقب زوالها وصلى به العصر حين ظل كل شئ
مثله أى زيادة على ظل الاستواء أو على الظل الحاصل عقب الزوال وصلى به المغرب حين
أفطر الصائم أى دخل وقت فطره وهو غروب الشمس وصلى به العشاء حين غاب الشفق وصلى به
أى فى غد ذلك وهو اليوم الثانى الفجر حين حرم الطعام والشراب على الصائم أى حين
دخل وقت حرمة ذلك وهو الفجر
أى فإن قيل صلاة جبريل به صلى الله عليه وسلم حينئذ لم
يكن الصوم الذى هو رمضان فرض
أجيب بأنه على تسليم أنه لم يفرض عليه صوم قبل رمضان وهو
صوم عاشوراء وثلاث أيام من كل شهر على ما سيأتى جاز أن يكون إخباره صلى الله عليه
وسلم بهذه العبارة كل بعد فرض رمضان
وصلى به الظهر حين كان ظل الشئ مثله وصلى به العصر حين
كان ظل الشئ مثليه وصلى به المغرب حين افطر الصائم وصلى به العشاء ثلث الليل الأول
وصلى به الفجر أى فى اليوم الثالث فأسفر ثم التفت وقال يا محمد هذا وقتك ووقت
الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين اه
وأما رواية صلى بى الظهر إلى أن قال وصلى بى الفجر فلما
كان الغد صلى بى الظهر المقتضى ذلك لأن يكون الفجر ليس من اليوم الثاني بل من تتمة
ما قبله
ففيه دليل على أن اليوم من طلوع الشمس كما يقول الفلكيون
أى ولا يخفى أن قوله والوقت ما بين هذين الوقتين محمول عند إمامنا الشافعى رضى
الله عنه على الوقت الاختيارى بالنسبة للعصر والعشاء والفجر وإلا فوقت العصر
لايخرج إلا بغروب الشمس ووقت العشاء لا يخرج إلا بطلوع الفجر ووقت الصبح لا يخرج
إلا بطلوع الشمس خلافا للإصطخرى حيث ذهب إلى خروج وقت العصر بمصير ظل الشئ مثليه
والعشاء بثلث الليل والصبح بالإسفار متمسكا بظاهر الحديث والبداءة بالظهر هو ما
عليه أكثر الروايات وروى أن البداءة كانت بالصبح عند طلوع الفجر وعلى الأول إنما
لم تقع البداءة بالصبح مع أنها أول صلاة تحضر بعد ليلة الإسراء لأن الإتيان بها
يتوقف على
بيان علم
كيفيتها المعلق عليه الوجوب كأنه قيل أوجبت عليه حيثما تبين كيفيته فى وقته والصبح
لم تتبين كيفيتها فى وقتها فلم تجب فلا يقال هذا من تأخير البيان عن وقت الحاجة
وأجاب الإمام النووى بأنه حصل التصريح بأن أول وجوب
الخمس من الظهر كانه قيل أوجبت ما عدا صلاة الصبح يوم هذه الليلة فعدم وجوبها ليس
لعدم علم كيفيتها فهى غير واجبة وإن فرض علم كيفيتها
وفيه أنه يلزم حينئذ أن الخمس صلوات فى اليوم والليلة لم
توجد إلا فيما عدا ذلك اليوم وليلته قال أبو بكر بن العربى ظاهر قوله هذا وقتك
ووقت الأنبياء من قبلك أن هذه الصلوات فى هذه الأوقات كانت مشروعة لكل واحد من
الأنبياء قبلك وليس كذلك وإنما معناه أن وقتك هذا المحدود الطرفين مثل وقت
الأنبياء قبلك فإنه كان محدود الطرفين وإلا فلم تكن هذه الصلوات الخمس على هذه
المواقيت إلا لهذه الأمة خاصة وإن كان غيرهم قد شاركهم فى بعضها أى فقد جاء عن
عائشة رضى الله عنها أن آدم لما تيب عليه كان ذلك عند الفجر فصلى ركعتين فصارت
الصبح وفدى إسحاق عند الظهر أة يعلى القول بأنه الذبيح فصلى أربع ركعات فصارت
الظهر وبعث عزير فقيل له كم لبثت قال لبثت يوما فلما رأى الشمس قريبة من الغروب
قال أو بعض يوم فصلى أربع ركعات فصارت العصر وغفر لداود عند المغرب أى الغروب فقام
يصلى أربع ركعات فجهد أى تعب فجلس فى الثالثة أى سلم منها فصارت المغرب ثلاثا وأول
من صلى العشاء الآخرة نبينا صلى الله عليه وسلم فصلاتها من خصائصه
وفى شرح مسند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى عنه للإمام
الرافعى رحمه الله تعالى كانت الصبح صلاة آدم والظهر صلاة داود أى فقد اشترك
داودوإسحاق فى صلاة الظهر والعصر صلاة سليمان فقد اشترك سليمان وعزير فى صلاة
العصر صلاة يعقوب أى فقد اشترك يعقوب وداود فى صلاة المغرب والعشاء صلاة يونس
وأورد فى ذلك خبرا وعليه فليست صلاة العشاء من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم
والأصل أن ما ثبت فى حق أمته إلا أن يقوم الدليل على الخصوصية فليست من خصائص هذه
الأمة
وذكر بعضهم أن المغرب كانت صلاة عيسى أى وكانت أربعا ركعتين
عن نفسه وركعتين عن أمه أى فقد اشترك عيسى ويعقوب وداود فى صلاة المغرب
وفي كلام بعضهم أول من صلى الفجر آدم والظهر إبراهيم أي
وعليه فقد اشترك إبراهيم وإسحاق وداود في صلاة الظهر وأول من صلى العصر و يونس أي
وعليه فقد اشترك سليمان وعزيز ويونس في صلاة العصر أول من صلى المغرب عيسى وأول من
صلى العتمة التي هي العشاء موسى أي وعليه فقد اشترك موسى ويونس ونبينا صلى الله
عليه وسلم في صلاة العشاء
وفي الخصائص الكبرى خص صلى الله عليه وسلم بأنه أول من
صلى العشاء ولم يصلها نبي قبله ومن لازمه انه لم يصلها أحد من الأمم وقد جاء
التصريح به في بعض الروايات أنكم فضلتم بها أي العشاء على سائر آلام وعليه فهي من
خصائصنا ومن خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم وقد تقدم عند بناء الكعبة أن جبريل
صلى بإبراهيم صلى الله على نبينا وعليه وسلم الصلوات الخمس فليتأمل
قال قيل فرضت الصلوات في المعراج ركعتين ركعتين أي حتى
المغرب ثم زيدت في صلاة الحضر فأكملت أربعا في الظهر أي في غير يوم الجمعة وأربعا
في العصر والعشاء وثلاثا في المغرب وأقرت صلاة السفر على ركعتين أي حتى في المغرب
فعن عائشة رضي الله تعالى عنها فرضت صلاة الحضر والسفر
ركعتين أي في الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء فلما أقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالمدينة أي بعد شهر وقيل وعشرة أيام من الهجرة زيد في صلاة الحضر
ركعتان ركعتان وتركت صلاة الفجر أي لم يزد عليها شيء لطول القراءة أي فإنها يطلب فيها
زيادة القراءة على الظهر والعصر المطلوب فيهما قراءة طوال المفصل وصلاة المغرب أي
تركت صلاة المغرب فلم يزد فيها ركعتان بل ركعة فصارت ثلاثة لأنها وتر النهار أي
كما في الحديث فتعود عليه بركة الوترية أن الله وتر يحب الوتر والمراد أنها وتر
عقب صلاة النهار وتركت صلاة السفر فلم يزد فيها شيء أي في غير المغرب هذا هو
المفهوم من كلام عائشة رضي الله تعالى عنها وهو يفيد أن صلاة السفر استمرت على
ركعتين أي في غير المغرب أي وحينئذ يلزم أن يكون القصر في الظهر والعصر والعشاء
عزيمة لأرخصة ولا يحسن ذلك مع قوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة }
وفي كلام الحافظ ابن حجر المراد بقول عائشة فأقرت صلاة
السفر باعتبار ما آل إليه الأمر من التخفيف أي لأنه لما استقر فرض الرباعية خفف
منها أي في السفر
لأنه
استقر أمرها بعد قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة بشهر أو بأربعين يوما ثم نزلت
آية القصر فى ربيع الأول من السنة الثانية إلا أنها استمرت منذ فرضت فلا يلزم من
ذلك أن القصر عزيمة
وقيل فرضت أى الصلوات الخمس فى المعراج أربعا إلا المغرب
ففرضت ثلاثا وإلا الصبح ففرضت ركعتين أى وإلا صلاة الجمعة ففرضت ركعتين ثم قصرت
لأربع فى السفر أى وهو المناسب لقوله تعالى { فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة
} ومن ثم قال بعضهم إن هذا هو الذى يقتضيه ظاهر القرآن وكلام جمهور العلماء
ويمكن أن يكون المراد من كلام عائشة رضى الله تعالى عنها
أنها فرضت ركعتين بتشهد ثم ركعتين بتشهد وسلام
وفيه أن هذا لا يأتى فى الصبح والمغرب وقال بعضهم ويبعد
هذا الحمل ما روى عنها كان النبى صلى الله عليه وسلم يصلى أى الصلوات الخمس التى
فرضت بالمعراج بمكة ركعتين ركعتين فلما قدم المدينة أى وأقام شهرا أو وعشرة أيام
فرضت الصلاة أربعا أو ثلاثا وتركت الركعتان تماما أى تامة للمسافر
وعن يعلى بن أمية قال قلت لعمربن الخطاب { فليس عليكم
جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } وقد أمن الناس قال عمر عجبت مما عجبت منه
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا
صدقته أى فصار سبب القصر مجرد السفر لا الخوف
وهذا قد يخالف ما فى الإتقان سأل قوم من بنى النجار رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا رسول الله إنا نضرب فى الأرض فكيف نصلى فأنزل
الله عز وجل { وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة } ثم
انقطع الوحى فلما كان بعد ذلك غزا النبى صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر فقال
المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلا شددتم عليهم فقال قائل منهم إن
لهم أخرى مثلها فى أثرها فأنزل الله عز وجل بين الصلاتين { إن خفتم أن يفتنكم
الذين كفروا } إلى قوله { عذابا مهينا } فنزلت صلاة الخوف فتبين بهذا الحديث
أن قوله { إن خفتم } شرط فيما بعده وهو صلاة الخوف إلا في صلاة القصر قال ابن جرير
هذا تأويل فى الآية حسن لو لم يكن فى الآية إذا قال ابن الغرس يصح مع إذا على جعل
الواو زائدة
قلت ويكون من اعتراض الشرط على الشرط وأحسن منه أن يجعل
إذا زائدة بناء على قول من يجيز زيادتها هذا كلامه فليتأمل
وقيل فرضت أى الرباعية أربعا فى الحضر وركعتين فى السفر
فعن عمررضى الله تعالى عنه صلاة السفر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان وصلاة الغد
ركعتان غير قصر أى تامة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وفيه بالنسبة
لصلاة السفر ما تقدم
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما فرضت فى الحضر أربعا
وفى السفر ركعتين وفى الخوف ركعة أى وفيه فى صلاة السفر ما تقدم وقوله فى الخوف
ركعة أى يصليها مع الإمام وينفرد بالأخرى وذلك فى صلاة عسفان حيث يحرم بالجميع
ويسجد معه صف أول ويحرس الصف الثانى فإذا قاموا سجد من حرس ولحقه وسجد معه فى
الركعة الثانية وحرس الآخرون فقد صلى كل صف مع الإمام ركعة فلا يقال إن فى كلام
ابن عباس ما يفيد أن صلاة الفجر تقصر وفرض التشهد والصلاة على النبى صلى الله عليه
وسلم متأخر عن فرض الصلاة
فعن ابن مسعود كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد السلام
على الله قبل عباده السلام على جبريل السلام على ميكائيل السلام على فلان أى من
الملائكة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقولوا السلام على الله فإن الله
هو السلام وقال له بعض الصحابة كيف نصلى عليك إذا نحن صلينا عليك فى صلاتنا فقال
قولوا اللهم صل على محمد إلى آخره ولم أقف على الوقت الذى فرض فيه التشهد والصلاة
عليه صلى الله عليه وسلم فيه ولا على أن قولهم السلام على الله إلى إخره هل كان
واجبا أو مندوبا
قال بعضهم والحكمة فى جعل الصلوات فى اليوم والليلة خمسا
أن الحواس لما كانت خمسة والمعاصى تقع بواسطتها كانت كذلك لتكون ما حية لما يقع فى
اليوم والليلة من المعاصى أى بسبب تلك الحواس وقد أشار إلى ذلك صلى الله عليه وسلم
بقوله أرأيتم لو كان بباب أحدكم نهر يغتسل منه فى اليوم والليلة خمس مرا ت أكان
ذلك يبقى من درنه شيئا قالوا لا قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا
قيل وجعلت مثنى وثلاث ورباع ليوافق أجنحة الملائكة كأنها
جعلت أجنحة للشخص يطير بها إلى الله تعالى
وسئل ابن عباس رضى الله تعالى عنهما هل تجد الصلوات
الخمس فى كتاب الله تعالى فقال نعم وتلا قوله تعالى { فسبحان الله حين تمسون وحين
تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون } أراد بحين تمسون المغرب
والعشاء وبحين تصبحون الفجر وبعشيا العصر وبحين تظهرون الظهر
وإطلاق التسبيح بمعنى الصلاة جاء فى قوله تعالى { فلولا
أنه كان من المسبحين } قال القرطبى أى من المصلين وفى الكشاف عن ابن عباس رضى الله
تعالى عنهما كل تسبيح فى القرآن فهو صلاة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب = باب
عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل
من العرب ان يحموه ويناصروه على ما جاء به من الحق
أى لأنه صلى الله عليه وسلم أخفى رسالته ثلاث سنين ثم
أعلن بها فى الرابعة على ما تقدم ودعا إلى الإسلام عشر سنين يوافى الموسم كل عام
يتبع الحجاج فى منازلهم أى بمنى والموقف يسأل عن القبائل قبيلة قبيلة ويسأل عن
منازلهم ويأتى إليهم في أسواق المواسم وهى عكاظ ومجنة وذو المجاز فقد تقدم أن
العرب كانت إذا حجت تقيم بعكاظ شهر شوال ثم تجئ إلى سوق مجنة تقيم فيه عشرين يوما
ثم تجئ سوق ذى المجاز فتقيم به إلى أيام الحج يدعوهم إلى أن يمنعوه حتى يبلغ
رسالات ربه
فعن جابر بن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال كان النبى
صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس فى الموقف ويقول ألا رجل يعرض على قومه
فإن قريشا قد منعونى أن أبلغ كلام ربى وعن بعضهم رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل أن يهاجر إلى المدينة يطوف على الناس فى منازلهم أى بمنى يقول يا أيها
الناس إن الله يأمركم أن تتركوا دين آبائكم فسألت من هذا الرجل فقيل أبو لهب يعنى
عمه
وفى رواية عن أبى طارق رضى الله تعالى عنه قال رأيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يسوق ذى المجاز يعرض نفسه على قبائل العرب يقول يا أيها
الناس قولوا لا إله إلا الله
تفلحوا
وخلفه له غديرتان أى ذؤابتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبه يقول يا أيها الناس لا
تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل إنه غلام عبد المطلب فقلت ومن الرجل الذى
يرجمه فقيل هو عمه عبد العزى يعنى أبا لهب
أى وفى السيرة الهشامية عن بعضهم قال إنى لغلام شاب مع
أبى بمنى ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف فى منازل القبائل من العر ب فيقول يا
بنى فلان إنى رسول الله إليكم يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن
تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بى وتصدقونى وتمنعونى حتى
أبين عن الله عز وجل ما بعثنى به قال وخلفه رجل أحول وضئ له غديرتان عليه حلة
عذنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله قال ذلك الرجل يابنى فلان إن
هذا الرجل إنما يدعوكم إلى أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم إلى ما جاء به من
البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه فقلت لأبى من هذا الرجل الذى يتبعه يرد
عليه ما يقول قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب
وذكر ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه على كندة
وكلب أى إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فقال لهم إن الله قد أحسن اسم أبيكم
أى عبد الله أى فقد قال صلى الله عليه وسلم أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله
وعبد الرحمن ثم عرض عليهم فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم وعرض على بنى حنيفة وبنى
عامر بن صعصعة أى فقال له رجل منهم أرأيت إن نحن بإيعناك على أمرك ثم أظفرك الله
على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك فقال الأمر إلى الله يضعه حيث شاء قال فقال
له أنقاتل العرب دونك وفى رواية أنهدف نحورنا للعرب دونك أى نجعل نحورنا هدفا
لنبلهم فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك وأبوا عليه فلما رجعت
بنو عامر إلى منازلهم وكان فيهم شيخ أدركه السن حتى لا تقدر أن يوافى معهم الموسم
فلما قدموا عليه سألهم عما كان فى موسمهم فقالوا جاءنا فتى من قريش أحد بنى عبد
المطلب يزعم أنه بني يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا فوضع
الشيخ يده على رأسه ثم قال يا بنى عامر هل لها من تلاف أى تدارك هل لها من مطلب
والذى نفس فلان بيده ما يقولها أى ما يدعى البنوة كاذبا أحد من بنى إسمعيل قط
وإنها لحق وإن رأيكم غاب عنكم
وذكر الواقدى أنه صلى الله عليه وسلم أتى بنى عبس أى
وبنى سليم وغسان وبنى محارب أى وفزارة وبنى نضر ومرة وعذرة والحضارمة فيردون عليه
صلى الله عليه وسلم أقبح الرد ويقولون أسرتك وعشيرتك أعلم بك حيث لم يتبعوك ولم
يكن أحد من العرب أقبح ردا عليه من بنى حنيفة أى وهم أهل اليمامة قوم مسيلمة
الكذاب وقيل لهم بنو حنيفة لأن أمهم قيل لها ذلك لحنف كان فى رجلها وثقيف أى ومن
ثم جاء شر قبائل العرب بنو حنيفة وثقيف
أى ودفع صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر رضى الله تعالى
عنه إلى مجلس من مجالس العرب فتقدم أبو بكر فسلم وقال ممن القوم قالوا من ربيعة
قال وأى ربيعة من هامتها أو من لهازمها قالوا بل الهامة العظمى قال من أيها قالوا
من ذهل الأكبر قال منكم حامى الذمار ومانع الجار فلان قالوا لا قال منكم قاتل
الملوك وسالبها فلان قالوا لا قال منكم صاحب العمامة الفردة فلان قالوا لا قال
فلستم من ذهل الأكبر أنتم ذهل الأصغر فقال إليه شاب حين بقل وجهه أى طلع شعر وجهه
فقال له إن على سائلنا أن نسأله يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك فممن الرجل فقال
أبو بكر رضى الله تعالى عنه أنا من قريش فقال الفتى بخ بخ أهل الشرف والرياسة فمن
أى قريش أنت قال من ولد تيم بن مرة فقال الفتى أمكنت أمنكم قصى الذى كان يدعى
مجمعا قال لا قال فمنكم هاشم الذى هشم الثريد لقومه قال لا قال فمنكم شبية الحمد
عبد المطلب مطعم طير السماء الذى كأن وجهه القمر يضئ فى الليلة الظلماء قال لا
واجتذب أبو بكر رضى الله تعالى عنه زمام ناقته ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأخبره بذلك فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له على رضى الله تعالى
عنه لقد وقعت من الأعرابى على باقعة أى داهية أى ذى دهاء وهو فى الأصل اسم لطائر
حذر يطير يمنة ويسرة قال أجل أبا حسن مامن طامة إلا فوقها طامة والبلاء موكل بالمنطق
أى واستفهام الفتى توبيخى لا حقيقى لأن من المعلوم أن من ذكر ليسوا من تيم لأن أبا
بكر كما تقدم إنما يجتمع مع النبى صلى الله عليه وسلم فى مرة ومرة جد لقصى فكأنه
يقول له إن قبيلتكم لم تشمل على هؤلاء الأشراف أى كما أن قبيلتنا لم تشتمل على
أولئك الأشراف
وعن عبد الله بن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه صلى الله
عليه وسلم لقى جماعة من
شيبان بن ثعلبة وكان معه أبو بكر وعلى رضى الله تعالى عنهما وأن أبا بكر سألهم ممن القوم فقالوا من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بأبى أنت وأمى هؤلاء غرر أى سادات فى قومهم وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بالهمز ابن قبيصة بفتح القاف ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا له غديرتان أى ذؤابتان من شعر وكان أدنى القوم أى أقرب مجلسا من أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال له أبو بكر كيف العدد فيكم قال مفروق إنا لنزيد على الألف ولن تغلب الألف من قلة والذى قاله صلى الله عليه وسلم لن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة قاله لما أراد أن يغزو هوزان وكان جيشه العدد المذكور كما سيأتى فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه كيف المنعة فيكم قال مفروق علينا الجهد أى بفتح الجيم وضمها أى الطاقة ولكل قوم جد بفتح الجيم أى حظ وسعادة أى علينا أن نجهد وليس علينا أن يكون لنا الظفر لأنه من عند الله يؤتيه من يشاء فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه فكيف الحرب بينكم وبين عدوكم فقال الفرق إنا لأشد ما يكون غضبا حين نلقى وإنا لأشد ما يكون لقاء حين نغضب وأنا لنؤثر الجياد أى من الخيل على الأولاد والسلاح على اللقاح أى ذوات اللبن من الإبل المهملة أى ينصرنا مرة ويديل علينا مرة أى ينصر علينا أخرى لعلك أخو قريش فقال أبو بكر رضى الله تعالى عنه أو قد بلغكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها هوذا فقال مفروق بلغنا أنه يذكر ذلك فإلام تدعو يا أخا قريش فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأنى رسول الله وإلى أن تؤوونى وتنصرونى فإن قريشا قد تظاهرت أى تعاونت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغنى الحميد قال مفروق وإلام تدعو أيضا يا أخا قريش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } قال مفروق ما هذا من كلام أهل الأرض ولو كان من كلامهم عرفناه ثم قال وإلام
تدعو أيضا
يا أخا قريش فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله يأمر بالعدل والإحسان
وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون }
وهذه الآيه ذكر العز بن عبد السلام أنها اشتملت على جميع
الأحكام الشرعية وبين ذلك فى سائر الأبواب الفقهية وضمن ذلك كتابا سماه الشجرة
فقال مفروق دعوت والله إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد أفك قوم أى صرفوا عن
الحق كذبوك وظاهروا أى عاونوا عليك وكان مفروق أراد أن يشركه أى يشاركه فى الكلام
هانئ بن قبيصة فقال هذا هانئ بن قبيصة شيخنا وصاحب ديننا فقال هانئ قد سمعنا
مقالتك يا أخا قريش وإنى أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك بمجلس جلسته
إلينا ليس له أول ولا آخر لزلة فى الرأى وقلة نظر فى العاقبة وإنما تكون الزلة مع
العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا ولكن نرجع وترجع وننظر وتنظر وكأنه
أحب أن يشركه فى الكلام المثنى بن حارثه فقال هذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب
حربنا فقال المثنى قد سمعنا مقالتك يا أخا قريش والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة فى
تركنا ديننا واتباعنا دينك بمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإن أحببت أن
نؤويك وننصرك مما يلى مياه العرب دون ما يلى أنهار كسرى فعلنا فإنا إنما نزلنا على
عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا وأن لا نؤوى محدثا وإنى أرى هذا الأمر الذى
تدعونا إليه أنت هو مما تكرهه الملوك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسأتم
فى الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله عز وجل لن ينصره إلا من أحاط به من جميع
جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا ختى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويغرسكم نساءهم
تسبحون الله وتقدسونه فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا فتلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه
وسراجا منيرا وبشر المؤمنين } ثم نهض رسول الله صلى الله عليه وسلم أى وهؤلاء لم
أقف على إسلام أحد منهم إلا أن فى الصحابة شخصا يقال له المثنى بن حارثة الشيبانى
وكان فارس قومه وسيدهم والمطاع فيهم ولعله هو هذا لقول هانئ بن قبيصة فيه إنه صاحب
حربنا
ورأيت بعضهم ذكر أن النعمان بن شريك له وفادة فيكون من
الصحابة أى وفى
أسد
الغابة أن مفروق بن عمرو من الصحابة ونقل عن أبى نعيم أنه قال لا أعرف لمفروق
إسلاما
ولما قدمت بكر بن وائل مكة للحج قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم لأبى بكرائتهم فاعرضنى عليهم فأتاهم فعرض عليهم فقال لهم كيف العدد فيكم
قالوا كثيرا مثل الثرى قال فكيف المنعة قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمنع
منهم ولا نجير عليهم قال فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم
وتستنكحوا نساءهم وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين وتحمدوه ثلاثا
وثلاثين وتكبروه ثلاثا وثلاثين قالوا ومن أنت قال أنا رسول الله ثم مر بهم أبو لهب
فقالوا له هل تعرف هذا الرجل قال نعم فأخبروه بما دعاهم إليه وأنه زعم أنه رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم لا ترفعوا بقوله رأسا فإنه مجنون يهذى من أم
رأسه فقالوا لقد رأينا ذلك حيث ذكر من أمر فارس ما ذكر
وفى رواية أنه لما سألهم قالوا له حتى يجئ شيخنا حارثة
فلما جاء قال إن بيننا وبينك من الفرس حربا فإذا فرغنا عما بيننا وبينهم عدنا
فنظرنا فيما تقول فلما التقوا مع الفرس قال شيخهم ما اسم الرجل الذى دعاكم إليه
قالوا محمد قال فهو شعاركم فنصروا على الفرس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بى
نصروا أى نصروا بذكرهم اسمى
ولا زال صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل فى كل
موسم ويقول لا أكره أحدا على شئ من رضى الذى أدعوه إليه فذلك ومن كره لم أكرهه
إنما أريد منعى من القتل حتى أبلغ رسالات ربى فلم يقبله أحد من تلك القبائل
ويقولون قوم الرجل أعلم به ترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه
وعن ابن إسحاق لما أراد الله تعالى إظهار دينه وإعزاز
نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز موعده له خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى
الموسم
وفى سيرة مغلطاى ومستدرك الحاكم أن ذلك كان فى شهر رجب
يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع فى كل موسم فبينا هو عند العقبة التى تضاف
إليها الجمرة فيقال جمرة العقبة أى وهى عند يسار الطريق لقاصد منى مكة وبها الآن
مسجد يقال له مسجد البيعة إذ لقى بها رهطا من الخزرج أى لأن الأوس والخزرج كانوا
يحجون
فيمن يحج
من العرب أى والأوس فى الأصل أى اللغة العطية ويقال للذئب ويقال لرجل اللهو واللعب
والخزرج فى الأصل الريح الباردة قيل هى الجنوب خاصة وكانوا ستة نفر وقيل ثمانية
أراد الله تعالى بهم خيرا وقد عد الستة فى الأصل وبين الناس اختلاف فى ذكرهم فقال
لهم من أنتم قالوا نفر من الخزرج فقال أمن موالى يهود أى من حلفاء يهود المدينة
قريظة والنضير لأنهم تحالفوا معهم على التناصر والتعاضد على من سواهم وأن يأمن
بعضهم من بعض وهذا كان فى أول أمرهم قبل أن تقوى شوكتهم على يهود قالوا نعم قال
أفلا تجلسون أكلمكم قالوا بلى فجلسوا معه صلى الله عليه وسلم وفى لفظ وجدهم يحلقون
رءوسهم فجلس إليهم فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم الإسلام أى ورأوا أمارات
الصدق عليه صلى الله عليه وسلم لائحة فقال بعضهم لبعض تعلمون والله أنه للنبى الذى
يوعدكم به يهود فلا تسبقنكم إليه لأن يهود كانوا إذا وقع بينهم وبينهم شئ من الشر
قالوا لهم سيبعث نبى قد أظل أى قرب زمانه نتبعه نقتلكم معه قتلة عاد وإرم أى كما
تقدم فى أخبار الأحبار والمراد نستأصلكم بالقتل فلما دعاهم إلى الإسلام أجابوه
وصدقوه وأسلموا وقالوا له إنا تركنا قومنا يعنون الأوس والخزرج بينهم من العداوة
والشر مابينهم أى فإن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم فوقعت بينهما العداوة
وتطاولت بينهما الحروب فمكثوا على المحاربة والمقاتلة أكثر من مائة سنة أى مائة
وعشرين كما فى الكشاف فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك
أقول وفى رواية قالوا يا رسول الله إنما كانت بعاث أى
بضم الموحدة ثم عين مهملة مخففة وفى آخره ثاء مثلثة وقيل بفتح الموحدة وبدل
المهملة معجمة قيل وذكر المعجمة تصحيف فعن ابن دريد صحف الخليل بن أحمد يوم بغاث
بالغين المعجمة وإنما هو بالمهملة وفى القاموس بالمهملة والمعجمة عام أول يوم من
أيامنا اقتتلنا به ونحن كذلك لا يكون لنا عليك اجتماع حتى نرجع إلى غابرنا لعل
الله أن يصلح ذات بيننا وندعوهم إلى ما دعوتنا فعسى الله أن يجمعهم عليك فإن
اجتمعت كلمتهم عليك واتبعوك فلا أحد أعز منك وبعاث مكان قريب من المدينة على
ليلتين منها عند بنى قريطة ويقال إنه حصن للأوس كان به القتال قبل قدومه صلى الله
عليه وسلم المدينة بخمس سنين بين الأوس
والخزرج
وسيد الأوس ورئيسهم حينئذ حضير والد أسيد وبه قتل مع من قتل من قومه وكان النصر
فيهم أولا للخروج ثم صار للأوس
وسبب القتل أنه كان من قاعدنهم أن الأصيل لا يقتل
بالحليف فقتل رجل من الأوس أى وهو سويد بن الصامت رجلا حليفا للخزرج أى وهو ذياد
والد المحذر بن ذياد وذياد بالذال المعجمة مكسورة ومفتوحة وتخفيف المثناة تحت
والمحذر بالذال المعجمة مشددة مفتوحة فأرادوا أن يقتلوا سويدا فيه فأبى عليه الأوس
وذلك لأن سويدا هذا كان تسميه قومه الكامل لشرفه ونسبه وشعره وجلده كان ابن خالة
عبد المطلب لأن أمه أخت سلمى أم عبد المطلب وكان قدم مكة حاجا أو معتمرا فتصدى له
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسمع
بقادم قدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له ودعاه إلى الله تعالى فدعا سويدا
إلى الله عز وجل وإلى الإسلام فقال له سويد لعل الذى معك مثل الذى معى فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم وما الذى معك قال حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم اعرضها على فعرضها عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا
الكلام حسن والذى معى أفضلا من هذا قرآن أنزله الله على هو هدى ونور فتلا عليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا
القول حسن ثم انصرف وقدم المدينة فلم يلبث أن قتله الخزرج
وفى كلام بعضهم أنه آمن بالله ورسوله وسافر حتى دخل
المدينة إلى قومه فشعروا بإيمانه فقتلته الخزرج بغتة وقيل القاتل له المحذر ولد
ذياد الذى قتله سويد لأن سويدا كان قد شرب الخمر وجلس يبول وهو ممتلئ سكرا فضربه
إنسان من الخزرج فخرج حتى أتى المحذر بن ذياد فقال هل لك فى الغنيمة الباردة قال
ما هى قال سويد أعزل لأسلاح معه فخرج المحذر بالسيف مصلتا فلما أبصر سويدا قال له قد
أمكن الله منك قال ما تريد منى قال قتلك فقتله فكان ذلك سبب الحرب بين الأوس
والخزرج ببعاث فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم الحارث بن سويد
والمحذر بن ذياد وشهدا بدرا فجعل الحارث بن سويد يطلب محذرا يقتله بأبيه فلم يقدر
عليه حتى كان وقعة أحد قدر عليه فقتله غيلة كما سيأتى
وممن قتل فى هذه الحرب التى يقال لها بعاث شخص يقال له
إياس بن معاذ قدم
مكة هو
وشخص يقال له أبو الحيسر أنس بن رافع مع جماعة من قومهم يلتمسون الحلف من قريش على
قومهم الخزرج فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس إليهم وقال لهم هل لكم فى
خير مما جئتم له قالوا وما ذاك قال أنا رسول الله بعثنى للعباد وأدعوهم أن يعبدوه
ولا يشركوا به شيئا وأنزل على الكتاب ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن فقال
إياس بن معاذ وكان صغيرا أى قوم والله خير مما جئنا إليه فأخذ أبو الحيسر حفنة من
تراب فضرب بها وجه إياس وانتهره وقال له دعنا منك لقد جئنا لغير هذا فسكت إياس
وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فلما دنا موت إياس صار يحمد الله ويسبحه
ويهلله ويكبره حتى مات والله أعلم ثم انصرف أولئك الرهط من الخزرج راجعين إلى
بلادهم
قال وفى رواية أنهم لما آمنو به صلى الله عليه وسلم
وصدقوه قالوا له إنا نشير عليك أن تمكث على رسلك أى على حالك باسم الله حتى نرجع
إلى قومنا فنذكر لهم شأنك وندعوهم إلى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم لعل
الله يصلح ذا ت بينهم ونواعدك الموسم من العام المقبل فرضى بذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم انتهى أى فلم يقع لهؤلاء الستة أو الثمانية مبايعة ويسمى هذا ابتداء
الإسلام للأنصار وربما سماه بعضهم العقبة الأولى فلما كان العام المقبل قدم من
الأوس والخزرج اثنا عشر رجلا أى عشرة من الخزرج واثنان من الأوس وقيل كانوا أحد
عشر رجلا منهم خمسة من الستة أو الثمانية الذين اجتمعوا به صلى الله عليه وسلم عند
العقبة أولا فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم عند العقبة أيضا فبايعهم أى عاهدهم صلى
الله عليه وسلم أى وسميت المعاهدة مبايعة تشبيها بالمعاوضة المالية وتلا عليهم آية
النساء أى الآية التى نزلت بعد ذلك فى شأن النساء يوم الفتح لما فرغ من مبايعة
الرجال وأراد مبايعة النساء
فعن عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بيعة النساء أى كبيعة النساء أى كمبايعة للنساء التى كانت يوم فتح مكة وهى
على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزنى ولا نقتل أولادنا أى لأن قتل الأولاد
كان سائغا فيهم وهو وأد البنات قيل والبنين خوف الإملاق
وفى النهر كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض
ربيعة ومضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والافتقار وبعضهم خوف
السبى قال ولا نأتى بهتان أى الكذب الذى يبهت صاحبه سامعه نفتريه بين أيدينا
وأرجلنا أى فى الحال والاستقبال قيل وغير ذلك ولا نعصيه فى معروف أى ما عرف من
الشارع حسنه نهيا وأمرا
قال الحافظ ابن حجر المبايعة المذكورة فى حديث عبادة بن
الصامت على الصفة المذكورة لم تقع ليلة العقبة وإنما نص بيعة العقبة ما ذكر ابن
إسحاق وغيره عن أهل المغازى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لمن حضر من الأنصار
أبايعكم على أن تمنعونى ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم فبايعوه على ذلك وعلى أن
يرحل إليهم هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثم ذكر جملة من الأحاديث وقال هذه أدلة
صريحة فى أن هذه البيعة بعد نزول الآية بعد فتح مكة
أقول ليس فى كلام عبادة أن هذه البيعة بيعة العقبة إذ لم
يقل بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة وإن كان السياق يقتضيه
وحينئذ فلا يحسن أن يكون كلام عبادة شاهدا لمن قال وتلا عليهم آية النساء فلا يحسن
التفريع المتقدم بل هو دليل على أن هذه المبايعة متأخرة عن يوم الفتح كما قال
الحافظ والله أعلم
زاد بعضهم والسمع والطاعة فى اليسر والعسر والمنشط
والمكره وأن لا ننازع الأمر أهله وأن نقول الحق حيث كنا لا نخاف فى الله لومة لائم
ثم قال ومن وفى بالتخفيف والتشديد أى ثبت على العهد فأجره على الله ومن أصاب من
ذلك شيئا فعوقب به فى الدنيا فهو أى العقاب طهرة له أو قال كفارة له
واستشكل بأن أبا هريرة روى أنه صلى الله عليه وسلم لا
أدرى الحدود كفارة لأهلها أولا وإسلام أبى هريرة تأخر عن بيعة العقبة بسبع سنين
كما سيأتى فإنه كان عام خيبر سنة سبع
ويجاب بأن هذه البيعة التى ذكرها عبادة ليست بيعة العقبة
بل بيعة غيرها وقعت بعد فتح مكة كما علمت
وحينئذ يكون ما رواه أبو هريرة رضى الله تعالى عنه كان
قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم ذلك ثم علمه أى أن الحدود كفارة قال صلى الله عليه
وسلم ومن أصاب من
ذلك شيئا
فستره الله عليه فأمره إلى عز وجل إن شاء غفر له وإن شاء عذبه أى وكون الحدود
كفارة وطهرة مخصوص بغير الشرك فقتل المريد لا يكون كفارة وطهرة له لأن الله لا
يغفر أن يشرك به
وفى رواية فإن رضيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئا
فأصبتم بحد فى الدينا فهو كفارة لكم فى الدنيا وإن سترتم عليه فأمركم إلى الله وإن
شاء عذب وإن شاء غفر أى وفى هذا رد على من قال بوجوب التعذيب لمن مات بلا توبة
وعلى من قال بكفر مرتكب الكبيرة
فلما انصرفوا راجعين إلى بلادهم بعث رسول الله صلى الله
عليه وسلم معهم ابن أم مكتوم واسمها عاتكة واسمه عمرو وقيل عبدالله وهو ابن خال
خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها
قال الشعبى غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث عشرة
غزوة ما فيها غزوة إلا واستخلف ابن ام مكتوم على المدينة وكان يصلى بهم وليس له
رواية ومصعب ابن عمير وضى الله تعالى عنهما يعلمان من أسلم منهم القرآن ويعلمانهم
أى من أراد أن يسلم الإسلام ويفقهانهم فى الدين ويدعوان من لم يسلم منهم إلى
الإسلام وهذا ما فى أكثر الروايات وهو يفيد أنه صلى الله عليه وسلم بعث بهما معا
ويدل له ما روى عن البراء بن عازب رضى الله تعالى عنه أول من قدم علينا من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئان الناس
القرآن أى وفى رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليهم مصعبا حين كتبوا
إليه يبعث إليهم
وفى رواية ثم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
معاذ بن عفراء ورافع بن مالك رضى الله تعالى عنهما أن ابعث إلينا رجلا من قبلك
يفقهنا ويدعو الناس بكتاب الله وفى رواية كتبوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك فبعث
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير وكان يقال له المقرى وهو أول من
تسمى بهذا الاسم وهذا يدل على أن مصعبا لم يكن معهم
أقول وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كتبوا
وأرسلوا إليه صلى الله عليه وسلم بذلك عند خروجهم من مكة وقبل أن ينصرفوا منها
راجعين إلى المدينة والاقتصار على مصعب لا ينافى ما تقدم من ذكر ابن أم مكتوم معه
ثم رأيت ما يبعد الجمع الأول وهو عن ابن إسحاق أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم إنما بعثه يعنى مصعب بن عمير بعدهم وإنما كتبوا إليه إن
الإسلام قد فشا فينا فابعث إلينا رجلا من أصحابك يقرئنا القرآن ويفقهنا فى الإسلام
ويعلمنا بسنته وشرائعه ويؤمنا فى صلاتنا فبعث مصعب بن عمير وما يبعد الجمع الثانى
وهو ما نقل عن الواقدى أن ابن أم مكتوم قدم المدينة بعد بدر بيسير وفى كلام ابن
قتيبة وقدم ابن أم مكتوم المدينة مهاجرا بعد بدر بسنتين
وقد يقال لا منافاة لأنه يجوز أن يكون كل من مصعب بن
عمير وابن أم مكتوم رجعا إلى مكة بعد محبيئهما مع القوم وأن مكاتبتهم بأن الإسلام
فشا فينا إلى آخره كانت وهم بالمدينة فجاء إليهم مصعب وتخلف ابن أم مكتوم فليتأمل
ذلك والله تعالى أعلم وهذه المبايعة يقال لها العقبة الأولى لوجود تلك المبايعة
عندها
ولما قدم مصعب المدينة نزل على أبى أمامة أسعد بن زرارة
رضى الله تعالى عنه دون بقية رفقته وكان سالم مولى أبى حذيفة رضى الله تعالى عنه
يؤم المهاجرين بقباء قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان مصعب يؤم
القوم أى الأوس والخزرج لأن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه بعض وجمع بهم أول
جمعة جمعت فى الإسلام قبل قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل نزول سورة الجمعة
الآمرة بها فإنها مدنية
وقال الشيخ أبو حامد فرضت الجمعة بمكة ولم يتمكن من
فعلها قال الحافظ ابن حجر وهو غريب أى وعلى صحته فهو ما تقدم حكمه على تلاوته
وعند ابن إسحاق أن أول من جمع بهم أبو أمامة أسعد بن
زرارة وكانوا أربعين رجلا أى فعن كعب بن مالك قال أول من جمع بنا فى المدينة أسعد
بن زرارة قبل مقدم النبى صلى الله عليه وسلم فى نقيع الخضمان والنقيع بالنون قيل
أو بالباء الموحدة لكن قال الخطابى إنه خطأ والخضمان جمع خضمة وهى الماشية التى
تخضم أى تأكل بفمها كله مما فى ذلك المحل من الكلأ وهو اسم لقرية من قرى المدينة قال
وكنا أربعين رجلا أى ولا مخالفة لأن مصعب بن عمير كان عند أبى أمامة أسعد بن زرارة
كما علمت فكان هو المعاون على الجمع وكان الخطيب والمصلى مصعب بن عمير فنسب الجمع
لكل منهما أى ويكون ما فى الرواية الآتية من أن أسعد بن زرارة هو الذى صلى بهم على
التجوز أى جمعهم على الصلاة ويؤيده ما تقدم من أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمه
بعض وأيضا المأمور بالتجميع مصعب بن عمير كما سياتى
قال السهيلى وتسميتهم أى الأنصار إياها بهذا الاسم أى
تسميتهم اليوم بيوم الجمعة لاجتماعهم فيه هداية من الله تعالى لهم وإلا فكانت تسمى
فى الجاهلية العروبة أى يسمى ذلك اليوم بيوم العروبة أى الرحمة وقال عليه الصلاة
والسلام فى حق ذلك اليوم إنه اليوم الذى فرض عليهم أى على اليهود والنصارى أى طلب
منهم تعظيمه والتفرغ للعبادة فيه كما فرض علينا أضلته اليهود والنصارى وهداكم الله
تعالى له أى إن كلا من اليهود والنصارى أمر بذلك اليوم يعظمون فيه الحق سبحانه
وتعالى يتفرغون فيه لعبادته واختار اليهود من قبل أنفسهم بدله السبت لأنهم يزعمون
أنه اليوم السابع الذى استراح فيه الحق سبحانه وتعالى من خلق السموات والأرض وما
فيهن من المخلوقات أى بناء على أن أول الأسبوع الأحد وأنه مبدأ الخلق قال بعضهم
وهو الراجح
وفى كلام بعضهم أول الأسبوع الأحد لغة وأوله السبت عرفا
أى فى عرف الفقهاء فى الإيمان ونحوها ويؤيد الأول أن السبت مأخوذ من السبات وهى
الراحة قال تعالى { وجعلنا نومكم سباتا } أى راحة ظنا منهم أنه أولى بالتعظيم لهذه
الفضيلة
واختارت النصارى من قبل أنفسهم بدل يوم الجمعة يوم الأحد
أى بناء على أنه أول يوم ابتدأ الله فيه بإيجاد المخلوقات ظنا منهم أنه أولى
بالتعظيم لهذه الفضيلة وحينئذ يكون معنى قوله أضلوه تركوه مع علمهم به ويؤيد ذلك
ما جاء إن الله تعالى فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا ياموسى اجعل لنا يوم
السبت فجعل عليهم وهدى الله تعالى المسلمين ليوم الجمعة أى وهداية المسلمين له تدل
على أنهم لم يعلموا عينه وإنما اجتهدوا فيه فصادفوه
وفى سفر السعادة كان من عوائده الكريمة صلى الله عليه
وسلم أن يعظم يوم الجمعة غاية التعظيم ويخصه بأنواع التشريف والتكريم
وجاء إن أهل الجنة يتباشرون في الجنة بيوم الجمعة كما
تتباشر به أهل الدينا فى الدينا واسمه عندهم يوم المزيد كما تقدم لأن الله تعالى
يتجلى عليهم فى ذلك اليوم ويعطيهم كل ما يتمنونه ويقول لهم لكم ما تمنيتم ولدينا
مزيد فهم يحبون يوم الجمعة لما يعطيهم فيه ربهم من الخير
وقد جاء فى المرفوع يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها عند
الله تعالى فهو فى الأيام كشهر رمضان فى الشهور وساعة الإجابة فيه كليلة القدر فى
رمضان
والذى فى البخارى ثم هذا أى يوم الجمعة يومهم الذى فرض
عليهم أى على اليهود والنصارى فاختلفوا فيه فهدانا الله تعالى له فالناس لنا فيه
تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد وقوله فاختلفوا فيه يدل على انهم لم يعلموا عينه
ويوافقه ما نقل عن بعض أهل العلم أن اليهود أمروا بيوم من الأسبوع يعظمون الله
تعالى فيه ويتفرغون لعبادته فاختاروا من قبل أنفسهم السبت فأكرموه فى شرعهم وكذلك
النصارى أمروا على لسان عيسى بيوم الأسبوع فاختاروا من قبل أنفسهم الأحد فالتزموه
شرعا لهم وهو يخالف ما سبق فليتأمل
قال بعضهم والراجح أن أول الأسبوع السبت لأنه أول يوم
ابتدئ فيه بايجاد المخلوقات فقد جاء فى الصحيح إن الله خلق التربة يوم السبت
والجبال يوم الأحد والشجر يوم الأثنين والمكروه يوم الثلاثاء والنور يوم الأربعاء
كذا فى مسلم وعليه يشكل تسمية اليوم الذى يليه الأحد وأجيب بأنه من تسمية اليهود
وتبعهم غيرهم
وقد ذكر السهيلى أن تسمية هذه الأيام طارئة ولو كان الله
سبحانه وتعالى سماها فى القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد لقلنا هى تسمية
صادقة لكن لم يذكر منها إلا الجمعة والسبت وإنهما ليسا مشتقين من العدد هذا كلامه
ورد بأنه جاء إن الله تعالى خلق يوما فسماه الأحد ثم خلق
ثانيا فسماه الاثنين ثم خلق ثالثا فسماه الثلاثاء ثم خلق رابعا فسماه الأربعاء ثم
خلق خامسا فسماه الخميس
وأجاب ابن حجر الهيتمى بأن هذه أى التسمية المذكورة لم
تثبت وأن العرب تسمى خامس الورد أربعاء هذا كلامه فيكون أول الأسبوع السبت
ثم رأيت السهيلى قال لم يسمها رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالأحد والاثنين إلى سائرها إلا حاكيا للغة قومه لا مبتدئا تسميتها ولعل قومه
أن يكونوا أخذوا معانى هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم فألقوا عليها هذه
الأسماء اتباعا لهم هذا كلامه فليتأمل
وفى السبعينات للهمدانى أكرم الله موسى عليه الصلاة
والسلام بالسبت وعيسى بالأحد وداود بالاثنين وسليمان بالثلاثاء ويعقوب بالأربعاء
وآدم بالخميس ومحمدا صلى الله عليه وسلم بالجمعة وهذا يدل على أن اليهود لم
يختاروا يوم السبت والنصارى يوم الأحد من عند أنفسهم فليتأمل الجمع
وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت قال يوم مكر
وخديعة أى وقع فيه المكر والخديعة أى لأنه اليوم الذى اجتمعت فيه قريش فى دار الندوة
للاستشارة فى أمره صلى الله عليه وسلم وسئل عن يوم الأحد فقال يوم غرس وعمارة لأن
الله تعالى ابتدأ فيه خلق الدنيا وعمارتها وفى رواية لأن الجنة بنيت فيه وغرست
وسئل عن يوم الاثنين فقال يوم سفر وتجارة لأن فيه سافر شعيب فربح فى تجارته وسئل
عن يوم الثلاثاء فقال يوم دم لأن فيه حاضت حواء وقتل ابن آدم أخاه
وذكر الهمدانى فى السبعيات أيضا أنه قتل فيه سبعة جرجيس
وزكريا ويحيى ولده عليهم الصلاة والسلام وسحرة فرعون وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون
وبقرة بنى إسرائيل وهابيل بن آدم وبين قصة كل واحد
أى ومن ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة
يوم الثلاثاء أشد النهى وقال فيه ساعة لا يرقأ فيها الدم وفيه نزل إبليس إلى الأرض
وفيه خلفت جهنم وفيه سلط الله ملك الموت على أرواح بنى آدم وفيه ابتلى أيوب وفى
بعض الروايات أن اليوم الذى ابتلى الله فيه أيوب يوم الأربعاء
وسئل عن يوم الأربعاء قال يوم نحس لأن فيه أغرق فرعون
وقومه وأهلك فيه عاد وثمود وقوم صالح أى ومن ثم كان يسمى فى الجاهلية دبار والدبار
الملهى لكن الذى فى الحديث الموقوف على ابن عباس الذى لا يقال من قبل الرأى آخر
أربعاء فى الشهر يوم نحس مستمر وجاء يوم الأربعاء لا أخذ ولا عطاء
وذكر الزمخشرى أن بعضهم قال لأخيه اخرج معى في حاجة فقال
هذا الأربعاء قال فيه ولد يونس قال لاجرم قد بانت له بركته أى حيث ابتلعه الحوت
قال وفيه ولد يوسف قال فما أحسن ما فعل به إخوته طال حبسه وغربته قال وفيه نصر
المصطفى صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب قال أجل ولكن بعد أن زاغت الأبصار وبلغت
القلوب الحناجر
وورد فى بعض الآثار النهى عن قص الأظفار يوم الأربعاء
وأنه يورث البرص
وعن ابن الحاج صاحب المدخل أنه هم بقص أظفاره يوم
الأربعاء فتذكر ذلك فترك ثم رأى أن قص الأظفار سنة حاضرة ولم يصح عنده النهى فقصها
فلحقه البرص فرأى النبى صلى الله عليه وسلم فى النوم فقال له ألم تسمع نهى عن ذلك
فقال
يا رسول
الله لم يصح ذلك عندى فقال يكفيك أن تسمع ثم مسح صلى الله عليه وسلم بيده على بدنه
فزال البرص جميعا قال ابن الحاج فجددت مع الله توبة أنى لا أخالف ما سمعت عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبدا
وجاء فى حديث أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا وخرجه
الحاكم من طريقين آخرين لا يبدو جذام ولا مرض إلا يوم الأربعاء وكره بعضهم عيادة
المريض يوم الأربعاء
وفى منهاج الحليمى وشعب الإيمان للبيهقى إن الدعاء
مستجاب يوم الأربعاء بعد الزوال قبل وقت العصر لأنه صلى الله عليه وسلم استجيب له
الدعاء على الأحزاب فى ذلك اليوم فى ذلك الوقت وكان جابر يتحرى ذلك بالدعاء فى
مهماته وذكر أنه ما بدئ بشئ يوم الأربعاء إلا وتم فينبغى البداءة بنحو التدريس فيه
وسئل عن يوم الخميس فقال يوم قضاء الحوائج لأن فيه دخل
إبراهيم الخليل على ملك مصر فقضى حاجته وأعطاه هاجر ومن ثم زاد فى رواية والدخول
على السلطان وسئل عن يوم الجمعة فقال يوم نكاح نكح فيه آدم حواء ويوسف زليخا وموسى
بنت شعيب وسليمان بلقيس أى ونكح فيه صلى الله عليه وسلم خديجة وعائشة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أذن النبى صلى الله
عليه وسلم لهم قبل الهجرة أى قبل أن يهاجر صلى الله عليه وسلم فى إقامة الجمعة أى
فلم يفعلوها باجتهاد بل بإذنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى مصعب بن عمير رضى الله
تعالى عنه أما بعد فانظر اليوم الذى تجهر فيه اليهود بالزبور لسبتهم أى اليوم الذى
يليه يوم السبب فاجمعوا نساءكم وأبناءكم فإذا مال النهار عن شطره فتقربوا إلى الله
بركعتين فجمع مصعب بن عمير عند الزوال أى صلى الجمعة حتى قدم رسول الله صلى الله
عليه وسلم أى استمر على ذلك حتى قدم النبى صلى الله عليه وسلم وهذا يدل على أنه
صلى الله عليه وسلم عين لهم ذلك اليوم وهو خلاف قوله السابق فهداكم الله له الظاهر
فى أن هدايتهم له باجتهاد منهم
ويدل له ما روى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما باسناد
صحيح أن الأنصار قالوا إن لليهود يوما يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى مثل ذلك
فهلم فلنجعل يوما نجتمع فيه فنذكر الله ونصلى ونشكره فجعلوه يوم العروبة أى لأنه
اليوم الذى وقع
فيه خلق
آدم الذى هو مبدأ هذا الجنس وجعل فيه فناء الخلق وانقضاءهم إذ فيه تقوم الساعة
ففيه المبدء والمعاد إذ هو المروى عن ابن عباس يقتضى أن الأنصار اختاروه باجتهاد
منهم إلا أن يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون هذا العزم على ذلك حصل منهم أولا ثم
أرسلوا له صلى الله عليه وسلم يستأذنونه فى ذلك فأذن لهم فيه فقد جاء الوحى موافقة
لما اختاروه
وفيه أنه لو كان كذلك لقال صلى الله عليه وسلم لمصعب بن
عمير افعلوا ذلك ولم يقل له انظروا إلى اليوم إلى آخره إلا أن يقال يجوز أنهم لما
استأذنوه صلى الله عليه وسلم فى الاجتماع لم يعينوا له اليوم فبينه صلى الله عليه
وسلم لهم وتقدم عن الشيخ أبى حامد أن الجمعة أمر بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة
وتركها لعدم التمكن من فعلها تقدم عن الحافظ ابن حجر أنه غريب ويؤيده أنه لو كان أمر
بها صلى الله عليه وسلم وهو بمكة وتركها لعدم التمكن من فعلها لأمر بها مصعب بن
عمير عند إرساله للمدينة ولم يأمره بها إلا بعد ذلك إلا أن يقال إنما لم يأمره بها
حينئذ لأنه يجوز أن يكون إنما أمر بها بعد ذهاب مصعب إلى المدينة أو أنه إنما ألم
يأمره بذلك لأن لإقامتها شروطا منها العدد وهو عند إمامنا الشافعى رضى الله تعالى
عنه أربعون بشروط ولم يكن ذلك موجودا عند إرساله صلى الله عليه وسلم ومن ثم لما
علم صلى الله عليه وسلم وجود العدد المذكور أرسل له يأمره بذلك فى قوله أما بعد
فانظر اليوم الخ
ثم لا يخفى أن ظاهر سياق الروايات يدل على أن الذى هداهم
الله إليه إنما هو إيقاع العبادة فى هذا اليوم لا تسميته بيوم الجمعة كما تقدم عن
السهيلى على أن تسميتهم له بذلك لم أقف عليها فى رواية
على أن السهيلى ذكر عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن
النبى صلى الله عليه وسلم سماها يوم الجمعة لما أرسل لمصعب بن عمير أن يفعلها كما
تقدم فى الإسراء وذكر أيضا أ كعب بن لؤى أول من سمى يوم العروبة الجمعة
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن تكون الأنصار ومن معهم
من المهاجرين لم يبلغهم ما ذكر عن كعب بن لؤى إن ثبت أنهم سموها بهذا الاسم
اجتهادا منهم
وعن أبى هريرة رضى الله تعالى عنه أنه سأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن سبب تسمية هذا اليوم بيوم الجمعة فقال لأن فيها جمعت طينة أبيك
آدم وقدمنا أنه لا مخالفة بين ما هنا وما تقدم فى الإسراء والله أعلم
وأسلم سعد بن معاذ وابن عمه أسيد بن حضير رضى الله تعالى
عنهما على يد بن مصعب ابن عمير وكان إسلام أسيد قبل سعد فى يومه
فعن ابن إسحاق أن أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه خرج
بمصعب بن عمير إلى حائط أى بستان من حوائط بنى ظفر فجلسا فيه واجتمع إليهما رجال
ممن أسلم وسعد بن معاذ وأسيد بن حضير يؤمئذ سيدا قومهما أى بنى عبد الأشهل وكلاهما
مشرك على دين قومه فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير لا أبالك انطلق بنا إلى هذين
الرجلين يعنى أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير اللذين أتيا دارينا تثنية دار وهى
المحلة والمراد قبيلتنا وعشيرتنا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما وانههما أى وفى لفظ قال
له ائت أسعد بن زرارة فازجره عنا فليكف عنا ما نكره فإنه بلغنى أنه قد جاء بهذا
الرجل الغريب يسفه سفهاءنا وضعفاءنا فإنه لولا أسعد بن زرارة منى حيث علمت لكفيتك
ذلك هو ابن خالتى ولا أجد عليه مقدما فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما فلما
رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب بن عمير هذا سيد قومه قد جاءك فاصدق الله فيه ثم قال
مصعب إن يجلس هذا كلمته قال فوقف عليهما متشمتا قال ما جاء بكما إلينا تسفهان
ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة وفى لفظ قال يا أسعد ما لنا ولك
تأتينا بهذا الرجل الغريب تسفه به سفهاءنا وضعفاءنا
وفى رواية علام أتيتنا فى دورنا بهذا الرجل الوحيد
الغريب الطريد يسفه ضعفاءنا بالباطل ويدعوهم إليه فقال له مصعب أو تجلس بفتح الواو
استفهاما فتسمع بالنصب فى جواب الاستفهام فإن رضيت أمرا قبلته وإن كرهته كف عنك ما
تكره أى منعنا عنك ما تكره قال أنصفت ثم ركز حربته وجلس إليها فكلمه مصعب بالإسلام
وقرأ عليه القرآن فقال ما أحسن هذا وأجمله بالنصب على التعجب كيف تصنعون إذا أردتم
أن تدخلوا فى هذا الدين قالا له تغتسل وتتطهر وتغسل ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم
تصلى فقام واغتسل وطهر ثوبه وشهد بشهادة الحق ثم قام فركع ركعتين أى وهما صلاة
التوبة
فقد روى أصحاب السنن وقال الترمذى حديث حسن أنه صلى الله
عليه وسلم قال ما من عبد يذنب دنبا فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلى ركعتين ثم يستغفر
الله عزوجل إلا غفر له ثم قال لهما إن ورائى رجلا أن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من
قومه
وسأرسله
إليكما الآن وهو سعد بن معاذ رضى الله تعالى عنه ثم أخذ حربته فانصرف إلى سعد
وقومه وهم جلوس فى ناديهم فلما نظر إليه سعد مقبلا قال أحلف بالله لقد جاءكم
أسيدين بن حضير بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف على النادى قال له سعد
ما فعلت قال كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسا وقد نهيتهما فقالا نفعل ما
أحببت وقد حدثت أن بنى حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه وذلك أنهم عرفوا أنه
ابن خالتك ليخفروك أى ينقضوا عهدك فقام سعد مغضبا مبادرا فأخذ الحربة من يده وقال
والله ما أراك أغنيت شيئا ثم خرج إليهما ولما أقبل سعد قال أسعد لمصعب لقد جاءك
والله سيد من وراءه من قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان فلما رآهما سعد
مطمئنين عرف سعد أن أسيدا إنما أراد منه أن يسمع منهما فوقف عليهما متشمتا ثم قال
لأسعد بن زرارة يا أبا أمامة والله لولا ما بينى وبينك من القرابة ما رمت منى هذا
هذا يغشانا فى دارنا بما نكره فقال له مصعب أو تقعد تسمع فإن رضيت أمرا قبلته وإن
كرهت عزلنا عنك ما تكره فقال سعد أنصفت ثم ركز الحربة وجلس فعرض عليه الإسلام وعرض
عليه القرآن فقال لهما كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم فى هذا الدين فقال تغتسل
وتتطهر وتطهر ثوبك ثم تشهد شهادة الحق ثم تركع ركعتين فقام سعد فاغتسل وطهر ثوبه
ثم شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عامدا إلى نادى قومه ومعه أى
مع ذلك النادى أسيد بن حضير فلما رآه قومه مقبلا قالوا نحلف بالله لقد رجع إليكم
سعد بغير الوجه الذى ذهب به من عندكم فلما وقف عليهم قال يا بنى عبد الأشهل كيف
تعلمون أمرى فيكم قالوا سيدنا وأفضلنا رأيا وأيمننا وأبركنا نقيبة أى نفسا وأمرا
قال فإن كلام رجالكم ونسائكم على حرام حتى تؤمنوا بالله ورسوله قال فوالله ما أمسى
فى دارى أى قبيلة بنى عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلما ومسلمة فأسلموا فى يوم
واحد كلهم وكان ذلك بعد العقبة الأولى وقبل العقبة الثانية إلا ما كان من الأصيرم
وهو عمرو بن ثابت من بنى عبد الأشهل فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد فأسلم واستشهد
ولم يسجد لله سجدة وأخبره صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة
أى وفى كلام ابن الجوزى أول دار أى قبيلة أسلمت من دور
الأنصار دار بنى عبد الأشهل ثم رجع مصعب إلى دار أسعد بن زرارة رضى الله تعالى عنه
فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا فيها رجال
ونساء مسلمون إلا ما كان
من سكان
عوالى المدينة أى قراها من جهة نجد قال وفى كلام بعضهم إلا جماعة من الأوس بن
حارثة وذلك أنه كان فيهم أبو قيس وهو صيفى بن الأسلت وكان شاعرا لهم يسمعون منه
ويطيعونه لأنه كان قوالا بالحق معظما وقد ترهب فى الجاهلية ولبس المسوح واغتسل من
الجنابة ودخل بيتا له فاتخذه مسجدا وقال اعبد إله إبراهيم لا يدخل فيه حائض ولا
جنب فوقف بهم عن الإسلام فلم يزل على ذلك حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة ومضى بدر واحد والخندق فاسلم وحسن إسلامه وهو شيخ كبير اه أى سبب تأخر
إسلامه ما ذكره بعضهم أنه لما أراد الإسلام عند قدومه صلى الله عليه وسلم المدينة
لقيه أبى ابن سلول وكلمه بما أغضبه ونفره عن الإسلام وقال أبو قيس لا أتبعه إلا
آخر الناس فلما احتضر أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قل لا إله إلا
بالله أشفع لك بها فقالها وهم ابنه أن ينكح امرأة أبيه أى على ما هو عادة الجاهلية
أى وكان ذلك فى المدينة حتى فى أول الإسلام أن أكبر أولاد الرجل يخلفه على زوجته
بعد موته فنزل التحريم أى قوله تعالى { ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء }
وتقدم الكلام على سبب نزول هذه الآية مستوفى
ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى مكة مع من خرج من المسلمين
من الأنصار إلى الموسم مع حجاج قومهم من أهل الشرك حتى قدموا مكة أى وأخبر النبى
صلى الله عليه وسلم بمن أسلم فسر بذلك
وعن كعب بن مالك قال خرجنا فى حجاج قومنا من المشركين
ومعنا البراء بن معرور سيدنا وكبيرنا والبراء بالمد لغة آخر ليلة من الشهر سمى
بذلك لأنه ولد فيها ومعرور معناه لغة مقصود فلما خرجنا من المدينة قال البراء لنا
إنى قد رأيت رأيا ما أدرى أتوافقونى عليه أم لا قال قلنا وما ذاك قال رأيت أن لا
أدع هذه البنية أى بفتح الموحدة وكسر النون وتشديد المثناة تحت المفتوحة ثم تاء
التأنيث على وزن فعيلة يعنى الكعبة منى بظهر وأن أصلى إليها قال قلنا والله ما
بلغنا أن نبينا صلى الله عليه وسلم يصلى إلا إلى الشام يعنون بيت المقدس أى صخرته
وما نريد أن نخالفه قال فقال إنى أصلى إليها قال فقلنا له لكنا لا نفعل قال فكنا
إذا حضرت الصلاة صلينا إلى الشام يعنى بيت المقدس أى واستدبرنا الكعبة وصلى إلى
الكعبة أى مستديرا للشام حتى قدمنا مكة وقد كنا عبنا عليه ذلك وأبى إلاقامة على
ذلك فلما قدمنا مكة
قال لي يا
ابن أخي انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسأله عما صنعت في سفري
هذا فإنه والله لقد وقع في نفسي منه شيء لما رأيت من خلافكم إياي فيه قال فخرجنا
نسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا لا نعرفه لأنا لم نره قبل ذلكن فلقينا
رجلا من أهل مكة فسألناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعرفانه قلنا لا
قال فهل تعرفان العباس بن عبد المطلب عمه قلنا نعم وكنا نعرف العباس كان لا يزال
يقدم علينا تاجرا قال فإذا دخلتما المسجد فإذا هو الرجل الجالس مع العباس فدخلنا
المسجد فإذا العباس جالس ورسول الله صلى الله عليه وسلم معه فسلمنا حين جلسنا إليه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس هل تعرف هذين الرجلين يا أبا الفضل قال
نعم هذا البراء بن معرور سيد قومه وهذا كعب ابن مالك قال كعب فوالله ما أنسى قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاعر قال نعم فقال له البراء بن معرور يا رسول
الله إني خرجت في سفري هذا وقد هداني الله بالإسلام فرأيت أن لا أجعل هذه البنية
منى بظهر يعني الكعبة فصليت إليها وخالفني أصحابي في ذلك حتى وقع في نفسي من ذلك شيء
فماذا ترى يا رسول الله قال قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فرجع البراء إلى قبلة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي بيت المقدس أي ولم يأمره بإعادة ما صلاه مع أنه
كان مسلما وبين له أنه كان الواجب عليه استقبال بيت المقدس لأنه كان متأولا
فليتأمل
وفي هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا
بمكة قبل الهجرة وبعدها يصلون إلى بيت المقدس قبل أن تحول القبلة وقد تقدم الوعد
بذلك
قال كعب ثم خرجنا إلى الحج وواعدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم العقبة أي إلى أن يوافوه في الشعب الأيمن إذا انحدروا من منى أسفل
العقبة حيث المسجد اليوم أي الذي يقال له مسجد البيعة كما تقدم وأمرهم أن لا
ينبهوا نائما ولا ينتظروا غائبا وذلك في ليلة اليوم الذي هو يوم النفر الأول قال
فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لها
وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا وكان من جملة المشركين أبو جابر عبد
الله بن عمرو بن حرام بفتح الحاء والراء المهملتين سيد من ساداتنا فكلمناه وقلنا
له يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن
تكون حطبا للنار غدا ثم دعوناه
إلى
الإسلام فأسلم وأخبرناه بميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهد معنا العقبة
فمكثنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا
لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي بعد هدءة يتسلل الرجل والرجلان تسلل القطا
مستخفين حتى إذا اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاث وسبعون رجلا وامرأتان
نسيبة بالتصغير وهي أم عمارة من بني النجار أي وكانت تشهد الحرب مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم هي وزوجها وابناها حبيب وعبد الله رضي الله تعالى عنهم وحبيب هذا
اكتنفه مسيلمة الكذاب وصار يعذبه يقول له أتشهد أن محمدا رسول الله فيقول نعم ثم
يقول وتشهد أني رسول الله فيقول لا فيقطع عضوا من أعضائه وهكذا حتى فنيت أعضاؤه
ومات وسيأتي ما وقع لها رضي الله تعالى عنها في حرب مسيلمة وأم منيع أي وهذه
الرواية لا تخالف رواية الحاكم حمسة وسبعون نفسا نعم تحالف قول ابن مسعود وهم
سبعون رجلا يزيدون رجلا أو رجلين وامرأتان أي منهم أحد عشر رجلا من الأوس قال فلا
زلنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم حتى جاءنا أي وفي رواية
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقهم وانتظرهم
أقول وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون سبقهم
وانتظرهم فلما لم يجيئوا ذهب ثم جاءهم بعد مجيئهم والله أعلم ومعه عمه العباس بن
عبد المطلب أي ليس معه غيره وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن
أخيه ويتوثق له
أقول وهذا لا يخالف ما جاء أنه كان معه أيضا أبو بكر
وعلى لأن العباس أوقف عليا على فم الشعب عينا له وأوقف أبا بكر على فم الطريق
الآخر عينا فلم يكن معه عندهم إلا العباس والله أعلم فلما جلسوا كان العباس أول من
تكلم فقال يا معشر الخزرج أي قال ذلك لأن العرب كانت تطلق الخزرج على ما يشمل
الأوس وكانت تغلب الخزرج على الأوس فيقولون الخزرجين إن محمدا منا حيث قد علمتم وقد
منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فهو في عز من قومه ومنعة في بلده وقد أبى
إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه
ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد
الخروج به إليكم فمن الآن تدعونه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده فقال البراء بن
معرور أنا
والله لو
كان في أنفسنا غير ما ننطق به لقلناه ولكنا نريد الوفاء والصدق وبذل مهج أنفسنا
دون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي والبراء بن معرور هو اول من أوصى بثلث ماله
وفي رواية أن العباس قال قد أبي محمد الناس كلهم غيركم
فإن كنتم أهل قوة وجلد وبصر بالحرب واستقلال بعداوة العرب قاطبة ترميكم عن قوس
واحدة فأروا رايكم وائتمروا بينكم ولا تفرقوا إلا عن ملأ منكم واجتماع فإن أحسن
الحديث أصدقه
أقول قول العباس قد أبى محمد الناس كلهم غيركم ربما يفيد
أن الناس غير الأنصار وافقوه على مناصرته فأباهم ولا يساعد عليه ما تقدم ولولا
التأكيد بلفظ كلهم لأمكن أن يراد بالناس قبيلة شيبان بن ثعلبة فإنهم كما تقدم
قالوا له ننصرك بما يلي مياه العرب دون ما يلي مياه كسرى فأبى ذلك ويحتمل أن
المراد بالناس الذين أباهم أهله وعشيرته والله أعلم
وعندما تكلم العباس بما ذكر قالوا له قد سمعنا مقالتك
فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت وفي رواية خذ لنفسك ما شئت واشترط
لربك ما شئت فقال النبي صلى الله عليه وسلم أشترط لربي عز وجل أن تعبدوه ولا
تشركوا به شيئا ولنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأبناءكم ونساءكم فقال
ابن رواحة فإذا فعلنا فما لنا فقال صلى الله عليه وسلم لكم الجنة قالوا ربح البيع
لا نقيل ولا نستقيل
وفي رواية فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا
القرآن ودعا إلى الله عز وجل ورغب في الإسلام ثم قال أبايعكم على أن تمنعوني مما
تمنعون منه نساءكم وأبناءكم أي وفي رواية أنهم قالوا له يا رسول الله نبايعك قال
تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل والنفقة في العسر واليسر وعلى الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر وأن تقولوا في الله لا تخافوا في الله لومة لائم وعلى
أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم
الجنة فاخذ البراء بن معرور بيده صلى الله عليه وسلم ثم قال نعم والذي بعثك بالحق
لنمنعنك مما نمنع به أزرنا أي نساءنا وأنفسنا لأن العرب تكنى بالإزار عن المرأة
وعن النفس فنحن والله أهل الحرب وأهل الحلقة أي السلاح ورثناها كابرا عن كابر
وبينا البراء يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو الهيثم بن التيهان بتشديد
المثناة تحت وتخفيفها نقبله على مصيبة المال وقتل
الأشراف
فقال العباس اخفوا جرسكم أي صوتكم فإن علينا عيونا ثم قال أبو الهيثم يا رسول الله
إن بيننا وبين الرجال يعني اليهود حبالا أي عهودا وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن
فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثم قال بل الدم الدم والهدم الهدم بفتح الدال وسكونها إهدار دم القتيل أي دمي
دمكم أي تطلبون بدمي وأطلب بدمكم فدمي ودمكم واحد وفي لفظ بدل الدم اللدم وهو
بالتحريك الحرم من القرابات أي حرمكم خرمكم تقول العرب اللدم اللدم إذا أرادت
تأكيد المحالفة هدمي وخدمكم واحد أي وإذا أهدرتم الدم أهدرته وذمتي ذمتكم ورحلتي
مع رحلتكم أنا منكم وأنتم مني أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم أي وعند ذلك قال
لهم العباس رضي الله تعالى عنه عليكم بما ذكرتم ذمة الله مع ذمتكم وعهد الله مع
عهدكم في هذا الشهر الحرام والبلد الحرام يد الله فوق أيديكم لتجدن في نصرته
ولتشدن من أزره قالوا جميعا نعم قال العباس اللهم إنك سامع شاهد وإن ابن أخي قد
استرعاهم ذمته واستحفظهم نفسه اللهم كن لابن أخي عليهم شهيدا ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم أخرجوا إلي منكم اثنى عشر نقيبا فلا يحدث أحد في نفسه أن يؤخذ غيره
فإنما يختار لي جبريل أي لأنه عليه الصلاة والسلام حضر البيعة فلما تخيرهم أي وهم
سعد بن عبادة وأسعد بن زرارة وسعد بن الربيع وسعد بن أبي خيثمة والمنذر بن عمرو
وعبد الله بن رواحة والبراء بن معرور وأبو الهيثم بن التيهان وأسيد بن حضير وعبد
الله بن عمرو بن حرام وعبادة بن الصامت ورافع بن مالك كل واحد على قبيلة رضي الله
تعالى عنهم أجمعين وقال صلى الله عليه وسلم لأولئك النقباء أنتم كفلاء على غيركم
ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي يعني المهاجرين
وقيل إن الذي تولى الكلام من الأنصار وشد العقدة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم أسعد بن زرارة أي وهو من اصغرهم فإنه أخذ بيد النبي صلى
الله عليه وسلم وقال رويدا يا أهل يثرب إنا لن نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن
نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مفارقة لجميع العرب وقتل
خياركم وإن تعطكم السيوف
فإما أنتم
قوم تصبرون عليها إذا مستكم بقتل خياركم ومفارقة العرب كافة أي جميعا فخذوه وأجركم
على الله تعالى وإما أنتم تحافون من أنفسكم خيفة فذروه فهو عذر لكم عند الله عز
وجل فقالوا يا أسعد أمط عنا يدك فوالله لا نذر أي نترك هذه البيعة ولا نستقيلها أي
لا نطلب الإقالة منها
وقيل إن الذي تكلم مع الأنصار وشد العقدة العباس بن
عبادة بن نضلة قال يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه
على حرب الأحمر والأسود من الناس أي على من حاربه منهم وإلا فهو صلى الله عليه
وسلم لم يؤذن له في البداءة بالمحاربة إلا بعد أن هاجر إلى المدينة بمدة كما سيأتي
وكان قبل ذلك مأمورا بالدعاء إلى الله تعالى والصبر على الأذى والصفح عن الجاهل ثم
ذكر ما تقدم عن أسعد بن زرارة أي ثم توافقوا على ذلك وقالوا يا رسول الله ما لنا
بذلك إن نحن قضينا قال رضوان الله والجنة قالوا رضينا ابسط يدك فبسط يده صلى الله
عليه وسلم فبايعوه أي وأول من بايعه صلى الله عليه وسلم البراء بن معرور وقيل أسعد
بن زرارة وقيل أبو الهيثم بن التيهان ثم بايعه السبعون كلهم أي وبايعه المرأتان
المذكورتان من غير مصافحة لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصافح الناس إنما كان
يأخذ عليهن فإذا أحرزن قال اذهبن فقد بايعتكن كما سيأتي فكانت هذه البيعة على حرب
الأسود والأحمر أي العرب والعجم فهؤلاء الثلاثة لم يتقدم عليهم أحد غيرهم وحينئذ
تكون الأولية فيهم حقيقية وإضافية
أي ويقال إن أبا الهيثم قال أبايعك يا رسول الله على ما
بايع عليه الاثنا عشر نقيبا من بني إسرائيل موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام وأن
عبد الله بن رواحة قال أبايعك يا رسول الله على ما بايع عليه الاثنا عشر من
الحواريين عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام وقال أسعد بن زرارة أبايع الله عز
وجل يا رسول الله فأبايعك على أن أتم عهدي بوفائي واصدق قولي بفعلي في نصرك وقال
النعمان بن حارثة أبايع الله عز وجل يا رسول الله وأبايعك على الإقدام في أمر الله
عز وجل لا أرأف فيه القريب ولا البعيد أي لا أعامل فيه بالرأفة والرحمة وقال عبادة
بن الصامت ابايعك يا رسول الله على أن لا تأخذني في الله لومة لائم وقال سعد بن
الربيع أبايع الله وأبايعك يا رسول الله على أن
لا أعصى
لكما أمرا ولا أكذبكما حديثا فلما انتهت البيعة وهذه البيعة يقال لها العقبة
الثانية ولما وقعت صرخ الشيطان من رأس العقبة بأشد صوت وأبعده يا أهل الجباجب أي
بجيمين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وبعد كل جيم باء موحدة وهي منازل منى وفي
الهدى يا أهل الأخاشب هل لكم في مذمم والصباة معه يعني بمذمم النبي صلى الله عليه
وسلم لأن قريشا كانت تقول بدل محمد صلى الله عليه وسلم مذمم ويعني بالصباة أصحابه
الذين بايعوه لأنهم كانوا يقولون لمن أسلم صابيء لأن الصابىء من خرج من دين إلى
دين وقد جاء ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شتم قريش ولعنهم يسبون مذمما وأنا محمد
فإنهم قد أجمعوا أي عزموا على حربكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا إزب
العقبة أسمع أي عدو الله أما والله لا أفزعن وإزب بكسر الهمزة وإسكان الزاي ثم
بالباء الموحدة الخفيفة وقيل بفتح الهمزة وفتح الزاي وتشديد الموحدة أي شيطان سمي
بهذا الاسم المركب من المضاف والمضاف إليه عامرها والإزب في الأصل القصير ومن ثم
رأى عبد الله بن الزبير رجلا طوله شبران على برذعة رحله فقال له ما أنت قال إزب
قال وما إزب قال رجل من الجن فضربه على رأسه بعود سوطه فهرب
وعند ذلك قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفضوا
وفي لفظ انفضوا إلى رحالكم
أقول وفي رواية لما بايع الأنصار بالعقبة صاح الشيطان من
راس الجبل يا معشر قريش هذه بنو الاوس والخزرج تحالف على قتالكم ففزعوا أي الأنصار
عند ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يروعكم هذا الصوت فإنما هو عدو الله
إبليس وليس يسمعه أحد مما تخافون ولا مانع من اجتماع صراخ إزب العقبة وصراخ إبليس
الذي هو أبو الجن ويجوز أن يكون المراد بعدو الله إبليس إزب العقبة لأنه من
الأبالسة وإنه أتى باللفظين معا وقد حضر البيعة جبريل كما تقدم
فعن حارثة بن النعمان رضي الله تعالى عنه لما فرغوا من
المبايعة قلت يا نبي الله لقد رأيت رجلا عليه ثياب بيض انكرته قائما على يمينك قال
وقد رأيته قلت نعم قال ذاك جبريل والله أعلم
ثم إن الحديث نما سمع المشركون من قريش بذلك أي وفي كتاب
الشريعة أن الشيطان لما نادى بما ذكر شبه صوته بصوت منبه بن الحجاج فنال عمرو بن
العاص ما نال أبو جهل قال عمرو ذهبت أنا وهو إلى عتبة بن ربيعة فأخبره بصوت منبه
بن الحجاج فلم يرعه ما راعنا وقال هل أتاكم فأخبركم بهذا منبه قلنا لا فقال لعله
إبليس الكذاب الحديث وفيه طول وأمور مستغربة
ولا ينافي سماع عمرو وأبي جهل صوت إبليس قوله صلى الله
عليه وسلم ليس يسمعه أحد مما تخافون لأن سماعهم لم يحصل منه خوف لهم وعند فشو
الخبر جاء أجلتهم وأشرافهم حتى دخلوا شعب الأنصار فقالوا يا معشر الأوس والخزرج
وفي رواية يا معشر الخزرج أي بالتغليب بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا لتخرجوه من
بين أظهرنا وتبايعوه على حربنا والله ما من حي أبغض إلينا أن نشب الحرب بيننا
وبينه منكم فصار مشركو الأوس والخزرج يحلفون لهم ما كان من هذا شيء وما علمناه أي
حتى إن أبي ابن سلول جعل يقول هذا باطل وما كان هذا وما كان قومي ليفتاتوا علي
بمثل هذا لو كنت بيثرب ما صنع هذا قومي حتى يؤامروني وصدقوا لأنهم لم يعلموه كما
علم مما تقدم كما علم مما تقدم أي ونفر الناس من مني وبحثت قريش عن خبر الأنصار
فوجدوه حقا فلما تحققوا الخبر اقتفوا آثارهم فلم يدركوا إلا سعد بن عبادة والمنذر
بن عمرو فاما سعد فأمسك وعذب في الله وأما المنذر فأفلت ثم أنقذ الله سعدا من أيدي
المشركين قال نقل عنه أنه قال لما ظفروا بي ربطوا يدي في عنقي فلا زالوا يلطموني
على وجهي ويحذبوني بجمتي أي وكان ذا شعر كثير حتى أدخلوني مكة فأومأ إلي رجل أي
وهو أبو البختري بن هشام مات كافرا وقال ويحك ما بينك وبين أحد من قريش جوار ولا
عهد قال بلى قد كنت أجير لجبير بن مطعم تجارة وأمنعهم ممن أراد ظلمهم ببلادي
وللحارث بن حرب بن أمية أي وهو أخو أبي سفيان والأول أسلم بعد الحديبية والثاني لا
يعلم له إسلام فقال ويحك فاهتف باسم الرجلين ففعلت فخرج ذلك الرجل إليهما فوجدهما
في المسجد فقال لهما إن رجلا من الخزرج يضرب بالأبطح يهتف باسمكما فقالا من هو قال
يقول إنه سعد بن عبادة فجاءا فخلصاني من أيديهم أه
وعن سعد بينا أنا مع القوم أضرب إذ طلع علي رجل أبيض
وضيء شعشاع أي طويل زائد الحسن حلو من الرجال فقلت في نفسي إن يكن عند أحد من
القوم خير
فعند هذا
فلما دنا مني رفع يديه ولكمني لكمة شديدة فقلت في نفسي والله ما عندهم بعد هذا خير
أي وهذا الرجل سهيل بن عمرو رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك
فلما قدم الأنصار المدينة أظهروا الإسلام أي إظهارا كليا
وتجاهروا وإلا فقد تقدم أن الإسلام فشافيهم قبل قدومهم لهذه البيعة وكان عمرو بن
الجموح وهو من سادات بني سلمة بكسر اللام وأشرافهم ولم يكن أسلم وكان ممن أسلم
ولده معاذ بن عمرو وكان لعمرو في داره صنم أي من خشب يقال له المناة لأن الدماء
كانت تمني أي تصب عنده تقربا إليه وكان يعظمه فكان فتيان قومه ممن أسلم كمعاذ بن جبل
وولده عمرو بن معاذ ومعاذ بن عمرو يدلجون بالليل على ذلك الصنم فيطرحونه أي ولعله
بعد إخراجه من داره في بعض الحفر التي فيها خرء الناس منكسا فإذا أصبح عمرو قال
ويحكم من عدا على إلهنا هذه الليلة ثم يعود يلتمسه حتى إذا وجده غسله فإذا أمسى
عدوا عليه وفعلوا به مثل ذلك إلى أن غسله وطيبه وحماه بسيف علقه في عنقه ثم قال له
ما أعلم من يصنع بك فإن كان فيك خير فامتنع فهذا السيف معك فلما أمسى عدوا عليه
وأخذوا السيف من عنقه ثم أخذوا كلبا ميتا فقرنوه به بحبل ثم القوه في بئر من آباء
بني سلمة فيها خرء الناس فلما أصبح عمرو عدا إليه فلم يجده ثم تطلبه إلى أن وجده
في تلك البئر فلما رآه كذلك رجع إلى عقله وكلمه من أسلم من قومه فأسلم وحسن إسلأمه
وأنشد أبياتا منها ** والله لو كنت إلها لم تكن ** ** أنت وكلب وسط بئر في قرن **
وأمر صلى الله عليه وسلم من كان معه من المسلمين بالهجرة
إلى المدينة أي لأن قريشا لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم آوى أي استند إلى قوم
أهل حرب وتحمل ضيقوا على أصحابه ونالوا منهم ما لم يكونوا ينالونه من الشتم والأذى
وجعل البلاء يشتد عليهم وصاروا ما بين مفتون في دينه وبين معذب في أيديهم وبين
هارب في البلاد شكوا إليه صلى الله عليه وسلم واستأذنوه في الهجرة أي فمكث أياما
لا يأذن لهم ثم قال لهم أريت دار هجرتكم أريت سبخة ذات نخل بين لابتين وهما
الحرتان ولو كانت السراة أرض نخل وسباخ لقلت هى هى والسراة بفتح السين أعظم جبال
بلاد العرب ثم خرج إليهم مسرورا فقال قد أخبرت بدار هجرتكم وهي يثرب فأذن لهم وقال
من اراد أن يخرج فليخرج إليها فخرجوا إليها أرسالا أي متتابعين يخفون ذلك أي وفي
رواية
أريت في المنام أنى هاجرت من مكة إلى أرض بها نخل فذهب وهلى أي وهمي إلى أنها
اليمامة أو هجر فإذا هي المدينة يثرب
وفي الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله أوحى إلي أي هؤلاء الثلاثة نزلت هي دار
هجرتك المدينة أو البحرين أو قنسرين قال الترمذي هذا حديث غريب وزاد الحاكم فاختار
المدينة
أقول فيه أن هذا السياق المتقدم يدل على أن استئذانهم في
الهجرة عبارة عن خروجهم من مكة لا لخصوص المدينة وأن عدم إذنه صلى الله عليه وسلم
لهم في الهجرة لعدم تعيين المحل الذي يهاجرون إليه له صلى الله عليه وسلم وكل ذلك
لا يناسب ما تقدم في حديث المعراج من قول جبريل له صليت بطيبه وإليها المهاجرة
وقد يجاب بانه يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم أنسى قول
جبريل المذكور حينئذ ثم تذكره بعد ذلك في قوله قد أخبرت بدار هجرتكم إلى آخره
وفيه أن هذا لا يحسن بعد مبايعته صلى الله عليه وسلم
للأوس والخزرج على مناصرته ومحاربة عدوه مع علمه بأن وطنه المدينة وكونهم يباعيونه
على مناصرته مع كونه ساكنا في البحرين أو قنسرين في غاية البعد
على أنه سيأتي في غزوة بدر أنه صلى الله عليه وسلم خشى
أن الأنصار لا ترى مناصرته إلا في المدينة أي فإن في بعض الروايات وعلى أن تنصروني
إذا قدمت عليكم بيثرب والله أعلم
وقبل الهجرة آخى صلى الله عليه وسلم بين المسلمين أي
المهاجرين على الحق والمواساة فآخى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وآخى بين حمزة
وزيد بن حارثة وبين عثمان وعبد الرحمن بن عوف وبين الزبير وابن مسعود وبين عبادة
بن الحارث وبلال وبين مصعب بن عمير وسعد بن أبي وفاص وبين أبي عبيدة بن الجراح
وسالم مولى أبي حذيفة وبين سعيد بن زيد وطلحة بن عبيد الله وبين علي ونفسه صلى
الله عليه وسلم وقال أما ترضى أن أكون أخاك قال بلى يا رسول الله رضيت الله تعالى
عنه قال فأنت أخي في الدنيا والآخرة قال وأنكر العباس بن تيمية المؤاخاة بين
المهاجرين سيما مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه قال لأن
المؤاخاة بين
المهاجرين
والأنصار إنما جعلت ليرتفق بعضهم ببعض ولتألف قلوب بعضهم ببعض فلا معنى لمؤاخاة
مهاجري لمهاجري
قال الحافظ ابن حجر هذا رد للنص بالقياس وبعض المهاجرين
كان أقوى من بعض بالمال والعشيرة فآخى بين الأعلى والأدنى ليرتفق وليستعين الأدنى
والأعلى وليستعين الأعلى بالادنى ولهذا تظهر مؤاخاته صلى الله عليه وسلم الله عليه
وسلم لعلي رضي الله تعالى عنه كان هو الذي يقوم بأمره قبل البعثة
وفي الصحيح في عمرة القضاء أن زيد بن حارثة قال إن بنت
حمزة بنت أخي أي بسبب المؤاخاة اه وكان أول من هاجر منهم إليها أي لامعهم أبو سلمة
عبد الله بن عبد الأسد المخزومي هو أخوه من الرضاع وابن عمته وهو أول من يدعى
للحساب اليسير كما تقدم فإنه لما قدم من الحبشة لمكة آذاه اهلها وأراد الرجوع إلى
الحبشة فلما بلغه إسلام من أسلم من الانصار أي الاثني عشر الذين بايعوا البيعة
الأولى خرج إليهم وقدم المدينة بكرة النهار ولما عزم على الرحيل رحل بعيره وحمل
عليه أم سلمة وابنها سلمة في حجرها وخرج يقود البعير رآه رجال من قوم أم سلمة
فقاموا إليه وقالوا يا أبا سلمة قد غلبتنا على نفسك فصاحبتنا هذه علام نتركك تسير
بها في البلاد ثم نزعوا خطام البعير منه فجاء رجال من قوم أبي سلمة وقالوا إن
ابننا معها إذا نزعتموها من صاحبنا ننزع ولدنا منها ثم تجاذبوه حتى خلعوا يده
وأخذه قوم أبيه ففرق بينها وبين زوجها وولدها فكانت تخرج كل غداة بالأبطح فتبكي
حتى المساء مدة سنة فمر بها رجل من بني عمها فرأى ما بها فرحمها وقال لقومها أما
ترحمون هذه المسكينة فرقتم بينها وبين ولدها وزوجها فقالوا لها الحقي بزوجك فلما
بلغ ذلك قوم أبي سلمة ردوا عليها ولدها فارتحلت بعيرا وجعلت ولدها في حجرها وخرجت
تريد المدينة وما معها أحد من خلق الله تعالى حتى إذا كانت بالتنعيم لقيها عثمان
بن طلحة أي الحجبي صاحب مفتاح الكعبة وكان عثمان بن طلحة يومئذ مشركا ثم أسلم رضي
الله تعالى عنه في هدنة الحديبية وهاجر مع خالد بن الوليد وعمرو بن العاص كما
سيأتي فتبعها إلى المدينة حتى إذا وافى على قباء قال لها هذا زوجك هنا ثم انصرف
وهي أول ظغينة دخلت من المهاجرين المدينة رضي الله تعالى عنها وكانت أم سلمة تقول
ما رأيت صاحبا أكرم من عثمان بن طلحة قال وقال ابن إسحاق وابن سعد ثم كان أول من
قدمها بعد أبي سلمة عامر بن
ربيعة
ومعه امرأته ليلى بنت أبي حثمة بالحاء المهملة المفوحة وسكون الثاء المثلثة وهي
أول ظعينة قدمت المدينة اه
أقول فأم سلمة أول ظعينة قدمت المدينة لا مع زوجها وليلى
أول ظعينة قدمت المدينة مع زوجها فلا منافاة
وفي كلام ابن الجوزي أول من هاجر إلى المدينة من النساء
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط والله أعلم
قال بينت أي أم سلمة ما تقدم عنها في حق عثمان بن طلحة
بقولها فإنه لما رآني قال إلى أين قلت إلى زوجي قال أو ما معك أحد قلت لا ما معي
إلا الله وابني هذا فقال والله لا أتركك ثم أخذ بخطام البعير وسار معي فكان إذا
وصلنا المنزل أناخ بي ثم استأخر فإذا نزلت جاء وأخذ بعيري فحط عنه ثم قيده في
الشجرة ثم أتى إلى شجرة فاضطجع تحتها فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فرحله وقدمه
ثم استأخر عني وقال اركبي فإذا ركبت أخذ بخطأمه فقادني اه
أي وقد قال فقهاؤنا من الصغائر مسافرة المرأة بغير زوج
ولا محرم ولا امرأة ثقة في غير الهجرة وفرض الحج والعمرة أما في ذلك فيجوز حيث
أمنت الطريق
وقلنا لا معهم لا ينافى أن أول من قدم المدينة من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير لأن قدومه كان معهم على ما تقدم أو يقال
أبو سلمة أول من قدم المدينة بوازع طبعه وأما مصعب فكان بإرسال منه صلى الله عليه
وسلم ثم رأيت في السيرة الهشامية أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى
الله عليهن وسلم من بني مخزوم أبو سلمة وعليه فلا إشكال ثم جاء عمار وبلال وسعد
وفي رواية ثم قدم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
إرسالا بعد العقبة الثانية فنزلوا على الأنصار في دورهم فأووهم وواسوهم ثم قدم
المدينة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعياش بن أبي ربيعة في عشرين راكبا وكان
هشام بن العاص واعد عمر بن الخطاب أن يهاجر معه وقال تجدني أو أجدك عند محل كذا
فتفطن بهشام قومه فحبسوه عن الهجرة
وعن علي رضي الله تعالى عنه الله قال ما علمت أحدا من
المهاجرين هاجر إلا مختفيا
إلا عمر
بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فإنه لما هم بالهجرة تقلد بسيفه وتنكب قوسه وانتضى
في يديه أسهما واختصر عنزته أي وهي الحربة الصغيرة علقها عند خاصرته ومضى قبل
الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا ثم أتى المقام فصلى ركعتين ثم وقف
على الحلق واحدة واحدة فقال شاهت الوجوه لا يرغم الله إلا هذه المعاطس أي الأنوف
من أراد أن تثكله أمه أي تفقده او يوتم ولده أو ترمل زوجته فليلقنى وراء هذا
الوادي قال علي رضي الله تعالى عنه فما تبعه أحد ثم مضى لوجهه ثم إن أبا جهل وأخاه
شقيقه الحارث بن هشام رضي الله تعالى عنه فإنه أسلم بعد ذلك يوم الفتح قدما
المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة لم يهاجر فكلما عباس بن أبي ربيعة وكان
أخاهما لأمهما وابن عمهما كان أصغر ولد أمه وأخبراه أن أمه قد نذرت أن لا تغسل
رأسها وفي لفظ ولا يمس رأسها مشط ولا تستظل من شمس حتى تراه أي وفي لفظ أن لا تاكل
ولا تشرب ولا تدخل مسكنا حتى يرجع إليها وقالا له وأنت أحب ولد أمك إليها وأنت في
دين منه بر الوالدين فارجع إلى مكة فاعبد ربك كما تعبده بالمدينة فرقت نفسه
وصدقهما أي واخذ عليهما المواثيق أن لا يغشياه بسوء وقال له عمر إن يريدا إلا
فتنتك عن دينك فاحذرهما والله لو آذى أمك القمل امتشطت ولو اشتد عليها حر مكة
لاستظلت فقال عياش أبر امي ولي مال هناك آخذه فقال عمر خذ نصف مالي ولا تذهب معهما
فأبى إلا ذلك فقال له عمر فحيث صممت فخذ ناقتي هذه فإنها نجيبة ذلول فالزم ظهرها
فإن رابك منهما ريب فانج عليها فأبى ذلك وخرج راجعا معهما إلى مكة فلما خرجا من
المدينة كتفاه بتخفيف التاء أي شدا يديه إلى خلف بالكتاف في الطريق أي وفي السيرة
الهشامية أنه أخذ الناقة وخرج عليها معهما حتى إذا كانوا ببعض الطريق قال له أبو
جهل يا أخي والله لقد استغلظت بعيري هذا أفلا تعقبني على ناقتك هذه قال بلى قال
فاناخ وأناخ ليتحول عليها فلما استووا بالأرض عدوا عليه وأوثقاء رباطا ودخلا به
مكة نهارا موثقا وقالا يا أهل مكة هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفهائنا وفي
لفظ بسفيهنا فجلس بمكة مع هشام بن العاص فإنه كما تقدم منه وحبس عن الهجرة وجعل كل
في قيد
وفي لفظ أنهما لما ذكرا له أن أمه حلفت أن لا يظلها سقف
بيت حتى تراه وأعطياه موثقا أن لا يمنعاه وان يخليا سبيله بعد أن تراه أمه فانطلق
معهما حتى إذا خرجا من
المدينة
عمدا إليه فشداه وثاقا وجلداه نحوا من مائة جلدة وكان أعانهما عليه رجل من بني
كنانة أي يقال له الحارث بن يزيد القرشي وفي كلام ابن عبد البر أنه كان ممن يعذبه
بمكة مع أبي جهل
وفي الينبوع جلده كل واحد منهما مائة جلدة وأنه لما جيء
به إلى مكة ألقي في الشمس وحلفت أمه أنه لا يحل عنه حتى يرجع عن دينه ففتن قيل
وكان ذلك سبب نزول قوله تعالى { ووصينا الإنسان بوالديه } الآية
وفيه أنه نقدم أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص إلا أن يقال
يجوز أن يكون مما تكرر نزوله فتكون نزلت فيهما وحلف عياش ليقتلن ذلك الرجل إن قدر
عليه قيل ولم يزل عياش محبوسا حتى فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فخرج عياش
فلقي ذلك الرجل الكناني وكان قد أسلم وعياش لا يعلم بإسلأمه فقتله وأعلم النبي صلى
الله عليه وسلم بذلك فأنزل الله تعالى {
وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ } فقرأها النبي صلى
الله عليه وسلم وقال لعياش قم فحرر أي أعتق رقبة وما ذكر من أن عياشا استمر محبوسا
إلى الفتح يخالف قول بعضهم مكث صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة كما سيأتي أربعين
صباحا يقنت في صلاة الصبح بعد الركوع أي من الركعة الاخيرة وكان يقول في قنوته
اللهم أنج الوليد بن الوليد وعياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص والمستضعفين من
المؤمنين بمكة الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فإن هذا يدل على أن هشام
ابن العاص وعياش بن أبي ربيعة لم يفتتنا ولم يرجعا عن الإسلام وفي السيرة الهشامية
ما يفيد أنهما فتنا الأول صريحا والثاني ظاهرا
وفي السيرة الهشامية التصريح بافتتانهما وفيه نظر لما
ذكر ولأنهما لو كان فتنا لأطلقا من الحبس والقيد وإدامة ذلك إلا أن يقال فعل بهما
ذلك بعدم الوثوق برجوعهما عن الإسلام ومما يدل على أن رجوعهما عن الإسلام إن صح
إنما كان ظاهرا فقط دعاؤه صلى الله عليه وسلم لهما
أي وسيأتي أن الوليد كان سببا لتخليص عياش بن أبي ربيعة
وهشام بن أبي العاص بعد أن تخلص من الحبس وهاجر إلى المدينة فإن الوليد كان أسر
ببدر ثم افتداه أخوه خالد وهشام ابنا الوليد بن المغيرة وذهبا به إلى مكة فأسلم
وأراد الهجرة فحبساه بمكة وقيل له هلا أسلمت قبل أن تفدي قال كرهت أن يظن في أني جزعت
من الأسر ثم نجا وتوصل
إلى
المدينة ورجع إلى مكة مستخفيا وخلص عياشا وهشاما وجاء بهما إلى المدينة فسر رسول
الله صلى الله عليه وسلم بذلك وشكر صنيعه وبه يعلم ضعف ما تقدم من أن عياشا لم يزل
محبوسا إلى يوم الفتح
وممن هاجر قبل النبي صلى الله عليه وسلم سالم مولى أبي
حذيفة بن عبتة بن ربيعة أي لأنه لما أعتقته زوجة أبي حذيفة وكانت أنصارية تبناه
أبو حذيقة وكان يؤم المهاجرين بالمدينة فيهم عمر بن الخطاب لأنه كان أكثرهم أخذا
للقرآن فكان عمر بن الخطاب يثني عليه كثيرا حتى قال لما أوصى عند قتله لو كان سالم
مولى أبي خذيفة حيا ما جعلتها شورى قال ابن عبد البر معناه أنه كان يأخذ برأيه
فيمن يوليه الخلافة أي فإنه قتل في يوم اليمامة وأرسل عمر بميراثه لمعتقته فأبت ان
تقبله فجعله في بيت المال
ولما أراد صهيب الهجرة إلى المدينة أي بعد أن هاجر إليها
صلى الله عليه وسلم خلافا لما يوهمه كلام الأصل والشامي قال له كفار قريش أتيتنا
صعلوكا فقيرا فكثر مالك عندنا ثم تريد أن تخرج بمالك لا والله لا يكون ذلك فقال
لهم صهيب أرايتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي قالوا نعم قال فإني جعلته لكم فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ربح صهيب
أقول وذكر أن صهيبا تواعد معه صلى الله عليه وسلم أن
يكون معه في الهجرة فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل إليه أبا بكر
مرتين أو ثلاثا فوجده يصلي فكره أن يقطع عليه صلاته كما سيأتي وحينئذ يكون قول
صهيب المذكور بعد هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كما تقدم وهو ما في
الخصائص الكبرى عن صهيب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وخرج
معه أبو بكر وقد كنت هممت بالخروج معه فصدني قتيان من قريش أي بعد أن أردت الخروج
بعده وقالوا له جئتنا فقيرا حقيرا صعلوكا فكثر مالك عندنا وتريد أن تخرج بمالك
ونفسك لا يكون ذلك أبدا قال فقلت لهم أنا أعطيكم أواقي من الذهب وفي لفظ ثلث مالي
وفي لفظ مالي وتخلون سبيلي ففعلوا فقلت احفروا تحت أسكفة الباب فإن تحتها الأواقي
وخرحت حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء قبل أن يتحول منها فلما
رآني قال يا أبا يحيى ربح البيع ثلاثا فقلت يا رسول الله إنه ما سبقني إليك أحد
وما أخبرك إلا جبريل عليه الصلاة والسلام
أي وأخراج أبو نعيم في الحلية عن سعيد بن المسيب قال
أقبل صهيب مهاجرا نحو النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخذ سيفه وكنانته وقوسه فاتبعه
نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتثل ما في كنانته ثم قال يا معشر قريش قد علمتم أني
من أرحاكم رجلا وأيم الله لا تصلون إلى حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ثم أضرب بسيفي
ما بقي في يدي منه شيء ثم افعلوا ما شئتم وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم
سبيلي فقالوا نعم فقال لهم ما تقدم وفي رواية أنهم قالوا له دلنا على مالك ونخلي
عنك وعاهدوه على ذلك ففعل
وذكر بعض المفسرين أن المشركين أخذوه وعذبوه فقال لهم
إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني
وديني وتتركوا لي راحلة ونفقة ففعلوا ونزل قوله تعالى ومن الناس من يشري نفسه
ابتغاء مرضات الله قال فلما قدمت وجدت النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالسين
فلما رآني أبو بكر قام إلي فبشرني بالآية التي نزلت في أي وفي رواية فتلقاني أبو
بكر وعمر ورجال فقال لي أبو بكر ربح بيعك أبا يحيى فقلت وبيعك هلا تخبرني ماذاك
فقال أنزل الله فيك كذا وقرأ علي الآية
وفي تفسير سهل بن عبد الله التستري أن صهيبا كان من
المشتاقين لم يكن له قرار كان لا ينام لا باللييل ولا بالنهار
وقد حكى أن امرأة اشترته فرأته كذلك فقالت لا ارضى حتى
تنام بالليل لأنك تضعف فلا يتهيأ لك الاشتغال بأعمالي فبكى وقال إن صهيبا إذا ذكر
النار طار نومه وإذا ذكر الجنة جاء شوقه وإذا ذكر الله طال شوقه أي وليتأمل هذا مع
ما في تاريخ ابن كثير أن الروم أغارت على بلاد صهيب وكانت على دجلة وقيل على
الفرات فأسرته وهو صغير ثم اشتراه منهم بنو كلب فحملوه إلى مكة فابتاعه عبد الله
بن جدعان فأعتقه واقام بمكة حينا فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وكان
إسلامه وإسلام عمار بن ياسر في يوم واحد وقد يقال يجوز أن تكون تلك المرأة التي
اشترته كانت من بني كلب
وعن صهيب رضي الله تعالى عنه صحبت النبي صلى الله عليه
وسلم قبل أن يوحى إليه وأنه قال له عمر رضي الله تعالى عنه يا صهيب اكتنيت وليس لك
ولد فقال كناني
رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأبي يحيى فهو من جملة من كناه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا ولد له وكان في لسانه عجمة شديدة وكان فيه دعابة رآه رسول الله صلى الله عليه
وسلم يأكل قثاء ورطبا وهو أرمد إحدى عينيه فقال له تأكل رطبا وأنت أرمد فقال إنما
آكل من ناحية عيني الصحيحة فضحك صلى الله عليه وسلم
وفي المعجم الكبير للطبراني عن صهيب قال قدمت على رسول
الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه تمر وخبز فقال ادن فكل فأخذت آكل من التمر فقال
لي أتأكل التمر وعينك رمدة فقلت يا رسول الله أمصه من الناحية الأخرى فتبسم رسول
الله صلى الله عليه وسلم أي ولا مانع من التعدد ولما أذن صلى الله عليه وسلم
لأصحابه في الهجرة وهاجروا مكث صلى الله عليه وسلم بعد أصحابه ينتظر أن يؤذن له في
الهجرة ولم يتخلف معه إلا على بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وابو بكر أي وصهيب
كما علمت ومن كان محبوسا أو مريضا أو عاجزا عن الخروج وكان أبو بكر رضي الله تعالى
عنه كثيرا ما يستاذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة فيقول له لا تعجل لعل
الله أن يجعل لك صاحبا فيطمع أبو بكر أن يكون هو وفي رواية تجهز أبو بكر فقال له رسول
الله صلى الله عليه وسلم على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي فقال له أبو بكر هل ترجو
ذلك بأبي أنت وأمي قال نعم فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليصحبه وعلف راحلتين عنده الخبط أي وفي لفظ ورق السمر بفتح المهملة وضم الميم قال
الزهري وهو الخبط قال ابن فارس والخبط ما يخبط بالعصا فيسقط من روق الشجر وكان مدة
علفها أربعة أشهر وكان اشتراهما بثمانمائة درهم
أقول ظاهر هذا السياق أن علفه للراحلتين كان بعد قول
المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ومعلوم أن ذلك بعد مبايعة الأنصار له صلى
الله عليه وسلم والمدة بين مبايعة الأنصار له صلى الله عليه وسلم والهجرة كانت
ثلاثة أشهر أو قريبا منها لأنها كانت في ذي الحجة ومهاجرته صلى الله عليه وسلم
كانت في ربيع الأول
وفي السيرة الشامية ما يصرح بأن علفه للراحلتين كان بعد
قول المصطفى صلى الله عليه وسلم له ما ذكر ففيها أنه صلى الله عليه وسلم لما قال
لأبي بكر وقد استأذنه في الهجرة لأتعجل لعل الله يجعل لك صاحبا طمع بأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما يعني نفسه فابتاع راحلتين فحبسها في داره يعلفهما إعدادا
لذلك وسيأتي عن الحافظ ابن حجر
أن بين
ابتداء هجرة الصحابة وبين هجرته صلى الله عليه وسلم شهرين ونصف شهر على التحرير
والله أعلم
فلما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صار له
شيعة أي أنصار وأصحاب من غيرهم ورأوا خروج أصحابه إليهم وأنهم أصابوا منعة لأن
الانصار قوم أهل حلقة أي سلاح وبأس حذروا أي خافوا أن يخرج رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأن يجمع على حربهم فاجتمعوا في دار الندوة يتاشورون فيما يصنعون في أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت محل مشورتهم لا يقطعون أمرا الا فيها أي وهي
أول دار بنيت بمكة كانت منزل قصي بن كلاب كما تقدم ثم صارت لولده عبد الدار ثم
ابتاعها معاوية لما حج وهو خليفة من أولاد عبد الدار
وتقدم أن معاوية إنما اشتراها من حكيم بن حزام ويدل لذلك
ما جاء عن مصعب ابن عبد الله قال جاء الإسلام ودار الندوة بيد حكيم بن حزام فباعها
من معاوية بن أبي سفيان بمائة ألف درهم فقال له عبد الله بن الزبير بعت مكرمة قريش
فقال له حكيم ذهبت المكارم إلا التقوى يا ابن أخي إلى آخر ما تقدم وكانت دار
الندوة جهة الحجر عند المقام الحنفي الآن وكان لها باب للمسجد وكان لا يدخلها عند
المشورة من ولد قصي إلا ابن أربعين سنة
وفي كلام بعضهم ساد أبو جهل وما طر شاربه ودخل دار
الندوة وما استدارت لحيته وقد أدخلت في المسجد قيل لها دار الندوة لاجتماع الندى
وهو الجماعة فيها وكان ذلك اليوم يسمى يوم الرحمة لأنه اجتمع فيه أشراف بني عبد
شمس وبني نوفل وبني عبد الدار وبني أسد وبني مخزوم وبني سهم وبني جمح وغيرهم مما
لا يعد من قريش ولم يتخلف من أهل الرأي والحجا أحد ثم إن إبليس جاء إليهم في صورة
شيخ نجدي عليه طيلسان من خز وقيل من صوف أي وإنما فعل ذلك ليقبل منه ما يشير به
لأن أهل الطيالسة في العادة من أهل الوقار والمعرفة ووقف ذلك الشيخ على الباب
فقالوا له من الشيخ قال شيخ من أهل نجد سمع بالذي اجتمعتم له فحضر معكم ليسمع ما
تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا أجل أي نعم فادخل فدخل معهم أي
وإنما قال لهم من أهل نجد لأن قريشا قالوا لا يدخلن معكم في المشاورة أحد من أهل
تهامة لأن هواهم كان مع محمد صلى الله عليه وسلم
قيل لما
سمعهم يقولون لا يدخل معكم اليوم إلا من هو معكم قال لهم لما سألوه وقالوا له من
أنت قال شيخ من نجد وأنا ابن أختكم فقالوا ابن أخت القوم منهم
قيل إن إبليس لما دخل عليهم أنكروه وقالوا له من أنت وما
أدخللك علينا في خلوتنا هذه بغير إذننا فقال إني رجل من أهل نجد رأيتكم حسنة
وجوهكم طيبة ريحكم فأحببت أن أجلس إليكم وأسمع كلامكم فإن كرهتم ذلك خرجت عنكم
فقال بعضهم لبعض هذا نجدي ولا عين عليكم منه وفي لفظ هذا من أهل نجد لا من مكة فلا
يضركم حضوره معكم وعند المشورة قال بعضهم لبعض إن هذا الرجل يعني النبي صلى الله عليه
وسلم قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله لا نأمنه الوثوب علينا بمن قد ابتعه
من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا فتشاوروا فقال قائل أي وهو أبو البختري بن هشام احبسوه
في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما اصاب أشباهه من الشعراء حتى يصيبه ما
أصابهم من هذا الموت فقال الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم براي والله لو حبستموه
كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلا تشكوا أن
يثبوا عليكم فينتزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم حتى يبلغوكم على أمركم ما هذا براي
فأنظروا رايا غيره فتشاوروا فقال قائل منهم أي وهو الأسود بن ربيعة بن عمير نخرجه
من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين يذهب فقال الشيخ
النجدي والله ما هذا براي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال
بما يأتي الله به والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل بفتح أوله وضم الحاء المهملة
أي ينزل ويجوز أن يكون بكسرها أي يسقط على حي من العرب فيغلب بذلك عليهم من قوله
وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير به إليكم حتى يطأكم به فيأخذوا أمركم من أيديكم ثم
يفعل بكم ما أراد دبروا فيه رايا غير هذا فقال أبو جهل بن هشام والله إني لي فيه
لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد قالوا وما هو يا أبا الحكم قال الرأي أن تأخذوا من
كل قبيلة شابا جلدا أي قويا حسيبا في قومه نسيبا وسطا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا
صارما ثم يغدون إليه فيضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا
ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا قلم تقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فيرضوا
منا بالعقل أي الدية فعقلنا لهم فقال النجدي القول ما قال هذا الرجل هذا هو الرأي
ولا ارى غيره فتفرق القوم على ذلك فأتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لا
تبت هذه الليلة في فراشك الذي كنت تبيت عليه أي وأخبره بمكرهم وأنزل الله عز وجل
عليه { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } الآية فلما كان عتمة من الليل أي الثلث
الأول من الليل اجتمعوا على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرصدونه حتى ينام
فيثبتوا عليه أي وكانوا مائة
أقول في الدر المنثور أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن
أبي خاتم عن عبيد بن عمير لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو
يقتلوه أو يخرجوه قال له أبو طالب هل تدري ما ائتمروا بك قال يريدون أن يحبسوني أو
يقتلوني أو يخرجوني قال من حدثك بهذا قال ربي قال نعم الرب وربك فاستوص به خيرا
قال أنا أستوصى به بل هو يستوصي بي هذا كلامه ولم يتعقبه بأن هذا كان بعد موت أبي
طالب قال وكان ائتمارهم يوم السبت
فقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن يوم السبت فقال
مكر وخديعة قالوا ولم يا رسول الله قال إن قريشا أرادوا أن يمكروا فيه بي أي
أرادوا فيه المكر فأنزل الله تعالى { وإذ يمكر بك الذين كفروا }
وفي سيرة الحافظ الدمياطي فاجتمع أولئك القوم من قريش
يتطلعون من صير الباب أي شقه ويرصدونه يريدون بياته أي يوقعون به الأمر ليلا
ويأتمرون أيهم يحمل على المضطجع وفيه أن ائتمارهم في ذلك لا يناسب ما اجتمع رأيهم
عليه من أنهم يجتمعون على قتله ليتفرق دمه في القبائل
ثم رأيت بعضهم قال وأحدقوا ببابه صلى الله عليه وسلم
وعليهم السلاح يرصدون طلوع الفجر ليقتلوه ظاهرا فيذهب دمه لمشاهدة بني هاشم قاتله
من جميع القبائل فلا يتم لهم أخذ ثأره وهو المناسب لما ذكر والله اعلم
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم أي علم ما
يكون منهم قال لعلي ابن أبي طالب رضي الله تعالى عنه نم على فراشي واتشح بردائي
هذا الحضرمي وقد كان يشهد فيه العيدين وقد كان طوله أربعة أذرع وعرضه ذراعان وشبر
وهل كان أخضر أو أحمر يدل للثاني قول جابر كان يلبس رداء أحمر في العيدين والجمعة
ثم رأيت في بعض الروايات أنه كان أخضر فلينظر الجمع
وفي سيرة الدمياطي وارتد بردائي هذا الأحمر والحضرمي
منسوب إلى حضرموت
التي هي
البلدة أو القبيلة باليمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسجى بذلك البرد عند
نومه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم
أقول وأما ما روى أن الله تعالى أوحى إلى جبريل ومكائيل
إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة
فاختار كلاهما الحياة فأوحى الله إليهما ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه
وبين محمد صلى الله عليه وسلم فبات على فراشه ليفديه بنفسه ويؤثره بالحياة اهبطا
إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فنزلا فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه فقال
جبريل بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب باهى الله بك الملائكة وأنزل الله عز وجل ومن
الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله قال فيه الإمام ابن تيمية إنه كذب باتفاق
أهل العلم بالحديث والسير
وأيضا قد حصلت له الطمأنينة بقول الصادق له لن يخلص إليك
شيء تكرهه منهم فلم يكن فيه فداء بالنفس ولا إيثار بالحياة والآية المذكورة في
سورة البقرة وهي مدنية باتفاق وقد قيل إنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لما
هاجر أي كما تقدم لكنه في الإمتاع لم يذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي ما ذكر
وعليه فيكون فداؤه للنبي صلى الله عليه وسلم بنفسه واضحا ولا مانع من تكرر نزول
الآية في حق علي وفي حق المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي حق صهيب بمعنى اشترى أي
اشترى نفسه بماله ونزول هذه الآية بمكة لا يخرج سورة البقرة عن كونها مدنية لأن
الحكم يكون للغالب
وفي السبعيات أنه صلى الله عليه وسلم نظر إلى أصحابه
وقال أيكم يبيت على فراشي وأنا أضمن له الجنة فقال علي أنا ابيت وأجعل نفسي فداءك
هذا كلامه ولعله لا يصح
ثم رايت في الإمتاع ما يدل لعدم الصحة وهو قال ابن إسحاق
ولم يعلم فيما بلغني بخروجه صلى الله عليه وسلم حين خرج إلا علي وأبو بكر الصديق
فليتأمل والله تعالى أعلم
وكان في القوم الحكم بن أبي أبي العاص وعقبة بن أبي معيط
والنضر بن الحارث وأمية
ابن وزمعة
بن الأسود وأبو لهب وأبو جهل فقال وهم على باب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن
محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم بعد موتكم
فجعلت لكم جنان كجنان الأردن أي بضم الهمزة وتشديد النون وهو محل بأرض الشام يقرب
بيت المقدس وإن لم تفعلوا كان فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار
تحترقون فيها وسمعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج عليهم وهو يقول نعم أنا أقو
ذلك وأخذ حفنة من تراب وتلا قوله تعالى { يس والقرآن الحكيم } إلى قوله {
فأغشيناهم فهم لا يبصرون } فأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلم يروه
وفي مسند الحارث بن أبي أسامة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه ذكر في فضل يس أنها إن قرأها خائف أمن أو جائع شبع أو عار كسى أو عاطش
سقى أو سقيم شفى وعند خروجه صلى الله عليه وسلم جعل ينثر التراب على رءوسهم فلم
يبق رجل إلا وضع على رأسه ترابا ثم انصرف إلى حيث أراد فأتاهم آت فقال ما تنتظرون
ههنا قالوا محمدا فقال قد خيبكم الله والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا
إلا وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته أفما ترون ما بكم قال فوضع كل رجل منهم يده
على رأسه فإذا عليه تراب قال في النور وهذا يعارضه حديث مارية خادم النبي صلى الله
عليه وسلم تكنى أم الرباب أنها طأطأت لرسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صعد حائطا
ليلة فر من المشركين وينبغي أن يوفق بينهما إن صحا وإلا فالعبرة بالصحيح منهما هذا
كلامه
أقول التوفيق حاصل وهو أنه يجوز أنه يكون النبي صلى الله
عليه وسلم لم يحب أن يخرج عليهم من الباب فتسور الحائط التي نزل منها عليهم والله
أعلم أي وكان ذهابه صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم في تلك الليلة إلي بيت أبي
بكر رضي الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل أي إلى الليلة المقبلة ثم خرج هو وأبو
بكر رضي الله عنه ثم مضيا إلى جبل ثور كذا في سيرة الدمياطي ثم أي بعد إخبارهم
بخروجه صلى الله عليه وسلم ووضعه التراب على رءوسهم جعلوا يطلعون فيرون عليا نائما
على الفراش مسجى ببرد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون والله إن هذا محمد
نائما عليه برده فلم يزالوا كذلك أي يريدون أن يوقعوا به بالفعل والله مانع لهم من
ذلك حتى أصبحوا واتضح النهار
فقام علي
رضي الله تعالى عنه عن الفراش فقالوا والله لقد صدقنا الذي كان حدثنا أي ولما قام
علي رضي الله تعالى عنه سألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا علم لي به
وفي رواية فلما أصبحوا صاروا إليه يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأوا
عليا رضي الله تعالى عنه رد الله تعالى مكرهم فقالوا أين صاحبك قال لا أدري فأنزل
الله تعالى قوله { أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون } وأنزل الله عز وإذ يمكر
بك الذي كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
كذا في الأصل تبعا لابن إسحاق ولا يخفى أن الآية الثانية موفية بما ذكروه من
المشاورة
قال والمانع من اقتحام الجدار عليه في الدار مع قصر
الجدار وقد جاءوا لقتله أنهم هموا بذلك فصاحت امرأة من الدار فقال بعضهم لبعض إنها
لسبة في العرب أن يتحدث عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم وهتكنا ستر حرمتنا
انتهى
أقول لا يخفى أن هذا لا يناسب ما قدمناه عن بعضهم أنهم
إنما أرادوا قتله صلى الله عليه وسلم عند طلوع الفجر ليظهر لبني هاشم قاتلوه فلا
يثبوا عليه لئلا يتسور الجدار إلا أن يقال إرادة ذلك منهم كانت عند طلوع الفجر
ووجود الأسباب المانعة لهم من الوثوب عليه لا ينافى أن المانع لهم عن الوثوب عليه
الذي جاءوا بصدده وهم مائة رجل من صناديد قريش إنما هي حماية الله تعالى الموجبة
لخذلانهم وإظهار عجزهم وفي ذلك تصديق لرسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال لعلي
لا يخلص إليك شيء تكرهه منهم على ما تقدم والمراد بقول بعضهم كان المشركون يرمونه
بأبصارهم لا بنحو حجارة أو نبل كما لا يخفى
فإن قيل هلا نام صلى الله عليه وسلم على فراشه قلنا لو
فعل ذلك لفات إذلالهم بوضع التراب على رءوسهم وإظهار حماية الله تعالى له بخروجه
عليهم ولم يبصره أحد منهم وفي رواية أنهم تسوروا عليه صلى الله عليه وسلم ودخلوا
شاهرين سيوفهم فثار في وجوههم فعرفوه فقالوا هو أنت أين صاحبك فقال لا أدري وهذا
مخالف لما تقدم فلينظر الجمع بناء على صحة هذا
وفي لفظ أمروه بالخروج فضربوه وأدخلوه المسجد وحبس به
ساعة ثم خلوا عنه والله أعلم
ثم إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن له في الهجرة إلى المدينة أي وأنزل الله تعالى
عليه { وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا }
قال زيد بن اسلم جعل الله عز وجل مدخل صدق المدينة ومخرج صدق مكة وسلطانا نصيرا
الأنصار
ويعارضه ما جاء أن عند رجوعه صلى الله عليه وسلم من تبوك
إلى المدينة قال له جبريل سل ربك فإن لكل نبي مسالة فقال ما تأمرني أن أسأله قال
قل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا فأنزل الله
تعالى عليه ذلك في رجعته م نتبوك بعد من ختمت السورة أي إلا أن يدعى تكرار النزول
وعند الإذن له صلى الله عليه وسلم في الهجرة قال لجبريل من يهاجر معي قال جبريل
أبو بكر الصديق
أي ومن الغريب قول بعضهم ومن ذلك اليوم سماه الله تعالى
صديقا فقد تقدم أن تسميته بذلك كان عند تصديقه له صلى الله عليه وسلم عند إخباره
بالإسراء وعن صفة بيت المقدس
ومن الغريب أيضا ما في السبعيات أن النبي صلى الله عليه
وسلم تشاور مع أصحابه فقال أيكم يوافق معي ويرافقني فقد أمرني الله تعالى بالخروج
من مكة إلى المدينة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أنا يا رسول الله
ويرده ما في السير أنه صلى الله عليه وسلم أتى أبا بكر
ذات يوم ظهرا فناداه فقال أخرج من عندك فقال يا رسول الله إنما هما ابنتاي يعني
عائشة وأسماء رضي الله تعالى عنهما قال شعرت أي علمت أنه قد أذن لي في الهجرة فقال
يا رسول الله الصحبة أي أسألك الصحبة فقال أي رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحبة
أي لك الصحبة عندي فانطلقا أي ليلا كما تقدم عن سيرة الدمياطي لكن تقدم عنها أنه
دخل بيت أبي بكر في ليلة خروجه من على فراشه وأنه مكث ببيت ابي بكر إلى الليلة
القابلة التي كان فيها خروجه صلى الله عليه وسلم إلى جبل ثور فيحتاج إلى الجمع
وقد يقال إن مجيئه صلى الله عليه وسلم ظهرا كان قبل تلك
الليلة ومع خروجهما خرجا مستخفين حتى أتيا الغار وهو بجبل ثور فتواريا فيه
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه صلى الله عليه
وسلم قال عند خروجه من
مكة أي
متوجها إلى المدينة والله إني لأخرج منك وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله
وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت
أي وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم وقف أي على راحتله
بالحزورة ونظر إلى البيت وقال والله إنك لأحب أرض الله إلى الله ولولا أن أهلك
أخرجوني منك قهرا ما خرجت
وفي لفظ أنه صلى الله عليه وسلم وقف في وسط المسجد
والتفت إلى البيت فقال إني لأعلم ما وضع الله بيتا أحب إلى الله منك وما في الأرض
بلد أحب إليه منك وما خرجت منك رغبة ولكن الذين كفروا أخرجوني
أي وهذا السياق يدل على أن وقوفه صلى الله عليه وسلم على
الحزورة أو في وسط المسجد يقتضي أنه جاء بعد خروجه من الغار إلى ما ذكر ثم ذهب إلى
المدينة وفي رواية وقف صلى الله عليه وسلم على الحجون وقال والله إنك لخير أرض
الله وأحب أرض الله إلى الله ولو لم أخرح منك ما خرجت وفي لفظ ولو تركت فيك لما
خرجت منك ولا مانع من تكرر ذلك ثم رأيت في كلام بعضهم أن وقوفه صلى الله عليه وسلم
على الحجون كان في عام الفتح وفي لفظ آخر قال لمكة ما أطيبك من بلدة وأحبك إلي
ولولا أن قومي أخرجوني ما سكنت غيرك
أي وفي جمال القراء للسخاوي أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما توجه مهاجرا إلى المدينة وقف ونظر إلى مكة وبكى فأنزل الله عز وجل عليه {
وكأين من قرية هي أشد قوة } الآية
وأما ما روى الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا اللهم إنك
أخرجتني من أحب البقاع إلي فأسكني في أحب البقاع إليك فقال الذهبي إنه موضوع وقال
ابن عبد البر لا يختلف أهل العلم أنه منكر موضوع
أقول والذي رأيته عن المستدرك للحاكم اللهم إنك تعلم
أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب البلاد إليك والمعنى واحد وإليه ما روى
عن الزهري اللهم إنك أخرجتني من أحب البلاد إلي فاسكني أحب البلاد إليك استند من
قال بتفضيل المدينة على مكة قال لأن الله تعالى أجاب دعاءه فأسكنه المدينة قيل
وعليه جمهور العلماء ومنهم الإمام مالك رضي الله تعالى عنه وإلى الأحاديث الأول
استند من
قال بتفضيل مكة على المدينة وهم الجمهور ومنهم إمامنا
الشافعى رضى الله تعالى عنه واستندوا فى ذلك إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال فى
حجة الوداع أى بلد تعلمونه أعظم حرمة قالوا لا نعلم إلا بلدنا هذه يعنون مكة وهذا
إجماع من الصحابة أقرهم عليه صلى الله عليه وسلم أنها أى مكة أفضل من سائر البلاد
لأن ما كان أعظم حرمة فهو أفضل وقد قال صلى الله عليه وسلم المقام بمكة سعادة
والخروج منها شقاوة وقال صلى الله عليه وسلم من صبر على حر مكة ساعة من نهار
تباعدت عنه جهنم مسيرة مائة عام
قال ابن عبد البر وإنى لأعجب ممن ترك قول رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو قوله والله إنى لأعلم أنك خير أرض وأحبها إلى الله ولولا أن
أهلك أخرجونى منك ما خرجت وهذا حديث صحيح ويميل إلى تأويل لا يجامع ما تأوله عليه
أى ولأن الحسنه فيها بمائة ألف حسنة فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أن النبى
صلى الله عليه وسلم قال من حج ماشيا كتبت له بكل خطوه سبعمائة حسنة من حسنات الحرم
قيل وما حسنات الحرم قال الحسنة فيه بمائة ألف حسنة
والكلام فى غير ماضم أعضاءه الشريفة صلى الله عليه وسلم
من أرض المدينة وإلا فذاك أفضل بقاع الأرض بالإجماع بل حتى من العرش والكرسى
على أن صاحب عوارف المعارف ذكر أن الطوفان موج تلك
التربة المكرمة عن محل الكعبة حتى أرساها بالمدينة فهى من جملة أرض مكة وحينئذ لا
يحسن الاستنادفى تفضيل المدينة على مكة بقول أبى بكر رضى الله تعالى عنه إنهم لما
اختلفوا فى أى محل يدفن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقبضه الله إلا فى أحب
البقاع إليه ليدفن فيه كما سيأتى والله أعلم
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها أنها قالت بينا نحن جلوس
يوما فى بيت أبى بكر الصديق فى نحر الظهيرة أى وسطها وهو وقت الزوال قال قائل لأبى
بكر أى وهذا القائل هى أسماء بنت أبى بكر وفى كلام بعض الحفاظ يحتمل أن يفسر بعامر
بن فهيرة أى مولى أبى بكر قالت أسماء قلت يا أبت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
متقنعا أى متطيلسا فى ساعة لم يكن يأتينا فيها أى فعن عائشة رضى الله تعالى عنها
لم يمر علينا يوم أى قبل الهجرة إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفى
النهار بكرة وعشيا
وفى لفظ
كان لا يخطئ أن يأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أبى بكر أحد طرفى النهار
إما بكرة وإما عشيا أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير صحة
الثانية وإلا فالأولى فى البخارى وتفسير التقنع بالتطيلس ذكره الحافظ ابن حجر حيث
قال قوله متقنعا أى متطيلسا وهو أصل فى لبس الطيلسان هذا كلامه
واعترضه ابن القيم حيث قال لم ينقل عنه صلى الله عليه
وسلم أنه لبس الطيلسان ولا أحد من أصحابه وحينئذ لا يكون القناع هنا هو الطيلسان
بل التقنع تغطية الرأس وأكثر الوجه بالردء من غير أن يجعل منه شئ تحت رقبته الذى
يقال له التحنيك وحمل قول ابن القيم المذكورعلى الطيلسان المقور التى تلبسها
اليهود قال بعضهم وهذا الطيلسان المقور هو المعروف بالطرحة وقد اتخذت خلفاء بنى
العباس الطرحة السوداء على العمامة عند الخطبة واستمر ذلك شعارا للخلفاء
فالحاصل أن ما يغطى به الرأس مع اكثر الوجه إن كان معه
تحنيك أى إدارة على العنق قيل له طيلسان وربما قيل له رداء مجازا وإن لم يكن معه
تحنيك قيل له رداء أو قناع وربما قيل له مجازا طيلسان وهو ما كان شعارا فى القديم
لقاضى القضاة الشافعى خاصة قال بعضهم بل صار شعارا للعلماء ومن ثم صار لبسه يتوقف
على الإجازة من المشايخ كالإفتاء والتدريس وكان الشيخ يكتب فى إجازته وقد أذنت له
فى لبس الطيلسان لأنه شهادة بالأهلية وما يجعل على الأكتاف دون الرأس يقال له رداء
فقط وربما قيل له طيلسان أيضا مجازا وصح عن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه وله حكم المرفوع
التقنع من أخلاق الأنبياء وقد ذكر بعضهم أن الطيلسان الخلوة الصغرى وفى حديث لا
يتقنع إلا من استكمل الحكمة فى قوله وفعله وكان ذلك من عادة فرسان العرب فى
المواسم والجموع كالأسواق
وأول من لبس الطيلسان بالمدينة جبير بن مطعم رضى الله
تعالى عنه وعن الكفاية لابن الرفعة أن ترك الطيلسان للفقيه مخل بالمروءة أى وهو
بحسب ما كان فى زمنه رحمه الله وفى الترمذى لم تكن عادته صلى الله عليه وسلم
التقنع إنما كان يفعله لحر أو برد وتعقب بأن فى حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم
كان يكئر التقنع وفى طبقات ابن سعد مرسلا أنه ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال هذا ثوب لا يؤدى شكره أى لأن فيه غض البصر ومن ثم قيل إنه الخلوة الصغرى كما
تقدم
ولما قيل لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ذلك أى هذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم متقنعا قال أبو بكر فدا له أبى وأمى والله ما جاء به فى
هذه الساعة إلا أمر قال فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل
أى وتنحى أبو بكر عن سريره وجلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبى صلى
الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه أخرج من عندك قال أبو بكر إنما هى
أهلك أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان عقد على عائشة رضى الله تعالى عنها كما تقدم
فأمها من جملة أهله وأختها كذلك وقيل هو على حد قول الشخص لآخر أهلى أهلك وفى
رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج من عندك فقال أبو بكر رضى الله تعالى
عنه لا عين عليك إنما هما ابنتاى أى وسكت عن أمهما سترا قال فإنه قد أذن لى فى
الخروج فقال أبو بكر الصحبة يا رسول الله بأبى أنت وأمى فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم نعم أى فبكى أبو بكر سرورا قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فرأيت أبا
بكر يبكى وما كنت أحسب أن أحدا يبكى من الفرح حتى رأيت أبا بكر ولله در القائل ** ورد الكتاب من
الحبيب بأنه ** ** سيزورنى فاستعبرت أجقانى ** ** غلب السرور على حتى إننى ** **
من فرط ما قد سرنى أبكانى ** ** يا عين صار الدمع عندك عادة ** ** تبكين من فرح
ومن أحزان **
أى ومنه أقر الله عينه لمن يدعى له وهو قرة عين لمن يفرح
به وأسخن عينه لمن يدعى عليه وهو سخنة العين لما يحزن به لأن دمعة السرور باردة
ودمعة الحزن حارة
وقد روى أن نبيا من الأنبياء اجتاز بحجر يخرج منه الماء
فسأل ربه عن ذلك فأنطق الله تعالى الحجر فقال منذ سمعت أن لله تعالى نارا وقودها
الناس والحجارة وأنا أبكى هذا الدمع خوفا من تلك النار فاشفع لى عند ربك فشفع له
فشفع فيه وبشره بذلك ثم مر به بعد مدة فإذا الماء يخرج منه فقال ألم أبشرك أن الله
أنجاك من النار فما هذا فقال يا نبى الله ذاك بكاء الخوف والخشية وهذا بكاء الفرح
والسرور ومن ثم لما قال صلى الله عليه وسلم لأبى بن كعب إن الله أمرنى أن أقرأ
عليك سورة كذا أى لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب بكى من الفرح وقال أو ذكرت
هناك أى ذكرنى الله عز وجل وفى لفظ وسمانى قال نعم
وفى سفر السعادة قال العلماء البكاء على عشرة أنواع بكاء
فرح وبكاء حزن لما فات وبكاء رحمة وبكاء خوف لما يحصل وبكاء كذب كبكاء النائحة
فإنها تبكى بشجو غيرها وبكاء موافقة بأن يرى جماعة يبكون فيبكى مع عدم علمه بالسبب
وبكاء المحبة والشوق وبكاء الجزع من حصول ألم لا يحتمله وبكاء الخور والضعف وبكاء
النفاق وهو أن تدمع العين والقلب قاس والبكى بالقصر دمع العين من غير صوت والممدود
ما كان معه صوت وأما التباكى فهو تكلف البكاء وهو نوعان محمود ومذموم فالأول ما
يكون لاستجلاب رقة القلب وهو المراد بقول سيدنا عمر رضى الله تعالى عنه لما رأى
المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان فى شأن أسارى بدر أخبرنى ما يبكيك يا
رسول الله فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكت ومن ثم لم ينكر عليه صلى الله عليه وسلم
ذلك والثانى ما يكون لأجل الرياء والسمعة
قال أبو بكر فخذ بأبى أنت وأمى يا رسول الله إحدى راحلتى
هاتين فإنى أعددتهما للخروج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بالثمن أى لتكون
هجرته صلى الله عليه وسلم إلى الله تعالى بنفسه وماله أى وإلا فقد أنفق أبو بكر
رضى الله تعالى عنه أكثر ماله عليه صلى الله عليه وسلم أى فعن عائشة رضى الله
تعالى عنها أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ
دينار ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم ليس من أحد أمن على فى أهل ومال من أبى بكر
وفى رواية ما أحد أمن على فى صحبته وذات يده من أبى بكر وما نفعنى مال أبى بكر
فبكى أبو بكر وقال هل أنا ومالى إلا لك يا رسول الله وفى رواية ما لأحد عندنا يد
إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدا الله يكافئه بها يوم القيامة
أقول ولا ينافى كونه صلى الله عليه وسلم أخذ إحدى ناقتى
أبى بكر بالثمن ما رواه أبان بن أبى عياش أحد التابعين عن أنس رضى الله تعالى عنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر رضى الله تعالى عنه ما أطيب مالك
منه بلال مؤذنى وناقتى التى هاجرت عليها وزوجتنى ابنتك وواسيتنى بمالك كأنى أنظر
إليك على باب الجنة تشفع لأمتى لأن أبان بن أبى عياش معدود من الضعفاء
وقد قال شعبه لأن أشرب من بول حمار حتى أروى أحب إلى من
أن أقول حديثاعن أبان بن أبى عياش وقال فيه مرة أخرى لأن يزنى الرجل من أن يروى عن
أبان وقد
طلب من شعبة أن يكف عن أبان هذا فقال الأمر دين وهذا يكذب على رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد بين ابن حبان عذر أبان بأنه كان يروى عن أنس وأبان مجالس الحسن
البصرى فكان يسمع كلامه فإذا حدث ربما جعل كلام الحسن عن أنس مرفوعا وهو لا يعلم
وعلى تقدير صحة ما قاله لا منافاة أيضا لأنها كانت من مال أبى بكر قبل أن يأخذها
صلى الله عليه وسلم بثمنها
على أن فى الترمذى ما يوافق ما رواه أبان ففيه عن على
رضى الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى رحم الله أبا بكر زوجنى ابنته وحملنى
إلى دار الهجرة وصحبنى فى الغار وأعتق بلالا من ماله
قال وهذا حديث غريب والله أعلم
وكان الثمن عن تلك الناقة التى هى القصواء وقد عاشت بعده
صلى الله عليه وسلم وماتت فى خلافة أبى بكر رضى الله تعالى عنه أو الجدعاء
أربعمائة درهم أى لما علمت أن الناقتين اشتراهما أبو بكر بثمانمائة درهم
وأما ناقته صلى الله عليه وسلم العضباء فقد جاء أن بنته
فاطمة رضى الله تعالى عنها تحشر عليها
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها فجهزناهما أحب الجهاز أى
أسرعه والجهاز بكسر الجيم أفصح من فتحها ما يحتاج إليه فى السفر ووضعنا لهما سفرة
فى جراب أى زادا فى جراب لأن السفرة فى الأصل الزاد الذى يصنع للمسافر ثم استعمل
فى وعاء الزاد وكان فى السفرة شاة مطبوخة فقطعت أسماء بنت أبى بكر قطعة من نطاقها
فربطت به على فم الجراب أى وأبقت الأخرى نطاقا لها وهو يوافق ما فى صحيح مسلم عن
أسماء رضى الله تعالى عنها أنها قالت للحجاج بلغنى أنك تقول أى لولدها عبدالله بن
الزبير تعيره بابن ذات النطاقين أما أنا والله ذات النطاقين أما أحدخما فكنت أرفع
به طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم وطعام أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه
وأما الآخر فنطاق المرأة أى الذى لا تستغنى عنه أى عند اشتغالها لأن النطاق ما تشد
به المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها على ثوب يلقى على أسلفه وقيل النطاق إزار فيه
تكة ومن ثم جاءت ذا ت النطاق أى وكلاهما صحيح لكن فى لفظ قطعت نطاقها قطعتين فأوكت
بقطعة منه فم الجراب وشدت فم القرية بالباقى أى فلم يبق لها شئ منه
ويوافقه
ما فى البخارى عن أسماء لم نجد لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أى لمحلها الذى
هو الجراب ولا لسقائه الذى هو القربة ما نربطهما به فقلت لأبى بكر لا والله ما أجد
شيئا أربط به إلا نطاقى قال فشقيه اثنين واربطى بواحد السقاء الذى هو القربة
وبواحد السفرة ففعلت فلذلك سميت ذا ت النطاقين أى سماها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال لها أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين فى الجنة
وفيه أن الرواية الأولى التى عن عائشة والرواية الثانية
التى عن أسماء رواها مسلم لم يذكر السقاء وفى رواية البخارى ذكر السقاء وإسقاط
الجراب لكن ذكر بعد الجراب السفرة
وقد يقال المراد بربط محلها الذى هو الجراب كما أشار
إليه قال بعضهم وما تقدم عن مسلم ينبغى أن يكون أقرب إلى الضغط لأن أسماء قالت فى
آخر عمرها مخبرة عن نفسها أى ولم تربط إلا الجراب بأحد شقى النطاق وأبقت لها الآخر
وقد يقال الحصر ليس فى محله لمنافاته لرواية البخارى
وحينئذ يجمع بأنه بجوازها لما شقت النطاق نصفين قطعت أحدهما قطعتين فشدت بإحداهما
الجراب والأخرى السقاء فهى ذا ت النطاقين الذى أبقته والذى فعلت به ماذكر
وفى السيرة الهشامية أن أسماء بنت أبى بكر جاءت إليهما
لما نزلا من الغار بسفرتهما ونسيت أن تجعل لها عصاما فدهشت لغلق السفرة فإذا ليس
لها عصام فشقت نطاقها فجعلته عصاما فعلقتها به وانتطقت الآخر أى وهذا يدل على أن
المراد بقول عائشة فجهزناهما أحب الجهاز أى عند خروجهما من الغار لا عند ذهابهما
إلى الغار كما قد يتبادر من السياق ثم على المتبادر جرى ابن الجوزى حيث قال أسماء
بنت أبى بكر أسلمت بمكة قديما وبايعت وشقت نطاقها ليلة خروج رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى الغار فجعلت واحدا لسفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والآخر عصاما
لقربته فسميت ذا تالنطاقين هذا كلامه
وقد قال لا مانع من تعدد ذلك وكون النطاق ماتشد به
المرأة وسطها لئلا تعثر فى ذيلها يخالفه قول بعضهم النطاق هو ثوب تلبسه المرأة ثم
تشد وسطها بحبل ثم ترسل الأعلى على الأسفل وهذا يوافق القيل المتقدم ولعل له
إطلاقين ويوافق الثانى ما قيل أول من فعله هاجر أم إسمعيل اتخذته لتخفى أثر مشيتها
على سارة ولعله عند خروجها
لما أمره
الله عز وجل بإخراجها مع إبراهيم فيذهب بها إلى مكة قبل أن تركت مع إبراهيم على
البراق
ثم استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا
من بنى الديل وهو عبدالله بن أريقط ويقال ابن أرقط أو أرقد اسم أمه فأريقط مصغرها
ليدلهما على الطريق للمدينة وكان على دين قريش أى ثم أسلم بعد ذلك وقيل لم يعرف له
إسلام
وفى الروض ما وجدنا من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك فدفعا
إليه راحلتيهما وواعداه على جبل ثور بعد ثلاث ليال وقيل للجبل ذلك لأنه على صورة
الثور الذى يحرث عليه وسياق النسائى يدل على أن استئجار عبد الله المذكور كان قبل
التجهيز
قالت عائشة رضى الله تعالى عنها ثم لحق رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبو بكر بغار فى جبل ثور أى ليلا كما تقدم
وعن ابن سعد لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من
بيته إلى بيت أبى بكر رضى الله تعالى عنه فكان فيه إلى الليل ثم خرج هو وأبو بكر
فمضيا إلى غار ثور فدخلاه أى وكان خروجهما من خوخة فى ظهر بيت أبى بكر فعن عائشة
بنت قدامه رضى الله تعالى عنها أن النبى صلى الله عليه وسلم قال لقد خرجت من
الخوحة متنكرا فكان أول من لقينى أبو جهل لعنه الله فأعمى الله بصره عنى وعن أبى
بكر حتى مضينا
وفى كلام سبط ابن الجوزى وعن وهب بن منبه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما خرج إلى الغار من بيت أبى بكر فخرج من خوخة فى ظهر الدار
والأصح إنما كان خروجه من بيت نفسه
وجعل أبو بكر رضى الله تعالى عنه يمشى مرة أمام النبى
صلى الله عليه وسلم ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن شماله فسأله رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب
فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك
أقول فى الدر المنثور فمشى صلى الله عليه وسلم ليلته على
اطراف أصابعه لئلا يظهر أثر رجليه على الأرض حتى حفيت رجلاه فلما رآهما أبو بكر قد
حفيتا حمله على كاهله وجعل يشتد به حتى أتى على فم الغار فأنزله وفى لفظ لم يصب
رسول الله صلى الله عليه
وسلم
الغار حتى قطرت قدماه دما وفى كلام السهيلى عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه أنه قال
نظرت إلى قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الغار وقد تقطرتا دما
قال بعضهم وبشبه أن يكون ذلك من خشونة الجبل وإلا فبعد
المكان لا يحتمل ذلك أو لعلهم ضلوا طريق الغار حتى بعدت المسافة ويدل عليه قوله
فمشى ليلته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى لفظ فانتهينا إلى الغار مع الصبح ولا
يحتمل ذلك مشى ليلته إلا بتقدير ذلك أو أنه صلى الله عليه وسلم كما قيل ذهب إلى
جبل حنين فناداه اهبط عنى فإنى اخاف أن تقتل على ظهرى فأعذب فناداه جبل ثور إلى يا
رسول الله وساق فى الأصل رواية تقتضى أنه ذهب إلى غار ثور راكبا ناقته الجدعاء ث 4
م رأيته فى النور أشار إلى أن ركوبه صلى الله عليه وسلم الجدعاء إنما كان بعد
خروجه من الغار لا أنه ركبها من منزل أبى بكر إلى الغار كما هو ظاهر الرواية
وفى الخصائص الكبرى عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما
لما تشاور المشركون فى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلع الله نبيه على ذلك
فخرج تلك الليلة حتى أتى الغار فلما أصبحوا اقتفوا أثره صلى الله عليه وسلم فلما
بلغوا الجبل الحديث أى وهو مخالف لما تقدم من أن خروجه صلى الله عليه وسلم إلى
الغار كان فى الليلة الثانية لا فى ليلة حروجه على قريش
وقد يقال لا منافاة لأن قوله حتى لحق بالغار غاية لمطلق
الخروج من بيته لافى خصوص تلك الليلة أى خرج من بيته واستمر على خروجه حتى لحق
بالغار وذلك فى الليلة الثانية لكن تقدم أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بيت أبى
بكر متقنعا فى وقت الظهيرة فليتأمل
وأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا بخروجه إلى
الهجرة وأمره أن يتخلف بعده حتى يؤدى عنه الودائع التى كانت عند رسول الله صلى
الله عليه وسلم للناس لأنه لم يكن بمكة أحد عنده شئ يخشى عليه إلا وضعه عنده صلى
الله عليه وسلم لما يعلمون من أمانته أى ولعل إعلام على بذلك كان عند توجهه صلى
الله عليه وسلم إلى بيت أبى بكر لأنه لم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم اجتمع بعلى
رضى الله تعالى عنه بعد ذلك إلا فى المدينة لكن سيأتى عن الدر ما تقتضى أنه اجتمع
به عند خروجه من الغار
وفى الفصول المهمة أنه صلى الله عليه وسلم وصى عليا رضى
الله تعالى عنه بحفظ
ذمته
وأداء أمانته ظاهرا على أعين الناس وأمره أن يبتاع رواحل للفواطم فاطمة بنت النبى
صلى الله عليه وسلم وفاطمة بنت الزبير بن عبد المطلب ولمن هاجر معه من بنى هاشم
ومن ضعفاء المؤمنين وشراء على رضى الله عنه الرواحل مخالف لما يأتى فى الأصل أنه
صلى الله عليه وسلم أرسل إلى على حلة وأرسل يقول تشقها خمرا بين الفواطم وهى فاطمة
ابنة حمزة وفاطمة بنت عتبة وفاطمة أم على وفاطمة بنته صلى الله عليه وسلم وإرساله
لتلك الحلة كان بعد وصوله إلى المدينة فليتأمل
قال فى الفصول المهمة وقال له أى لعلى إذا أبرمت ما
أمرتك به كن على أهبة الهجرة إلى الله ورسوله وبقدوم كتابى عليك وإذا جاء أبو بكر
توجهه خلفى نحو بئر أم ميمون وكان ذلك فى فحمة العشاء والرصد من قريش قد أحاطوا
بالدار ينتظرون أن تنتصف الليلة وتنام الناس ودخل أبو بكر على على وهو يظنه أى
وأبو بكر يظن عليا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له على إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم خرج نحو بئر أم ميمون وهو يقول لك أدركنى فلحقه أبو بكر ومضيا
جميعا يتسايران حتى أتياجبل ثور فدخلا الغار فليتأمل الجمع بينه وبين ما تقدم
ولما انتهيا إلى فم الغار قال أبو بكر للنبى صلى الله
عليه وسلم والذى بعثك بالحق لا تدخل حتى أدخله قبلك فإن كان فيه شئ نزل بى قبلك
فدخل رضى الله تعالى عنه فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه
الجحر حتى فعل ذلك بجميع ثوبه فبقى جحر وكان فيه حية فوضع عقبه عليه ثم دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم إن الحية التى فى الجحر لما أحست بعقب سيدنا أبى بكر
جعلت تلسعه وصارت دموعه تتحدر قال ابن كثير وفى هذا السياق غرابة ونكارة أى وقد
كان صلى الله عليه وسلم وضع رأسه فى حجر أبى بكر رضى الله تعالى عنه ونام فسقطت
دموع أبى بكر رضى الله تعالى عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال مالك يا
أبا بكر قال لدغت بالدال المهملة والغين المعجمة فداك أبى وأمى فتفل رسول الله صلى
الله عليه وسلم على محل اللدغة فذهب ما يجده قال بعضهم وقاه فبورك فى عقبه
قال بعضهم والسر فى اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصص على
رءوسهم تعظيما للحية التى لدغت أبا بكر فى الغار أى لأنهم يزعمون أن ذلك على صورة
تلك الحية
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى بكر
أين ثوبك فأخبره
الخبر زاد
فى رواية وأنه رأى على أبى بكر أثر الورم فسأل عنه فقال من لدغة الحية فقال صلى
الله عليه وسلم الله صلى الله عليه وسلم هلا أخبرتنى قال كرهت أن أوقظك فمسحه
النبى صلى الله عليه وسلم فذهب ما به من الورم والألم
أى ويحتاج إلى الجمع بين هاتين الروايتين على تقدير
صحتهما وحين أخبره أبو بكر بذلك رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وقال اللهم
اجعل أبا بكر معى فى درجتى فى الجنة فأوحى الله تعالى إليه قد استجاب الله لك
وروى أنه لما صار يسد كل جحر وجده أصاب يده ما أدماها
فصار يمسح الدم عن أصبعه وهو يقول ** هل أنت إلا أصبع دمت ** ** وفى سبيل الله ما
لقيت **
وسيأتى أن هذا البيت من كلام ابن رواحة وقيل من كلامه
صلى الله عليه وسلم وأنه يجوز أن يكون ابن رواحة ضم ذلك البيت لأبياته
ومما قد يؤيد أن ذلك من كلامه صلى الله عليه وسلم ما
ذكره سبط ابن الجوزى أن أبا بكر لما لحقه صلى الله عليه وسلم فى اثناء الطريق ظنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفار فأسرع فى المشى فانقطع قبال نعله ففلق
إبهامه حجر فسال الدم فرفغ أبو بكر صوته ليعرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعرفه
ومما يصرح بذلك ما رأيت عن جندب البجلى قال كنت مع النبى
صلى الله عليه وسلم فى غار كذا فدميت أصبعه فذكر البيت المذكور وأراد بالغار غارا
من الغيران لا هذا الغار كما توهم
وجاء فى الصحيحين عن جندب بن عبدالله بينا نحن مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذ أصابه حجر فدميت أصبعه فقال ** هل انت إلا إصبع دميت
** البيت
أى ولما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرالغار
أمر الله تعالى شجرة أى وهى التى يقال لها العشار وقيل أم غيلان فنبتت فى وجه
الغار فسترته بفروعها
أى ويقال إنه صلى الله عليه وسلم دعا تلك الشجرة وكانت
أمام الغار فأقبلت حتى وقفت على باب الغار وأنها كانت مثل قامة الإنسان وبعث الله
العنكبوت فنسجت ما بين فروعها أى نسجا مترا كما بعضه على بعض أى كنسج أربع سنين
كما قال بعضهم
وقد نسج العنكبوت أيضا على عبدالله بن أنيس رضى الله
تعالى عنه لما قتل سفيان بن خالد وقطع رأسه وأخذها ودخل فى غار فى الجبل وكن فيه
حتى انقطع عنه الطلب كما سيأتى ونسج على نبى الله داود لما طلبه طالوت ونسج أيضا
على عورة سيدنا زيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنهم وهو
أخو الإمام محمد الباقر وعم الإمام جعفر الصادق وهو الذى ينسب إليه الزيدية كان
إماما مجتهدا وكان ممن أخذ عن واصل بن عطاء الآخذ عن الحسن البصرى
ولما أثبت ابن عطاء المنزلة بين المنزلتين أمره الحسن
البصرى باعتزال مجلسه فقيل له معتزلى وصار يقال لأصحابه معتزلة
ولا يلزم من كون شيخ سيدنا زيد معتزليا أن يسلك زيد
مسلكه وصلب سيدنا زيد عربانا وأقام مصلوبا أربع سنين وقيل خمس سنين فلم ترعورته
وقيل إن بطنه الشريف ارتخى على عورته فغطاها ولا مانع من وجود الأمرين وكان عند
صلبه وجهوه إلى غير القبلة فدارت خشبته التى صلب عليه إلى أن صار وجهه إلى القبلة
أى وقد وقع لخبيب نحو ذلك كما سيأتى ثم أحرقوا خشبة زيد وجسده وذرى رماده فى
الرياح على شاطئ الفرات فإنه خرج على هشام بن عبد الملك وقد سمت نفسه للخلافة
فحاربه يوسف بن عمر الثقفى أمير العراقين من قبل هشام بن عبد الملك فانهزم أصحاب
زيد عنه بعد أن خذله وانصرف عنه أكثرهم
فقد بايعه ناس كثير من أهل الكوفة وطلبوا منه أن يتبرأ
من الشيخين أبى بكر وعمر لينصروه فقال كلا بل أتولاهما فقالوا إذن نرفضك فقال
اذهبوا فأنتم الرافضة فسموا بذلك من حينئذ رافضة وجاءت إليه طائفة وقالوا نحن
نتولاهما من ونبرأ منهما وقاتلوا معه فسموا الزيدية
أقول والعجب ممن يتمذهب بمذهب سيدنا زيد ويتبرأ من
الشيخين ويكرههما ويكره من يذكرهما بخير بل ربما سبهما
وعند مقاتلته أصابته جراحات وأصابه سهم فى جهته وحال
الليل بين الفريقين فطلبوا حجاما من بعض القرى لينزع له النصل فاستخرجه فمات من
ساعته فذفنوه من ساعته وأخفوا قبره وأجروا عليه الماء واستكتموا الحجام ذلك فلما
أصبح
الحجام
مشى إلى يوسف بن عمر منتصحا وأخبره ودله على موضع قبره فاستخرجه وبعث برأسه إلى
هشام فكتب إليه هشام أن اصلبه عريانا فصلبه كذلك
ويقال إن هشام بن عبد الملك قال يوما لزيد بلغنى أنك
تريد الخلافة ولا تصلح لك لأنك ابن أمة فقال قد كان إسماعيل ابن أمة وإسحاق ابن
حرة فأخرج الله من صلب إسماعيل خير ولد آدم فقال له هشام قم قال إذن لا ترانى إلا
حيث تكره ومن شعره ** لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** ** وأن نكف الأذى عنكم
وتؤذونا **
قيل ورأس زيد دفنت بمصر القديمة بمسجد يقال له مشهد زين
العابدين بن الحسين وكذلك وقع في طبقات الشيخ الشعرانى نفعنا الله به وببركاته
وليس كذلك بل هو محل زيد بن زين العابدين كما ذكره المقريزى فى الخطط ويقال له زيد
الأزياد
وذكر فى حياة الحيوان أن ما ينسجه العنكبوت يخرج من خارج
جلدها لا من جوفها وعن على رضى الله تعالى عنه طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن
تركه فى البيوت يورث الفقر
وأمر الله تعالى حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغاز أى
ويروى أنهما باضتا أى وفرختا قال لأبى بكر ضع قدمك موضع قدمى فإن الرمل لاينم
وتقدم ما فى ذلك أى لأن المشركين لما فقدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شق عليهم
ذلك وخافوا ذلك وطلبوه بمكة أعلاها وأسفلها وبعثوا القافة أى الذين يقصون الأثر فى
كل وجه يقفون أثره فوجدوا الذى ذهب إلى جبل ثور أثره وقال ما تقدم
وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وسيوفهم أى ولما
أقبلوا أشفق صلى الله عليه وسلم على صهيب وخاف عليه وقال واصهيباه ولا صهيب لى أى
لأنه تواعد معهما أن يكون ثالثهما فلما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج للغار أرسل
له أبو بكر مرتين أو ثلاثا فوجده يصلى فقال يا رسول الله وجدت صهيبا يصلى فكرهت أن
أقطع عليه صلاته فقال أصبت وتقدمت الحوالة على هذا
فلما كان فتيان قريش على أربعين ذراعا من الغار تعجل
بعضهم ينظر فى الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين أى مع العنكبوت فقال ليس فيه أحد
فسمع النبى صلى الله عليه وسلم ما قال فعرف أن الله عز وجل قد درأ عنه أى دفع عنه
وفى رواية فلما انتهوا إلى فم الغار قال قائل منهم
ادخلوا الغار فقال أمية بن خلف وما أربكم أى حاجتكم إلى الغار أن عليه لعنكبوتا
كان قبل ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم أى ولو دخل الغار لانفتح ذلك العنكبوت
وتكسر البيض وهذا يدل على أن البيض لم يكن فرخ أى ويحتمل أن بعض البيض فرخ وبعضه
لم يفرخ ثم جاء قبالة فم الغار فبال فقال أبو بكر يا رسول الله إنه يرانا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر لو كان يرانا ما فعل هذا وفى بعض
الروايات لو رآنا ما تكشف عن فرجه أى ما استقبلنا بفرجه وبوله وقال أبو جهل أما
والله إنى لأحسب قريبا يرانا ولكن بعض سحره قد أخذ على أبصارنا فانصرفوا
وذكر ابن كثير أن بعض أهل السير ذكر أن أبا بكر رضى الله
تعالى عنه لما قال للنبى صلى الله عليه وسلم لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا
تحت قدميه قال له النبى صلى الله عليه وسلم لو جاءونا من ها هنا لذهبنا من ها هنا
فنظر الصديق إلى الغار قد انفرج من الجانب الآخر وإذا البحر قد اتصل به وسفينة
مشدودة إلى جانبه قال ابن كثير وهذا ليس بمنكر من حيث القدرة العظيمة ولكن لم يرد
ذلك بإسناد قوى ولا ضعيف ولسنا نثبت شيئا من تلقاء أنفسنا ونهى النبى صلى الله
عليه وسلم يومئذ عن قتل العنكبوت وقال إنها جند من جند الله انتهى
وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال لا أزال
أحب العنكبوت منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أحبها ويقول جزى الله
العنكبوت عنا خير فإنها نسجت على وعليك يا أبا بكر إلا أن البيوت تطهر من نسجها أى
ينبغى ذلك لما تقدم أن وجود نسجها فى البيوت يورث الفقر
وفى الجامع الصغير جزى الله العنكبوت عنا خيرا فإنها
نسجت على الغار
أقول فيه أن فى الحديث العنكبوت شيطان فاقتلوه وفى لفظ
العنكبوت شيطان مسخه الله فاقتلوه فإن صح وثبت تأخره فهو ناسخ له وإن كان متقدما
على ما هنا وصح ما هنا فهو منسوخ به والله أعلم وبارك صلى الله عليه وسلم على
الحمامتين وفرض جزاء الحمام وانحدرتا فى الحرم فأفرختا كل شئ فى الحرم من الحمام
أى ولأجل ذلك ذهب الغزالى من أئمتنا إلى صحة الوقف على حمام مكة دون غيره من
الطيور وهو الراجح
ونظر فى الإمتاع فى كون حمام الحرم من نسل ذلك الزوج
فإنه روى فى قصة نوح عليه الصلاة والسلام أنه بعث الحمامة من السفينة لتأتيه نخبر
الأرض فوقعت بوادى الحرم فإذا الماء قد نضب من موضع الكعبة وكانت طينتها حمراء
فاختضبت رجلاها ثم جاءته فمسح عنقها وطوقها طوقا ووهب لها الحمرة فى رجليها
وأسكنها الحرم ودعا لها بالبركة
وفى شعر الحادث بن مضاض الذى أوله ** كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا **
** أنيس ولم يسمر بمكة سامر **
** ويبك لبيت يؤذى حمامه ** ** يظل به أمنا وفيه العصافر **
ففى هذا أن الحمام قد كان فى الحرم من عهد جرهم أى ونوح
وذكر بعضهم أن حمام مكة أظله صلى الله عليه وسلم يوم فتحها فدعا له بالبركة
ويروى أن أبا بكر رضى الله تعالى عنه لما رأى قريشا
أقبلت نحو الغار خصوصا ومعهم القافة بكى أى ويقال لما سمع القائف يقول لقريش والله
ما جاز مطلوبكم من هذا الغار حزن وبكى وقال والله ما على نفسى أبكى ولكن مخافة أن
أرى فيك ما أكره فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحزن إن الله معنا وأنزل
الله تعالى سكينته على أبى بكر رضى الله تعالى عنه أى وأنزل عليه أمنته التى تسكن
عندها القلوب قيل قال له لا تحزن ولم يقل له لا تخف لأن حزنه على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهذا النهى تأنيس وتبشير له كما فى قوله تعالى له صلى الله عليه
وسلم { ولا يحزنك قولهم } وبه يرد ما زعمته الرافضة أن ذلك غضبا من أبى بكر وذماله
لأن حزنه رضى الله تعالى عنه إن كان طاعة فالنبى صلى الله عليه وسلم لا ينهى عن
الطاعة فلم يبق إلا أنه معصية
وفى رواية عن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قلت للنبى صلى
الله عليه وسلم ونحن فى الغار لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه أى
لأنهما علوا على رؤوسهما
فعن أبى بكر قال نظرت إلى أقدام المشركين ونحن فى الغار
وهم على رءوسنا فقلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه
فقال يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما
قال بعضهم كان معهما وثالثهما باللفظ والمعنى أما باللفظ
فكان يقال يا رسول الله ويقال لأبى بكر يا خليفة رسول الله وأما بالمعنى فكان
مصاحبا لهما بالنصر والهداية
والإرشاد
والضمير فى أيده بجنود لم تروها راجع للنبى صلى الله عليه وسلم وتلك الجنود ملائكة
أنزلهم الله تعالى عليه فى الغار يبشرونه صلى الله عليه وسلم بالنصر على أعدائه
وروى أ ن أبا بكر رضى الله تعالى عنه عطش فى الغار فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب إلى صدر الغار فاشرب فانطلق أبو بكر رضى
الله تعالى عنه إلى صدر الغار فوجد ماء أحلى من العسل وأبيض من اللبن وأزكى رائحة
من المسك فشرب منه فقال له رسول الله صلى إن الله أمر الملك الموكل بأنهار الجنة
أن يخرق نهرا من جنة الفردوس إلى صدر الغار لتشرب قال أبو بكر يا رسول الله ولى
عند الله هذه المنزلة فقال النبى صلى الله عليه وسلم نعم وأفضل والذى بعثنى بالحق
نبيا لا يدخل الجنة مبغضك ولو كان عمله عمل سبعين نبيا
أى وذكر بعضهم قال كنت جالسا عند أبى بكر رضى الله تعالى
عنه فقال من كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليقم فقام رجل رجل فقال
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدتى بثلاث حثيات من تمر فقال أرسلوا إلى على
فجاء فقال يا أبا الحسن إن هذا يزعم كذا وكذا فاحث له فحثى له فقال أبو بكر عدوها
فعدوها فوجدوها كل حثية ستين تمرة لا تزيد ولا تنقص فقال أبو بكر صدق الله ورسوله
قال لى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة فى الغار كفى وكف على فى العدد
سواء ذكر الذهبى أنه موضوع ولعل قول الصديق صدق الله ورسوله علة لاختياره عليا على
نفسه فى أن يحثو لا أن ذلك علة لكون كل حثية جاءت ستين حبة
ولما أيست قريش منهما أرسلو لأهل السواحل إن من أسر أو
قتل أحدهما كان له مائة ناقة أى ويقال إن أبا جهل أمر مناديا ينادى فى أعلى مكة
وأسفلها من جاء بمحمد أو دل عليه فله مائة بعير وإلى قصة الغار أشار صاحب الهمزية
بقوله ** أخرجوه منها وآواه غار ** ** وحمته حمامة ورقاء ** ** وكفته بنسجها
عنكبوت ** ** ما كفته الحمامة الحصداء ** ** واختفى منهم على قرب مرآ ** ** ومن شدة
الظهور الخفاء **
أى كانوا سببا لإخراجه من تلك الأرض التى هى مولده صلى
الله عليه وسلم ومرباه ووطنه ووطن آبائه بسبب مبالغتهم فى إيدائه وإيذاء أصحابه
خصوصا ضعفاءهم وآواه
غار وحمته
منهم حمامة فى لونها بياض وسواد وكفته أعداءه عنكبوت بنسجها الذى كفته إياهم
الحمامة الكثيرة الريش فتلك الحمامة كانت ورقاء حصداء واستتر منهم مع قرب محل
رؤيته
وحكمة خفائه واستتاره منهم مع ظهوره لهم لو نظر أحدهم
إلى ما تحت قدميه شدة ظهوره عليهم بالغلبة والمعونة الإلهية ومكثا فى الغار ثلاث
ليال يبيت عندهما عبد الله بن أبى بكر وهو غلام يعرف ما يقال يأتيهما حين يختلط
الظلام ويدلج من عندهما بفجر فيصبح مع قريش كبائت فى بيته فلا يسمع أمرا يكادان به
إلا وعاه ويخبرهما به
وكان عامر بن فهيرة مولى أبى بكر رضى الله تعالى عنهما
كان مملوكا للطفيل فأسلم وهو مملوك وكان ممن يعذب فى الله عز وجل فاشتراه أبو بكر
من الطفيل وأعتقه كما تقدم فكان يروح عليهما بمنحة غنم أى قطعة من غنم أبى بكر
فكان يرعاها حيث تذهب ساعة من العشاء ويغدو بها عليهما ثم يغلس أى إذا خرج من
عندهما عبد الله تبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يقفو أثر قدميه يفعل ذلك فى كل
ليلة من تلك الليالى الثلاث أى وذلك بارشاد من أبى بكر رضى الله تعالى عنه
ففى السيرة الهشامية وأمر أبو بكر ابنه عبدالله رضى الله
تعالى عنهما أن يستمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ثم يأتيهما إذا أمسى بما
يكون فى ذلك اليوم من الخبر وأمر عامر بن فهيرة أن يرعى عنمه نهارا ثم يريحها
عليهما إذا أمسى فى الغار وكانت أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنها تأتيهما
إذا أمست بما يصلحهما من الطعام
أقول وفى الدر عن عائشة رضى الله تعالى عنهما ما كان أحد
يعلم مكان ذلك الغار إلا عبد الله بن أبى بكر وأسماء بنت أبى بكر فإنهما كانا
يختلفان إليهما وعامر بن فهيرة فإنه كان إذا سرح غنمه مر بهما فحلب لهما
وفى الفصول المهمة وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثة أيام بلياليها فى الغار وقريش لا يدرون أين هو وأسماء بنت أبى بكر رضى الله
تعالى عنها تأتيهما ليلا بطعامهما وشرابهما فلما كان بعد الثلاث أمرها صلى الله
عليه وسلم أن تأتى عليا وتخبره بموضعهما وتقول له يستأجر لهما دليلا ويأتى معه
بثلاث من الإبل بعد مضى ساعة من الليلة الآتية أى وهى الرابعة فجاءت أسماء إلى على
كرم الله وجهه فأخبرته بذلك فاستأجر لهما رجلا يقال له الأريقط بن عبد الله الليثى
وأرسل معه بثلاث من الإبل فجاء بهن إلى أسفل
الجبل
ليلا فلما سمع النبى صلى الله عليه وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر
فعرفاه أى والذى فى البخارى فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا وتقدم أن
المستأجر لهما للدليل النبى صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وقد يجمع بأن المراد باستئجار على رضى الله تعالى عنه
إعطاؤه الأجرة وكونه استأجر لهما ثلاث رواحل وأتى بها معه فيه نظر ظاهر وركب النبى
صلى الله عليه وسلم وركب أبو بكر وركب الدليل
وفى الدر المنثور فمكث هو صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
فى الغار ثلاثة أيام يختلف إليهما بالطعام عامر بن فهيرة وعلى يجهزهما فاشترى
ثلاثة أباعر واستأجر لهم دليلا فلما كان فى بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم على
بالإبل والدليل فليتأمل ذلك مع ما قبله
وفى حديث مرسل مكثت مع صاحبى فى الغار بضعة عشر يوما ما
لنا طعام إلا ثمر البرير أى الأراك وتقدم فى باب رعيه الغنم أن ثم الأراك النضيج
يقال له الكباث بكاف فباء موحدة مفتوحتين فتاء مثلثة
قال ابن عبد البر وهذا أى القول بأنهما مكثا فى الغار
بضعة عشر يوما غير صحيح عند أهل العلم بالحديث قال الحافظ ابن حجر والمراد كما قال
الحاكم أنهما مكثا مختفيين من المشركين فى الغار وفى الطريق بضعة عشر يوما وذكر فى
الغار أى الاقتصار عليه من بعض الرواة والله أعلم
قال وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما أن أبا
بكر أرسل ابنه عبد الله فحمل ماله وكان خمسة آلاف درهم أو أربعة آلاف وكان حين
أسلم أربعين ألف درهم وفى لفظ أربعين ألف دينار أى ويؤيد ذلك ما جاء عن أنس رضى
الله تعالى عنه أنفق أبو بكر على النبى صلى الله عليه وسلم أربعين ألف دينار فحمل
إليه ذلك فى الغار قالت أسماء فدخل علينا جدى أبو قحافة رضى الله تعالى عنه فإنه
أسلم بعد ذلك وكان قد ذهب بصره فقال والله إنى لأراه يعنى أبا بكر قد فجعكم بماله
مع نفسه فقال كلا يا أبت إنه ترك لنا خيرا كثيرا قالت فأخذت أحجارا فوضعتها فى كوة
أى طاقة فى البيت كان أبى يضع ماله فيها ثم وضعت عليها ثوبا ثم أخذت بيده فقلت ضع
يدك على هذا المال قالت فوضع يده عليه فقال لا بأس إن كان ترك لكم هذا
فى هذا
بلاغ لكم ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكن أردت أن أسكن قلب الشيخ اه
أى ولما بلغ ضمرة بن جندب خروجه صلى الله عليه وسلم وكان
مريضا فقال لا عذر لى فى مقامى بمكة فأمر أهله فخرجوا به فلما وصل إلى التنعيم مات
به فأنزل الله تعالى { ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت
فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما } وقيل نزلت فى خالد بن حرام بن
خويلد بن أسد أسلم قديما وهاجر إلى الحبشة فى المرة الثانية فمات من نهش حية قبل
أن يصل وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال لحسان رضى الله تعالى عنه هل قلت فى أبى
بكر شيئا قال نعم قال قل وأنا أسمع فقال ** وثانى اثنين فى الغار المنيف وقد **
** طاف العدو به إذ صاعدوا الجبلا
** ** وكان حب رسول الله قد علموا ** ** من البرية لم
يعدل به رجلا **
فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه أى
وفى لفظ فتبسم ثم قال صدقت يا حسان هو كما قلت إنه أحب البرية إليه أى إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يعدل به غيره
أقول فى ينبوع الحياة والذى أعرف فى هذين البيتين أنهما
من أبيات رثى بهما حسان أبا بكر رضى الله تعالى عنهما هذا كلامه
وقد يقال لا مانع أن يكون أدخلهما حسان فى مرثيته لأبى
بكر بعد ذلك والله أعلم وعن أبى بكر رضى الله تعالى عنه قال لجماعة أيكم يقرأسورة
التوبة قال رجل أنا أقرأ فلما بلغ { إذ يقول لصاحبه لا تحزن } بكى وقال أنا والله
صاحبه
وعن أبى الدرداء رضى الله تعالى عنه قال رآنى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمشى أمام أبى بكر فقال يا أبا الدرداء أتمشى أمام من هو أفضل
منك فى الدنيا والآخرة فوالذى نفس محمد بيده ما طلعت الشمس ولا غربت على أحد بعد
النبيين والمرسلين أفضل من أبى بكر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول أتانى جبريل فقال إن الله تعالى يأمرك أن تستشير أبا
بكر وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب أبى بكر واجب على أمتى
= باب الهجرة إلى المدينة
لا يخفى أنه لما كان صبيحة الليلة الثالثة من دخولهما
الغار على ما تقدم جاءهما الدليل الذى هو الرجل الدؤلى براحلتيهما فركبا وانطلق
بهما وانطلق معهما عامربن فهيرة أى رديفا لأبى بكر يخدمهما أى وفى البخارى أن أبا
بكر كان رديفا له صلى الله عليه وسلم أى ولامخالفة لما سيأتى
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم لما خرج من الغار وركب أخذ
أبو بكر بغرزه أى يركابه والغرز بغين معجمة مفتوحة وراء ساكنة وزاى ركاب الإبل
خاصة فقال صلى الله عليه وسلم ألا أبشرك قال بلى فداك أبى وأمى قال إن الله عز وجل
يتجلى للخلائق يوم القيامة عامة ويتجلى لك خاصة قال الخطيب هذا الحديث لا أصل له
قال السيوطى رأيت له متابعات ودعا صلى الله عليه وسلم بدعاء منه اللهم اصحبنى فى
سفرى واخلفنى فى أهلى
وأخذ بهم الدليل على طريق السواحل وصار أبو بكر إذا سأله
سائل عن النبى صلى الله عليه وسلم من هذا الذى معك أى وفى رواية من هذا الذى بين
يديك وفى رواية من هذا الغلام بين يديك أى بناء على أنه كان رديفا له صلى الله
عليه وسلم يقول هذا الرجل يهدينى الطريق يعنى طريق الخير أى لأنه صلى الله عليه
وسلم قال لأبى بكر أله الناس أى أشغل الناس عنى أى تكفل عنى بالجواب لمن سأل عنى فإنه
لا ينبغى لنبى أن يكذب أى ولو صورة كالتورية فكان أبو بكر يقول لمن سأله عن النبى
صلى الله عليه وسلم ما ذكر وإنما لم يسأل أبو بكر عن نفسه لأن أبا بكر كان معروفا
لهم لأنه كان يكثر المرور عليهم فى التجارة للشام أى معروفا لغالبهم فلا ينافى ما
جاء فى بعض الروايات أنه كان إذا سئل من أنت يقول ياغى أى طالب حاجة فعلم أن
الأنبياء لا ينبغى لهم الكذب ولو صورة ومن ذلك التورية لكن سيأتى فى غزوة بدر وقوع
التورية منه صلى الله عليه وسلم
وفى رواية ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء أبى
بكر ناقته وفى التمهيد لأبن عبد البر أنه لما أتى براحلة أبى بكر سأل أبو بكر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يركب ويردفه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أنت
اركب وأردفك أنا فإن
الرجل أحق
بصدر دابته فكان إذا قيل له من هذا وراءك قال هذا يهدينى السبيل
أقول لا مخالفة بين هذا وما تقدم لأنه يجوز أن يكون ركب
صلى الله عليه وسلم تارة خلف أبى بكر على ناقة أبى بكر وتارة ركب صلى الله عليه
وسلم على ناقة نفسه أمامه وأن ركوبه لها كان فى أثناء الطريق ويكون صلى الله عليه
وسلم إما أركب راحلته عامر بن فهيرة أو ترك ركوبها لأجل إراحتها والهداية كما تكون
من المتقدم تكون من المتأخر وإن كان الأول هو الغالب والله أعلم وإلى توجهه صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة أشار صاحب الهمزية بقوله ** ونحا المصطفى المدينة واشتا ** ** قت
إليه من مكة الأنحاء **
أى وقصد صلى الله عليه وسلم واشتاقت إليه الجهات
والنواحى من مكة وقد جاء أنه لما خرج صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة
مهاجرا وبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة فأنزل الله تعالى عليه { إن الذي فرض عليك
القرآن لرادك إلى معاد } أى إلى مكة
وأهل الرجعة يقولون إلى الدينا أى من يقول بأن النبى صلى
الله عليه وسلم يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى وقد أظهرها عبد الله بن سبأ كان
يهوديا وأمه يهودية سوداء ومن ثم كان يقال له ابن السوداء أظهر الإسلام فى خلافة
عمر رضى الله تعالى عنه وقيل فى خلافة عثمان رضى الله عنه وكان قصده بإظهار
الإسلام بوار الإسلام فكان يقول العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدينا ويكذب
برجعة محمد صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى { إن الذي فرض عليك القرآن
لرادك إلى معاد } فمحمد أحق بالرجعة من عيسى عليهما الصلاة والسلام وتقدم ذلك فى
أثناء الكلام على بدء الوحى وسيأتى ذلك عند بناء المسجد وكانت قريش كما تقدم أرسلت
لأهل السواحل أن من قتل أو أسر أبا بكر أو محمدا كان له مائة ناقة أى فمن قتلهما
أو أسرهما كان له مائتان
فعن سراقة جاءنا رسل كفار قريش يجعلون فيهما إن قتلا أو
أسرا ديتين فبينا أنا جالس فى مجلس من مجالس قومى بنى مدلج أى بقديد وهو محل قريب
من رابغ أقبل رجل منهم حتى قام علينا ونحن جلوس فقال يا سراقة إنى رأيت أسودة أى
أشخاصا بالسواحل أراه محمدا وأصحابه قال سراقة فعرفت أنهم هم فقلت إنهم ليسوا بهم
ولكنك رأيت فلانا وفلانا انطلقوا بأعيننا أى بمعرفتنا يطلبون ضالة لهم أى وفى
لفظ قال
رأيت ركبة بالتحريك جمع راكب ثلاثا مروا على آنفا أى قريبا إنى لأراهم محمدا
وأصحابه قال سراقة فأومأت إليه أن اسكت ثم قلت إنما هم بنو فلان يتبعون ضالة لهم
ثم لبثت فى المجلس ساعة ثم قمت إلى منزلى فأمرت جاريتى أن تخرج فرسى خفية إلى بطن
الوادى وتحبسها على وأخذت رمحى وخرجت به من ظهر البيت فخططت بزجه فى الأرض والزج
الحديدة التى تكون فى أسفل الرمح وخفضت عاليه أى أمسكت بأعلاه وجعلت أسفله فى
الأرض لئلا براه أحد وإنما فعل ذلك كله ليفوز بالجعل المتقدم ذكره ولا يشركه فيه
أحد من قومه بخروجه معه لقتلهما أو أسرهما زاد فى رواية ثم انطلقت فلبست لامتى
وجعلت أجر الرمح مخافة أن يشركنى أهل الماء يعنى قومه قال حتى أتيت فرسى أى وكان
يقال لها العود والفرس لغة تقع على الذكر والأنثى قال فى النور والمراد هنا الأنثى
لقوله فركبتها ولقوله فرقعتها أى بالغت فى إجرائها حتى دنوت منهم
وفى لفظ فرفعتها تقرب بى وحينئذ يكون المراد أسرعت
بالسير بها لأن التقريب دون العدو وفوق العادة فعثرت بى فرسى أى فوقعت لمنخريها
كما فى حديث أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما
زاد فى رواية ثم قامت تحمحم فخررت عنها فقمت فأهويت بيدى
على كنانتى فاستخرجت الأزلام أى وهى عيدان السهام التى لا ريش لها ولم تركب فيها
النصال واستقسمت بها أضرهم أم لا فخرج الذى أكره وهو عدم إضرارهم أى لأنه مكتوب
عليها أفعل لا تفعل ويقال للأول الآمر ويقال للثانى الناهى فركبت فرسى وعصيت
الأزلام تقرب بى حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو
بكر يكثر الألتفات ساخت أى غابت يدا فرسى فى الأرض حتى بلغتا الركبتين أى وكانت
الأرض جلدة فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ
لأثر يديها عثان أى غبار ساطع فى السماء مثل الدخان أى مع كون الأرض جلدة فاستقسمت
بالأزلام فخرج الذى أكره فناديتهم بالأمان أى وقلت أنظرونى لا أوذيكم ولا يأتيكم
منى شئ تكرهونه
أى وفى رواية ناديت القوم وقلت أنا سراقة بن مالك
أنظرونى أكلمكم أنا لكم نافع غير ضار وإنى لا أدرى لعل الحى فزعوا لركوبى أى أن
بلغهم ذلك وأنا راجع
رادهم
عنكم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبى بكر قل له ماذا تبتغى فوقفوا
فأخبرتهم بما تريد الناس منهم
وفى رواية قال يا محمد ادع الله أن يطلق فرسى وأرجع عنك
وأرد من ورائى وفى رواية قال ياهذان ادعوا لى الله ربكما ولكما أن لا أعود ففعل أى
دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق الفرس وحينئذ يكون زجره لها ونهوضها
بعد الدعاء فلا مخالفة قال فركبت فرسى أى بعد نهوضها حتى جئتهم فقلت إن قومك جعلوا
فيك الدية أى مائة من الإبل لمن قتلك أو أسرك وهذا هو المراد بقوله فى الرواية
السابقة فأخبرتهم بما يريد الناس منهم وكأنه رأى أن ذلك كاف فى لحوقه بهم عن ذكر
أبى بكر قال سراقة وعرضت عليهما الزاد والمتاع فلم يفبلا وقالا اخف عنا أى وفى
رواية عرضت عليهما الزاد والحملان أى ولعل الحملان هو المراد بالمتاع أى لأنه جاء
أنه قال لهما خذا هذا السهم من كنانتى وغنمى وإبلى بمحل كذا وكذا فخذا منهما ما
شئتما فقالا اكفنا نفسك فقال كفيتماها
أقول وفى رواية قال له صلى الله عليه وسلم يا سراقة إذا
لم ترغب فى دين الإسلام فإنى لا أرغب فى إبلك ومواشيك وفى رواية عن أبى بكر رضى
الله عنه قال لما أدركنا سراقة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا { لا تحزن إن
الله معنا } أى وقد تقدم أنه قال ذلك له فى الغار فلما كان بيننا وبينه قيد أى
مقدار رمح أو ثلاثة قلت يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت قال لم تبكى قلت
أما والله ما على نفسى أبكى ولكن أبكى عليك فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال اللهم اكفناه بما شئت فساخت به فرسه فى الأرض إلى بطنها وكانت الأرض صلبة أى
ولا يخالف ما سبق أنها بلغت الركبتين لجواز أن يكون ذلك فى أول أمرها ثم صارت إلى
بطنها وذلك كله فى المرة الأولى فلا يخالف ما فى الإمتاع لما قرب من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ساخت يدا فرسه فى الأرض إلى بطنها فقال ادع لى يا محمد أن يخلصنى
الله تعالى ولك على أن أرد عنك الطلب فدعا فخلص فعاد فتبعهم فساخت قوائم فرسه فى
الأرض أشد من الأولى فقال يا محمد قد علمت أن هذا من دعائك على الحديث إذ هو يدل
على أنها فى المرة الأولى وصلت إلى بطنها وفى الثانية وصلت إلى ما هو زائد على ذلك
وقد يدل له ما يأتى عن الهمزية ولعل المراد أنه دخل جزء من بطنها فى الأرض
فى المرة
الثانية وفى لفظ فقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فادع الله ينجينى مما أنا فيه
فو الله لأعمين على من ورائى من الطلب فدعا له فانطلق راجعا
وفى السبعيات للهمدانى أن سراقة لما دنا منه صلى الله
عليه وسلم صاح وقال يا محمد من يمنعك منى اليوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يمنعنى الجبار الواحد القهار ونزل جبريل عليه السلام وقال يا محمد إن الله عز وجل
يقول جعلت الأرض مطيعة لك فأمرها بما شئت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا
أرض خذيه فأخذت الأرض أرجل جواده إلى الركب فساق سراقة فرسه فلم يتحرك فقال يا
محمد الأمان وعزة العزى لو أنجيتنى لأكونن لك لا عليك فقال يا أرض أطلقيه فأطلقت
جواده
وروى فى بعض التفاسير أن سراقة عاهد سبع مرات ثم ينكث
العهد وكلما ينكث العهد تغوص قوائم فرسه فى الأرض وهذا أى الاقتصار على غوص قوائم
فرسه فى الأرض لا ينافى الزيادة فلا يخالف ما سبق وفى السابعة تاب توبة صدق
وفى الفصول المهمة لما اتصل خبر مسيره صلى الله عليه
وسلم إلى المدينة وذلك فى اليوم الثانى من خروجه صلى الله عليه وسلم من الغار جمع
الناس أبو جهل وقال بلغنى أن محمدا قد مضى نحو يثرب على طريق الساحل ومعه رجلان
آخران فأيكم يأتينى بخبره فوثب سراقة فقال أنا لمحمد يا أبا الحكم ثم إنه ركب
راحلته واستجنب فرسه وأخذ معه عبدا له أسود كان ذلك العبد من الشجعان المشهورين
فسارا أى فى أثر النبى صلى الله عليه وسلم سيرا عنيفا حتى لحقا به فقال أبو بكر يا
رسول الله قد دهينا هذا سراقة قد أقبل فى طلبنا ومعه غلامه الأسود المشهور فلما
أبصرهم سراقة نزل عن راحلته وركب فرسه وتناول رمحه وأقبل نحوهم فلماقرب منهم قال
النبى صلى الله عليه وسلم اللهم اكفنا أمرسراقة بما شئت وكيف شئت وأنى شئت فغابت
قوائم فرسه فى الأرض حتى لم يقدر الفرس أن يتحرك فلما نظر سراقة إلى ذلك هاله ورمى
نفسه عن الفرس إلى الأرض ورمى رمحه وقال يا محمد أنت أنت وأصحابك أى أنت كما أنت
أى آمن وأصحابك فادع ربك يطلق لى جوادى ولك عهد وميثاق أن أرجع عنك فرفع النبى صلى
الله عليه وسلم يديه إلى السماء وقال اللهم إن كان صادقا فيما يقول فأطلق له جواده
فال قأطلق الله تعال له قوائم فرسه حتى وثب على الأرض سليما أى ولعل هذا فى المرة
الثانية أو المرة الأخيرة من السبع على ما تقدم وتقدم أن الاقتصار على القوائم لا
ينافى
الزيادة
عليها فلا يخالف ما سبق فى هذه الرواية ورجع سراقة إلى مكة فاجتمع الناس عليه
فأنكر أنه رأى محمدا فلا زال به أبو جهل حتى اعترف وأخبرهم بالقصة وفى ذلك يقول
سراقة مخاطبا لأبى جهل ** أبا حكم والله لو كنت شاهدا ** ** لأمر جوادى إذ تسوخ
قوائمه ** ** علمت ولم تشكك بأن محمدا ** ** رسول ببرهان فمن ذا يقاومه **
وسياق هذه الرواية يدل على أنه خرج خلف النبى صلى الله
عليه وسلم من مكة ويدل لذلك ما ذكر أنه كان أحد القاصين لأثره صلى الله عليه وسلم
فى الجبل لكنه مخالف لما تقدم أنه خرج خلفه صلى الله عليه وسلم من قديد من مجلس
قومه وأخفى خروج فرسه وخروجه عن قومه
وقد يقال لا مخالفة لأنه يجوز أن يكون لما خرج من مكة
سلك طريقا غير الطريق الذى سلكها النبى صلى الله عليه وسلم فلم يجده وسبقه على
قديد فجلس فى مجلس قومه فلما أخبر بمرورهم فعل ما تقدم ثم وجد عبده الأسود فى
مروره وكان معه راحلته فركبها واستجنب فرسه وصحب عبده
ولا مانع أن يخرج من مكة بعد خروجهم من الغار ويسبقهم
على قديد ولا ينافى ذلك قوله فأتانا رسل كفار قريش لأنه يجوز أن يكون ذلك هو
الحامل لسراقة على الذهاب إلى مكة لعله يجده بطريقه ولا ينافى ذلك كونه كان أحد
القصاصين لأثره صلى الله عليه وسلم لأنه يجوز أن يكون عاد إلى قديد قبل أن يجعل الجعل
وفى كلام بعضهم أنه أرسل بهذين البيتين إلى أبى جهل ولا منافاة لجواز أن يكون أرسل
بهما قبل أن يشافهه بهما
وفى رواية أنه لما لحق بهم قال صلى الله عليه وسلم اللهم
اصرعه فصرع عن فرسه فقال يا نبى الله مرنى بما شئت قال تقف مكانك لا تتركن أحدا
يلحق بنا
ثم لا يخفى أن صرعه عن فرسه يحتمل أن يكون لما ساخت
ويحتمل أنه صرع عنها قبل ذلك وهو ظاهر سياق الرواية الأولى وهى فعثرت بى فرسى
فخررت عنها وحينئذ يكون عثورها بدعائه صلى الله عليه وسلم والله أعلم
قال سراقة فسألته أن يكتب لى كتاب أمن لأنه وقع فى نفسى
حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفى السبعيات قال سراقة يا محمد إنى لأعلم أنه سيظهر
أمرك فى العالم وتملك رقاب الناس فعاهدنى أنى إذا أتيتك يوم ملكك فأكرمني فأمر
عامر بن فهيرة أى وقيل أبا بكر فكتب لى فى رقعة من أدم أى وقيل فى قطعة من عظم
وقيل فى خرقة
أقول وحينئذ يمكن أن يكون كتب عامر بن فهيرة أولا فطلب
سراقة أن يكون أبو بكر هو الذى يكتب فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابة
ذلك فأحدهما كتب فى الرقعة من الأدم والآخر كتب فى العظم أو الخرقة أو المراد
بالخرقة الرقعة من الأدم فلا مخالفة
ولما اراد الانصراف قال له كيف بك ياسراقة إذا تسورت
بسوارى كسرى قال كسرى بن هرمز قال نعم وسيأتى أن سراقة أسلم بالجعرانة ولما قدم
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بها قال له مرحبا بك
وعن سراقة لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين
والطائف خرجت ومعى الكتاب لألقاه فلقيته بالجعرانة فدخلت فى كتيبة من خيل الأنصار
فجعلوا يقرعوننى بالرماح ويقولون إليك ماذا تريد قال فدنوت من رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو على ناقته فرفعت يدى بالكتاب ثم قلت يا رسول الله هذا كتابى وأنا
سراقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم وفاء وبشر أدنه فدنوت منه وأسلمت
ولما جئ لعمر رضى الله تعالى عنه فى زمن خلافته بسوارى
كسرى وتاجه ومنطقته أى وبساطه وكان ستين ذراعا فى ستين ذراعا منظوما باللؤلؤ
والجواهر الملونة على ألوان زهر الربيع كان يبسط له فى إيوانه ويشرب عليه إذا عدمت
الزهور وجئ له بمال كثير من مال كسرى وبنات كسرى وكن ثلاثا وعليهن الحلى والحلل
والجواهر ما يقصر اللسان عن وصفه وعند ذلك دعا سراقة وقال ارفع يديك وألبسه
السوارين وقال له قل الحمد لله الذى سلبهما كسرى بن هرمز الذى كان يقول أنا رب
الناس وألبسهما سراقة بن مالك أى ورفع عمر بها صوته وصب المال الذى جئ به من أموال
كسرى فى صحن المسجد وفرقه على المسلمين ثم قطع البساط وفرقه بين المسلمين فأصاب
عليا رضى الله تعالى عنه منه قطعة باعها بخمسين ألف دينار ثم جئ ببنات الملك
الثلاث فوقفن بين يديه وأمر المنادى أن ينادى عليهن وأن يزيل نقابهن عن
وجوههن
ليزيد المسلمون فى ثمنهن فامتنعن من كشف نقابهن ووكزن المنادى فى صدره فغضب عمر
رضى الله تعالى عنه وأراد أن يعلوهن بالدرة وهن يبكين فقال له على رضى الله تعالى
عنه مهلا يا أمير المؤمنين فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ارحموا
عزيز قوم ذل وغنى قوم افتقر فسكن غضبه فقال له على إن بنات الملوك لا يعاملن
معاملة غيرهن من بنات السوقة فقال له عمركيف الطريق إلى العمل معهن فقال يقومن
ومهما بلغ ثمنهن يقوم به من يختارهن فقومن وأخذهن على رضى الله تعالى عنه فدفع
واحدة لعبد الله بن عمر فجاء منها بولده سالم وأخرى لمحمد بن أبى بكر فجاء منها بولده
القاسم والثالثة لولده الحسين فجاء منها بولده على الملقب بزين العابدين وهؤلاء
الثلاثة فاقوا أهل المدينة علما وورعا وكان أهل المدينة قبل ذلك يرغبون عن التسرى
فلما نشأ هؤلاء الثلاثة فيهم رغبوا فيه
ومن غريب الانفاق ما حكاه بعضهم قال كنت أجالس سعيد بن
المسيب واعجب سعيد بى يوما فقال لى من أخوالك فقلت أمى فتاة فكأنى نقصت من عينه
فأنا عنده إذ دخل عليه سالم بن عبد الله بن عمر فلما خرج من عنده قلت له ياعم من
هذا قال سبحان الله أتجهل مثل هذا من قومك هذا سالم بن عبد الله بن عمر قلت فمن
أمه قال فتاه ثم دخل القاسم بن محمد فجلس عنده ثم نهض فلما خرج قلت يا عم من هذا
قال ما أعجب أمرك أتجهل مثل هذا هذا القاسم بن محمد بن أبى بكر قلت فمن أمه قال
فتاه ثم دخل عليه على بن حسين فجلس ثم نهض فلما خرج قلت له من هذا قال عجبت منك
أتجهل مثل هذا هذا على زين العابدين بن الحسين قلت فمن أمه قال فتاة قلت يا عمى
رأيتنى نقصت من عينك لما علمت أن أمى فتاة فما لى فى هؤلاءأسوة فقال أجل وعظمت فى
عينه جدا
ولما رجع سراقة صار يرد عنهم الطلب لا يلقى أحدا إلا رده
يقول سيرت أى اختبرت الطريق فلم أر أحدا وفى لفظ قال لقريش أى لجماعة منهم قصدوه
صلى الله عليه وسلم كأنهم أخبروا بمكان مسيره ذلك قد عرفتم بصرى بالطريق وقد سرت
فلم أر شيئا فرجعوا أى فإن كفار قريش لما سمعوا من الهاتف أى ومن غيره بأنه صلى
الله عليه وسلم الله عليه وسلم نزل فى خيمة أم معبد كما سيأتى أرسلوا سرية فى طلبه
يقول قائلهم اطلبوه قبل أن يستعين عليكم بكلبان العرب فيحتمل أن هؤلاء هم الذين
ردهم سراقة
فكان
سراقة أول النهار جاهدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآخر النهار مسلحة أى
سلاحا له
وفى رواية قال سراقة خرجت وأنا أحب الناس فى تحصيلهما
ورجعت وأنا أحب الناس فى أن لا يعلم بهما أحد ويحتمل أنه بعد أن ردهم سراقة ذهبوا
إلى أم معبد
ففى تتمة الخبر أن تلك السرية جاءت إلى أم معبد فسألوها
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشفقت أى خافت عليه منهم فتعاجمت عليهم أى أظهرت
عدم علمها بذلك فقالت إنكم تسألونى عن أمر ما سمعت به قبل عامى هذا ثم قالت لئن لم
تنصرفوا عنى لأصرخن فى قومى عليكم وكانت فى عز من قومها فانصرفوا ولم يعلموا أين
توجه أى من أى طريق توجه أى ولعلها قالت لهم ذلك لما رأت منهم التثقيل عليها وهذا
السياق يدل على أن قصة أم معبد وإلى قصة سراقة أشار صاحب الأصل بقوله ** غرت سراقة
أطماع فساخ به ** ** جواده فانثنى للصلح مطلبا ** وإليها أشار أيضا صاحب الهمزية
بقوله ** واقتفى أثره سراقة فاستهوته ** ** فى الأرض صافن جرداء ** ** ثم ناداه
بعد ما سمت الخسف ** ** وقد ينجد الغريق النداء **
أى وتبع أثره سراقة فهوت أى سقطت به صافن وهى الفرس التى
تقوم على ثلاث قوائم وتقيم الرابعة على طرف الحافر وهو وصف محمود فى الخيل
جرداءقصيرة الشعر وذلك وصف محمود فى الخيل أيضا بعد أن قاربت أن يخسف بها كلها وقد
يخلص الدعاء الغريق كما وقع ليونس صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه
قال وعن أبى بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أنه قال سرنا
ليلتنا كلها حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يرى فيه أحد رفعت لنا صخرة
طويلة لها ظل فنزلنا عندها فأتيت الصخرة فسويت بيدى مكانا ينام فيه رسول الله عليه
وسلم في ظلها ثم بسطت له فروة معي ثم قلت يا رسول الله نم وأنا أتجسس وأتعرف من
تخافه فنام صلى الله عليه وسلم وإذا براع يقبل نغنمه إلى الصخرة يريد منها الذى
أردناه أى وهو الظل فلقيته فقلت له لمن أنت يا غلام فقال لرجل من أهل مكة فسماه
فعرفته أى وقال الحافظ ابن حجر لم أقف على اسم هذا الراعى ولا على اسم صاحب الغنم
قال
أبو بكر
رضى الله تعالى عنه فقلت هل فى غنمك من لبن قال نعم قلت أفتحلب لى قال نعم فأخذ
شاة فحلب لى فى قعب معه وفى رواية فى إداوة معى على فيها خرقة فأتيت النبى صلى
الله عليه وسلم وكرهت أن أوقظه من نومه فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء
حتى برد أسفله فقلت يا رسول الله اشرب من هذا اللبن فشرب لأنه جرت العادة بإباحة
مثل ذلك لابن السبيل إذا احتاج إلى ذلك فكان كل راع مأذونا له فى ذلك أى كما تقدم
فلا ينافى ما جاء لا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه أو أن هذا الحديث محمول على
فعل ذلك اختلاسا من غيرمعرفة الراعى
وأما قول بعضهم إنما استجاز شربه لأنه مال حربى ففيه نظر
لأن الغنائم أى أموال الحربيين لم تكن أبيحت له حينئذ ثم قال يعنى النبى صلى الله
عليه وسلم ألم يأن للرحيل قلت بلى فارتحلنا بعد ما زالت الشمس انتهى
أى وفى رواية أن أبا بكر قال قد آن الرحيل يا رسول الله
أى دخل وقته قال الحافظ ابن حجر يجمع بينهما بأن يكون النبى صلى الله عليه وسلم
بدأ فسأل فقال له أبو بكر بلى ثم أعاد عليه بقوله قد آن الرحيل واجتازوا فى طريقهم
بأم معبد أى واسمها عاتكة وكان منزلها بقديد أى وهو محل سراقه كما تقدم ولعلها
كانت بطرفه الأخير الذى يلى المدينة ومنزل سراقة بطرفه الذى يلى مكة وكانت مسافته
متسعة فليتأمل
وكانت أم معبد امرأة برزة جلدة تختبى بفناء بيتها وتطعم
وتسقى وهى لا تعرفهم أى وسألوها لحما وتمرا أى وفى رواية أو لبنا يشترونه فقالت
والله لو كانت عندنا شئ ما أعوزناكم أى للشراء وفى رواية ما أعوزناكم القرى لأنهم
كانوا مسنتين أى مجدبين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم معبد هل عندك
من لبن قالت لا والله فرأى شاة خلفها الجهد عن الغنم أى لم تطق اللحاق بها لما بها
من الهزال قال هل بها من لبن قالت هى أجهد من ذلك قال أتأذنين فى حلابها قالت
والله ما ضربها من فحل قط فشأنك أى أصلح شأنك بها إن رأيت منها حلبا فاحلبها فدعا
بها فمسح ظهرها بيده أى وفى رواية فبعث النبى صلى الله عليه وسلم معبدا وكان صغيرا
فقال ادع هذه الشاة ثم قال يا غلام هات فرقا فمسح ظهرها وفى رواية فمسح بيده ضرعها
وظهرها وسمى الله تعالى أى وقال اللهم بارك لنا شاتنا فدرت واجترت وتفاحجت أى فتحت
ما بين رجليها للحلب ثم دعا بإناء يربض الرهط أى يروبهم
بحيث يغلب
عليهم الرى فيربضون وينامون والرهط من الثلاثة للعشرة وقيل من التسعة إلى الأربعين
فحلب فيها ثجا أى بقوة لكثرة اللبن ومن ثم قال حتى علاه البهاء وفى رواية حتى علته
الثمالة بضم المثلثة أى الرغوة وفى رواية فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى
رووا عللا بعد نهل أى مرة ثانية بعد الأولى ثم شرب صلى الله عليه وسلم فكان آخرهم
شربا وقال ساقى القوم آخرهم شربا ثم حلب فيه وغادره أى تركه عندها وارتحل وإلى ذلك
أشار الإمام السبكى بقوله فى تائيته ** مسحت على شاة لدى أم معبد ** ** بجهد
فألفتها أدر حلوبة ** وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله فى وصف راحته الشريفة ** درت الشاة حين مرت عليها ** ** فلها
ثروة بها ونماء **
أى أرسلت لبنها حين مرت راحته الشريفة على تلك الشاة
فلتلك الشاة بسبب تلك الراحة كثرة لبن وزيادة
وعن أم معبد أن هذه الشاة بقيت إلى خلافة سيدنا عمر بن
الخطاب رضى الله تعالى عنه إلى سنة ثمانى عشرة وقيل سبع عشرة من الهجرة ويقال لتلك
السنة عام الرمادة أى وكانت تلك السنة أجدبت الأرض إجدابا شديدا حتى جعلت الوحوش
تأوى إلى الإنس ويذبح الرجل الشاة فيعافها أى لخبث لحمها وكانت الريح إذا هبت ألقت
ترابا كالرماد فسمى ذلك العام عام الرمادة وعند ذلك آلى عمر رضى الله تعالى عنه أن
لا يذوق لبنا ولا سمنا ولا لحما حتى تحيا الناس أى تجئ عليهم الحيا وهو المطر وقال
كيف لا يعنينى شأن الرعية إذ لم يمسنى مامسهم وهذا السياق يدل على أن الذى حلبه
صلى الله عليه وسلم عند أم معبد شاة واحدة
وفى تاريخ العينى شارح البخارى قال يونس عن أبن إسحاق
أنه دعا ببعض غنمها فمسح ضرعها بيده ودعا الله وحلب فى العس حتى أرغى وقال اشربى
يا أم معبد فقالت أشرب أشرب فأنت أحق به فرده عليها فشربت ثم دعا بحائل أخرى ففعل
بها مثل ذلك فسقى دليله ثم دعا بحائل أخرى ففعل بها مثل ذلك فسقى عامر بن فهيرة
وطلبت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغوا أم معبد فسألوا عنه صلى الله
عليه وسلم ووصفوه لها فقالت ما أدرى ما تقولون قد ضافنى حالب الحائل فقالوا ذلك
الذى نريده
وعند قول عمر رضى الله تعالى عنه ذلك قال كعب لعمر يا
أمير المؤمنين إن بنى إسرائيل كانوا إذا أصابهم مثل هذا استسقوا بعصبة الأنبياء
فقال عمر هذا عم النبى صلى الله عليه وسلم وصنو أبيه وسيد بنى هاشم يعنى العباس
فمشى إليه عمر وشكا إليه ما فيه الناس فصعد عمر المنبر ومعه العباس وقال اللهم إنا
قد توجهنا إليك بعم نبينا وصنو أبيه صلى الله عليه وسلم فاسقنا الغيث ولا تجعلنا
من القانطين ثم قال عمر للعباس يا أبا الفضل قم وادع فقام وحمد الله وأثنى عليه
ودعا بدعاء منه اللهم شفعنا فى أنفسنا وأهلينا اللهم إنا نشكو إليك جوع كل جائع
اللهم إنا لا نرجو إلا إياك ولا ندعو غيرك ولا نرغب إلا إليك فسقوا قبل أن يصلوا
إلى منازلهم وخاضوا فى الماء وأخصبت الأرض وعاش الناس فقال عمر هذا والله هو
الوسيلة إلى الله تعالى فصار الناس يتمسحون بالعباس ويقولون هنيئا لك سقينا فى
الحرمين
وذكر السهيلى أن جماعة كانت مقبلة إلى المدينة فى ذلك
اليوم فسمعوا صائحا يصيح فى السحاب أتاك الغوث أبا حفص أتاك الغوث أبا حفص
هذا وذكر العلامة ابن حجر الهيتمى فى الصواعق عن تاريخ
دمشق أن الناس كرروا الاستسقاء عام الرمادة سنة سبع عشرة من الهجرة فلم يسقوا فقال
عمر رضى الله تعالى عنه لأستسقين غدا بمن يسقينى الله به فلما أصبح غدا للعباس رضى
الله تعالى عنه فدق عليه الباب فقال من قال عمر قال ما حاجتك قال اخرج حتى نستسقى
الله بك قال اقعد فأرسل إلى بنى هاشم أن تطهروا والبسوا من صالح ثيابكم فأتوه
وأخرج طيبا وطيبهم ثم خرج وعلى أمامه بين يديه والحسن عن يمينه والحسين عن يساره
وبنو هاشم خلف ظهره وقال يا عمرلا تخلط بنا غيرنا ثم أتى المصلى فوقف فحمد الله
تعالى وأثنى عليه وقال اللهم إنك خلقتنا ولم تؤامرنا وعلمت ما نحن عاملون قبل أن
تخلقنا فلم يمنعك علمك فينا عن رزقنا اللهم فكما تفضلت علينا فى أوله فتقضل علينا
فى آخره قال جابر فما برحنا حتى سحت السماء علينا سحا فما وصلنا إلى منازلنا إلا
خوضا فقال العباس أنا ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى ابن المسقى خمس
مرات أشار إلى أن أباه عبد المطلب استسقى خمس مرا ت فسقى هذا كلامه فلينظر الجمع
قال ابن شهاب كان أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم يعرفون
للعباس فضله
ويقدمونه
ويشاورونه ويأخذون برأيه أى وكان لايمرعمر وعثمان وهما راكبان إلا ترجلا حتى يجوز
العباس وربما مشيا معه إلى بيته إجلالا له أى لأنه صلى الله عليه وسلم قال احفظونى
فى العباس فإنه عمى وصنو أبى وفى رواية فإنه بقيه آبائى
قالت أم معبد فى وصف تلك الشاة وكنا نحلبها صبوحا وغبوقا
أى بكرة وعشية وما فى الأرض قليل ولا كثير أى مما يتعاطى الدواب أكله ولما جاء
زوجها أبو معبد قال السهيلى لا يعرف اسمه وقيل اسمه أكثم بالثاء المثلثة كما تقدم
وقيل خنيس وقيل عبد الله جاء عند المساء يسوق اعنزا عجافا ورأى اللبن الذى حلبه
صلى الله عليه وسلم عجب وقال يا أم معبد ما هذا اللبن ولا حلوب فى البيت أى والشاة
عازب أى لم يطرقها فحل لكن رأيته فى النور فسر العازب بالبعيدة المرعى التى لا
تأوى إلى المنزل فى الليل وفى الصحاح العازب الكلأ البعيد الذى لم يؤكل ولم يوطأ
قالت مر بنا رجل مبارك قال صفيه قالت رأيت رجلا ظاهر
الوضاءة متبلج الوجه أى مشرقه فى أشفاره أى أجفان عينيه أى شعرها النابت بها وطف
أى طول وفى عينيه دعج بشدة السواد وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بياض عينيه
شديد البياض بل كان أشكل العين والشكلة خمرة فى بياض العين وهو دليل الشهامة وهى
من علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فى الكتب القديمة كما تقدم وفى صوته صحل أى
بحة بضم الموحدة أى ليس حاد الصوت غصن بين الغصنين لا تشنؤه من طول أى لا تبغضه
لفرط طوله ولا تقتحمه من قصر أى تحتقره من قصره لم تعبه ثجلة أى عظم البطن وكبرها
ولم تزر به صعلة أى صغر الرأس كأن عنقه إبريق فضة أى والإبريق السيف الشديد البريق
إذا نطق فعليه البهاء وإذا صمت فعليه الوقار له كلام كخرزات النظم أزين أصحابه
منظرا وأحسنهم وجها أصحابه يحفون به إذا أمر ابتدروا أمره وإذا نهى انتهوا عند
نهيه
قال وفى لفظ أنها قالت رأيت رجلا ظاهر الوضاءة أبلج
الوجه أى مشرقه حسن الخلق لم تعبه ثجلة ولم تزره صعلة وسيما قسيما أى حسنا فى
عينيه دعج وفى أشفاره وطف وفى صوته صحل أو قالت صهل أحور أكحل أى فى أجفان عينيه
سواد خلقة وفى عنقه سطع أى نور وفى لحيته كثافة أى لا طويلة ولادقيقة
أزج أى
رقيق طرف الحاجب أقرن أى مقرون الحاجبين شديد سواد الشعر إن صمت فعليه الوقار وإن
تكلم سما به أى ارتفع على جلسائه وعلاه البهاء أجمل الناس وأبهاهم من بعيد وأحسنهم
من قريب حلو المنطق فصل لا نزر ولا هذر كأن منطقه خززا ت نظمن يتحدرن ربعة لا
تشنؤه أى تبغضه من طول أى من فرط طوله ولا تقتحمه عين من نظر أى لا تتجاوزه إلى
غيره اختيارا له غصنا بين عصنين فهو أنضر الثلاثة منظرا وأحسنهم قدرا له رفقاء
يحفون به إن قال أنصتوا لقوله وإن أمر ابتدروا إلى أمره محفود مخدوم محشود له حشد
وجماعة لا عابس ولا مفند أى يكثر اللوم اه قال هذه والله صفة صاحب قريش ولو رأيته
لا تبعته ولأجتهدن أن أفعل
أى وفى الإمتاع ويقال إنها أى أم معبد ذبحت لهم شاة
وطبختها فأكلوا منها ووضعت لهم فى سفرتهم منها ما وسعته تلك السفرة وبقى عندها
أكثر لحمها
وفى الخصائص الكبرى أنه صلى الله عليه وسلم بايعها أى
أسلمت قبل أن يرتحلوا عنها وفى كلام ابن الجوزى أن أم معبد هاجرت واسلمت وكذا
زوجها هاجر وأسلم
اقول فى شرح السنة للبغوى وهاجرت هى وزوجها وأسلم أخوها
حبيش بن الأصفر واستشهد يوم الفتح وكان أهلها يؤرخون بيوم نزول الرجل المبارك
ويقال بأن زوجها خرج فى أثرهم فأدركهم وبايعه صلى الله عليه وسلم ورجع
وفى الأجوبة المسكتة لابن عون قيل لأم معبد ما بال صفتك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشبه به من سائر صفات من وصفه أى من الرجال فقالت
أما علمتم أن نظر المرأة من الرجل أشفى من نظر الرجل إلى الرجل
وفى ربيع الأبرار للزمخشرى عن هند بنت الجون أنه صلى
الله عليه وسلم لما كان بخيمة خالتها أم معبد قام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم
تمضمض ومج ذلك فى عوسجة إلى جانب الخيمة فأصبحت وهى أعظم دوحة أى شجرة ذات فروع
كثيرة وجاءت بثمر كأعظم ما يكون فى لون الورس ورائحة العنبر وطعم الشهد ما أكل
منها جائع إلا شبع ولا ظمآن إلا روى ولا سقيم إلا برئ ولا أكل من ورقها بعير إلا
در فكنا نسميها المباركة فأصبحنا فى يوم من الأيام وقد سقط ثمرها واصفر
ورقها
ففزعنا لذلك فما راعنا إلا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال والعجب كيف لم
يشتهر أمر هذه الشجرة كما اشتهر أمر الشاة
وعن أم معبد أنها قالت مر على خيمتى غلام سهيل بن عمرو
ومعه قربتان فقلت ما هذا قال إن النبى صلى الله عليه وسلم كتب إلى مولاى يستهديه
ماء زمزم فأنا أعجل السيركى لا تنشف القرب أى فإنه صلى الله عليه وسلم كتب إلى
سهيل بن عمرو إن جاءك كتابى ليلا فلا تصبحن أو نهارا فلا تمسين حتى تبعث إلى من
ماء زمزم فجاء بقربتين فملأهما من ماء زمزم وبعث بهما على بعير مولاه أزهر ولا زال
كفار قريش بمكة لا يعلمون أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حتى
سمعوا هاتفا يذكرهما ويذكر أم معبد فى أبيات منها ** جزى الله رب الناس خير جزائه
** ** فيقين قالا خيمتى أم معبد ** ** هما نزلا بالبر ثم ترحلا ** ** فأفلح من
أمسى رفيق محمد **
فعلموا توجهه ليثرب أى وفى طريق اليمن محل يقال له
الدهيم وبئر أم معبد قال بعضهم وليست بأم معبد التى نزل بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة ويجوز أن يكون الخبر الذى وصل إليهم فى اليوم
الثانى من خروجه من الغار هو قول هذا الهاتف أو عقبه من شخص رآهم وإلى قول الهاتف
أشار صاحب الهمزية بقوله ** وتغنت بمدحه الجن حتى ** ** أطرب الإنس منه ذاك الغناء **
أى وأظهرت الجن أوصافه صلى الله عليه وسلم الحميدة فى
صورة الغناء الذى تتولع به النفس حتى أطرب ذلك الغناء الإنس حيث سمعوه وأما قول
بعضهم إنهم علموا ذلك من هاتف هتف بقوله ** إن يسلم السعدان يصبح محمد من الأمر لا
يخشى خلاف المخالف **
فقالوا السعود سعد بن بكر وسعد بن زيد مناة وسعد هديم
فلما كانت القابلة سمعوا ذلك الهاتف يقول ** فياسعد سعد الأوس كن أنت مانعا ** **
ويا سعد الخزرجين الغطارف **
فقالوا سعد الأوس سعد بن معاذ وسعد الخزرجين سعد بن
عبادة ففيه نظر لأن السعدين المذكورين كانا أسلما قبل ذلك فلا يحسن قوله إن يسلم
السعدان
أقول يجوز أن يكون أن هنا بمعنى إذ أى صيرورته صلى الله
عليه وسلم آمنا لا يخشى
خلاف
المخالف إسلام السعدين أو المراد دوامهما على الإسلام على أنه ذكر فى الأصل أن
إنشاد هذين البيتين وسماع أهل مكة له كان قبل إسلام سعد بن معاذ
وذكر بعضهم أن السعود من الأنصار سبعة أربعة من الأوس
سعد بن معاذ وسعد بن خيثمة وسعد بن عبيد وسعد بن زيد وثلاثة من الخزرج سعد بن
عبادة وسعد بن الربيع وسعد بن عثمان أبو عبيدة والله أعلم
قال وتقديم قصة سراقة على قصة أم معبد هو ما فى الأصل
وقد التزم فيه ترتيب الوقائع وقضية الترتيب ذكر قصة أم معبد قبل قصة سراقة لأنه
الصحيح الذى صرح به جماعة اه
أقول ومما يدل لذلك ما تقدم من أن كفار قريش لم يعلموا
أين توجه صلى الله عليه وسلم حتى سمعوا الهاتف يذكر أم معبد
وعن أسماء بنت أبى بكر رضى الله تعالى عنهما قالت لما
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم أتانا نفر من قريش فيهم أبو جهل وقفوا على الباب
فخرجت إليهم فقالوا أين أبوك قلت والله لا أدرى فرفع أبو جهل يده فلطم خدى لطمة
خرم منها قرطى أى وفى لفظ طرح منها قرطى والقرط ما يعلق فى شحمة الأذن قالت ثم
انصرفوا فمضى ثلاث ليال ولم ندر أين توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل
رجل من الجن من أسفل مكة يغنى بأبيات وإن الناس ليتبعونه يسمعون صوته حتى خرج
بأعلى مكة يقول جزى الله رب الناس الأبيات كذا فى الأصل
وفيه أن قولها لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم
ظاهر فى خروجه للغار وقولها فمضى ثلاث لا ندرى أين توجه يقتضى أن المراد خروجه من
الغار وتقدم أنهم علموا بخروجه إلى المدينة فى اليوم الثانى من خروجه من الغار
وتقدم أنهم لم يعلموا بذلك إلا من الهاتف فليتأمل
وقد تبع الأصل فى ذلك شيخه الحافظ الدمياطى حيث قدم خبر
سراقة على قصة أم معبد إلا أن يقال الدمياطى لم يلتزم الترتيب فلا تحسن تبعيته
وهنا قصة أخرى فيها زيادة ونقص قيل هى قصة أم معبد وقيل غيرها وهى أنه اجتاز صلى
الله عليه وسلم بغنم فقال لراعيها لمن هذه فقال لرجل من أسلم فالتفت صلى الله عليه
وسلم لأبى بكر وقال سلمت إن شاء الله تعالى ثم قال للراعى ما اسمك قال مسعود
فالتفت إلى أبى بكر رضى الله تعالى عنه فقال سعدت إن شاء الله تعالى
وفى الإمتاع ولقى بريدة بن الحصيب الأسلمى رضى الله
تعالى عنه فى ركب من قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلموا أى والحصيب بضم الحاء
المهملة وفتح الصاد
وفى الشرف أن بريدة لما بلغه ما جعلته قريش لمن يأخذ
النبى صلى الله عليه وسلم طمع فى ذلك فخرج هو فى سبعين من أهل بيته وفى لفظ كانوا
نحو ثمانين بيتا وجينئذ يراد ببيته قومه فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال له من
أنت قال بريدة ابن الحصيب فالتفت النبى صلى الله عليه وسلم وقال يا أبا بكر برد
أمرنا وصلح قال ممن أنت قال من أسلم من بنى سهم قال النبى صلى الله عليه وسلم
سلمنا وخرج سهمك يا أبا بكر أى لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتفاءل ولا يتطير كما
تقدم ثم قال بريدة للنبى صلى الله عليه وسلم من أنت قال أنا محمد بن عبد الله بن
عبد المطلب رسول الله فقال بريدة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله فأسلم بريدة وكل من كان معه أى وصلوا خلفه صلى الله عليه وسلم العشاء
الآخرة ثم قال بريدة يا رسول الله لا تدخل المدينة إلا ومعك لواء فحل بريدة عمامته
ثم شدها فى رمح ثم مشى بين يديه أى وقال له كما فى الوفاء تنزل علام يا نبى الله
فقال النبى صلى الله عليه وسلم إن ناقتى هذه مأمورة فقال بريدة الحمد لله الذى
أسلمت بنو سهم يعنى قومه طائعين غير مكرهين
ولما سمع المسلمون بالمدينة بخروج رسول الله صلى الله
عليه وسلم من مكة كانوا يغدون كل غداة إلى الحرة ينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة
أقول ولعل خروجهم كان فى ثلاثة أيام وهى المدة الزائدة
على المسافة المعتادة بين مكة والمدينة التى كان بها فى الغار والله أعلم
فاتقلبوا يوما بعد أن طال انتظارهم أى وأحرقتهم الشمس
وإذا رجل من اليهود صعد على أطم أى محل مرتفع من آطامهم أى من محالهم المرتفعة
لأمر ينظر إليه فبصر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مبيضين أى لأنهم لقوا
الزبير فى ركب من المسلمين كانوا تجارا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا كما فى البخارى
وقيل إن الذى كساهما طلحة بن عبيد الله قال فى النور
ولعلهما لقياه معا أو متعاقبين فكسواه وأبا بكر ما ذكر وهذا الجمع أولى من ترجيح
الحافظ الدمياطى لهذا القيل
ومن ثم
ذكر الحافظ ابن حجر أن هذا القيل هو الذى فى السير ومال الدمياطى إلى ترجيحه على
عادته فى ترجيح ما فى السير على ما فى الصحيح لكنه ذكر أن ذلك كان شأنه فى ابتداء
أمره فلما تضلع من الأحاديث الصحيحة كان يرى الرجوع عن كثير مما وافق عليه أهل
السير وخالف الأحاديث الصحيحة
فلما رآهم ذلك اليهودى يزول بهم السراب أى يرفعهم
ويظهرهم أى والسراب ما يرى كالماء فى وسط النهار فى زمن الحر فلم يملك اليهودى أن
قال بأعلى صوته يا معشر العرب هذا جدكم أى حظكم الذى تنتظرون أى وفى رواية فلما
دنوا من المدينة بعثوا رجلا من أهل البادية إلى أبى أمامة وأصحابه من الأنصار أى
ولا مانع من وجود الأمرين فثار المسلمون إلى السلاح فبلغوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم بظهر الحرة أى وفى لفظ فوافوه وهو مع أبى بكر فى ظل نخلة ولعل تلك
النخلة كانت بظهر الحرة فلا مخالفة ثم قالوا لهما ادخلا آمنين مطاعين فعدل بهم ذات
اليمين حتى نزل بقباء فى دار بنى عمرو بن عوف وذلك فى يوم الأثنين لاثنتى عشرة
ليلة خلت من شهر ربيع الأول على كلثوم بن الهدم أى لأنه كان شيخ بنى عمرو بن عوف
أى وهم بطن من الأوس قيل وكان يومئذ مشركا ثم أسلم وتوفى قبل بدر بيسير وقيل أسلم
قبل وصوله صلى الله عليه وسلم المدينة أى وعند نزوله صلى الله عليه وسلم نادى
كلثوم بغلام له يا نجيح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجحت يا أبا بكر وكان
يجلس للناس ويتحدث مع أصحابه فى بيت سعد بن خيثمة أى لأنه كان عزبا لا أهل له هناك
أى وكان منزله يسمى منزل العزاب والعزب من الرجال من لا زوجة له ولا يقال أعزب
وقيل هى لغة رديئة
أقول وبذلك يجمع بين قول من قال نزل على كلثوم وقول من
قال نزل على سعد ابن خيثمة ثم رايت الحافظ الدمياطى أشار إلى ذلك والله أعلم
ونزل على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه لما قدم
المدينة على كلثوم أيضا بقباء بعد ان تأخر بمكة بعده صلى الله عليه وسلم ثلاث ليال
يؤدى الودائع التى كانت عند النبى صلى الله عليه وسلم لأمره له صلى الله عليه وسلم
يذلك كما تقدم
فلما توجه صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قام على رضى
الله تعالى عنه بالأبطح ينادى
من كان له
عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وديعة فليأت إليه أمانته فلما نفد ذلك ورد عليه
كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشخوص إليه فابتاع ركائب وقدم ومعه الفواطم
ومعه أم أيمن وولدها أيمن وجماعة من ضعفاء المؤمنين
أقول سيأتى ما يخالف ذلك وهو أنه صلى الله عليه وسلم لما
نزل فى دار أبى أيوب بعث زيد بن حارثه وأبا رافع إلى مكة وأعطاهما خمسمائة درهم
وبعيرين يقدمان عليه بفاطمة وأم كلثوم بنته وسودة زوجته وأم أيمن وولدها أسامة
إلاأن يقال يجوز أن يكون الكتاب الذى فيه استدعاء سيدنا على رضى الله تعالى عنه
للهجرة كان مع زيد وأبى رافع رضى الله تعالى عنهما وأنهما صحباه ولا ينافى ذلك ما
تقدم من أنه صلى الله عليه وسلم تأخر بعد على رضى الله تعالى عنه بمكة ثلاث ليال
يؤدى الودائع لأن تلك الليالى الثلاث كانت مدة تأدية الودائع ومكث بعدها إلى أن
جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يكون قدم على صلى الله عليه وسلم
بالمدينة بعد نزوله بقباء على كلثوم فلا مخالفة لكن فى السيرة الهشامية فنزل أى
على معه أى مع النبى صلى الله عليه وسلم على كلثوم وهو لا يتأتى إلا على القول
بأنه صلى الله عليه وسلم مكث فى قباء بضع عشرة ليلة كما سيأتى وحينئذ يخالف ما سبق
من مجيئه مع زيد وأبى رافع لما علمت أنه صلى الله عليه وسلم إنما أرسلهما بعد أن
تحول من قباء إلى المدينة
وفى الإمتاع لما قدم على من مكة كان يسير الليل ويكمن
النهار حتى تقطرت قدماه فاعتنقه النبى صلى الله عليه وسلم وبكى رحمة لما بقدميه من
الورم وتفل فى يديه وأمرهما على قدميه فلم يشكهما بعد ذلك ولا مانع من وقوع ذلك من
على مع وجود ما يركبه لأنه يجوز أن يكون هاجر ماشيا رغبة فى عظيم الأجر
وفى السيرة الهشامية أن إقامة على بقباء كانت ليلة أو
ليلتين وأنه رأى امرأة مسلمة لا زوج لها يأتيها إنسان من جوف الليل يضرب عليها
بابها فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه قال على فسألتها فقالت هذا سهل بن حنيف
قد عرف أنى امرأة لا أحد لى فإذا أمسى غدا على أوثان قومه فكسرها ثم جاءنى بها
فقال احتطبى بهذا أى اجعليه للنار فكان على يعرف ذلك لسهل بن حنيف والله أعلم
قال ونزل أبو بكر على حبيب بن أبى إساف وقيل على خارجة
بن زيد بالسنح بضم السين المهملة فنون ساكنة فجاء مهملة
وعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما ولد نبيكم يوم
الأثنين وحملت به أمه يوم الاثنين وخرج من مكة أى من الغار يوم الاثنين ودخل
المدينة يوم الاثنين
قال الحاكم تواترت الأخبار أن خروجه صلى الله عليه وسلم
كان يوم الاثنين ودخوله المدينة كان يوم الاثنين زاد بعضهم وفتح مكة كان يوم
الاثنين ووضع الركن كان يوم الاثنين
ومن الغريب ما حكاه بعضهم عن الربيع المالكى وكان بمصر
كان يوم الاثنين خاصة إذا نام فيه تنام عيناه ولا ينام قلبه وقيل خرج من مكة أى
إلى الغار يوم الخميس وعليه يكون مكث صلى الله عليه وسلم فى الغار تلك الليلة التى
هى ليلة الجمعة وليلة السبت وليلة الأحد وعليه يكون خروجه من الغار صبيحة ليلة
الأحد
ففى البخارى أتاهما أى الدليل براحلتهما صبح ثلاث وتقدم
أن خروجهما إلى الغار كان ليلا من بيت أبى بكر وقول أبى بكر سرنا ليلتنا كلها حتى
قام قائم الظهيرة يقتضى أنهما خرجا من الغار ليلا بل أول الليل لأن مع التأكد يبعد
أن يكون المراد بقية ليلتنا وتقدم عن البخارى أتاهما براحلتيهما صبح ثلاث وحمل ذلك
على ماقارب الصبح من الليل بعيد فلتيأمل هذا المحل وقيل دخلها أى المدينة ليلا كما
فى رواية لمسلم أى وقال الحافظ ابن حجر ويجمع بأن القدوم كان آخر الليل فدخلها
نهارا
أقول لعل مراد الحافظ أن الوصول كان ليلا إلى قرب
المدينة فأقاموا بذلك المحل إلى أن أسفر النهار وساروا فما وصلوا إلا وقت الظهيرة
فلا يخالف ما تقدم وقيل دخلها يوم الجمعة وذكر الحافظ ابن حجر أنه شاذ والله أعلم
وسرى السرور إلى القلوب بحلوله صلى الله عليه وسلم فى
المدينة فعن البراء رضى الله تعالى عنه قال ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشئ فرحهم
برسول الله صلى الله عليه وسلم
وعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه قال لما كان اليوم
الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شئ وصعدت ذوات
الخدور على الأجاجير أى الأسطحة عند قدومه صلى الله عليه وسلم يعلن بقولهن طلع
البدر علينا الخ
وعن عائشة رضى الله تعالى عنها لما قدم رسول الله صلى
الله عليه وسلم المدينة جعل النساء والصبيان والولائد يقلن ** طلع البدر علينا **
من ثنيات الوداع **
** وجب الشكر علينا ** ما دعا لله داعى ** ** أيها المبعوث فينا ** جئت بالأمر
المطاع **
قال واستشكل بأن ثنيات الوداع ليست من جهة القادم من مكة
بل هى من جهة الشام فقد قال ابن القيم فى الهدى فى غزوة تبوك ثنيات الوداع من جهة
الشام لا يطؤها القادم من مكة ونقل الحافظ ابن حجر عنه عكس ذلك وليس فى محله وأجيب
بأنه صلى الله عليه وسلم جاء من جهتها فى دخوله للمدينة عند خروجه من قباء اه
أى وفى كلام بعضهم ما كان أحد يدخل المدينة إلا منها فإن
لم يعبر منها مات قبل أن يخرج لوبائها كما زعمت اليهود فإذا وقف عليها قيل قد ودع
فسميت به وقيل قيل لها ثنية الوداع لأن المودع يمشى مع المسافر من المدينة إليها
وهو اسم قديم جاهلى وقيل إسلامى سمى ذلك المحل لذلك وقيل لأن الصحابة رضى الله
تعالى عنهم ودعوا فيها النساء اللاتى استمتعوا بهن فى خيبرعند رجوعهن من خيبر أو
وقع توديع من خرج إلى غزوة تبوك فيها أو لكونه صلى الله عليه وسلم ودع بعض
المسافرين عندها وهذا يدل على أن هذا الشعر قيل له عند دخوله المدينة لا عند دخوله
قباء وسياق بعضهم يقتضيه وسياق بعض آخر يقتضى أنه كان عند دخوله قباء ومن هذا تعلم
أن المدينة تطلق ويراد بها ما يشمل قباء ومنه قولنا وسرى السرور إلى القلوب بحلوله
صلى الله عليه وسلم فى المدينة فعن البراء إلى آخره وهى المرادة بدخوله المدينة
يوم الاثنين على ما تقدم وتطلق ويراد بها ما قابل قباء وحينئذ تكون هذه المرادة
بقول أنس لما كان اليوم الذى دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى
آخره ولعل منه ما فى بعض الروايات المتقدمة دخل المدينة يوم الجمعة الذى حكم الحافظ
ابن حجر بشذوذه كما تقدم
ولما جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قام أبو بكر
للناس أى وأبو بكر شيخ أى شيبه ظاهر والنبى صلى الله عليه وسلم شاب أى شعر لحيته
أسود مع كونه أسن من أبى بكر كما تقدم وقد قال أنس لم يكن فى الذين هاجروا أشمط
غير أبى بكر فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجئ
أبا بكر فيعرفه بالنبى صلى الله عليه وسلم حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه فعرفه الناس أى عرفه من جاء منهم بعد
ذلك أى لأن عدم تأثير الشمس فيه لتظليل الغمامة كان قبل البعثة إرهاصا كما تقدم
ومما يدل على أن خروجه من قباء كان يوم الجمعة قول بعضهم
ولبث رسول الله صلى الله عليه وسلم فى بنى عمرو بن عوف أى فى قباء بقية يوم
الاثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس وخرج يوم الجمعة وقيل لبث بضع
عشرة ليلة وهو المنقول عن البخارى
وعن ابن عقبة أقام صلى الله عليه وسلم ثنتين وعشرين ليلة
وفى الهدى أقام أربعة عشر يوما وهو ما فى صحيح مسلم فليتأمل وأسس فى قباء المسجد
الذى أسس على التقوى أى الذى نزلت فيه الآية وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال فى الهدى ولا ينافى هذا قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن المسجد الذى
أسس على التقوى فقال مسجدكم هذا وأشار لمسجد المدينة أى وفى رواية فأخذ حصاة فضرب
بها الأرض وقال مسجدكم هذا يعنى مسجد المدينة لأن كلا منهما مؤسس على التقوى هذا
كلامه ويوافقه ما نقل عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما أنه كان يرى كل مسجد بنى
بالمدينة الشاملة لقباء أسس على التقوى أى لكن الذى نزلت فيه الآية مسجد قباء وكان
خروجه صلى الله عليه وسلم من قباء يوم الجمعة حين ارتفع النهار قال قيل وكان محل
مسجد قباء مربد أى محلا يجفف فيه التمر لكلثوم بن الهدم وهو أول مسجد بنى فى الإسلام
لعموم المسلمين فلا ينافى أنه بنى قبله غيره من المساجد لكن لخصوص الذى بناه
كالمسجد الذى بناه الصديق بفناء داره بمكة كما تقدم انتهى
أى وفى كلام ابن الجوزى أول من بنى مسجدا فى الإسلام
عمار بن ياسر
وفى السيرة الهشامية عن الحكم بن عيينة لما قدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم فنزل قباء قال عمار بن ياسر ما لرسول الله صلى الله عليه وسلم
بد من أن يجعل له مكانا يستظل به إذا استيقظ ويصلى فيه فجمع حجارة فبنى مسجد قباء
أى فانه لما جمع الحجارة أسسه صلى الله عليه وسلم واستتم بنيانه عمار فعمار أول من
بنى مسجدا لعموم المسلمين
قال وعن جابر لبثنا بالمدينة قبل أن يقدم النبى صلى الله
عليه وسلم بسنتين نعمر المساجد ونقيم الصلاة انتهى
ونعمر يحتمل أن يكون بالتخفيف فيكون عطف نقيم الصلاة من
عطف التفسير ويحتمل أن يكون بالتشديد فيكون بناء المساجد تعدد فى المدينة قبل
قدومه صلى الله عليه وسلم
وفيه أن الحافظ ابن حجر قال كان بين ابتداء هجرة الصحابة
وبين هجرته صلى الله
عليه وسلم
شهران ونصف شهر على التحرير كما تقدم أى ورواية جابر تدل على أنه كان بين اجتماع
الاثنى عشر من الأنصار به صلى الله عليه وسلم ومجيئهم إلى المدينة وبين قدومه صلى
الله عليه وسلم للمدينة سنتان
وقد يقال ليس مراد جابر أن ابتداء المدة من قدوم الاثنى
عشر عليه بل مراده أن ابتداءها من قدوم الستة عليه الذين منهم جابر والمدة تزيد
على السنتين فليتأمل وهو أى مسجد قباء أول مسجد صلى فيه صلى الله عليه وسلم
بأصحابه جماعة ظاهرين أى آمنين
وقيل إن هذا المسجد بناه المهاجرون والأنصار يصلون فيه
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وورد قباء صلى فيه ولم يحدث فيه شيئا
ويخالفه ما تقدم عن السيرة الهشامية وما فى الطبرانى
بسند رجاله ثقات عن الشموس بفتح الشين المعجمة بنت النعمان رضى الله تعالى عنها
قالت نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم ونزل وأسس المسجد مسجد قباء
فرأيته يأخذ الحجر أو الصخرة حتى يصهره الحجر أى يتبعه فيأتى الرجل من أصحابه
فيقول يا رسول الله بأبى أنت وأمى تعطينى أكفك فيقول لآخذ مثله حتى أسسه
أى وجاء أنه صلى الله عليه وسلم لما أراد بناءه قال يا
أهل قباء ائتونى بأحجار من الحرة فجمعت عنده أحجار كثيرة فخط القبلة وأخذ حجرا
فوضعه ثم قال يا أبا بكر خذ بحجر فضعه إلى جنب حجرى ثم قال يا عمر خذ حجرا فضعه
إلى جنب حجر أبى بكر ثم قال يا عثمان خذ حجرا فضعه إلى جنب حجر عمر قال بعضهم كأنه
صلى الله عليه وسلم أشار إلى ترتيب الخلافة وسيجئ فى بناء مسجد المدينة نحوه
ويحتاج للجمع بين هذه الروايات
وبعد تحوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان يأتيه
يوم السبت ماشيا وراكبا وقال من توضأ وأسبغ الوضوء ثم جاء مسجد قباء فصلى فيه كان
له أجر عمرة وروى أى الترمذى والحاكم وصححاه عن أسيد بن حضير عن النبى صلى الله
عليه وسلم أنه قال صلاة فى مسجد قباء كعمرة وفى رواية من صلى فى مسجد قباء يوم
الاثنين والخميس انقلب بأجر عمرة وكان عمر رضى الله تعالى عنه يأتيه يوم الاثنين
ويوم الخميس وقال لو كان بطرف من الأطراف وفى رواية فى افق من الآفاق لضربت إليه
أكباد الإبل
أى وصح الحاكم عن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما قال كان
رسول الله صلى الله
عليه وسلم
يكثر الاختلاف إلى قباء ماشيا وراكبا وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله تعالى عنه عن
أبيه قال خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين إلى قباء وعن ابن عمر
أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتى مسجد قباء فيصلى فيه ركعتين وعنه قال خرجنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء فقام يصلى فجاءته الأنصار تسلم عليه فقلت
لبلال كيف رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليهم قال يشير إليهم بيده وهو
يصلى أى يجعل باطنها إلى أسفل وظهرها إلى فوق
وقد وقعت له صلى الله عليه وسلم الإشارة فى الصلاة برد
السلام لما قدمت عليه ابنته رضى الله تعالى عنها من الحبشة وهو يصلى فسلمت فأومأ
إليها برأسه
وفى الهدى وأما حديث من أشار فى الصلاة إشارة تفهم عنه
فليعد صلاته فحديث باطل وفى كلام بعضهم قد ثبت فى الأحاديث الصحيحة أنه صلى الله
عليه وسلم كان إذا سلم عليه أحد وهو فى الصلاة أشار بأصبعه المباركة جواب السلام
وليس لهذه الأحاديث معارض إلا حديث مجهول وهو من أشار فى صلاته إشارة مفهمة فليعد
صلاته وهذا الحديث لا يصلح للمعارضة ولما نزل قوله تعالى { فيه رجال يحبون أن
يتطهروا } أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألهم عن ذلك فقال ما هذا الطهور
الذى أثنى الله عليكم به فقالوا يا رسول الله ما خرج منا رجل ولا امرأة من الغائط
إلا غسل فرجه فقال هو هذا وفى لفظ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى مسجد
قباء أى وفى الكشاف ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس
فقال أمؤمنون أنتم فسكت القوم ثم أعادها فقال عمر يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا
منهم فقال عليه الصلاة والسلام أتؤمنون بالقضاء قالوا نعم قال وتصبرون على البلاء
قالوا نعم قال أتشكرون على الرخاء قالوا نعم قال عليه الصلاة والسلام مؤمنون ورب
الكعبة فجلس وقال يامعشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذى تتبعون
عند الوضوء وعند الغائط أى المعبر عنه بالطهور فقالوا يا رسول الله نتبع الغائط
الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء فتلا النبى صلى الله عليه وسلم { فيه رجال
يحبون أن يتطهروا } هذا كلامه وفى رواية فقال إن الله قد أحسن إليكم الثناء فى
الطهور فما هذا الطهور الذى تتطهرون به قالوا يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه
كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق