ج17. تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري
المؤلف: محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي، أبو جعفر الطبري (المتوفى: 310هـ)
(صلة تاريخ الطبري لعريب بن سعد القرطبي، المتوفى: 369هـ)
فصاروا جميعا حلقة حول التل، وارتفعت الضجة من أسفل الوادي، وإذا الكمين الذي تحت التل الذي كان يقف عليه آذين قد وثب ببشير التركي والفراغنة، فحاربوهم واشتبكت الحرب بينهم ساعة.
وسمع أهل العسكر ضجتهم، فتحرك الناس، فأمر الأفشين أن ينادوا:
أيها الناس، هذا بشير التركي والفراغنة قد وجهتهم، فأثاروا كمينا فلا تتحركوا فلما سمع الرجالة الناشبة الذين كانوا تقدموا، وصاروا فوق الجبل ركبوا الأعلام كما أمرهم الأفشين، فنظر الناس إلى أعلام تجيء من جبل شاهق، أعلام سود، وبين العسكر وبين الجبل نحو فرسخ، وهم ينحدرون على جبل آذين من فوقهم، قد ركبوا الأعلام، وجعلوا ينحدرون يريدون آذين، فلما نظر إليهم أهل عسكر آذين وجه آذين إليهم بعض رجالته الذين معه من الخرمية ولما نظر الناس إليهم راعوهم، فبعث إليهم الأفشين: أولئك رجالنا أنجدتنا على آذين، فحمل جعفر الخياط وأصحابه على آذين وأصحابه، حتى صعدوا إليهم، فحملوا عليهم حملة شديدة، قلبوه وأصحابه في الوادي، وحمل عليهم رجل ممن في ناحية أبي سعيد من أصحاب أبي سعيد، يقال له معاذ بن محمد- أو محمد بن معاذ- في عدة معه، فإذا تحت حوافر دوابهم آبار محفورة تدخل أيدي الدواب فيها، فتساقطت فرسان أبي سعيد فيها، فوجه الأفشين الكلغرية يقلعون حيطان منازلهم، ويطمون بها تلك الآبار، ففعلوا ذلك، فحمل الناس عليهم حملة واحدة، وكان آذين قد هيأ فوق الجبل عجلا عليها صخر، فلما حمل الناس عليه، دفع العجل على الناس فأفرجوا عنها، فقد حرجت، ثم حمل الناس من كل وجه.
فلما نظر بابك إلى أصحابه قد أحدق بهم، خرج من طرف البذ، من باب مما يلي الأفشين، يكون بين هذا الباب وبين التل الذي عليه الأفشين قدر ميل فأقبل بابك في جماعة معه يسألون عن الأفشين، فقال لهم أصحاب أبي دلف: من هذا؟ فقالوا: هذا بابك يريد الأفشين، فأرسل أبو دلف
(9/43)
إلى الأفشين يعلمه ذلك، فأرسل الأفشين رجلا يعرف بابك، فنظر إليه، ثم عاد إلى الأفشين، فقال: نعم هو بابك، فركب إليه الأفشين، فدنا منه حتى صار في موضع يسمع كلامه وكلام أصحابه، والحرب مشتبكة في ناحية آذين، فقال له: أريد الأمان من أمير المؤمنين، فقال له الأفشين: قد عرضت عليك هذا، وهو لك مبذول متى شئت، فقال: قد شئت الآن، على أن تؤجلني أجلا أحمل فيه عيالي، وأتجهز فقال له الأفشين: قد والله نصحتك غير مرة فلم تقبل نصيحتي، وأنا أنصحك الساعة، خروجك اليوم في الأمان خير من غد قال: قد قبلت أيها الأمير، وأنا على ذلك، فقال له الأفشين: فابعث بالرهائن الذين كنت سألتك قال: نعم، أما فلان وفلان فهم على ذلك التل، فمر أصحابك بالتوقف.
قال: فجاء رسول الأفشين ليرد الناس، فقيل له: إن أعلام الفراغنة قد دخلت البذ وصعدوا بها القصور فركب وصاح بالناس، فدخل ودخلوا، وصعد الناس بالأعلام فوق قصور بابك، وكان قد كمن في قصوره- وهي اربعه- ستمائه رجل، فوافاهم الناس، فصعدوا بالأعلام فوق القصور، وامتلأت شوارع البذ وميدانها من الناس، وفتح أولئك الكمناء أبواب القصور، وخرجوا رجالة يقاتلون الناس ومر بابك حتى دخل الوادي الذي يلى هشتاد سر، واشتغل الأفشين وجميع قواده بالحرب على أبواب القصور، فقاتل الخرمية قتالا شديدا، وأحضر النفاطين، فجعلوا يصبون عليهم النفط والنار، والناس يهدمون القصور، حتى قتلوا عن آخرهم وأخذ الأفشين أولاد بابك ومن كان معهم في البذ من عيالاتهم، حتى أدركهم المساء، فأمر الأفشين بالانصراف فانصرفوا، وكان عامة الخرمية في البيوت، فرجع الأفشين إلى الخندق بروذ الروذ.
فذكر أن بابك وأصحابه الذين نزلوا معه الوادي حين علموا أن الأفشين قد رجع إلى خندقه، رجعوا إلى البذ، فحملوا من الزاد ما أمكنهم حمله، وحملوا أموالهم، ثم دخلوا الوادى الذى يلى هشتاد سر فلما كان في الغد خرج
(9/44)
الأفشين حتى دخل البذ، فوقف في القرية، وأمر بهدم القصور، ووجه الرجالة يطوفون في أطراف القرية، فلم يجدوا فيها أحدا من العلوج، فأصعد الكلغرية، فهدموا القصور وأحرقوها، فعل ذلك ثلاثة أيام حتى أحرق خزائنه وقصوره، ولم يدع فيها بيتا ولا قصرا إلا أحرقه وهدمه، ثم رجع وعلم أن بابك قد أفلت في بعض أصحابه، فكتب الأفشين إلى ملوك أرمينية وبطارقتها يعلمهم أن بابك قد هرب وعدة معه، وصار إلى واد، وخرج منه إلى ناحية أرمينية، وهو مار بكم، وأمرهم أن يحفظ كل واحد منهم ناحيته، ولا يسلكها أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه فجاء الجواسيس إلى الأفشين، فأخبروه بموضعه في الوادي، وكان واديا كثير العشب والشجر، طرفه بأرمينية وطرفه الآخر بأذربيجان، ولم يمكن الخيل أن تنزل إليه، ولا يرى من يستخفي فيه لكثرة شجره ومياهه، إنما كانت غيضة.
واحدة، ويسمى هذا الوادي غيضة فوجه الأفشين إلى كل موضع يعلم أن منه طريقا ينحدر منه إلى تلك الغيضة، أو يمكن بابك أن يخرج من ذلك الطريق، فصير على كل طريق وموضع من هذه المواضع عسكرا فيه ما بين أربعمائة الى خمسمائة مقاتل، ووجه معهم الكوهبانية ليقفوهم على الطريق، وأمرهم بحراسة الطريق في الليل لئلا يخرج منه أحد.
وكان يوجه إلى كل عسكر من هذه العساكر الميرة من عسكره، وكانت هذه العساكر خمسة عشر عسكرا، فكانوا كذلك حتى ورد كتاب أمير المؤمنين المعتصم بالذهب مختوما، فيه أمان لبابك فدعا الأفشين من كان استأمن إليه من أصحاب بابك، وفيهم ابن له كبير، أكبر ولده، فقال له وللأسرى: هذا ما لم أكن أرجوه من أمير المؤمنين، ولا أطمع له فيه أن يكتب إليه وهو في هذه الحال بأمان، فمن يأخذه منكم ويذهب به إليه؟ فلم يجسر على ذلك أحد منهم، فقال بعضهم: أيها الأمير، ما فينا أحد يجترئ أن يلقاه بهذا، فقال له الأفشين: ويحك! إنه يفرح بهذا، قالوا: أصلح الله الأمير! نحن أعرف بهذا منك، قال: فلا بد لكم من أن تهبوا لي أنفسكم، وتوصلوا
(9/45)
هذا الكتاب إليه فقام رجلان منهم، فقالا له: اضمن لنا أنك تجري على عيالاتنا، فضمن لهما الأفشين ذلك، وأخذا الكتاب وتوجها فلم يزالا يدوران في الغيضة حتى أصاباه، وكتب معهما ابن بابك بكتاب يعلمه الخبر، ويسأله أن يصير إلى الأمان، فهو أسلم له وخير فدفعا إليه كتاب ابنه، فقرأه، وقال: أي شيء كنتم تصنعون؟ قالا: أسر عيالاتنا في تلك الليلة وصبياننا، ولم نعرف موضعك فنأتيك، وكنا في موضع تخوفنا أن يأخذونا، فطلبنا الأمان فقال للذي كان الكتاب معه: هذا لا اعرفه، ولكن أنت يا بن الفاعلة، كيف اجترأت على هذا أن تجيئني من عند ذاك ابن الفاعلة! فأخذه وضرب عنقه، وشد الكتاب على صدره مختوما لم يفضه، ثم قال للآخر: اذهب وقل لذاك ابن الفاعلة- يعني ابنه- حيث يكتب إلي، وكتب إليه: لو أنك لحقت بي واتبعت دعوتك حتى يجيئك الأمر يوما كنت ابني، وقد صح عندي الساعة فساد أمك الفاعلة يا بن الفاعلة، عسى أن أعيش بعد اليوم! قد كنت باسم هذه الرياسة وحيثما كنت أو ذكرت كنت ملكا، ولكنك من جنس لا خير فيه، وأنا أشهد أنك لست يا بنى، تعيش يوما واحدا وأنت رئيس خير، أو تعيش أربعين سنة وأنت عبد ذليل! ورحل من موضعه، ووجه مع الرجل ثلاثة نفر حتى أصعدوه من موضع من المواضع، ثم لحقوا ببابك، فلم يزل في تلك الغيضة حتى فني زاده، وخرج مما يلي طريقا كان عليه بعض العساكر، وكان موضع الطريق جبلا ليس فيه ماء، فلم يقدر العسكر أن يقيم على الطريق لبعده عن الماء، فتنحى العسكر عن الطريق إلى قرب الماء، وصيروا كوهبانيين وفارسين على طرف الطريق يحرسونه، والعسكر بينه وبين الطريق نحو من ميل ونصف، كان ينوب على الطريق كل يوم فارسان وكوهبانيان، فبينا هم ذات يوم نصف النهار، إذ خرج بابك وأصحابه، فلم يروا أحدا، ولم يروا الفارسين والكوهبانيين، وظنوا أن ليس هناك عسكر، فخرج هو وأخواه: عبد الله ومعاوية، وأمه وامرأة له
(9/46)
يقال لها ابنة الكلندانية فخرجوا من الطريق، وساروا يريدون أرمينية، ونظر إليهم الفارسان والكوهبانيان، فوجهوا إلى العسكر، وعليه أبو الساج: إنا قد رأينا فرسانا يمرون ولا ندري من هم فركب الناس، وساروا، فنظروا إليهم من بعد وقد نزلوا على عين ماء يتغدون عليها، فلما نظروا إلى الناس بادر الكافر فركب وركب من كان معه، فأفلت وأخذ معاوية وأم بابك والمرأة التي كانت معه، ومع بابك غلام له، فوجه أبو الساج بمعاوية والمرأتين إلى العسكر، ومر بابك متوجها حتى دخل جبال أرمينية يسير في الجبال متكمنا، فاحتاج إلى طعام، وكان جميع بطارقة أرمينية قد تحفظوا بنواحيهم وأطرافهم، وأوصوا مسالحهم ألا يجتاز عليهم أحد إلا أخذوه حتى يعرفوه، فكان أصحاب المسالح كلهم متحفظين، وأصاب بابك الجوع، فأشرف فإذا هو بحراث يحرث على فدان له في بعض الأودية، فقال لغلامه: انزل إلى هذا الحراث، وخذ معك دنانير ودراهم، فإن كان معه خبز فخذه وأعطه، وكان للحراث شريك ذهب لحاجته، فنزل الغلام إلى الحراث، فنظر إليه شريكه من بعيد، فوقف بالبعد يفرق من أن يجيء إلى شريكه وهو ينظر ما يصنع شريكه، فدفع الغلام إلى الحراث شيئا، فجاء الحراث فأخذ الخبز، فدفعه إلى الغلام وشريكه قائم ينظر إليه، ويظن إنما اغتصبه خبزه، ولم يظن أنه أعطاه شيئا، فعدا إلى المسلحة، فأعلمهم أن رجلا جاءهم عليه سيف وسلاح، وأنه أخذ خبز شريكه من الوادي، فركب صاحب المسلحة- وكان في جبال ابن سنباط- ووجه إلى سهل بن سنباط بالخبر، فركب ابن سنباط وجماعة معه حتى جاءه مسرعا، فوافى الحراث والغلام عنده، فقال له: ما هذا؟ قال له الحراث: هذا رجل مر بي، فطلب مني خبزا فأعطيته، فقال للغلام: واين مولاك؟ قال: هاهنا- وأومى إليه- فاتبعه فأدركه وهو نازل، فلما رأى وجهه عرفه، فترجل له ابن سنباط عن دابته، ودنا منه فقبل يده، ثم قال له: يا سيداه، إلى أين؟ قال:
أريد بلاد الروم- أو موضعا سماه- فقال له: لا تجد موضعا ولا أحدا أعرف بحقك، ولا أحق أن تكون عنده مني، تعرف موضعي، ليس بيني وبين
(9/47)
السلطان عمل، ولا تدخل على احد من أصحاب السلطان وأنت عارف بقضيتي وبلدي، وكل من هاهنا من البطارقة إنما هم أهل بيتك، قد صار لك منهم أولاد، وذلك أن بابك كان إذا علم أن عند بعض البطارقة ابنة أو أختا جميلة وجه إليها يطلبها، فإن بعث بها إليه وإلا بيته وأخذها، وأخذ جميع ماله من متاع وغير ذلك، وصار به إلى بلده غصبا سنه 222 ثم قال ابن سنباط له: صر عندي في حصني، فإنما هو منزلك، وأنا عبدك، كن فيه شتوتك هذه ثم ترى رأيك وكان بابك قد أصابه الضر والجهد، فركن إلى كلام سهل بن سنباط، وقال له: ليس يستقيم أن أكون أنا وأخي في موضع واحد، فلعله أن يعثر بأحدنا فيبقى الآخر، ولكن أقيم عندك أنا، ويتوجه عبد الله أخي إلى ابن اصطفانوس، لا ندري ما يكون، وليس لنا خلف يقوم بدعوتنا فقال له ابن سنباط: ولدك كثير، قال:
ليس فيهم خير وعزم على أن يصير أخاه في حصن ابن اصطفانوس- وكان يثق به- فصار هو مع ابن سنباط في حصنه، فلما أصبح عبد الله مضى إلى حصن ابن اصطفانوس، وأقام بابك عند ابن سنباط، وكتب ابن سنباط إلى الأفشين يعلمه أن بابك عنده في حصنه فكتب إليه: إن كان هذا صحيحا فلك عندي وعند أمير المؤمنين- أيده الله- الذي تحب، وكتب يجزيه خيرا، ووصف الأفشين صفة بابك لرجل من خاصته، ممن يثق به، ووجه به إلى ابن سنباط وكتب إليه يعلمه أنه قد وجه إليه برجل من خاصته، يحب أن يرى بابك ليحكي للأفشين ذلك فكره ابن سنباط ان يوحش بابك، فقال للرجل: ليس يمكن أن تراه إلا في الوقت الذي يكون منكبا على طعامه يتغدى، فإذا رأيتنا قد دعونا بالغداء فالبس ثياب الطباخين الذين معنا على هيئة علوجنا وتعال كأنك تقدم الطعام، أو تناول شيئا، فإنه يكون منكبا على الطعام، فتفقد منه ما تريد، فاذهب فاحكه لصاحبك.
ففعل ذلك في وقت الطعام، فرفع بابك رأسه فنظر إليه فأنكره، فقال:
من هذا الرجل؟ فقال له ابن سنباط: هذا رجل من أهل خراسان، منقطع
(9/48)
إلينا منذ زمان، نصراني فلقن ابن سنباط الأشروسني ذلك، فقال له بابك:
منذ كم أنت هاهنا؟ قال: منذ كذا وكذا سنة، قال: وكيف اقمت هاهنا؟
قال: تزوجت هاهنا، قال: صدقت إذا قيل للرجل: من أين أنت؟ قال:
من حيث امرأتي.
ثم رجع إلى الأفشين فأخبره، ووصف له جميع ما رأى ثم من بابك.
ووجه الأفشين أبا سعيد وبوزباره إلى ابن سنباط، وكتب إليه معهما، وأمرهما إذا صارا إلى بعض الطريق قد ما كتابه إلى ابن سنباط مع علج من الأعلاج، وأمرهما ألا يخالفا ابن سنباط فيما يشير به عليهما ففعلا ذلك، فكتب إليهما ابن سنباط في المقام بموضع- قد سماه ووصفه لهما- إلى أن يأتيهما رسوله فلم يزالا مقيمين بالموضع الذي وصفه لهما، ووجه إليهما ابن سنباط بالميرة والزاد، حتى تحرك بابك للخروج الى الصيد، فقال له: هاهنا واد طيب، وأنت مغموم في جوف هذا الحصن! فلو خرجنا ومعنا بازي وباشق وما يحتاج إليه، فنتفرج إلى وقت الغداء بالصيد! فقال له بابك: إذا شئت فانفذ ليركبا بالغداة، وكتب ابن سنباط إلى أبي سعيد وبو زباره يعلمهما ما قد عزم عليه، ويأمرهما أن يوافياه، واحد من هذا الجانب من الجبل والآخر من الجانب الآخر في عسكرهما وأن يسيرا متكمنين مع صلاة الصبح، فإذا جاءهما رسوله أشرفا على الوادي، فانحدروا عليه إذا رأوهم وأخذوهم.
فلما ركب ابن سنباط وبابك بالغداة وجه ابن سنباط رسولا إلى أبي سعيد ورسولا الى بو زباره، وقال لكل رسول: جيء بهذا إلى موضع كذا، وجيء بهذا إلى موضع كذا، فأشرفا علينا، فإذا رأيتمونا فقولوا: هم هؤلاء خذوهم، وأراد أن يشبه على بابك، فيقول: هذه خيل جاءتنا، فأخذتنا، ولم يحب أن يدفعه إليهما من منزله، فصار الرسولان إلى أبي سعيد وبو زباره، فمضيا بهما حتى أشرفا على الوادي، فإذا هما ببابك وابن سنباط، فنظرا إليه وانحدرا وأصحابهما عليه، هذا من هاهنا، وهذا من هاهنا، وأخذاهما ومعهما البواشيق، وعلى بابك دراعة بيضاء وعمامة بيضاء، وخف قصير ويقال كان بيده باشق، فلما نظر إلى
(9/49)
العساكر قد أحدقت به وقف، فنظر إليهما، فقالا له: انزل، فقال: ومن أنتما؟ فقال أحدهما: أنا أبو سعيد، والآخر: أنا بوزباره، فقال: نعم، وثنى رجله، فنزل، وكان ابن سنباط ينظر إليه، فرفع رأسه إلى ابن سنباط فشتمه، وقال: إنما بعتني لليهود بالشيء اليسير، لو أردت المال وطلبته لأعطيتك أكثر مما يعطيك هؤلاء، فقال له أبو سعيد: قم فاركب، قال: نعم.
فحملوه وجاءوا به إلى الأفشين، فلما قرب من العسكر صعد الأفشين برزند، فضربت له خيمة على برزند، وأمر الناس فاصطفوا صفين، وجلس الأفشين في فازة، وجاءوا به، وأمر الأفشين ألا يتركوا عربيا يدخل بين الصفين فرقا أن يقتله إنسان أو يجرحه ممن قتل أولياءه، أو صنع به داهية.
وكان قد صار إلى الأفشين نساء كثير وصبيان، ذكروا أن بابك كان أسرهم، وأنهم أحرار من العرب والدهاقين، فأمر الأفشين فجعلت لهم حظيرة كبيرة، وأسكنهم فيها، وأجرى لهم الخبز، وأمرهم أن يكتبوا إلى أوليائهم حيث كانوا، فكان كل من جاء فعرف امرأة أو صبيا أو جارية، وأقام شاهدين أنه يعرفها وأنها حرمة له أو قرابة دفعها إليه، فجاء الناس، فأخذوا منهم خلقا كثيرا، وبقي منهم ناس كثير ينتظرون أن يجيء أولياؤهم.
ولما كان ذلك اليوم الذي أمر الأفشين الناس أن يصطفوا، فصار بين بابك وبينه قدر نصف ميل، أنزل بابك يمشي بين الصفين في دراعته وعمامته وخفيه، حتى جاء فوقف بين يدي الأفشين فنظر إليه الأفشين، ثم قال: انزلوا به إلى العسكر، فنزلوا به راكبا، فلما نظر النساء والصبيان الذين في الحظيرة إليه لطموا على وجوههم، وصاحوا وبكوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال لهم الأفشين: أنتم بالأمس، تقولون أسرنا، وأنتم اليوم تبكون عليه! عليكم لعنة الله قالوا: كان يحسن إلينا فأمر به الأفشين فأدخل بيتا، ووكل به رجالا من أصحابه.
وكان عبد الله أخو بابك لما أقام بابك عند ابن سنباط، صار الى عيسى
(9/50)
ابن يوسف بن اصطفانوس، فلما أخذ الأفشين بابك، وصيره معه في عسكره ووكل به، أعلم بمكان عبد الله أنه عند ابن اصطفانوس، فكتب الأفشين إلى ابن اصطفانوس أن يوجه إليه بعبد الله، فوجه به ابن اصطفانوس إلى الأفشين، فلما صار في يد الأفشين حبسه مع أخيه في بيت واحد، ووكل بهما قوما يحفظونهما.
وكتب الأفشين إلى المعتصم بأخذه بابك وأخاه، فكتب المعتصم إليه يأمره بالقدوم بهما عليه، فلما أراد أن يسير إلى العراق وجه إلى بابك فقال: إني أريد أن أسافر بك، فانظر ما تشتهي من بلاد أذربيجان، فقال: أشتهي أن أنظر إلى مدينتي فوجه معه الأفشين قوما في ليلة مقمرة إلى البذ حتى دار فيه، ونظر إلى القتلى والبيوت إلى وقت الصبح، ثم رده إلى الأفشين، وكان الأفشين قد وكل به رجلا من أصحابه فاستعفاه منه بابك، فقال له الأفشين: لم استعفيت منه؟ قال: يجيء ويده ملأى غمرا، حتى ينام عند رأسي فيؤذيني ريحها فأعفاه منه وكان وصول بابك إلى الأفشين ببرزند لعشر خلون من شوال بين بوزبارة وديوداذ.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
(9/51)
ثم دخلت
سنة ثلاث وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر قدوم الافشين ببابك على المعتصم
فمن ذلك قدوم الأفشين على المعتصم ببابك وأخيه، ذكر أن قدومه عليه به كان ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر بسامرا، وأن المعتصم كان يوجه إلى الأفشين كل يوم من حين فصل من برزند إلى أن وافى سامرا فرسا وخلعة، وأن المعتصم لعنايته بأمر بابك وأخباره ولفساد الطريق بالثلج وغيره، جعل من سامرا إلى عقبة حلوان خيلا مضمرة، على رأس كل فرسخ فرسا معه مجر مرتب، فكان يركض بالخبر ركضا حتى يؤديه من واحد إلى واحد، يدا بيد، وكان ما خلف حلوان إلى أذربيجان قد رتبوا فيه المرج، فكان يركض بها يوما أو يومين ثم تبدل ويصير غيرها، ويحمل عليها غلمان من أصحاب المرج كل دابة على رأس فرسخ، وجعل لهم ديادبة على رءوس الجبال بالليل والنهار، وأمرهم أن ينعروا إذا جاءهم الخبر، فإذا سمع الذي يليه النعير تهيأ فلا يبلغ إليه صاحبه الذي نعر حتى يقف له على الطريق، فيأخذ الخريطة منه، فكانت الخريطة تصل من عسكر الأفشين إلى سامرا في أربعة ايام وأقل، فلما صار الأفشين بقناطر حذيفة تلقاه هارون بن المعتصم وأهل بيت المعتصم، فلما صار الأفشين ببابك إلى سامرا أنزله الأفشين في قصره بالمطيرة، فلما كان في جوف الليل ذهب أحمد بن أبي دواد متنكرا، فرآه وكلمه، ثم رجع إلى المعتصم، فوصفه له، فلم يصبر المعتصم حتى ركب إليه بين الحائطين في الحير، فدخل إليه متنكرا، ونظر إليه وتأمله، وبابك لا يعرفه، فلما كان من غد قعد له المعتصم يوم اثنين أو خميس، واصطف الناس من باب العامة إلى المطيرة، وأراد المعتصم أن يشهره ويريه الناس، فقال: على أي
(9/52)
شيء يحمل هذا؟ وكيف يشهر! فقال حزام: يا أمير المؤمنين، لا شيء أشهر من الفيل، فقال: صدقت، فأمر بتهيئة الفيل، وأمر به فجعل في قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وهو وحده، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل شيطان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
فاستشرفه الناس من المطيرة إلى باب العامة، فأدخل دار العامة إلى أمير المؤمنين، وأحضر جزارا ليقطع يديه ورجليه، ثم أمر أن يحضر سيافه، فخرج الحاجب من باب العامه، وهو ينادى: نودنود- وهو اسم سياف بابك- فارتفعت الصيحة بنودنود حتى حضر، فدخل دار العامة، فأمره أمير المؤمنين أن يقطع يديه ورجليه، فقطعهما فسقط، وأمر أمير المؤمنين بذبحه وشق بطن أحدهما، ووجه برأسه إلى خراسان، وصلب بدنه بسامرا عند العقبة، فموضع خشبته مشهور، وأمر بحمل أخيه عبد الله مع ابن شروين الطبري إلى إسحاق بن إبراهيم خليفته بمدينة السلام، وأمره بضرب عنقه، وأن يفعل به مثل ما فعل بأخيه، وصلبه، فلما صار به الطبري إلى البردان، نزل به ابن شروين في قصر البردان، فقال عبد الله أخو بابك لابن شروين: من أنت؟
فقال: ابن شروين ملك طبرستان، فقال: الحمد لله الذي وفق لي رجلا من الدهاقين يتولى قتلي قال: إنما يتولى قتلك هذا- وكان عنده نودنود، وهو الذي قتل بابك- فقال له: أنت صاحبي، وإنما هذا علج، فأخبرني، أأمرت ان تطعمني شيئا أم لا؟ قال: قل ما شئت، قال: اضرب لي فالوذجة، قال: فأمر فضربت له فالوذجة في جوف الليل، فأكل منها حتى تملأ، ثم قال: يا أبا فلان، ستعلم غدا أني دهقان إن شاء الله ثم قال: تقدر أن تسقيني نبيذا؟ قال: نعم، ولا تكثر، قال: فإني لا أكثر، قال: فأحضر أربعة أرطال خمر، فقعد فشربها على مهل إلى قريب من الصبح، ثم رحل
(9/53)
في السحر، فوافى به مدينة السلام، ووافى به راس الجسر، وامر إسحاق ابن إبراهيم بقطع يديه ورجليه، فلم ينطق ولم يتكلم، وأمر بصلبه فصلب في الجانب الشرقي بين الجسرين بمدينة السلام وذكر عن طوق بن أحمد، أن بابك لما هرب صار إلى سهل بن سنباط فوجه الأفشين أبا سعيد وبو زباره، فأخذاه منه، فبعث سهل مع بابك بمعاوية ابنه إلى الأفشين، فأمر لمعاوية بمائة ألف درهم، وأمر لسهل بألف ألف درهم استخرجها له من أمير المؤمنين، ومنطقة مغرقة بالجوهر وتاج البطرقة، فبطرق سهل بهذا السبب، والذي كان عنده عبد الله أخو بابك عيسى بن يوسف المعروف بابن أخت اصطفانوس ملك البيلقان.
وذكر عن محمد بن عمران كاتب علي بن مر، قال: حدثني علي بن مر، عن رجل من الصعاليك يقال له مطر، قال: كان والله يا أبا الحسن بابك ابني، قلت: وكيف؟ قال: كنا مع ابن الرواد، وكانت أمه ترتوميذ العوراء من علوج ابن الرواد، فكنت انزل عليها، وكانت مصكة، فكانت تخدمني وتغسل ثيابي، فنظرت إليها يوما، فواثبتها بشبق السفر وطول الغربة، فأقررته في رحمها ثم قال: غبنا غيبة بعد ذلك، ثم قدمنا فإذا هي تطلبنى، فنزلت في منزل آخر، فصارت إلي يوما، فقالت: حين ملات بطنى تنزل هاهنا وتتركني! فأذاعت أنه مني، فقلت: والله لئن ذكرتني لأقتلنك، فأمسكت عني، فهو والله ابني.
وكان يجزي الأفشين في مقامه بإزاء بابك سوى الأرزاق، والأنزال والمعاون في كل يوم يركب فيه عشرة آلاف درهم.
وفي كل يوم لا يركب فيه خمسة آلاف درهم وكان جميع من قتل بابك في عشرين سنه مائتي الف وخمسه وخمسين
(9/54)
ألفا وخمسمائة إنسان وغلب يحيى بن معاذ وعيسى بن محمد بن أبي خالد وأحمد بن الجنيد، وأسره وزريق بن علي بن صدقة ومحمد بن حميد الطوسي وإبراهيم بن الليث، وأسر مع بابك ثلاثة آلاف وثلاثمائة وتسعة أناسى، واستنقذ ممن كان في يده من المسلمات وأولادهم سبعه آلاف وستمائه إنسان، وعدة من صار في يد الأفشين من بني بابك سبعة عشر رجلا ومن البنات والكنات ثلاث وعشرون امرأة، فتوج المعتصم الأفشين وألبسه وشاحين بالجوهر، ووصله بعشرين ألف ألف درهم، منها عشرة آلاف ألف صلة وعشرة آلاف ألف درهم يفرقها في أهل عسكره، وعقد له على السند وأدخل عليه الشعراء يمدحونه، وأمر للشعراء بصلات، وذلك يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر، وكان مما قيل فيه قول أبي تمام الطائي:
بذ الجلاد البذ فهو دفين ... ما ان به إلا الوحوش قطين
لم يقر هذا السيف هذا الصبر في ... هيجاء إلا عز هذا الدين
قد كان عذرة سودد فافتضها ... بالسيف فحل المشرق الأفشين
فأعادها تعوي الثعالب وسطها ... ولقد ترى بالأمس وهي عرين
هطلت عليها من جماجم أهلها ... ديم إمارتها طلى وشئون
كانت من المهجات قبل مفازة ... عسرا، فأضحت وهي منه معين.
ذكر خبر إيقاع الروم باهل زبطره
وفي هذه السنة أوقع توفيل بن ميخائيل صاحب الروم بأهل زبطرة، فأسرهم وخرب بلدهم، ومضى من فوره إلى ملطية فأغار على أهلها وعلى أهل حصون من حصون المسلمين، إلى غير ذلك، وسبا من المسلمات- فيما قيل- أكثر من ألف امرأة، ومثل بمن صار في يده من المسلمين، وسمل أعينهم، وقطع آذانهم وآنافهم.
(9/55)
ذكر الخبر عن سبب فعل صاحب الروم بالمسلمين ما فعل من ذلك:
ذكر أن السبب في ذلك كان ما لحق بابك من تضييق الأفشين عليه وإشرافه على الهلاك، وقهر الأفشين إياه، فلما أشرف على الهلاك، وأيقن بالضعف من نفسه عن حربه، كتب الى ملك الروم توفيل بن ميخائيل بن جورجس، يعلمه أن ملك العرب قد وجه عساكره ومقاتلته إليه حتى وجه خياطه- يعني جعفر بن دينار- وطباخه- يعني إيتاخ- ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فاعلم أنه ليس في وجهك أحد يمنعك، طمعا منه بكتابه ذلك إليه في أن ملك الروم أن تحرك انكشف عنه بعض ما هو فيه بصرف المعتصم بعض من بإزائه من جيوشه إلى ملك الروم، واشتغاله به عنه.
فذكر أن توفيل خرج في مائة ألف- وقيل أكثر- فيهم من الجند نيف وسبعون ألفا، وبقيتهم أتباع حتى صار إلى زبطرة، ومعه من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب جماعة رئيسهم بارسيس وكان ملك الروم قد فرض لهم، وزوجهم وصيرهم مقاتلة يستعين بهم في أهم أموره إليه، فلما دخل ملك الروم زبطرة وقتل الرجال الذين فيها، وسبى الذراري والنساء التي فيها وأحرقها، بلغ النفير- فيما ذكر- إلى سامرا، وخرج أهل ثغور الشام والجزيرة وأهل الجزيرة إلا من لم يكن عنده دابة ولا سلاح، واستعظم المعتصم ذلك.
فذكر أنه لما انتهى إليه الخبر بذلك صاح في قصره النفير، ثم ركب دابته وسمط خلفه شكالا وسكة حديد وحقيبة، فلم يستقم له أن يخرج إلا بعد التعبئة، فجلس- فيما ذكر- في دار العامة، وقد أحضر من أهل مدينة السلام قاضيها عبد الرحمن بن إسحاق وشعيب بن سهل، ومعهما ثلاثمائة وثمانية وعشرون رجلا من أهل العدالة، فأشهدهم على ما وقف من الضياع، فجعل ثلثا لولده، وثلثا لله، وثلثا لمواليه ثم عسكر بغربي دجلة، وذلك يوم الاثنين لليلتين خلتا من جمادى الأولى
(9/56)
ووجه عجيف بن عنبسة وعمرا الفرغاني ومحمد كوته وجماعة من القواد إلى زبطرة إعانة لأهلها، فوجدوا ملك الروم قد انصرف إلى بلاده بعد ما فعل ما قد ذكرناه، فوقفوا قليلا، حتى تراجع الناس إلى قراهم، واطمأنوا فلما ظفر المعتصم ببابك، قال: أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟
فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها، وهي اشرف عندهم من القسطنطينية.
ذكر الخبر عن فتح عموريه
وفي هذه السنة شخص المعتصم غازيا إلى بلاد الروم وقيل كان شخوصه إليها من سامرا في سنة أربع وعشرين ومائتين- وقيل في سنة اثنتين وعشرين ومائتين- بعد قتله بابك.
فذكر أنه تجهز جهازا لم يتجهز مثله قبله خليفة قط، من السلاح والعدد والآلة وحياض الأدم والبغال والروايا والقرب وآلة الحديد والنفط، وجعل على مقدمته أشناس، ويتلوه محمد بن إبراهيم، وعلى ميمنته إيتاخ، وعلى ميسرته جعفر بن دينار بن عبد الله الخياط، وعلى القلب عجيف بن عنبسة.
ولما دخل بلاد الروم أقام على نهر اللمس، وهو على سلوقية قريبا من البحر، بينه وبين طرسوس مسيرة يوم، وعليه يكون الفداء إذا فودي بين المسلمين والروم، وأمضى المعتصم الأفشين خيذر بن كاوس إلى سروج، وأمره بالبروز منها والدخول من درب الحدث، وسمى له يوما أمره أن يكون دخوله فيه، وقدر لعسكره وعسكر أشناس يوما جعله بينه وبين اليوم الذي يدخل فيه الأفشين، بقدر ما بين المسافتين إلى الموضع الذي رأى أن يجتمع العساكر فيه- وهو أنقرة- ودبر النزول على أنقرة، فإذا فتحها الله عليه صار
(9/57)
إلى عمورية، إذ لم يكن شيء مما يقصد له من بلاد الروم أعظم من هاتين المدينتين، ولا أحرى أن تجعل غايته التي يؤمها.
وأمر المعتصم أشناس أن يدخل من درب طرسوس، وامره بانتظاره بالصفصاف فكان شخوص أشناس يوم الأربعاء لثمان بقين من رجب، وقدم المعتصم وصيفا في أثر أشناس على مقدمات المعتصم، ورحل المعتصم يوم الجمعة لست بقين من رجب.
فلما صار أشناس بمرج الأسقف، ورد عليه كتاب المعتصم من المطامير يعلمه أن الملك بين يديه، وأنه يريد أن يجوز العساكر اللمس، فيقف على المخاضة، فيكبسهم، ويأمره بالمقام بمرج الأسقف- وكان جعفر بن دينار على ساقة المعتصم- وأعلم المعتصم أشناس في كتابه أن ينتظر موافاة الساقة، لأن فيها الأثقال والمجانيق والزاد وغير ذلك، وكان ذلك بعد في مضيق الدرب لم يخلص، ويأمره بالمقام إلى أن يتخلص صاحب الساقة من مضيق الدرب بمن معه، ويصحر حتى يصير في بلاد الروم.
فأقام أشناس بمرج الأسقف ثلاثة أيام، حتى ورد كتاب المعتصم، يأمره أن يوجه قائدا من قواده في سرية يلتمسون رجلا من الروم، يسألونه عن خبر الملك ومن معه، فوجه أشناس عمرا الفرغاني في مائتي فارس، فساروا ليلتهم حتى أتوا حصن قرة فخرجوا يلتمسون رجلا من حول الحصن، فلم يمكن ذلك، ونذر بهم صاحب قرة، فخرج في جميع فرسانه الذين كانوا معه بالقرة، وكمن في الجبل الذي فيما بين قرة ودرة، وهو جبل كبير يحيط برستاق يسمى رستاق قرة، وعلم عمرو الفرغاني أن صاحب قرة قد نذر بهم، فتقدم إلى درة، فكمن بها ليلته، فلما انفجر عمود الصبح صير عسكره ثلاثة كراديس، وأمرهم أن يركضوا ركضا سريعا، بقدر ما يأتونه بأسير عنده خبر الملك، ووعدهم أن يوافوه به في بعض المواضع التي عرفها الأدلاء، ووجه مع كل كردوس دليلين
(9/58)
وخرجوا مع الصبح، فتفرقوا في ثلاثة وجوه، فأخذوا عدة من الروم، بعضهم من أهل عسكر الملك، وبعضهم من الضواحي، وأخذ عمرو رجلا من الروم من فرسان أهل القرة، فسأله عن الخبر، فأخبره أن الملك وعسكره بالقرب منه وراء اللمس بأربعة فراسخ، وأن صاحب قرة نذر بهم في ليلتهم هذه، وأنه ركب فكمن في هذا الجبل فوق رءوسهم، فلم يزل عمرو في الموضع الذي كان وعد فيه أصحابه، وأمر الأدلاء الذين معه أن يتفرقوا في رءوس الجبال، وأن يشرفوا على الكراديس الذين وجههم إشفاقا أن يخالفهم صاحب قرة إلى أحد الكراديس، فرآهم الأدلاء، ولوحوا لهم، فأقبلوا فتوافوا هم وعمرو في موضع غير الموضع الذي كانوا اتعدوا له، ثم نزلوا قليلا، ثم ارتحلوا يريدون العسكر، وقد أخذوا عدة ممن كان في عسكر الملك، فصاروا إلى أشناس في اللمس، فسألهم عن الخبر، فأخبروه أن الملك مقيم منذ أكثر من ثلاثين يوما ينتظر عبور المعتصم ومقدمته باللمس، فيواقعهم من وراء اللمس، وأنه جاءه الخبر قريبا، أنه قد رحل من ناحية الأرمنياق عسكر ضخم، وتوسط البلاد- يعني عسكر الأفشين- وأنه قد صار خلفه.
فأمر الملك رجلا من أهل بيته ابن خاله، فاستخلفه على عسكره، وخرج ملك الروم في طائفة من عسكره يريد ناحية الأفشين، فوجه أشناس بذلك الرجل الذي أخبره بهذا الخبر إلى المعتصم، فأخبره بالخبر، فوجه المعتصم من عسكره قوما من الأدلاء، وضمن لهم لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم، على أن يوافوا بكتابه الأفشين، وأعلمه فيه أن أمير المؤمنين مقيم، فليقم إشفاقا من أن يواقعه ملك الروم وكتب إلى أشناس كتابا يأمره أن يوجه من قبله رسولا من الأدلاء الذين يعرفون الجبال والطرق والمشبهة بالروم، وضمن لكل رجل منهم عشرة آلاف درهم إن هو أوصل الكتاب، ويكتب إليه أن ملك الروم قد اقبل نحوه فليقم مكانه حتى يوافيه كتاب أمير المؤمنين.
فتوجهت الرسل إلى ناحية الأفشين، فلم يلحقه أحد منهم، وذلك أنه كان
(9/59)
وغل في بلاد الروم، وتوافت آلات المعتصم وأثقاله مع صاحب الساقة إلى العسكر، فكتب إلى أشناس يأمره بالتقدم، فتقدم أشناس والمعتصم من ورائه، بينهم مرحلة، ينزل هذا ويرحل هذا ولم يرد عليهم من الأفشين خبر، حتى صاروا من أنقرة على مسيرة ثلاث مراحل، وضاق عسكر المعتصم ضيقا شديدا من الماء والعلف سنه 223 وكان اشناس قد اسر عده اسرى في طريقه، فأمر بهم فضربت أعناقهم حتى بقي منهم شيخ كبير، فقال الشيخ: ما تنتفع بقتلي، وأنت في هذا الضيق، وعسكرك أيضا في ضيق من الماء والزاد، وهاهنا قوم قد هربوا من أنقرة خوفا من أن ينزل بهم ملك العرب، وهم بالقرب منا هاهنا، معهم من الميرة والطعام والشعير شيء كثير، فوجه معي قوما لأدفعهم إليهم، وخل سبيلي! فنادى منادي أشناس: من كان به نشاط فليركب، فركب معه قريب من خمسمائة فارس، فخرج أشناس حتى صار من العسكر على ميل، وبرز معه من نشط من الناس، ثم برز فضرب دابته بالسوط، فركض قريبا من ميلين ركضا شديدا، ثم وقف ينظر إلى أصحابه خلفه، فمن لم يلحق بالكردوس لضعف دابته رده إلى العسكر، ودفع الرجل الأسير إلى مالك بن كيدر، وقال له: متى ما أراك هذا سبيا وغنيمة كثيرة فخل سبيله على ما ضمنا له فسار بهم الشيخ إلى وقت العتمة، فأوردهم على واد وحشيش كثير، فأمرج الناس دوابهم في الحشيش حتى شبعت، وتعشى الناس وشربوا حتى رووا، ثم سار بهم حتى أخرجهم من الغيضة، وسار أشناس من موضعه الذي كان به متوجها إلى أنقرة.
وأمر مالك بن كيدر والأدلاء الذين معه أن يوافوه بأنقرة، فسار بهم الشيخ العلج بقية ليلتهم يدور بهم في جبل ليس يخرجهم منه، فقال الأدلاء
(9/60)
لمالك بن كيدر: هذا الرجل يدور بنا، فسأله مالك عما ذكر الأدلاء، فقال: صدقوا، القوم الذين تريدهم خارج الجبل، وأخاف أن أخرج من الجبل بالليل فيسمعوا صوت حوافر الخيل على الصخر، فيهربوا، فإذا خرجنا من الجبل ولم نر أحدا قتلني، ولكن أدور بك في هذا الجبل إلى الصبح، فإذا أصبحنا خرجنا إليهم، فأريتك إياهم حتى آمن ألا تقتلني فقال له مالك:
ويحك! فأنزلنا في هذا الجبل حتى نستريح، فقال: رأيك، فنزل مالك ونزل الناس على الصخرة، وأمسكوا لجم دوابهم حتى انفجر الصبح، فلما طلع الفجر قال: وجهوا رجلين يصعدان هذا الجبل، فينظران ما فوقه، فيأخذان من أدركا فيه، فصعد أربعة من الرجال، فأصابوا رجلا وامرأة، فانزلوهما، فساء لهما العلج: أين بات أهل انقرة؟ فسموا لهم الموضع الذي باتوا فيه، فقال لمالك: خل عن هذين، فإنا قد أعطيناهما الأمان حتى دلونا، فخلى مالك عنهما، ثم سار بهم العلج إلى الموضع الذي سماه لهم، فأشرف بهم على العسكر عسكر أهل أنقرة، وهم في طرف ملاحة، فلما رأوا العسكر صاحوا بالنساء والصبيان، فدخلوا الملاحة، ووقفوا لهم على طرف الملاحة يقاتلون بالقنا، ولم يكن موضع حجارة ولا موضع خيل، وأخذوا منهم عدة أسرى، وأصابوا في الأسرى عدة بهم جراحات عتق من جراحات متقدمة، فساءلوهم عن تلك الجراحات، فقالوا: كنا في وقعة الملك مع الأفشين، فقالوا لهم:
حدثونا بالقضية فأخبروهم أن الملك كان معسكرا على أربعة فراسخ من اللمس، حتى جاءه رسول، أن عسكرا ضخما قد دخل من ناحية الأرمنياق، فاستخلف على عسكره رجلا من أهل بيته، وأمره بالمقام في موضعه، فإن ورد عليه مقدمة ملك العرب، واقعه إلى أن يذهب هو فيواقع العسكر الذي دخل الأرمنياق- يعني عسكر الأفشين- فقال أميرهم: نعم، وكنت ممن سار مع الملك، فواقعناهم صلاة الغداة فهزمناهم، وقتلنا رجالتهم كلهم، وتقطعت عساكرنا في طلبهم، فلما كان الظهر رجع فرسانهم، فقاتلونا قتالا شديدا حتى حرقوا
(9/61)
عسكرنا، واختلطوا بنا واختلطنا بهم، فلم ندر في أي كردوس الملك! فلم نزل كذلك إلى وقت العصر، ثم رجعنا إلى موضع عسكر الملك الذي كنا فيه فلم نصادفه، فرجعنا إلى موضع معسكر الملك الذي خلفه على اللمس، فوجدنا العسكر قد انتقض، وانصرف الناس عن الرجل قرابة الملك الذي كان الملك استخلفه على العسكر، فأقمنا على ذلك ليلتنا، فلما كان الغد، وافانا الملك في جماعة يسيرة، فوجد عسكره قد اختل، وأخذ الذي استخلفه على العسكر، فضرب عنقه، وكتب إلى المدن والحصون ألا يأخذوا رجلا ممن انصرف من عسكر الملك إلا ضربوه بالسياط، او يرجع إلى موضع سماه لهم الملك انحاز إليه ليجتمع إليه الناس، ويعسكر به، ليناهض ملك العرب، ووجه خادما له خصيا إلى أنقرة على أن يقيم بها، ويحفظ أهلها إن نزل بها ملك العرب.
قال الأسير: فجاء الخصي إلى أنقرة، وجئنا معه، فإذا أنقرة قد عطلها أهلها، وهربوا منها، فكتب الخصي إلى ملك الروم يعلمه ذلك، فكتب إليه الملك يأمره بالمسير إلى عمورية.
قال: وسألت عن الموضع الذي قصد إليه أهلها- يعني أهل أنقرة- فقالوا لي: إنهم بالملاحة فلحقنا بهم.
قال مالك بن كيدر: فدعوا الناس كلهم، خذوا ما أخذتم، ودعوا الباقي، فترك الناس السبي والمقاتلة وانصرفوا راجعين يريدون عسكر أشناس، وساقوا في طريقهم غنما كثيرا وبقرا، وأطلق ذلك الشيخ الأسير مالك، وسار إلى عسكر أشناس بالأسرى، حتى لحق بأنقرة، فمكث أشناس يوما واحدا، ثم لحقه المعتصم من غد، فأخبره بالذي أخبره به الأسير، فسر المعتصم بذلك.
فلما كان اليوم الثالث جاءت البشرى من ناحية الأفشين يخبرون بالسلامة، وأنه وارد على أمير المؤمنين بأنقرة.
قال: ثم ورد على المعتصم الأفشين بعد ذلك اليوم بيوم بأنقرة، فأقاموا بها
(9/62)
أياما، ثم صير العسكر ثلاثة عساكر: عسكر فيه أشناس في الميسرة، والمعتصم في القلب، والأفشين في الميمنة، وبين كل عسكر وعسكر فرسخان، وأمر كل عسكر منهم أن يكون له ميمنة وميسرة، وأن يحرقوا القرى ويخربوها، ويأخذوا من لحقوا فيها من السبي، وإذا كان وقت النزول توافى كل أهل عسكر إلى صاحبهم ورئيسهم، يفعلون ذلك فيما بين أنقرة إلى عمورية، وبينهما سبع مراحل، حتى توافت العساكر بعمورية.
قال: فلما توافت العساكر بعمورية، كان أول من وردها أشناس، وردها يوم الخميس ضحوه، فدار حولها دورة، ثم نزل على ميلين منها بموضع فيه ماء وحشيش، فلما طلعت الشمس من الغد، ركب المعتصم، فدار حولها دورة، ثم جاء الأفشين في اليوم الثالث، فقسمها أمير المؤمنين بين القواد كما تدور، صير إلى كل واحد منهم أبراجا منها على قدر كثرة أصحابه وقلتهم، وصار لكل قائد منهم ما بين البرجين إلى عشرين برجا، وتحصن أهل عمورية وتحرزوا.
وكان رجل من المسلمين قد أسره أهل عمورية، فتنصر وتزوج فيهم، فحبس نفسه عند دخولهم الحصن، فلما رأى أمير المؤمنين ظهر وصار إلى المسلمين، وجاء إلى المعتصم، وأعلمه أن موضعا من المدينة حمل الوادي عليه من مطر جاءهم شديد، فحمل الماء عليه، فوقع السور من ذلك الموضع، فكتب ملك الروم إلى عامل عمورية أن يبني ذلك الموضع، فتوانى في بنائه حتى كان خروج الملك من القسطنطينية إلى بعض المواضع، فتخوف الوالي أن يمر الملك على تلك الناحية فيمر بالسور، فلا يراه بني، فوجه خلف الصناع فبنى وجه السور بالحجارة حجرا حجرا، وصير وراءه من جانب المدينة حشوا، ثم عقد فوقه الشرف كما كان، فوقف ذلك الرجل المعتصم على هذه الناحية التي وصف، فأمر المعتصم فضرب مضربه في ذلك الموضع، ونصب المجانيق على ذلك البناء، فانفرج السور من ذلك الموضع، فلما رأى أهل عموريه انفراج
(9/63)
السور، علقوا عليه الخشب الكبار، كل واحد بلزق الأخرى، فكان حجر المنجنيق إذا وقع على الخشب تكسر، فعلقوا خشبا غيره، وصيروا فوق الخشب البراذع ليترسوا السور.
فلما ألحت المجانيق على ذلك الموضع، انصدع السور، فكتب ياطس والخصي إلى ملك الروم، كتابا يعلمانه أمر السور، ووجها الكتاب مع رجل فصيح بالعربية وغلام رومي، واخرجاهما من الفصيل، فعبرا الخندق، ووقعا إلى ناحية أبناء الملوك المضمومين إلى عمرو الفرغاني، فلما خرجا من الخندق أنكروهما، فسألوهما، من أين أنتما؟ قالا لهم: نحن من أصحابكم، قالوا:
من أصحاب من أنتم؟ فلم يعرفا أحدا من قواد أهل العسكر يسميانه لهم، فأنكروهما، وجاءوا بهما إلى عمرو الفرغاني بن أربخا، فوجه بهما عمرو إلى أشناس، فوجه بهما أشناس إلى المعتصم، فساءلهما المعتصم، وفتشهما، فوجد معهما كتابا من ياطس إلى ملك الروم، يعلمه فيه أن العسكر قد أحاط بالمدينة في جمع كثير، وقد ضاق بهم الموضع وقد كان دخوله ذلك الموضع خطأ- وأنه قد اعتزم على أن يركب، ويحمل خاصة أصحابه على الدواب التي في الحصن، ويفتح الأبواب ليلا غفلة، ويخرج فيحمل على العسكر كائنا فيه ما كان، أفلت فيه من أفلت، وأصيب فيه من أصيب، حتى يتخلص من الحصار، ويصير إلى الملك.
فلما قرأ المعتصم الكتاب أمر للرجل الذي يتكلم منهما بالعربية والغلام الرومي الذي معه ببدرة، فأسلما وخلع عليهما، وأمر بهما حين طلعت الشمس فأداروهما حول عموريه، فقالا: يا طس يكون في هذا البرج، فأمر بهما فوقفا بحذاء البرج الذي فيه ياطس طويلا، وبين أيديهما رجلان يحملان لهما الدراهم وعليهما الخلع، ومعهما الكتاب حتى فهمهما ياطس وجميع الروم، وشتموهما من فوق السور، ثم أمر بهما المعتصم فنحوهما، وامر المعتصم ان يكون الحراسة بينهم نوائب، في كل ليلة يحضرها الفرسان، يبيتون على دوابهم بالسلاح
(9/64)
وهم وقوف عليها، لئلا يفتح الباب ليلا، فيخرج من عمورية إنسان، فلم يزل الناس يبيتون كذلك نوائب على ظهور الدواب في السلاح ودوابهم بسروجها، حتى انهدم السور ما بين برجين من الموضع الذي وصف للمعتصم أنه لم يحكم عمله.
وسمع أهل العسكر الوجبة فتشوفوا، وظنوا أن العدو قد خرج على بعض الكراديس حتى أرسل المعتصم من طاف على الناس في العسكر يعلمهم أن ذلك صوت السور وقد سقط، فطيبوا نفسا.
وكان المعتصم حين نزل عمورية ونظر إلى سعة خندقها وطول سورها، وكان قد استاق في طريقه غنما كثيرة، فدبر في ذلك أن يتخذ مجانيق كبارا على قدر ارتفاع السور، يسع كل منجنيق منها أربعة رجال، وعملها أوثق ما يكون وأحكمه، وجعلها على كراسي تحتها عجل، ودبر في ذلك أن يدفع الغنم إلى أهل العسكر إلى كل رجل شاة، فيأكل لحمها، ويحشو جلدها ترابا ثم يؤتى بالجلود مملوءة ترابا، حتى تطرح في الخندق.
ففعل ذلك بالخندق، وعمل دبابات كبارا تسع كل دبابة عشرة رجال، وأحكمها على أن يدحرجها على الجلود المملوءة ترابا حتى يمتلئ الخندق، ففعل ذلك، وطرحت الجلود فلم تقع الجلود، مستوية منضدة خوفا منهم من حجارة الروم، فوقعت مختلفة، ولم يمكن تسويتها، فأمر أن يطرح فوقها التراب حتى استوت، ثم قدمت دبابة فدحرجها، فلما صارت من الخندق في نصفه تعلقت بتلك الجلود، وبقي القوم فيها، فما تخلصوا منها إلا بعد جهد ثم مكثت تلك العجله مقيمه هناك، لم يمكن فيها حيلة حتى فتحت عمورية، وبطلت الدبابات والمنجنيقات والسلاليم وغير ذلك، حتى أحرقت.
فلما كان من الغد قاتلهم على الثلمة، وكان أول من بدأ بالحرب أشناس وأصحابه، وكان الموضع ضيقا، فلم يمكنهم الحرب فيه، فأمر المعتصم بالمنجنيقات الكبار التي كانت متفرقة حول السور، فجمع بعضها إلى بعض،
(9/65)
وصيرها حول الثلمة، وأمر أن يرمى ذلك الموضع، وكانت الحرب في اليوم الثاني على الأفشين وأصحابه، فأجادوا الحرب وتقدموا وكان المعتصم واقفا على دابته بإزاء الثلمة وأشناس وأفشين وخواص القواد معه، وكان باقي القواد الذين دون الخاصة وقوفا رجالة، فقال المعتصم: ما كان أحسن الحرب اليوم! فقال عمرو الفرغاني: الحرب اليوم أجود منها أمس، وسمعها أشناس فأمسك، فلما انتصف النهار، وانصرف المعتصم إلى مضربه، فتغدى وانصرف القواد إلى مضاربهم يتغدون، وقرب أشناس من باب مضربه، ترجل له القواد كما كانوا يفعلون، وفيهم عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، فمشوا بين يديه كعادتهم عند مضربه، فقال لهم أشناس: يا أولاد الزنا، أيش تمشون بين يدي! كان ينبغي أن تقاتلوا أمس حيث تقفون بين يدي أمير المؤمنين، فتقولون: أن الحرب اليوم أحسن منها أمس، كان أمس يقاتل غيركم، انصرفوا إلى مضاربكم فلما انصرف عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل بن هشام، قال أحدهما للآخر: أما ترى هذا العبد ابن الفاعلة- يعني أشناس- ما صنع بنا اليوم! أليس الدخول إلى بلاد الروم أهون من هذا الذي سمعناه اليوم! فقال عمرو الفرغاني لأحمد بن الخليل- وكان عند عمرو خبر-: يا أبا العباس، سيكفيك الله أمره، عن قريب أبشر فأوهم أحمد أن عنده خبرا، فألح عليه أحمد يسأله، فأخبره بما هم فيه، وقال: إن العباس بن المأمون قد تم أمره، وسنبايع له ظاهرا، ونقتل المعتصم وأشناس وغيرهما عن قريب ثم قال له: أشير عليك أن تأتي العباس، فتقدم فتكون في عداد من مال إليه فقال له أحمد:
هذا أمر لا أحسبه يتم، فقال له عمرو: قد تم وفرغ، وأرشده إلى الحارث السمرقندي- قرابة سلمة بن عبيد الله بن الوضاح، وكان المتولي لإيصال الرجال إلى العباس وأخذ البيعة عليهم- فقال له عمرو: أنا أجمع بينك وبين الحارث حتى تصير في عداد أصحابنا، فقال له أحمد: أنا معكم إن كان هذا الأمر
(9/66)
يتم فيما بيننا وبين عشرة أيام، وإن جاوز ذلك فليس بيني وبينكم عمل، فذهب الحارث، فلقي العباس فأخبره أن عمرا قد ذكره لأحمد بن الخليل، فقال له:
ما كنت أحب ان يطلع الخليل على شيء من أمرنا، أمسكوا عنه.
ولا تشركوه في شيء من أمركم، دعوه بينهما فأمسكوا عنه فلما كان في اليوم الثالث كانت الحرب على أصحاب أمير المؤمنين خاصة، ومعهم المغاربة والأتراك، والقيم بذلك إيتاخ، فقاتلوا فأحسنوا واتسع لهم الموضع المنثلم، فلم تزل الحرب كذلك حتى كثرت في الروم الجراحات.
وكان قواد ملك الروم عند ما نزل بهم عسكر المعتصم اقتسموا البروج، لكل قائد وأصحابه عدة أبرجة، وكان الموكل بالموضع الذي انثلم من السور رجلا من قواد الروم يقال له وندوا، وتفسيره بالعربية ثور، فقاتل الرجل وأصحابه قتالا شديدا بالليل والنهار والحرب عليه وعلى أصحابه، لم يمده ياطس ولا غيره بأحد من الروم، فلما كان بالليل مضى القائد الموكل بالثلمة إلى الروم، فقال: إن الحرب علي وعلى أصحابي، ولم يبق معي أحد إلا قد جرح، فصيروا أصحابكم على الثلمة يرمون قليلا، وإلا افتضحتم وذهبت المدينة فأبوا أن يمدوه بأحد، فقالوا: سلم السور من ناحيتنا، وليس نسألك أن تمدنا، فشأنك وناحيتك، فليس لك عندنا مدد فاعتزم هو واصحابه على ان يخرجوا إلى أمير المؤمنين المعتصم، ويسألوه الأمان على الذرية، ويسلموا إليه الحصن بما فيه من الخرثي والمتاع والسلاح وغير ذلك.
فلما أصبح وكل أصحابه بجنبي الثلمة، وخرج فقال: إني أريد أمير المؤمنين، وأمر أصحابه ألا يحاربوا حتى يعود إليهم، فخرج حتى وصل إلى المعتصم، فصار بين يديه، والناس يتقدمون إلى الثلمة، وقد أمسك الروم عن الحرب حتى وصلوا إلى السور، والروم يقولون بأيديهم:
لا تحيوا، وهم يتقدمون، ووندوا بين يدي المعتصم جالس، فدعا المعتصم
(9/67)
بفرس فحمله عليه، وقابل حتى صار الناس معهم على حرف الثلمة، وعبد الوهاب ابن علي بين يدي المعتصم، فأومأ إلى الناس بيده: أن ادخلوا، فدخل الناس المدينة، فالتفت وندوا، وضرب بيده إلى لحيته، فقال له المعتصم: مالك؟
قال: جئت أريد أن أسمع كلامك وتسمع كلامي، فغدرت بي، فقال المعتصم: كل شيء تريد أن تقوله فهو لك علي، قل ما شئت، فإني لست أخالفك قال: أيش لا تخالفني وقد دخلوا المدينة! فقال المعتصم:
اضرب بيدك إلى ما شئت فهو لك، وقل ما شئت فإني أعطيكه فوقف في مضرب المعتصم وكان ياطس في برجه الذي هو فيه وحوله جماعة من الروم مجتمعين، وصارت طائفة منهم إلى كنيسة كبيرة في زاوية عمورية، فقاتلوا قتالا شديدا، فأحرق الناس الكنيسة عليهم فاحترقوا عن آخرهم، وبقي ياطس في برجه حوله أصحابه، وباقي الروم وقد أخذتهم السيوف، فبين مقتول ومجروح، فركب المعتصم عند ذلك حتى جاء فوقف حذاء ياطس، وكان مما يلي عسكر أشناس، فصاحوا: يا ياطس، هذا أمير المؤمنين، فصاح الروم من فوق البرج: ليس ياطس هاهنا، قالوا: بلى، قولوا له: إن أمير المؤمنين واقف، فقالوا: ليس ياطس هاهنا فمر أمير المؤمنين مغضبا، فلما جاوز صاح الروم: هذا ياطس، هذا ياطس! فرجع المعتصم إلى حيال البرج حتى وقف، ثم أمر بتلك السلاليم التي هيئت، فحمل سلم منها، فوضع على البرج الذي هو فيه، وصعد عليه الحسن الرومي- غلام لأبي سعيد محمد بن يوسف- وكلمه ياطس، فقال: هذا أمير المؤمنين، فانزل على حكمه، فنزل الحسن، فأخبر المعتصم أنه قد رآه وكلمه، فقال المعتصم:
قل له فلينزل، فصعد الحسن ثانية، فخرج ياطس من البرج متقلدا سيفا حتى وقف على البرج والمعتصم ينظر إليه، فخلع سيفه من عنقه، فدفعه إلى الحسن، ثم نزل ياطس، فوقف بين يدي المعتصم، فقنعه سوطا، وانصرف المعتصم إلى مضربه، وقال: هاتوه، فمشى قليلا، ثم جاءه رسول المعتصم، أن احملوه، فحملوه، فذهب به إلى مضرب أمير المؤمنين
(9/68)
ثم أقبل الناس بالأسرى والسبي من كل وجه حتى امتلأ العسكر، فأمر المعتصم بسيل الترجمان أن يميز الأسرى، فيعزل منهم أهل الشرف والقدر من الروم في ناحية، ويعزل الباقين في ناحية، ففعل ذلك بسيل ثم أمر المعتصم فوكل بالمقاسم قواده، ووكل أشناس بما يخرج من ناحيته، وأمره أن ينادي عليه، ووكل الأفشين بما يخرج من ناحيته، وامره ان ينادى ويبيع، وامر إيتاخ بناحيته مثل ذلك، وجعفرا الخياط بمثل ذلك في ناحيته، ووكل مع كل قائد من هؤلاء رجلا من قبل أحمد بن ابى دواد يحصي عليه، فبيعت المقاسم في خمسة أيام، بيع منها ما استباع، وأمر بالباقي فضرب بالنار، وارتحل المعتصم منصرفا إلى أرض طرسوس.
ولما كان يوم إيتاخ قبل أن يرتحل المعتصم منصرفا، وثب الناس على المغنم الذي كان إيتاخ على بيعه، وهو اليوم الذي كان عجيف وعد الناس فيه أن يثب بالمعتصم، فركب المعتصم بنفسه ركضا، وسل سيفه، فتنحى الناس عنه من بين يديه، وكفوا عن انتهاب المغنم، فرجع إلى مضربه، فلما كان من الغد أمر ألا ينادى على السبي إلا ثلاثة أصوات، ليتروج البيع، فمن زاد بعد ثلاثة أصوات، وإلا بيع العلق، فكان يفعل ذلك في اليوم الخامس، فكان ينادي على الرقيق خمسة خمسة، وعشرة عشرة، والمتاع الكثير جملة واحدة.
قال: وكان ملك الروم قد وجه رسولا في أول ما نزل المعتصم على عمورية فأمر به المعتصم فأنزل على موضع الماء الذي كان الناس يستقون منه، وكان بينه وبين عمورية ثلاثة أميال، ولم يأذن له في المصير إليه حتى فتح عمورية، فلما فتحها أذن له في الانصراف إلى ملك الروم، فانصرف وانصرف المعتصم يريد الثغور، وذلك أنه بلغه أن ملك الروم يريد الخروج في أثره، أو يريد التعبث بالعسكر، فمضى في طريق الجادة مرحلة، ثم رجع إلى عمورية، وأمر الناس بالرجوع، ثم عدل عن طريق الجادة إلى طريق وادي الجور،
(9/69)
ففرق الأسرى على القواد، ودفع إلى كل قائد من القواد طائفة منهم يحفظهم، ففرقهم القواد على أصحابهم، فساروا في طريق نحوا من أربعين ميلا، ليس فيه ماء، فكان كل من امتنع من الأسرى أن يمشي معهم لشدة العطش الذي أصابهم ضربوا عنقه، فدخل الناس في البرية في طريق وادي الجور فأصابهم العطش، فتساقط الناس والدواب وقتل بعض الأسرى بعض الجند وهرب.
وكان المعتصم قد تقدم العسكر، فاستقبل الناس، ومعه الماء قد حمله من الموضع الذي نزله، وهلك الناس في هذا الوادي من العطش، وقال الناس للمعتصم: إن هؤلاء الأسرى قد قتلوا بعض جندنا، فأمر عند ذلك بسيل الرومي بتمييز من له القدر منهم، فعزلوا ناحية، ثم امر بالباقين فأصعدوا إلى الجبال، وأنزلوا إلى الأودية فضربت أعناقهم جميعا، وهم مقدار ستة آلاف رجل، قتلوا في موضعين بوادي الجور وموضع آخر.
ورحل المعتصم من ذلك الموضع يريد الثغر حتى دخل طرسوس، وكان قد نصب له الحياض من الأدم حول العسكر من الماء إلى العسكر بعمورية والحياض مملوءة، والناس يشربون منها لا يتعبون في طلب الماء.
وكانت الوقعة التي وقعت بين الأفشين وملك الروم- فيما ذكر- يوم الخميس لخمس بقين من شعبان وكانت إناخة المعتصم على عمورية يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان، وقفل بعد خمسة وخمسين يوما.
وقال الحسين بن الضحاك الباهلي يمدح الأفشين، ويذكر وقعته التي كانت بينه وبين ملك الروم:
أثبت المعصوم عزا لأبي ... حسن أثبت من ركن إضم
كل مجد دون ما أثله ... لبني كاوس أملاك العجم
إنما الأفشين سيف سله ... قدر الله بكف المعتصم
(9/70)
لم يدع بالبذ من ساكنة ... غير أمثال كأمثال إرم
ثم أهدى سلما بابكه ... رهن حجلين نجيا للندم
وقرا توفيل طعنا صادقا ... فض جمعيه جميعا وهزم
قتل الأكثر منهم ونجا ... من نجا لحما على ظهر وضم
ذكر خبر المعتصم مع العباس بن المأمون
وفي هذه السنة حبس المعتصم العباس بن المأمون وأمر بلعنه.
ذكر الخبر عن سبب فعله ذلك:
ذكر أن السبب كان في ذلك أن عجيف بن عنبسة حين وجهه المعتصم إلى بلاد الروم، لما كان من أمر ملك الروم بزبطرة مع عمرو بن أربخا الفرغاني ومحمد كوته، لم يطلق يد عجيف في النفقات كما أطلقت يد الأفشين، واستقصر المعتصم أمر عجيف وأفعاله، واستبان ذلك لعجيف، فوبخ عجيف العباس على ما تقدم من فعله عند وفاة المأمون حين بايع أبا إسحاق وعلى تفريطه فيما فعل، وشجعه على أن يتلافى ما كان منه.
فقبل العباس ذلك، ودس رجلا يقال له الحارث السمرقندي، قرابة عبيد الله بن الوضاح- وكان العباس يأنس به، وكان الحارث رجلا أديبا له عقل ومداراة- فصيره العباس رسوله وسفيره إلى القواد، فكان يدور في العسكر حتى تألف له جماعة من القواد، وبايعوه وبايعه منهم خواص، وسمى لكل رجل من قواد المعتصم رجلا من ثقات أصحابه ممن بايعه، ووكله بذلك، وقال: إذا أمرنا بذلك، فليثب كل رجل منكم على من ضمناه أن يقتله، فضمنوا له ذلك، فكان يقول للرجل ممن بايعه: عليك يا فلان أن تقتل فلانا، فيقول: نعم، فوكل من بايعه من خاصة المعتصم بالمعتصم ومن خاصة الأفشين بالأفشين، ومن خاصه اشناس باشناس، ممن بايعه من
(9/71)
الأتراك، فضمنوا ذلك جميعا فلما أرادوا أن يدخلوا الدرب وهم يريدون أنقرة وعمورية، ودخل الأفشين من ناحية ملطية، أشار عجيف على العباس ان يثب على المعتصم في الدرب وهو في قلة من الناس، وقد تقطعت عنه العساكر، فيقتله ويرجع إلى بغداد، فكان الناس يفرحون بانصرافهم من الغزو، فأبى العباس عليه، وقال: لا أفسد هذه الغزاة، حتى دخلوا بلاد الروم، وافتتحوا عمورية، فقال عجيف للعباس: يا نائم، كم تنام! قد فتحت عمورية، والرجل ممكن، دس قوما ينتبهون هذا الخرثي، فإنه إذا بلغه ذلك ركب بسرعة، فتأمر بقتله هناك، فأبى عليه العباس، وقال، أنتظر حتى يصير إلى الدرب، فيخلو كما خلا في البدأة، فهو أمكن منه هاهنا وكان عجيف قد أمر من ينتهب المتاع، فانتهب بعض الخرثي في عسكر إيتاخ.
فركب المعتصم وجاء ركضا، فسكن الناس، ولم يطلق العباس أحدا من أولئك الرجال الذين كان واعدهم، فلم يحدثوا شيئا، وكرهوا أن يفعلوا شيئا بغير أمره.
وكان عمرو الفرغاني قد بلغه الخبر ذلك اليوم، ولعمرو الفرغاني قرابة، غلام أمرد في خاصة المعتصم، فجاء الغلام الى ولد عمرو يشرب عندهم تلك في الليلة، فأخبرهم أن أمير المؤمنين ركب مستعجلا، وأنه كان يعدو بين يديه، وقال: إن أمير المؤمنين قد غضب اليوم، فأمرني أن أسل سيفي، وقال:
لا يستقبلك أحد إلا ضربته، فسمع عمرو ذلك من الغلام، فأشفق عليه أن يصاب، فقال له: يا بني، أنت أحمق، أقل من الكينونة عند أمير المؤمنين بالليل، والزم خيمتك، فإن سمعت صيحة مثل هذه الصيحة، أو شغبا أو شيئا فلا تبرح من خيمتك، فإنك غلام غر، لست تعرف بعد العساكر.
فعرف الغلام مقالة عمرو.
وارتحل المعتصم من عمورية يريد الثغر، ووجه الأفشين ابن الأقطع في طريق خلاف طريق المعتصم، وأمره أن يغير على موضع سماه له، وأن يوافيه في بعض الطريق، فمضى ابن الأقطع، وتوجه المعتصم يريد الثغر، فسار حتى صار إلى موضع أقام فيه ليريح ويستريح، وليسلك الناس من المضيق الذي
(9/72)
بين أيديهم ووافى ابن الأقطع عسكر الأفشين بما أصاب من الغنائم، وكان عسكر المعتصم على حدة وعسكر الأفشين على حدة، بين كل عسكر قدر ميلين أو أكثر، واعتل أشناس فركب المعتصم صلاة الغداة يعوده، فجاء إلى مضربه فعاده، ولم يكن الأفشين لحقه بعد.
ثم خرج المعتصم منصرفا، فتلقاه الأفشين في الطريق، فقال له المعتصم:
تريد أبا جعفر وكان عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل عند منصرف المعتصم من عيادة أشناس توجها إلى ناحية عسكر الأفشين لينظرا ما جاء به ابن الأقطع من السبي فيشتريا منه ما أعجبهما، فتوجها ناحية عسكر الأفشين ولقيهما الأفشين يريد أشناس- فترجلا، وسلما عليه، ونظر إليهما حاجب أشناس من بعد، فدخل الأفشين إلى أشناس، ثم انصرف، وتوجها إلى عسكر الأفشين، فلم يكن السبي أخرج بعد، فوقفا ناحية ينتظران أن ينادي على السبي، فيشتريا منه، ودخل حاجب أشناس على أشناس، فقال: إن عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل تلقيا الأفشين، وهما يريدان عسكره، فترجلا وسلما عليه، وتوجها الى عسكره سنه 223 فدعا أشناس محمد بن سعيد السعدي، فقال له: اذهب إلى عسكر الأفشين، فانظر هل ترى هناك عمرا الفرغاني وأحمد بن الخليل! وانظر عند من نزلا، وأي شيء قصتهما؟ فجاء محمد بن سعيد، فأصابهما واقفين على ظهور دوابهما فقال: ما اوقفكما هاهنا؟ قالا: وقفنا ننتظر سبي ابن الأقطع يخرج، فنشتري بعضه، فقال لهما محمد بن سعيد: وكلا وكيلا يشترى لكما، فقال:
لا نحب أن نشتري إلا ما نراه، فرجع محمد، فأخبر أشناس بذلك، فقال لحاجبه: قل لهؤلاء الزموا عسكركم: فهو خير لكم- يعنى عمرا وابن الخليل- ولا تذهبوا هاهنا وهاهنا فذهب الحاجب إليهما، فأعلمهما، فاغتما لذلك واتفقا على أن يذهبا إلى صاحب خبر العسكر، فيستعفياه من أشناس، فصارا إلى صاحب الخبر، فقالا: نحن عبيد أمير المؤمنين، يضمنا إلى من شاء، فإن هذا الرجل يستخف بنا، قد شتمنا وتوعدنا، ونحن نخاف أن يقدم علينا، فليضمنا أمير المؤمنين إلى من أحب
(9/73)
فأنهى صاحب الخبر ذلك إلى المعتصم من يومه، واتفق الرحيل صلاة الغداة، وكان إذا ارتحل الناس سارت العساكر على حيالها، وسار أشناس والأفشين وجميع القواد في عسكر أمير المؤمنين، ووكلوا خلفاءهم بالعساكر، فيسيرون بها وكان الافشين على الميسره وأشناس على الميمنة، فلما ذهب أشناس إلى المعتصم، قال له: أحسن أدب عمرو الفرغاني وأحمد بن الخليل، فإنهما قد حمقا أنفسهما، فجاء اشناس ركضا إلى معسكره، فسأل عن عمرو وابن الخليل، فأصاب عمرا، وكان ابن الخليل قد مضى في الميسرة يبادر الروم، فجاءوه بعمرو الفرغاني، وقال: هاتوا سياطا، فمكث طويلا مجردا ليس يؤتى بالسياط، فتقدم عمه إلى أشناس، فكلمه في عمرو- وكان عمه أعجميا- وعمرو واقف، فقال: احملوه، فالبسوه قباء طاق، فحملوه على بغل في قبة، وساروا به إلى العسكر، وجاء أحمد بن الخليل وهو يركض، فقال:
احبسوا هذا معه، فأنزل عن دابته، وصير عديله، ودفعا إلى محمد بن سعيد السعدي يحفظهما، فكان يضرب لهما مضربا في فازة وحجرة ومائدة، ويفرش لهما فرشا وطية، وحوضا من ماء وأثقالهما وغلمانهما في العسكر، لم يحرك منها شيء، فلم يزالا كذلك حتى صارا إلى جبل الصفصاف وكان أشناس على الساقة، وكان بغا على ساقه عسكر المعتصم، فلما صار بالصفصاف، وسمع الغلام الفرغاني قرابة عمرو بحبس عمرو، ذكر الغلام للمعتصم ما دار بينه وبين عمرو من الكلام في تلك الليلة، مما قال له عمرو، إذا رأيت شغبا فالزم خيمتك، فقال المعتصم لبغا: لا ترحل غدا حتى تجيء أشناس، فتأخذ منه عمرا، وتلحقنى به، وكان هذا بالصفصاف.
فوقف بغا بأعلامه ينتظر أشناس، وجاء محمد بن سعيد ومعه عمرو واحمد ابن الخليل، فقال بغا لأشناس: أمرني أمير المؤمنين أن أوافيه بعمرو الساعة، فأنزل عمرو، وجعل مع أحمد بن الخليل في القبة رجل يعادله، ومضى بغا بعمرو إلى المعتصم، فأرسل أحمد بن الخليل غلاما من غلمانه إلى عمرو، لينظر ما يصنع به، فرجع الغلام فاخبره انه ادخل على أمير المؤمنين، فمكث ساعة
(9/74)
ثم دفع إلى إيتاخ، وكان أمير المؤمنين لما دخل ساء له عن الكلام الذي قاله للغلام قرابته، فأنكر وقال: هذا الغلام كان سكران، ولم يفهم ولم أقل شيئا مما ذكره، فأمر به فدفع إلى إيتاخ، وسار المعتصم حتى صار إلى باب مضايق البدندون، وأقام أشناس ثلاثة أيام على مضيق البدندون ينتظر أن تتخلص عساكر أمير المؤمنين، لأنه كان على الساقة، فكتب أحمد بن الخليل إلى أشناس رقعة يعلمه أن لأمير المؤمنين عنده نصيحة، وأشناس مقيم على مضيق البدندون، فبعث إليه أشناس باحمد بن الخصيب وابى سعيد محمد ابن يوسف يسألانه عن النصيحة، فذكر أنه لا يخبر بها إلا أمير المؤمنين، فرجعا فأخبرا أشناس بذلك، فقال: ارجعا فاحلفا له: إني حلفت بحياة أمير المؤمنين، إن هو لم يخبرني بهذه النصيحة أن أضربه بالسياط حتى يموت، فرجعا فأخبرا أحمد بن الخليل بذلك.
فأخرج جميع من عنده، وبقي أحمد بن الخصيب وأبو سعيد فأخبرهما بما ألقى إليه عمرو الفرغاني من أمر العباس، وشرح لهما جميع ما كان عنده، وأخبرهما بخبر الحارث السمرقندي، فانصرفا إلى أشناس، فأخبراه بذلك، فبعث أشناس في طلب الحدادين، فجاءوا بحدادين من الجند، فدفع إليهما حديدا، فقال: اعملا لي قيدا مثل قيد أحمد بن الخليل، وعجلا به الساعة، ففعلا ذلك، فلما كان عنده حبسه، وكان حاجب أشناس يبيت عند أحمد بن الخليل مع محمد بن سعيد السعدي.
فلما كان تلك الليلة عند العتمة ذهب الحاجب الى خيمه الحارث السمرقندي فاخرجه منها، وجاء به الى اشناس فقيده، وامر الحاجب أن يحمله إلى أمير المؤمنين، فحمله الحاجب إليه، واتفق رحيل أشناس صلاة الغداة، فجاء أشناس إلى موضع معسكره، فتلقاه الحارث معه رجل من قبل المعتصم، وعليه خلع، فقال له أشناس: مه، فقال: القيد الذي كان في رجلي صار في
(9/75)
رجل العباس وسأل المعتصم الحارث حين صار إليه عن أمره، فأقر أنه كان صاحب خبر العباس، وأخبره بجميع أمره وجميع من بايع العباس من القواد فأطلق المعتصم الحارث وخلع عليه، ولم يصدق على أولئك القواد لكثرتهم وكثرة من سمي منهم.
وتحير المعتصم في أمر العباس، فدعا به حين خرج إلى الدرب فأطلقه ومناه، وأوهمه أنه قد صفح عنه، وتغدى معه، وصرفه إلى مضربه، ثم دعاه بالليل، فنادمه على النبيذ، وسقاه حتى أسكره، واستحلفه ألا يكتمه من أمره شيئا، فشرح له قصته، وسمى له جميع من كان دب في أمره، وكيف كان السبب في ذلك في كل واحد منهم، فكتبه المعتصم وحفظه، ثم دعا الحارث السمرقندي بعد ذلك، فسأله عن الأسباب، فقص عليه مثل ما قص عليه العباس، ثم أمر بعد ذلك بتقييد العباس، ثم قال للحارث: قد رضتك على أن تكذب، فأجد السبيل إلى سفك دمك فلم تفعل، فقد أفلت، فقال له:
يا أمير المؤمنين، لست بصاحب كذب.
ثم دفع العباس إلى الأفشين، ثم تتبع المعتصم أولئك القواد، فأخذوا جميعا، فأمر أن يحمل أحمد بن الخليل على بغل بإكاف بلا وطاء، ويطرح في الشمس إذا نزل، ويطعم في كل يوم رغيفا واحدا، وأخذ عجيف بن عنبسة فيمن أخذ من القواد، فدفع من سائر القواد إلى إيتاخ، ودفع ابن الخليل إلى أشناس، فكان عجيف وأصحابه يحملون في الطريق على بغال باكف بلا وطاء، وأخذ الشاه بن سهل- وهو الرأس ابن الرأس من أهل قرية من خراسان يقال لها سجستان- فدعا به المعتصم والعباس بين يديه، فقال له: يا بن الزانية، أحسنت إليك فلم تشكر! فقال له الشاه بن سهل:
ابن الزانية هذا الذي بين يديك- يعني العباس- لو تركني هذا كنت أنت الساعة لا تقدر أن تقعد في هذا المجلس وتقول لي: يا بن الفاعلة؟ فأمر به المعتصم، فضربت عنقه، وهو أول من قتل من القواد ومعه صحبه، ودفع
(9/76)
عجيف إلى إيتاخ فعلق عليه حديدا كثيرا وحمله على بغل في محمل بلا وطاء.
وأما العباس فكان في يدي الأفشين، فلما نزل المعتصم منبج- وكان العباس جائعا- سأل الطعام، فقدم إليه طعام كثير، فأكل فلما طلب الماء منع وأدرج في مسح، فمات بمنبج، وصلى عليه بعض إخوته.
وأما عمرو الفرغاني، فإنه لما نزل المعتصم بنصيبين في بستان، دعا صاحب البستان، فقال له: احفر بئرا في موضع أومأ إليه بقدر قامة، فبدأ صاحب البستان فحفرها، ثم دعا بعمرو والمعتصم جالس في البستان، قد شرب أقداحا من نبيذ، فلم يكلمه المعتصم، ولم يتكلم عمرو حتى مثل بين يديه، فقال: جردوه، فجرد، وضرب بالسياط ضربة الأتراك، والبئر تحفر، حتى إذا فرغ من حفرها قال صاحب البستان: قد حفرتها، فأمر المعتصم عند ذلك فضرب وجه عمرو وجسده بالخشب، فلم يزل يضرب حتى سقط، ثم قال:
جروه إلى البئر فاطرحوه فيها، فلم يتكلم عمرو ولم ينطق يومه ذلك، حتى مات فطرح في البئر، وطمت عليه.
وأما عجيف بن عنبسة، فلما صار بباعيناثا، فوق بلد قليلا، مات في المحمل، فطرح عند صاحب المسلحة، وأمر أن يدفن فيها، فجاء به إلى جانب حائط خرب فطرحه عليه فقبر هناك.
وذكر عن علي بن حسن الريداني أنه قال: كان عجيف في يد محمد ابن إبراهيم بن مصعب، فسأله المعتصم عنه، فقال له: يا محمد، لم يمت عجيف؟ قال: يا سيدي اليوم يموت، ثم أتى محمد مضربه، فقال لعجيف يا أبا صالح، أي شيء تشتهي؟ قال أسفيدباج وحلوى فالوذج، فأمر أن يعمل له من كل طعام، فأكل وطلب الماء فمنع، فلم يزل يطلب وهو يسوق حتى مات، فدفن بباعيناثا
(9/77)
قال: وأما التركي الذي كان ضمن للعباس قتل أشناس متى ما أمره العباس- وكان كريما على أشناس ينادمه ولا يحجب عنه في ليل ولا نهار- فإنه أمر بحبسه، فحبسه أشناس قبله في بيت، وطين عليه الباب، وكان يلقي إليه في كل يوم رغيفا وكوز ماء، فأتاه ابنه في بعض أيامه، فكلمه من وراء الحائط، فقال له: يا بني، لو كنت تقدر لي على سكين كنت أقدر أن أتخلص من موضعي هذا، فلم يزل ابنه يتلطف في ذلك حتى أوصل إليه سكينا، فقتل به نفسه.
وأما السندي بن بختاشه، فأمر المعتصم أن يوهب لأبيه بختاشه- لأن بختاشه لم يكن يتلطخ بشيء من أمر العباس- فقال المعتصم: لا يفجع هذا الشيخ بابنه، فأمر بتخلية سبيله.
وأما أحمد بن الخليل، فإنه دفعه أشناس إلى محمد بن سعيد السعدي، فحفر له بئرا في الجزيرة بسامرا، فسأل عنه المعتصم يوما من الأيام، فقال لأشناس: ما فعل أحمد بن الخليل؟ فقال له أشناس: هو عند محمد بن سعيد السعدي، قد حفر له بئرا وأطبق عليه، وفتح له فيها كوة ليرمي إليه بالخبز والماء فقال المعتصم: هذا أحسبه قد سمن على هذه الحال، فأخبر أشناس محمد بن سعيد بذلك، فأمر محمد بن سعيد أن يسقى الماء، ويصب عليه في البئر حتى يموت: ويمتلئ البئر، فلم يزل يصب عليه الماء، والرمل ينشف الماء، فلم يغرق ولم يمتلئ البئر، فأمر أشناس بدفعه إلى غطريف الخجندي، فدفع إليه، فمكث عنده أياما، ثم مات فدفن.
وأما هرثمة بن النضر الختلي، فكان واليا على المراغة، وكان في عداد من سماه العباس أنه من أصحابه، فكتب في حمله في الحديد، فتكلم فيه الأفشين، واستوهبه من المعتصم، فوهبه له، فكتب الأفشين كتابا إلى هرثمة ابن النضر يعلمه أن أمير المؤمنين قد وهبه له، وأنه قد ولاه البلد الذي يصل إليه الكتاب فيه، فورد به الدينور عند العشاء مقيدا، فطرح في الخان، وهو موثق في الحديد، فوافاه الكتاب في جنح الليل، فأصبح وهو والي الدينور
(9/78)
وقتل باقي القواد ومن لم يحفظ اسمه من الأتراك والفراغنة وغيرهم، قتلوا جميعا.
وورد المعتصم سامرا سالما بأحسن حال، فسمي العباس: اللعين يومئذ، ودفع ولد سندس من ولد المأمون إلى إيتاخ، فحبسوا في سرداب من داره ثم ماتوا بعد.
وجرح في هذه السنة في شوال إسحاق بن إبراهيم، جرحه خادم له.
وحج بالناس فيها محمد بن داود.
(9/79)
ثم دخلت
سنة أربع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن مخالفه مازيار بطبرستان
فمما كان فيها من ذلك إظهار مازيار بن قارن بن وندا هرمز بطبرستان الخلاف على المعتصم، ومحاربته أهل السفح والأمصار منها.
ذكر الخبر عن سبب إظهاره الخلاف على المعتصم وفعله ما فعل من الوثوب بأهل السفح:
ذكر أن السبب في ذلك، كان أن مازيار بن قارن كان منافرا لآل طاهر، لا يحمل إليهم الخراج، وكان المعتصم يكتب إليه يأمره بحمله إلى عبد الله بن طاهر، فيقول: لا أحمله إليه، ولكني أحمله إلى أمير المؤمنين، فكان المعتصم إذا حمل المازيار إليه الخراج، يأمر: إذا بلغ المال همذان رجلا من قبله أن يستوفيه ويسلمه إلى صاحب عبد الله بن طاهر ليرده إلى خراسان، فكانت هذه حالة في السنين كلها ونافر آل طاهر حتى تفاقم الأمر بينهم.
وكان الافشين يسمع من المعتصم أحيانا كلاما يدل على أنه يريد عزل آل طاهر عن خراسان، فلما ظفر الأفشين ببابك، ونزل من المعتصم المنزلة التي لم يتقدمه فيها أحد، طمع في ولاية خراسان، وبلغته منافرة مازيار آل طاهر، فرجا أن يكون ذلك سببا لعزل عبد الله بن طاهر، فدس الأفشين الكتب إلى المازيار يستميله بالدهقنة، ويعلمه ما هو عليه من المودة له، وأنه قد وعد ولاية خراسان، فدعا ذلك المازيار إلى ترك حمل خراجه إلى عبد الله ابن طاهر، وواتر عبد الله بن طاهر الكتب فيه إلى المعتصم، حتى أوحش
(9/80)
المعتصم منه وأغضبه عليه، وحمل ذلك المازيار إلى أن وثب وخالف، ومنع الخراج، وضبط جبال طبرستان وأطرافه.
وكان ذلك مما يسر الأفشين ويطمعه في الولاية، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمره بمحاربة مازيار، وكتب الأفشين إلى المازيار يأمره بمحاربة عبد الله بن طاهر، ويعلمه أنه يقوم له عند المعتصم بما يحب، وكاتبه المازيار أيضا، فلا يشك الأفشين أن المازيار سيواقف عبد الله بن طاهر ويقاومه، حتى يحتاج المعتصم إلى أن يوجهه وغيره إليه.
فذكر عن محمد بن حفص الثقفي الطبري أن المازيار لما عزم على الخلاف، دعا الناس إلى البيعة، فبايعوه كرها، وأخذ منهم الرهائن، فحبسهم في برج الأصبهبذ، وأمر أكرة الضياع بالوثوب بأرباب الضياع وانتهاب أموالهم، وكان المازيار يكاتب بابك، ويحرضه ويعرض عليه النصرة فلما فرغ المعتصم من أمر بابك، أشاع الناس أن أمير المؤمنين يريد المسير إلى قرماسين، ويوجه الأفشين إلى الري لمحاربة مازيار، فلما سمع المازيار بإرجاف الناس بذلك، أمر أن يمسح البلد، خلا من قاطع على ضياعه بزيادة العشرة ثلاثة، ومن لم يقاطع رجع عليه، فحسب ما عليه من الفضل ولم يحسب له النقصان.
ثم أنشأ كتابا إلى عامله على الخراج، وكان عامله عليه رجلا يقال له شاذان بن الفضل، نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الأخبار تواترت علينا، وصحت عندنا بما يرجف به جهال أهل خراسان وطبرستان فينا، ويولدون علينا من الاخبار ويحملون عليه رءوسهم، من التعصب لدولتنا والطعن في تدبيرنا، والمراسلة لأعدائنا وتوقع الفتن، وانتظار الدوائر فينا، جاحدين للنعم مستقلين للأمن والدعة والرفاهية والسعة التي آثرهم الله بها، فما يرد الري قائد ولا مشرق ولا مغرب، ولا يأتينا رسول صغير ولا كبير إلا قالوا كيت وكيت، ومدوا أعناقهم نحوه،
(9/81)
وخاضوا فيما قد كذب الله أحدوثتهم، وخيب أمانيهم فيه مره بعد مره، فلا تنهاهم الأولى عن الآخرة، ولا يزجرهم عن ذلك تقية ولا خشية، كل ذلك نغضي عليه، ونتجرع مكروهه، استبقاء على كافتهم، وطلبا للصلاح والسلامة لهم إلحاحا، فلا يزيدهم استبقاؤنا إلا لجاجا، ولا كفنا عن تأديبهم إلا إغراء، إن أخرنا عنهم افتتاح الخراج نظرا لهم ورفقا بهم قالوا: معزول، وإن بادرنا به قالوا: لحادث أمر، لا يزدجرون عن ذلك بالشدة إن أغلظنا، ولا برفق إن أنعمنا، والله حسبنا وهو ولينا، عليه نتوكل وإليه ننيب وقد أمرنا بالكتاب إلى بندار آمل والرويان في استغلاق الخراج في عملهما، وأجلناهما في ذلك إلى سلخ تير ماه، فاعلم ذلك، وجرد جبايتك، واستخرج ما على اهل ناحيتك كملا، ولا يمضين عنك تير ماه، ولك درهم باق، فإنك إن خالفت ذلك إلى غيره لم يكن جزاؤك عندنا إلا الصلب، فانظر لنفسك، وحام عن مهجتك، وشمر في أمرك، وتابع كتابك إلى العباس وإياك والتغرير، واكتب بما يحدث منك من الانكماش والتشمير، فإنا قد رجونا أن يكون في ذلك مشغلة لهم عن الأراجيف، ومانع عن التسويف، فقد أشاعوا في هذه الأيام أن أمير المؤمنين أكرمه الله صائر إلى قرماسين، وموجه الافشين الى الري ولعمري لئن فعل أيده الله ذلك، أنه لمما يسرنا الله به، ويؤنسنا بجواره، ويبسط الأمل فيما قد عودنا من فوائده وأفضاله، ويكبت أعداءه وأعداءنا، ولن يهمل أكرمه الله أموره، ويرفض ثغوره، والتصرف في نواحي ملكه، لأراجيف مرجف بعماله، وقول قائل في خاصته، فإنه لا يسرب أكرمه الله جنده إذا سرب، ولا يندب قواده إذا ندب، إلا إلى المخالف فاقرأ كتابنا هذا على من بحضرتك من اهل الخراج، ليبلغ شاهدهم غائبهم، وعنف عليهم في استخراجه، ومن هم بكسره فليبد بذلك صفحته، لينزل الله به ما أنزل بأمثاله، فإن لهم أسوة في الوظائف وغيرها بأهل جرجان والري وما والاهما، فإنما خفف الخلفاء عنهم خراجهم، ورفعت الرفائع عنهم للحاجة التي كانت إليهم في محاربة أهل
(9/82)
الجبال ومغازي الديلم الضلال، وقد كفى الله أمير المؤمنين أعزه الله ذلك كله، وجعل أهل الجبال والديلم جندا وأعوانا، والله المحمود.
قال: فلما ورد كتاب المازيار على شاذان بن الفضل عامله على الخراج، أخذ الناس بالخراج، فجبى جميع الخراج في شهرين، وكان يجبى في اثني عشر شهرا، في كل أربعة أشهر الثلث، وإن رجلا يقال له علي بن يزداد العطار، وهو ممن أخذ منه رهينة، هرب وخرج من عمل المازيار، فأخبر أبو صالح سرخاستان بذلك، وكان خليفة المازيار على سارية، فجمع وجوه أهل مدينة سارية، وأقبل يوبخهم، ويقول: كيف يطمئن الملك إليكم! أم كيف يثق بكم! وهذا علي بن يزداد ممن قد حلف وبايع، وأعطى الرهينة ثم نكث وخرج، وترك رهينه، فأنتم لا تفون بيمين، ولا تكرهون الخلف والحنث، فكيف يثق بكم الملك، أم كيف يرجع لكم إلى ما تحبون! فقال بعضهم: نقتل الرهينة حتى لا يعود غيره إلى الهرب، فقال لهم: أتفعلون ذلك؟ قالوا: نعم، فكتب إلى صاحب الرهائن، فأمره أن يوجه بالحسن بن علي بن يزداد وهو رهينة أبيه، فلما صاروا به إلى سارية ندم الناس على ما قالوا لأبي صالح، وجعلوا يرجعون على الذي أشار بقتله بالتعنيف ثم جمعهم سرخاستان، وقد أحضر الرهينة، فقال لهم: إنكم قد ضمنتم شيئا، وهذا الرهينة فاقتلوه، فقال له عبد الكريم بن عبد الرحمن الكاتب: أصلحك الله! إنك أجلت من خرج من هذا البلد شهرين، وهذا الرهينة قبلك، نسألك أن تؤجله شهرين، فإن رجع أبوه وإلا أمضيت فيه رأيك.
قال: فغضب على القوم، ودعا بصاحب حرسه- وكان يقال له رستم ابن بارويه- فأمره بصلب الغلام وإن الغلام سأله أن يأذن له أن يصلي ركعتين، فأذن له، فطول في صلاته وهو يرعد، وقد مد له جذع، فجذبوا الغلام من صلاته، ومدوه فوق الجذع، وشدوا حلقه معه حتى اختنق، وتوفي فوقه، وأمر سرخاستان أهل مدينة سارية أن يخرجوا إلى آمل، وتقدم
(9/83)
إلى أصحاب المسالح في إحضار أهل الخنادق من الأبناء والعرب، فأحضروا ومضى مع أهل سارية إلى آمل، وقال لهم: إني أريد أن أشهدكم على أهل آمل، وأشهد أهل آمل عليكم، وأرد ضياعكم وأموالكم، فإن لزمتم الطاعة والمناصحة زدناكم من عندنا ضعف ما كنا أخذنا منكم فلما وافوا آمل جمعهم بقصر الخليل بن وندا سنجان، وصير أهل سارية ناحية عن غيرهم ووكل بهم اللوزجان، وكتب أسماء جميع أهل آمل حتى لم يخف منهم أحد عليه، ثم عرضهم بعد ذلك على الأسماء حتى اجتمعوا، ولم يتخلف منهم احد، واحدق الرجال في السلاح بهم، وصفوا جميعا، ووكل بكل واحد منهم رجلين بالسلاح، وأمر الموكل بهم أن يحمل رأس كل من كاع عن المشي، وساقهم مكتفين حتى وافى بهم جبلا يقال له هرمز داباذ، على ثمانية فراسخ من آمل وثمانية فراسخ من مدينة سارية، وكبلهم بالحديد، وحبسهم.
وبلغت عدتهم عشرين ألفا، وذلك في سنة خمس وعشرين ومائتين فيما ذكر عن محمد بن حفص.
فأما غيره من أهل الأخبار وجماعة ممن أدرك ذلك فإنهم قالوا: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين، وهذا القول عندي أولى بالصواب، وذلك أن مقتل مازيار كان في سنة خمس وعشرين ومائتين وكان فعله ما فعل بأهل طبرستان قبل ذلك بسنة.
رجع الحديث إلى الخبر عن قصة مازيار وفعله بأهل آمل على ما ذكر عن محمد بن حفص قال: وكتب إلى الدري ليفعل ذلك بوجوه العرب والأبناء ممن كان معه بمرو، وكبلهم بالحديد، وحبسهم، ووكل بهم الرجال في حبسهم، فلما تمكن المازيار، واستوى له أمره وأمر القوم، جمع أصحابه، وأمر سرخاستان بتخريب سور مدينة آمل، فخربه بالطبول والمزامير، ثم سار إلى مدينة سارية، ففعل بها مثل ذلك.
ثم وجه مازيار أخاه فوهيار إلى مدينة طميس- وهي على حد جرجان من عمل طبرستان- فخرب سورها ومدينتها، وأباح أهلها، فهرب منهم من
(9/84)
هرب، وبلي من بلي ثم توجه بعد ذلك إلى طميس سرخاستان، وانصرف عنها قوهيار، فلحق بأخيه المازيار، فعمل سرخاستان سورا من طميس إلى البحر، ومده في البحر مقدار ثلاثة أميال وكانت الأكاسرة بنته بينها وبين الترك، لان الترك كانت تغير على أهل طبرستان في أيامها، ونزل معسكرا بطميس سرخاستان وصير حولها خندقا وثيقا وابراجا للحرس، وصير عليها بابا وثيقا، ووكل به الرجال الثقات، ففزع أهل جرجان وخافوا على أموالهم ومدينتهم، فهرب منها نفر إلى نيسابور، وانتهى الخبر إلى عبد الله بن طاهر وإلى المعتصم، فوجه إليه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب، وضم إليه جيشا كثيفا يحفظ جرجان، وأمره أن يعسكر على الخندق، فنزل الحسن بن الحسين معسكرا على الخندق الذى عمله سرخستان، وصار بين العسكرين عرض الخندق، ووجه أيضا عبد الله بن طاهر حيان بن جبلة في أربعة آلاف إلى قومس معسكرا على حد جبال شروين، ووجه المعتصم من قبله محمد بن إبراهيم بن مصعب أخا إسحاق بن إبراهيم في جمع كثيف، وضم إليه الحسن بن قارن الطبري القائد ومن كان بالباب من الطبرية، ووجه منصور بن الحسن هار صاحب دنباوند إلى مدينة الري ليدخل طبرستان من ناحية الري، ووجه أبا الساج إلى اللارز ودنباوند، فلما أحدقت الخيل بالمازيار من كل جانب بعث عند ذلك إبراهيم بن مهران صاحب شرطته وعلي بن ربن الكاتب النصراني، ومعهما خليفة صاحب الحرس إلى أهل المدن المحتبسين عنده، أن الخيل قد زحفت الى من كل جانب، وانما حبستكم ليبعث إلي هذا الرجل فيكم- يعني المعتصم- فلم يفعل، وقد بلغنى ان الحجاج ابن يوسف غضب على صاحب السند في امرأة أسرت من المسلمين، وأدخلت إلى بلاد السند حتى غزا السند، وأنفق بيوت الأموال حتى استنفذ المرأة وردها إلى مدينتها، وهذا الرجل لا يكترث بعشرين ألفا، ولا يبعث إلي يسأل فيكم، وإني لا أقدم على حربه، وأنتم ورائي، فأدوا إلي خراج سنتين، وأخلي سبيلكم، ومن كان منكم شابا قويا قدمته للقتال، فمن وفى لي منكم رددت عليه ماله، ومن لم يف أكون قد أخذت ديته، ومن كان شيخا أو ضعيفا صيرته من الحفظه والبوابين
(9/85)
فقال رجل يقال له موسى بن هرمز الزاهد- كان يقال أنه لم يشرب الماء منذ عشرين سنة- أنا أؤدي إليك خراج سنتين، وأقوم به، فقال خليفة صاحب الحرس لأحمد بن الصقير: لم لا تتكلم، وقد كنت أحظى القوم عند الأصبهبذ، وقد كنت أراك تتغذى معه، وتتكئ على وسادته! وهذا شيء لم يفعله الملك بأحد غيرك، فأنت أولى بالقيام بهذا الأمر من موسى، قال أحمد: إن موسى لا يقدر على القيام بجباية درهم واحد، وإنما أجابكم بجهل وبما هو عليه وعلى الناس أجمع، ولو علم صاحبكم أن عندنا درهما واحدا لم يحبسنا، وانما حبسنا بعد ما استنظف كل ما عندنا من الأموال والذخائر، فإن أراد الضياع بهذا المال أعطيناه فقال له علي بن ربن الكاتب: الضياع للملك لا لكم، فقال له إبراهيم بن مهران: أسألك بالله يا أبا محمد، لما سكت عن هذا الكلام! فقال له أحمد: لم أزل ساكتا حتى كلمني هذا بما قد سمعت سنه 224 ثم انصرفت الرسل على ضمان موسى الزاهد، وأعلموا المازيار ضمانه، وانضم إلى موسى الزاهد قوم من السعاة، فقالوا: فلان يحتمل عشرة آلاف، وفلان يحتمل عشرين ألفا وأقل وأكثر، وجعلوا يستأكلون الناس أهل الخراج وغيرهم، فلما مضى لذلك أيام، رد مازيار الرسل مقتضيا المال، ومتنجزا ما كان من ضمان موسى الزاهد، فلم ير لذلك أثرا ولا تحقيقا، وتحقق قول أحمد، وألزمه الذنب وعلم المازيار أن ليس عند القوم ما يؤدون، وإنما أراد أن يلقي الشر بين أصحاب الخراج، ومن لا خراج عليه من التجار والصناع.
قال: ثم إن سرخاستان كان معه ممن اختار من أبناء القواد وغيرهم من أهل آمل فتيان لهم جلد وشجاعة، فجمع منهم في داره مائتين وستين فتى ممن يخاف ناحيته، وأظهر أنه يريد جمعهم للمناظرة، وبعث إلى الأكرة المختارين من الدهاقين، فقال لهم: إن الأبناء هواهم مع العرب والمسودة، ولست آمن غدرهم ومكرهم، وقد جمعت أهل الظنة ممن أخاف ناحيته، فاقتلوهم لتأمنوا، ولا يكون في عسكركم ممن يخالف هواه هواكم ثم أمر بكتفهم
(9/86)
ودفعهم إلى الأكره ليلا، فدفعوهم إليهم، وصاروا بهم إلى قناة هناك، فقتلوهم ورموا بهم في آبار تلك القناة وانصرفوا فلما ثاب إلى الأكرة عقولهم ندموا على فعلهم، وفزعوا من ذلك، فلما علم المازيار أن القوم ليس عندهم ما يؤدونه إليه، بعث إلى الأكرة المختارين الذين قتلوا المائتين والستين فتى، فقال لهم: إني قد أبحتكم منازل أرباب الضياع وحرمهم- إلا ما كان من جارية جميلة من بناتهم، فإنها تصير للملك- وقال لهم: صيروا إلى الحبس فاقتلوا أرباب الضياع جميعهم قبل ذلك، ثم حوزوا بعد ذلك، ما وهبت لكم من المنازل والحرم، فجبن القوم عن ذلك وخافوا وحذروا فلم يفعلوا ما أمرهم به.
قال: وكان الموكلون بالسور من أصحاب سرخاستان يتحدثون ليلا مع حرس الحسن بن الحسين بن مصعب، وبينهم عرض الخندق، حتى استأنس بعضهم ببعض، وتآمروا وحرس سرخاستان بتسليم السور إليهم، فسلموه، ودخل أصحاب الحسن بن الحسين من ذلك الموضع إلى عسكر سرخاستان في غفلة من الحسن بن الحسين ومن سرخاستان، فنظر أصحاب الحسن إلى قوم يدخلون من الحائط، فدخلوا معهم، فنظر الناس بعضهم إلى بعض، فثاروا.
وبلغ الحسن بن الحسين بن مصعب، فجعل يصيح بالقوم ويمنعهم، ويقول:
يا قوم، إني أخاف عليكم أن تكونوا مثل قوم داوندان، ومضى أصحاب قيس بن زنجويه- وهو من أصحاب الحسن بن الحسين- حتى نصبوا العلم على السور في معسكر سرخاستان، وانتهى الخبر إلى سرخاستان أن العرب قد كسروا السور، ودخلوا بغتة، فلم تكن له همة إلا الهرب، وكان سرخاستان في الحمام، فسمع الصياح، فخرج هاربا في غلالة وقال الحسن بن الحسين حين لم يقدر على رد أصحابه: اللهم إنهم قد عصوني وأطاعوك، اللهم فاحفظهم وانصرهم، ولم يزل أصحاب الحسن يتبعون القوم حتى صاروا إلى الدرب الذي على السور فكسروه، ودخل الناس من غير مانع حتى استولوا على جميع ما في العسكر، ومضى قوم في الطلب.
وذكر عن زراره بن يوسف السجزى أنه قال: مررت في الطلب، فبينا
(9/87)
أنا كذلك، إذ صرت إلى موضع عن يسرة الطريق، فوجلت من الممر فيه، ثم تقحمته بالرمح من غير أن أرى أحدا، وصحت: من أنت؟ ويلك! فإذا شيخ جسيم قد صاح زينهار- يعني الأمان- قال: فحملت عليه، فأخذته، وشددت كتافه، فإذا هو شهريار أخو أبي صالح سرخاستان، صاحب العسكر، قال: فدفعته إلى قائدي يعقوب بن منصور، وحال الليل بيننا وبين الطلب، فرجع الناس إلى المعسكر، وأتي بشهريار إلى الحسن بن الحسين فضرب عنقه وأما أبو صالح فمضى حتى صار على خمسة فراسخ من معسكره، وكان عليلا، فجهده العطش والفزع، فنزل في غيضة يمنة الطريق إلى سفح جبل، وشد دابته واستلقى، فبصر به غلام له ورجل من أصحابه يقال له جعفر بن ونداميد، فنظر إليه نائما، فقال سرخاستان:
يا جعفر، شربة ماء، فقد جهدني العطش، قال: فقلت: ليس معي إناء أغرف به من هذا الموضع، فقال سرخاستان: خذ رأس جعبتي فاسقني به، قال جعفر: وملت إلى عداد من أصحابي، فقلت لهم: هذا الشيطان قد أهلكنا فلم لا نتقرب به إلى السلطان، ونأخذ لأنفسنا الأمان! فقالوا لجعفر: كيف لنا به؟ قال: فوقفهم عليه، وقال لهم: أعينوني ساعة، وأنا أثاوره، فأخذ جعفر خشبة عظيمة وسرخاستان مستلق، فألقى نفسه عليه، وملكوه وشدوه كتافا مع الخشبة، فقال لهم أبو صالح: خذوا مني مائة ألف درهم واتركوني، فإن العرب لا تعطيكم شيئا، قالوا له: أحضرها، قال: هاتوا ميزانا، قالوا:
ومن اين هاهنا ميزان؟ قال: فمن اين هاهنا ما أعطيكم! ولكن صيروا معي إلى المنزل، وأنا أعطيكم العهود والمواثيق أني أفي لكم بذلك، وأوفر عليكم، فصاروا به إلى الحسن بن الحسين، فاستقبلتهم خيل للحسن بن الحسين، فضربوا رءوسهم، وأخذوا سرخاستان منهم، فهمتهم أنفسهم، ومضى أصحاب الحسن بأبي صالح إلى الحسن، فلما وقفوه بين يديه، دعا الحسن قواد طبرستان، مثل محمد بن المغيرة بن شعبة الأزدي وعبد الله بن محمد القطقطي الضبي والفتح بن قراط وغيرهم، فسألهم: هذا سرخاستان؟ قالوا: نعم، فقال لمحمد
(9/88)
ابن المغيرة، قم فاقتله بابنك وأخيك، فقام إليه فضربه بالسيف، وأخذته السيوف فقتل.
ذكر خبر أبي شاس الشاعر
وكان أبو شاس الشاعر، وهو الغطريف بن حصين بن حنش فتى من أهل العراق، ربي بخراسان، أديبا فهما، وكان سرخاستان ألزمه نفسه يتعلم منه أخلاق العرب ومذاهبها، فلما نزل بسرخاستان ما نزل به، وأبو شاس في معسكره، ومعه دواب واثقال، هجم عليه قوم البخارية، من أصحاب الحسن، فانتهبوا جميع ما كان معه، وأصابته جراحات، فبادر أبو شاس فأخذ جرة كانت معه، فوضعها على عاتقه، وأخذ بيده قدحا، وصاح: الماء للسبيل، حتى أصاب غفلة من القوم، فهرب من مضربه، وقد أصابته جراحة، فبصر به غلام- وقد كان مر بمضرب عبد الله بن محمد بن حميد القطقطي الطبري، وكان كاتب الحسن بن الحسين- فعرفوه، عرفه خدمه، وعلى عاتقه الجرة وهو يسقي الماء، فأدخلوه خيمتهم، وأخبروا صاحبهم بمكانه، فأدخل عليه، فحمله وكساه، وأكرمه غاية الإكرام، ووصفه للحسن بن الحسين، وقال له: قل في الأمير قصيدة، فقال أبو شاس: والله لقد امحى ما في صدري من كتاب الله من الهول، فكيف أحسن الشعر! ووجه الحسن برأس أبي صالح سرخاستان إلى عبد الله بن طاهر، ولم يزل من معسكره وذكر عن محمد بن حفص أن حيان بن جبلة مولى عبد الله بن طاهر، كان أقبل مع الحسن بن الحسين إلى ناحية طميس، فكاتب قارن بن شهريار، ورغبه في الطاعة، وضمن له أن يملكه على جبال أبيه وجده، وكان قارن من قواد مازيار وهو ابن أخيه وكان مازيار صيره مع أخيه عبد الله بن قارن، وضم إليهما عدة من ثقات قواده وقراباته، فلما استماله حيان، وكان قارن قد ضمن له أن يسلم له الجبال، ومدينة سارية إلى حد جرجان، على أن يملكه على جبال أبيه وجده إذا وفى له بالضمان، وكتب بذلك حيان إلى عبد الله بن طاهر، سجل له عبد الله بن طاهر بكل ما سأل، وكتب إلى حيان بأن
(9/89)
يتوقف ولا يدخل الجبل ولا يوغل حتى يكون من قارن ما يستدل به على الوفاء، لئلا يكون منه مكر، فكتب حيان إلى قارن بذلك، فدعا قارن بعبد الله ابن قارن وهو أخو مازيار، ودعا جميع قواده إلى طعامه، فلما أكلوا ووضعوا سلاحهم واطمأنوا أحدق بهم أصحابه في السلاح الشاك، وكتفهم ووجه بهم إلى حيان بن جبلة، فلما صاروا إليه استوثق منهم، وركب حيان في جمعه حتى دخل جبال قارن.
وبلغ مازيار الخبر فاغتم لذلك، وقال له القوهيار أخوه: في حبسك عشرون ألفا من المسلمين، من بين إسكاف وخياط، وقد شغلت نفسك بهم، وإنما أتيت من مأمنك وأهل بيتك وقرابتك، فما تصنع بهؤلاء المحبسين عندك؟ قال: فأمر مازيار بتخلية جميع من في حبسه، ثم دعا إبراهيم بن مهران صاحب شرطته، وعلي بن ربن النصراني كاتبه، وشاذان بن الفضل صاحب خراجه، ويحيى بن الروذبهار جهبذه، وكان من أهل السهل عنده، فقال لهم: إن حرمكم ومنازلكم وضياعكم بالسهل، وقد دخلت العرب إليكم، وأكره أن أشومكم، فاذهبوا إلى منازلكم، وخذوا لأنفسكم الأمان ثم وصلهم، وأذن لهم في الانصراف، فصاروا إلى منازلهم وأخذوا الأمان لأنفسهم.
ولما بلغ أهل مدينة سارية أخذ سرخاستان واستباحة عسكره ودخول حيان ابن جبلة جبل شروين، وثبوا على عامل مازيار بسارية- وكان يقال له مهريستاني بن شهريز- فهرب منهم، ونجا بنفسه، وفتح الناس باب السجن، وأخرجوا من فيه، ووافى حيان بعد ذلك مدينة سارية وبلغ قوهيار أخا مازيار موافاة حيان سارية، فأطلق محمد بن موسى بن حفص الذي كان عامل طبرستان من حبسه، وحمله على بغل بسرج، ووجه به إلى حيان ليأخذ له الأمان، ويجعل له جبال أبيه وجده على أن يسلم إليه مازيار، ويوثق
(9/90)
له بذلك بضمان محمد بن موسى بن حفص وأحمد بن الصقير، فلما صار محمد بن موسى إلى حيان، وأخبره برسالة قوهيار إليه، قال له حيان: من هذا؟
يعني احمد، قال: شيخ البلاد، وبقية الخلفاء والأمير عبد الله بن طاهر به عارف، فبعث حيان إلى أحمد، فأتاه فأمره بالخروج إلى مسلحة خرماباذ مع محمد بن موسى وكان لأحمد ابن يقال له إسحاق، وكان قد هرب من مازيار، يأوي نهاره الغياض، ويصير بالليل إلى ضيعة يقال لها ساواشريان، وهي على طريق الجادة من قدح الأصبهبذ الذي فيه قصر مازيار.
فذكر عن إسحاق، أنه قال: كنت في هذه الضيعة، فمر بي عدة من أصحاب مازيار، معهم دواب تقاد وغير ذلك، قال: فوثبت على فرس منها هجين ضخم، فركبته عريا، وصرت إلى مدينة سارية، فدفعته إلى أبي، فلما أراد أحمد الخروج إلى خرماباذ ركب ذلك الفرس، فنظر إليه حيان، فأعجبه، فالتفت حيان إلى اللوزجان- وكان من أصحاب قارن- فقال له:
رأيت هذا الشيخ على فرس نبيل قل ما رأيت مثله، فقال له اللوزجان: هذا الفرس كان لمازيار، فبعث حيان إلى أحمد يسأله البعثة بالفرس إليه، لينظر إليه، فبعث به إليه، فلما تأمل النظر وفتشه وجده مشطب اليدين، فزهد فيه، ودفعه إلى اللوزجان، وقال لرسول أحمد: هذا لمازيار، ومال مازيار لأمير المؤمنين، فرجع الرسول فأخبر أحمد، فغضب على اللوزجان من ذلك، فبعث إليه أحمد بالشتيمة، فقال اللوزجان: ما لي في هذا ذنب! ورد الفرس إلى أحمد، ومعه برذون وشهرى فاره، فأمر رسوله فدفعهما إليه.
وغضب أحمد من فعل حيان به، وقال: هذا الحائك يبعث إلى شيخ مثلي فيفعل به ما فعل! ثم كتب إلى قوهيار: ويحك! لم تغلط في أمرك وتترك مثل الحسن بن الحسين عم الأمير عبد الله بن طاهر، وتدخل في أمان هذا العبد الحائك، وتدفع أخاك، وتضع قدرك، وتحقد عليك الحسن بن الحسين
(9/91)
بتركك إياه وميلك إلى عبد من عبيده! فكتب إليه قوهيار: قد غلطت في أول الأمر، وواعدت الرجل أن أصير إليه بعد غد، ولا آمن إن خالفته أن يناهضني ويحاربني، ويستبيح منازلي وأموالي، وإن قاتلته فقتلت من أصحابه، وجرت الدماء بيننا وقعت الشحناء، ويبطل هذا الأمر الذي التمسته.
فكتب إليه أحمد: إذا كان يوم الميعاد فابعث إليه رجلا من أهل بيتك، واكتب إليه أنه قد عرضت لك علة منعتك من الحركة، وإنك تتعالج ثلاثة أيام، فإن عوفيت وإلا صرت إليه في محمل، وسنحمله نحن على قبول ذلك منك، والمصير في الوقت.
وإن أحمد بن الصقير ومحمد بن موسى بن حفص كتبا إلى الحسن بن الحسين وهو في معسكره بطميس ينتظر أمر عبد الله بن طاهر وجواب كتابه بقتل سرخاستان وفتح طميس، فكتبا إليه أن اركب إلينا لندفع إليك مازيار والجبل، والا فاتك، فلا تقم ووجها الكتاب مع شاذان بن الفضل الكاتب، وامراه أن يعجل السير.
فلما وصل الكتاب إلى الحسن ركب من ساعته، وسار مسيرة ثلاثة أيام في ليلة، حتى انتهى إلى سارية، فلما أصبح سار إلى خرماباذ- وهو يوم موعد قوهيار- وسمع حيان وقع طبول الحسن، فركب فتلقاه على راس فرسخ، فقال له الحسن: ما تصنع هاهنا! فما يؤمنك أن يبدو للقوم، فيغدروا بك، فينتقض عليك جميع ما عملت ارجع إلى الجبل، فصير مسالحك في النواحي والأطراف، وأشرف على القوم أشرافا لا يمكنهم الغدر، إن هموا به.
فقال له حيان: أنا على الرجوع، وأريد أن أحمل أثقالي، وأتقدم إلى رجالي بالرحلة، فقال له الحسن: امض أنت، فأنا باعث بأثقالك ورجالك خلفك، وبت الليلة بمدينة سارية حتى يوافوك، ثم تبكر من غد، فخرج حيان من فوره كما أمره الحسن إلى سارية، ثم ورد عليه كتاب عبد الله بن طاهر أن
(9/92)
يعسكر بلبورة- وهي من جبال ونداهرمز، وهي أحصن موضع من جباله، وكان أكثر مال مازيار بها- وأمره عبد الله ألا يمنع قارن مما يريد من تلك الجبال والأموال فاحتمل قارن ما كان لمازيار هنالك من المال، والذي كان بأسباندرة من ذخائر مازيار، وما كان لسرخاستان بقدح السلتان، واحتوى على ذلك كله.
فانتقض على حيان جميع ما كان سنح له بسبب ذلك الفرس، وتوفي بعد ذلك حيان بن جبلة فوجه عبد الله مكانه على أصحابه محمد الحسين بن مصعب، وتقدم إليه عبد الله ألا يضرب على يدي قارن في شيء يريده، وصار الحسن ابن الحسين إلى خرماباذ، فأتاه محمد بن موسى بن حفص واحمد بن الصقير، فتناظروا سرا، فجزاهما خيرا، وكتب هو إلى قوهيار، فوافى خرماباذ، وصار إلى الحسن، فبره وأكرمه وأجابه إلى كل ما سال، واتعدا على يوم، ثم صرفه وصار قوهيار إلى مازيار، فأعلمه أنه قد أخذ له الأمان، واستوثق له وكان الحسين بن قارن قد كاتب قوهيار من ناحية محمد بن إبراهيم بن مصعب، وضمن له الرغائب عن أمير المؤمنين، فأجابه قوهيار، وضمن له ما ضمن لغيره، كل ذلك ليردهم عن الحرب ومال إليه فركب محمد بن إبراهيم من مدينة آمل، وبلغ الحسن بن الحسين الخبر فذكر عن إبراهيم بن مهران أنه كان يتحدث عند أبي السعدي، فلما قرب وكان طريقه على باب مضرب الحسن قال: فلما حاذيت مضربه، إذا بالحسن الزوال انصرف يريد منزله راكب وحده، لم يتبعه إلا ثلاثة غلمان له أتراك، قال: فرميت بنفسي، وسلمت عليه، فقال: اركب، فلما ركبت قال: أين طريق آرم؟ قلت: هي على هذا الوادي، فقال لي: امض أمامي، قال: فمضيت حتى بلغت دربا على ميلين من آرم، قال: ففزعت، وقلت: أصلح الله الأمير! هذا موضع مهول، ولا يسلكه الا الف فارس، فأرى لك أن تنصرف
(9/93)
ولا تدخله قال: فصاح بي: امض، فمضيت وأنا طائش العقل، ولم نر في طريقنا أحدا حتى وافينا آرم، فقال لي: أين طريق هرمزداباذ؟
قلت: على هذا الجبل في هذا الشراك، قال: فقال لي: سر إليها، فقلت: أعز الله الأمير! الله الله في نفسك وفينا وفي هذا الخلق الذي معك! قال: فصاح بي:
امض يا بن اللخناء، قال: فقلت له: أعزك الله! اضرب أنت عنقي، فإنه أحب إلي من أن يقتلني مازيار، ويلزمني الأمير عبد الله بن طاهر الذنب.
قال: فانتهرني حتى ظننت أنه سيبطش بي، ومضيت وأنا خليع الفؤاد، وقلت في نفسي: الساعة نؤخذ جميعا، او نوقف بين يدي مازيار فيوبخني، ويقول: جئت دليلا علي! فبينا نحن كذلك إذ وافينا هرمزداباذ مع اصفرار الشمس، فقال لي: أين كان سجن المسلمين هاهنا؟ فقلت له: في هذا الموضع.
قال: فنزل فجلس ونحن صيام، والخيل تلحقنا متقطعة، وذلك أنه ركب من غير علم الناس، فعلموا بعد ما مضى، فدعا الحسن بيعقوب بن منصور، فقال له: يا أبا طلحة، أحب أن تصير إلى الطالقانية، فتلطف بحيلك لجيش أبي عبد الله محمد بن إبراهيم بن مصعب هنالك ساعتين أو ثلاث ساعات أو أكثر، ما أمكنك وكان بينه وبين الطالقانية فرسخان أو ثلاثة فراسخ، قال إبراهيم: فبينا نحن وقوف بين يدي الحسن، إذ دعا بقيس بن زنجويه، فقال له: امض إلى درب لبورة، وهو على أقل من فرسخ، فابرز بأصحابك على الدرب.
قال: فلما صلينا المغرب وأقبل الليل، إذا أنا بفرسان بين أيديهم الشمع مشتعلا مقبلين من طريق لبورة، فقال لي: يا إبراهيم، أين طريق لبورة؟
فقلت: أرى نيرانا وفرسانا قد أقبلوا من ذلك الطريق، قال: وأنا داهش لا أقف على ما نحن فيه، حتى قربت النيران منا، فأنظر فإذا المازيار مع القوهيار، فلم
(9/94)
أشعر حتى نزلا، وتقدم المازيار، فسلم على الحسن بالإمرة، فلم يرد عليه، وقال لطاهر بن إبراهيم وأوس البلخي: خذاه إليكما.
وذكر عن أخي وميدوار بن خواست جيلان، أنه في تلك الليلة صار مع نفر إلى قوهيار، وقال له: اتق الله، قد خلفت سرواتنا، فأذن لي أكنف هؤلاء العرب كلهم، فإن الجند حيارى جياع، وليس لهم طريق يهربون، فتذهب بشرفها ما بقي الدهر، ولا تثق بما يعطيك العرب، فليس لهم وفاء! فقال قوهيار: لا تفعلوا، وإذا قوهيار قد عبى علينا العرب، ودفع مازيار وأهل بيته إلى الحسن لينفرد بالملك، ولا يكون أحد ينازعه ويضاده.
فلما كان في السحر، وجه الحسن بالمازيار مع طاهر بن إبراهيم وأوس البلخي إلى خرماباذ، وأمرهما أن يمرا به إلى مدينة سارية، وركب الحسن، وأخذ على وادي بابك إلى الكانية مستقبلا محمد بن إبراهيم بن مصعب، فالتقيا ومحمد يريد المصير إلى هرمزداباذ لأخذ المازيار، فقال له الحسن: يا أبا عبد الله، أين تريد؟ قال: أريد المازيار، فقال: هو بسارية، وقد صار إلي، ووجهت به إلى هنالك، فبقي محمد بن إبراهيم متحيرا وكان القوهيار قد هم بالغدر بالحسن، ودفع المازيار إلى محمد بن إبراهيم، فسبق الحسن إلى ذلك، وتخوف القوهيار منه أن يحاربه حين رآه متوسطا الجبل ان أحمد بن الصقير كتب إلى القوهيار: لا أرى لك التخليط والمناصبة لعبد الله بن طاهر، وقد كتب اليه بخبرك وضمانك فلا تكن ذا قلبين، فعند ذلك حذره ودفعه إلى الحسن، وصار محمد بن إبراهيم والحسن بن الحسين إلى هرمزداباذ، فأحرقا قصر المازيار بها، وأنهبا ماله، ثم صارا إلى معسكر الحسن بخرماباذ، ووجها إلى إخوة المازيار، فحبسوا هناك في داره، ووكل بهم ثم رحل الحسن إلى مدينة سارية، فأقام بها، وحبس المازيار بقرب خيمة الحسن، وبعث الحسن إلى محمد بن موسى بن حفص يسأله عن القيد الذي كان قيده به المازيار، فبعث به محمد إليه، فقيد المازيار بذلك القيد، ووافى محمد بن إبراهيم الحسن بمدينة سارية ليناظره في مال المازيار وأهل بيته، فكتبا بذلك
(9/95)
إلى عبد الله بن طاهر، وانتظرا أمره، فورد كتاب عبد الله إلى الحسن بتسليم المازيار وإخوته وأهل بيته إلى محمد بن إبراهيم، ليحملهم إلى أمير المؤمنين المعتصم، ولم يعرض عبد الله لأموالهم، وأمره أن يستصفي جميع ما للمازيار ويحرزه، فبعث الحسن إلى المازيار فأحضره، وسأله عن أمواله فذكر أن ماله عند قوم سماهم، من وجوه أهل سارية وصلحائهم عشرة نفر، وأحضر القوهيار، وكتب عليه كتابا، وضمنه توفير هذه الأموال التي ذكرها المازيار أنها عند خزانه وأصحاب كنوزه، فضمن القوهيار ذلك وأشهد على نفسه.
ثم أن الحسن أمر الشهود الذين أحضرهم أن يصيروا إلى المازيار، فيشهدوا عليه، فذكر عن بعضهم، أنه قال: لما دخلنا على المازيار، تخوفت من أحمد بن الصقير أن يفزعه بالكلام، فقلت له: أحب أن تمسك عنه، ولا تذكر ما كنت أشرت به، فسكت أحمد عند ذلك، فقال المازيار: اشهدوا أن جميع ما حملت من أموالي وصحبني ستة وتسعون ألف دينار، وسبع عشرة قطعة زمرد، وست عشرة قطعة ياقوت أحمر، وثمانية أوقار سلال مجلدة، فيها ألوان الثياب، وتاج وسيف من ذهب وجوهر، وخنجر من ذهب مكلل بالجوهر، وحق كبير مملوء جوهرا، وقد وضعه بين أيدينا، وقد سلمت ذلك إلى محمد بن الصباح، وهو خازن عبد الله بن طاهر وصاحب خبره على العسكر وإلى القوهيار قال: فخرجنا إلى الحسن بن الحسين، فقال: أشهدتم على الرجل؟ قال: قلنا: نعم، قال: هذا شيء كنت اخترته لي، فأحببت أن يعلم قلته وهو انه عندي.
وذكر عن علي بن ربن النصراني الكاتب أن ذلك الحق كان شري جوهره على المازيار وجده وشهريار ثمانية عشر ألف ألف درهم، وكان المازيار حمل ذلك كله إلى الحسن بن الحسين، على أن يظهر أنه خرج إليه في الأمان، وأنه قد آمنه على نفسه وماله وولده، وجعل له جبال أبيه، فامتنع الحسن بن
(9/96)
الحسين من هذا وعف عنه- وكان أعف الناس عن أخذ درهم أو دينار- فلما أصبح أنفذ المازيار مع طاهر بن إبراهيم وعلي بن إبراهيم الحربي، وورد كتاب عبد الله بن طاهر في إنفاذه مع يعقوب بن منصور، وقد ساروا بالمازيار ثلاث مراحل، فبعث الحسن فرده، وأنفذه مع يعقوب بن منصور ثم أمر الحسن بن الحسين القوهيار أخا المازيار أن يحمل الأموال التي ضمنها، ودفع إليه بغالا من العسكر، وأمر بإنفاذ جيش معه، فامتنع القوهيار، وقال:
لا حاجة لي بهم، وخرج بالبغال هو وغلمانه، فلما ورد الجبل وفتح الخزائن، وأخرج الأموال وعباها ليحملها، وثب عليه مماليك المازيار من الديالمة- وكانوا ألفا ومائتين- فقالوا له: غدرت بصاحبنا، وأسلمته إلى العرب، وجئت لتحمل أمواله! فأخذوه وكبلوه بالحديد، فلما جنه الليل قتلوه، وانتهبوا تلك الأموال والبغال، فانتهى الخبر إلى الحسن، فوجه جيشا إلى الذين قتلوا القوهيار، ووجه قارن جيشا من قبله في أخذهم، فأخذ منهم صاحب قارن عدة، منهم ابن عم للمازيار، يقال له شهريار بن المصمغان- وكان رأس العبيد ومحرضهم- فوجه به قارن إلى عبد الله بن طاهر، فلما صار بقومس مات، وكان جماعة أولئك الديالمة أخذوا على السفح والغيضة يريدون الديلم، فنذر بهم محمد بن إبراهيم بن مصعب، فوجه من قبله الطبرية وغيرهم حتى عارضوهم، وأخذوا عليهم الطريق، فأخذوا، فبعث بهم إلى مدينة سارية مع علي بن إبراهيم، وكان مدخل محمد بن إبراهيم حين دخل من شلنبة على طريق الروذبار الى الوريان.
وقيل: إن فساد أمر مازيار وهلاكه كان من قبل ابن عم له يقال له كان في يديه جبال طبرستان كلها، وكان في يد المازيار السهل، وكان ذلك كالقسمة بينهم يتوارثونه، فذكر عن محمد بن حفص الطبري أن الجبال بطبرستان ثلاثة: جبل ونداهرمز في وسط جبال طبرستان، والثاني جبل أخيه
(9/97)
وندا سبجان بن الأنداد بن قارن، والثالث جبل شروين بن سرخاب ابن باب، فلما قوي أمر المازيار بعث إلى ابن عمه ذلك، وقيل هو أخوه القوهيار، فألزمه بابه، وولى الجبل واليا من قبله.
يقال له دري، فلما احتاج المازيار إلى الرجال لمحاربة عبد الله بن طاهر، دعا بابن عمه أو أخيه القوهيار، فقال له: أنت أعرف بجبلك من غيرك، وأظهره على أمر الأفشين ومكاتبته له، وقال له: صر في ناحية الجبل، فاحفظ علي الجبل.
وكتب المازيار إلى الدري يأمره بالقدوم عليه، فقدم عليه، فضم إليه العساكر، ووجهه في وجه عبد الله بن طاهر، وظن أنه قد توثق من الجبل بابن عمه أو أخيه القوهيار، وذلك أن الجبل لم يظن أنه يؤتى منه لأنه ليس فيه للعساكر والمحاربة طريق لكثرة المضايق والشجر الذي فيه، وتوثق من المواضع التي يتخوف منها بالدري وأصحابه، وضم إليه المقاتلة وأهل عسكره، فوجه عبد الله بن طاهر عمه الحسن بن الحسين بن مصعب في جيش كثيف من خراسان إلى المازيار، ووجه المعتصم محمد بن إبراهيم بن مصعب، ووجه معه صاحب خبر يقال له يعقوب بن إبراهيم البوشنجي مولى الهادي، ويعرف بقوصرة، يكتب بخبر العسكر، فوافى محمد بن إبراهيم الحسن بن الحسين، وزحفت العساكر نحو المازيار حتى قربوا منه، والمازيار لا يشك أنه قد توثق من الموضع الذى تلقاه الجبل فيه.
وكان المازيار في مدينته في نفر يسير، فدعا ابن عم المازيار الحقد الذي كان في قلبه على المازيار وصنيعه به وتنحيته إياه عن جبله، أن كاتب الحسن ابن الحسين، وأعلمه جميع ما في عساكره، وأن الأفشين كاتب المازيار.
فأنفذ الحسن كتاب ابن عم المازيار إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله برجل إلى المعتصم، وكاتب عبد الله والحسن بن الحسين ابن عم المازيار- وقيل القوهيار- وضمنا له جميع ما يريد، وكان ابن عم المازيار أعلم عبد الله
(9/98)
ابن طاهر أن الجبل الذي هو عليه كان له ولأبيه ولآبائه من قبل المازيار، وأن المازيار عند تولية الفضل بن سهل إياه طبرستان انتزع الجبل من يديه، وألزمه بابه، واستخف به، فشرط له عبد الله بن طاهر إن هو وثب بالمازيار، واحتال له أن يصير الجبل في يديه على حسب ما لم يزل، ولا يعرض له فيه، ولا يحارب.
فرضي بذلك ابن عم المازيار، فكتب له عبد الله بن طاهر بذلك كتابا، وتوثق له فيه، فوعد ابن عم المازيار الحسن بن الحسين ورجالهم أن يدخلهم الجبل، فلما كان وقت الميعاد، أمر عبد الله بن طاهر الحسن بن الحسين أن يزحف للقاء الدري، ووجه عسكرا ضخما عليه قائد من قواده في جوف الليل، فوافوا ابن عم المازيار في الجبل، فسلم الجبال إليهم، وأدخلهم إليها، وصاف الدري العسكر الذي بإزائه، فلم يشعر المازيار وهو في قصره حتى وقفت الرجالة والخيل على باب قصره، والدري يحارب العسكر الآخر، فحصروا المازيار، وأنزلوه على حكم أمير المؤمنين المعتصم.
وذكر عمرو بن سعيد الطبري أن المازيار كان يتصيد، فوافته الخيل في الصيد، فأخذ أسيرا، ودخل قصره عنوة، وأخذ جميع ما فيه، وتوجه الحسن بن الحسين بالمازيار، والدري يقاتل العسكر الذي بإزائه، لم يعلم بأخذ المازيار، فلم يشعر إلا وعسكر عبد الله بن طاهر من ورائه، فتقطعت عساكره، فانهزم ومضى يريد الدخول إلى بلاد الديلم، فقتل أصحابه، واتبعوه فلحقوه في نفر من أصحابه، فرجع يقاتلهم، فقتل وأخذ رأسه، فبعث به إلى عبد الله بن طاهر وقد صار المازيار في يده، فوعده عبد الله ابن طاهر إن هو أظهره على كتب الأفشين أن يسأل أمير المؤمنين الصفح عنه، وأعلمه عبد الله أنه قد علم أن الكتب عنده فأقر المازيار بذلك، فطلبت الكتب فوجدت، وهي عدة كتب، فأخذها عبد الله بن طاهر،
(9/99)
فوجه بها مع المازيار إلى إسحاق بن إبراهيم، وأمره ألا يخرج الكتب من يده ولا المازيار إلا إلى يد أمير المؤمنين، لئلا يحتال للكتب والمازيار، ففعل إسحاق ذلك، فأوصلها من يده إلى يد المعتصم، فسأل المعتصم المازيار عن الكتب، فلم يقر بها، فأمر بضرب المازيار حتى مات، وصلب إلى جانب بابك.
وكان المأمون يكتب إلى المازيار: من عبد الله المأمون إلى جيل جيلان أصبهبذ أصبهبذان بشوار جرشاه محمد بن قارن مولى أمير المؤمنين.
وقد ذكر أن بدء وهي أمر الدري، كان أنه لما بلغه بعد ما ضم إليه المازيار الجيش نزول جيش محمد بن إبراهيم دنباوند، وجه أخاه بزرجشنس، وضم إليه محمدا وجعفرا ابني رستم الكلاري ورجالا من اهل الثغر واهل اهل الرويان، وأمرهم أن يصيروا إلى حد الرويان والري لمنع الجيش، وكان الحسن بن قارن قد كاتب محمدا وجعفرا ابني رستم، ورغبهما، وكانا من رؤساء أصحاب الدري، فلما التقى جيش الدري وجيش محمد بن إبراهيم، انقلب ابنا رستم وأهل الثغرين وأهل الرويان على بزرجشنس أخي الدري، فأخذوه أسيرا، وصاروا مع محمد بن إبراهيم على مقدمته، وكان الدري بموضع يقال له مزن في قصره مع أهله وجميع عسكره فلما بلغه غدر محمد وجعفر ابني رستم ومتابعة أهل الثغرين والرويان لهما وأسر أخيه بزرجشنس، اغتم لذلك غما شديدا، وأذعن أصحابه، وهمتهم أنفسهم، وتفرق عامتهم يطلبون الأمان، ويحتالون لأنفسهم فبعث الدري إلى الديالمة فصار ببابه مقدار أربعة آلاف رجل منهم، فرغبهم ومناهم ووصلهم ثم ركب وحمل الأموال معه، ومضى كأنه يريد أن يستنقذ أخاه ويحارب محمد بن إبراهيم، وإنما أراد الدخول إلى الديلم، والاستظهار بهم على محمد بن إبراهيم.
فاستقبله محمد بن إبراهيم في جيشه، فكانت بينهم وقعة صعبه، فلما
(9/100)
مضى الدري هرب الموكلون بالسجن، وكسر أهل السجن أقيادهم، وخرجوا هاربين، ولحق كل إنسان ببلده واتفق خروج أهل سارية الذين كانوا في حبس المازيار وخروج هؤلاء الذين كانوا في حبس الدري في يوم واحد، وذلك في شعبان لثلاث عشرة ليلة خلت منه سنة خمس وعشرين ومائتين في قول محمد بن حفص وقال غيره: كان ذلك في سنة أربع وعشرين ومائتين.
وذكر عن داود بن قحذم أن محمد بن رستم، قال: لما التقى الدري ومحمد ابن إبراهيم بساحل البحر، بين الجبل والغيضة والبحر، والغيضة متصلة بالديلم، وكان الدري شجاعا بطلا، فكان يحمل بنفسه على أصحاب محمد حتى يكشفهم، ثم يحمل معارضة من غير هزيمة، يريد دخول الغيضة، شد عليه رجل من أصحاب محمد بن إبراهيم يقال له فند بن حاجبة، فأخذه أسيرا واسترجع، واتبع الجند أصحابه وأخذ جميع ما كان معه من الأثاث والمال والدواب والسلاح، فأمر محمد بن إبراهيم بقتل بزرجشنس أخي الدري، ودعي بالدري فمد يده فقطعت من مرفقه، ومدت رجله فقطعت من الركبة، وكذا باليد الأخرى والرجل الأخرى، فقعد الدري على استه، ولم يتكلم ولم يتزعزع، فأمر بضرب عنقه وظفر محمد بن ابراهيم باصحاب الدري فحملهم مكبلين.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة ولي جعفر بن دينار اليمن.
وفيها تزوج الحسن بن الأفشين أترنجة بنت أشناس، ودخل بها في العمري، قصر المعتصم في جمادى الآخرة، وأحضر عرسها عامة أهل سامرا فحدثت أنهم كانوا يغلفون العامة فيها بالغالية في تغار من فضة، وأن المعتصم كان يباشر بنفسه تفقد من حضرها.
وفيها امتنع عبد الله الورثانى بورثان.
(9/101)
ذكر الخبر عن خلاف منكجور الاشروسنى
وفيها خالف منكجور الأشروسني قرابة الأفشين بأذربيجان.
ذكر الخبر عن سبب خلافه:
ذكر أن الأفشين عند فراغه من أمر بابك ومنصرفه من الجبال ولي أذربيجان- وكانت من عمله- وإليه منكجور هذا، فأصاب في قرية بابك في بعض منازله مالا عظيما، فاحتجنه لنفسه، ولم يعلم به الأفشين ولا المعتصم، وكان على البريد بأذربيجان رجل من الشيعة يقال له عبد الله بن عبد الرحمن، فكتب إلى المعتصم بخبر ذلك المال، وكتب منكجور يكذب ذلك، فوقعت المناظرة بين منكجور وعبد الله بن عبد الرحمن، حتى هم منكجور بقتل عبد الله بن عبد الرحمن، فاستغاث عبد الله بأهل أردبيل، فمنعوه مما أراد به منكجور، وبلغ ذلك المعتصم، فأمر الأفشين أن يوجه رجلا من قبله بعزل منكجور، فوجه رجلا من قواده في عسكر ضخم، فلما بلغ منكجور ذلك، خلع وجمع إليه الصعاليك، وخرج من أردبيل، فرآه القائد فواقعه، فانهزم منكجور، وصار إلى حصن من حصون أذربيجان- التي كان بابك أخربها- حصين في جبل منيع، فبناه وأصلحه، وتحصن فيه، فلم يلبث إلا أقل من شهر حتى وثب به أصحابه الذين كانوا معه في الحصن، فأسلموه ودفعوه إلى القائد الذي كان يحاربه، فقدم به إلى سامرا، فأمر المعتصم بحسبه، فاتهم الأفشين في أمره.
وقيل: إن القائد الذي وجه لحرب منكجور هذا كان بغا الكبير.
وقيل: إن بغا لما لقي منكجور خرج منكجور إليه بأمان.
وفيها مات ياطس الرومي، وصلب بسامرا إلى جانب بابك.
وفيها مات إبراهيم بن المهدي في شهر رمضان وصلى عليه المعتصم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
(9/102)
ثم دخلت
سنة خمس وعشرين ومائتين
ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث
فمن ذلك كان قدوم الورثاني على المعتصم في المحرم بالأمان.
وفيها قدم بغا الكبير بمنكجور سامرا.
وفيها خرج المعتصم إلى السن، واستخلف أشناس.
وفيها أجلس المعتصم أشناس على كرسي، وتوجه ووشحه في شهر ربيع الأول.
وفيها أحرق غنام المرتد.
وفيها غضب المعتصم على جعفر بن دينار، وذلك من أجل وثوبه على من كان معه من الشاكرية، وحبسه عند أشناس خمسة عشر يوما، وعزله عن اليمن، وولاها إيتاخ، ثم رضي عن جعفر.
وفيها عزل الأفشين عن الحرس ووليه إسحاق بن يحيى بن معاذ.
وفيها وجه عبد الله بن طاهر بمازيار، فخرج إسحاق بن إبراهيم إلى الدسكرة، فأدخله سامرا في شوال، وأمر بحمله على الفيل، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد خضب الفيل كعاداته ... يحمل جيلان خراسان
والفيل لا تخضب أعضاؤه ... إلا لذي شأن من الشان
فأبى مازيار أن يركب الفيل، فأدخل على بغل بإكاف، فجلس المعتصم في دار العامة، لخمس ليال خلون من ذي القعدة، وأمر فجمع بينه وبين الأفشين، وقد كان الأفشين حبس قبل ذلك بيوم، فأقر المازيار أن
(9/103)
الأفشين كان يكاتبه، ويصوب له الخلاف والمعصية، فأمر برد الأفشين إلى محبسه، وأمر بضرب مازيار، فضرب أربعمائة سوط وخمسين سوطا، وطلب ماء فسقي، فمات من ساعته.
ذكر الخبر عن غضب المعتصم على الافشين وحبسه
وفيها غضب المعتصم على الأفشين فحبسه.
ذكر الخبر عن سبب غضبه عليه وحبسه إياه:
ذكر أن الأفشين كان أيام حربه بابك ومقامه بأرض الخرمية، لا يأتيه هدية من أهل أرمينية إلا وجه بها إلى أشروسنة، فيجتاز ذلك بعبد الله بن طاهر، فيكتب عبد الله إلى المعتصم بخبره، فكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر يأمر بتعريف جميع ما يوجه به الأفشين من الهدايا إلى أشروسنة، ففعل عبد الله بذلك، وكان الأفشين كلما تهيأ عنده مال حمله أوساط اصحابه من الدنانير في وسطه، فأخبر عبد الله بذلك، فبينا هو في يوم من الأيام، وقد نزل رسل الأفشين معهم الهدايا نيسابور وجه إليهم عبد الله بن طاهر، وأخذهم ففتشهم، فوجد في أوساطهم همايين، فأخذها منهم، وقال لهم: من أين لكم هذا المال؟ فقالوا: هذه هدايا الأفشين، وهذه أمواله فقال:
كذبتم، لو أراد أخي الأفشين أن يرسل بمثل هذه الأموال لكتب إلي يعلمني ذلك لآمر بحراسته وبذرقته، لأن هذا مال عظيم، وإنما أنتم لصوص.
فأخذ عبد الله بن طاهر المال، وأعطاه الجند قبله، وكتب إلى الأفشين يذكر له ما قال القوم، وقال: أنا أنكر أن تكون وجهت بمثل هذا المال إلى أشروسنة، ولم تكتب إلي تعلمني لأبذرقه، فإن كان هذا المال ليس لك فقد أعطيته الجند مكان المال الذي يوجهه إلي أمير المؤمنين في كل سنة، وإن كان المال لك- كما زعم القوم فإذا جاء المال من قبل أمير المؤمنين رددته إليك، وإن يكن غير ذلك فأمير المؤمنين أحق بهذا المال، وإنما دفعته إلى الجند
(9/104)
لأني أريد أن أوجههم إلى بلاد الترك.
فكتب إليه الأفشين يعلمه أن ماله ومال أمير المؤمنين واحد، ويسأله إطلاق القوم ليمضوا إلى أشروسنة، فأطلقهم عبد الله بن طاهر، فمضوا، فكان ذلك سبب الوحشة بين عبد الله بن طاهر وبين الأفشين.
ثم جعل عبد الله يتتبع عليه، وكان الأفشين يسمع أحيانا من المعتصم كلاما يدل على أنه يريد أن يعزل آل طاهر عن خراسان، فطمع الأفشين في ولايتها، فجعل يكاتب مازيار، ويبعثه على الخلاف، ويضمن له القيام بالدفع عنه عند السلطان، ظنا منه أن مازيار إن خالف احتاج المعتصم إلى أن يوجهه لمحاربته، ويعزل عبد الله بن طاهر ويوليه خراسان، فكان من أمر مازيار ما قد مضى ذكره.
وكان من أمر منكجور بأذربيجان ما قد وصفنا قبل، فتحقق عند المعتصم- بما كان من أمر الأفشين ومكاتبته مازيار بما كان يكاتبه به- ما كان اتهمه به من أمر منكجور، وأن ذلك كان عن رأي الأفشين وأمره إياه به، فتغير المعتصم للأفشين لذلك، وأحس الأفشين بذلك، وعلم تغير حاله عنده، فلم يدر ما يصنع، فعزم- فيما ذكر- على أن يهيئ أطوافا في قصره، ويحتال في يوم شغل المعتصم وقواده أن يأخذ طريق الموصل، ويعبر الزاب على تلك الأطواف، حتى يصير إلى بلاد أرمينية، ثم إلى بلاد الخزر، فعسر ذلك عليه، فهيأ سما كثيرا، وعزم على أن يعمل طعاما ويدعو المعتصم وقواده فيسقيهم، فان لم يجبه المعتصم استاذنه في قواد الأتراك، مثل أشناس وإيتاخ وغيرهم في يوم تشاغل أمير المؤمنين، فإذا صاروا إليه أطعمهم وسقاهم وسمهم، فإذا انصرفوا من عنده خرج من أول الليل، وحمل تلك الأطواف والآلة التي يعبر بها على ظهور الدواب حتى يجيء الى الزاب فيعبر باثقاله على الاطواف، ويعبر الدواب سباحة كما أمكنه، ثم يرسل الأطواف حتى يعبر في دجلة، ويدخل هو بلاد أرمينية، وكانت ولاية أرمينية إليه، ثم
(9/105)
يصير هو إلى بلاد الخزر مستأمنا، ثم يدور من بلاد الخزر إلى بلاد الترك، ويرجع من بلاد الترك إلى بلاد أشروسنة، ثم يستميل الخزر على أهل الإسلام، فكان في تهيئة ذلك.
وطال به الأمر فلم يمكنه ذلك وكان قواد الأفشين ينوبون في دار أمير المؤمنين كما ينوب القواد، فكان واجن الأشروسني قد جرى بينه وبين من قد اطلع على أمر الأفشين حديث، فذكر له واجن أن هذا الأمر لا أراه يمكن ولا يتم، فذهب ذلك الرجل الذي سمع قول واجن، فحكاه للأفشين وسمع بعض من يميل إلى واجن من خدم الأفشين وخاصته ما قال الأفشين في واجن، فلما انصرف واجن من النوبة في بعض الليل أتاه فأخبره أن قد ألقي ذلك إلى الأفشين، فحذر واجن على نفسه، فركب من ساعته في جوف الليل حتى أتى دار أمير المؤمنين، وقد نام المعتصم، فصار إلى إيتاخ، فقال: إن لأمير المؤمنين عندي نصيحة، فقال له إيتاخ: أليس الساعة كنت هاهنا! قد نام أمير المؤمنين فقال له واجن: ليس يمكنني أن أصبر إلى غد، فدق إيتاخ الباب على بعض من يعلم المعتصم بالذي قال واجن، فقال المعتصم: قل له ينصرف الليلة إلى منزله، ويبكر علي في غد فقال واجن: إن انصرفت الليلة ذهبت نفسي، فأرسل المعتصم إلى إيتاخ: بيته الليلة عندك فبيته إيتاخ عنده، فلما أصبح بكر به مع صلاة الغداة، فأوصله إلى المعتصم، فأخبره بجميع ما كان عنده، فدعا المعتصم محمد بن حماد بن دنقش الكاتب، فوجهه يدعو الافشين، فجاء الافشين في سواد، فأمر المعتصم بأخذ سواده، وحبسه، فحبس في الجوسق، ثم بنى له حبسا مرتفعا، وسماه لؤلؤه داخل الجوسق، وهو يعرف الى الان بالافشين.
وكتب المعتصم إلى عبد الله بن طاهر في الاحتيال للحسن بن الأفشين- وكان الحسن قد كثرت كتبه إلى عبد الله بن طاهر في نوح بن أسد- يعلمه تحامله على ضياعه وناحيته، فكتب عبد الله بن طاهر إلى نوح بن أسد يعلمه ما كتب به امير المؤمنين في امره، ويأمره بجمع أصحابه والتأهب له، فإذا قدم عليه الحسن ابن الأفشين بكتاب ولايته استوثق منه، وحمله إليه فكتب عبد الله بن طاهر
(9/106)
إلى الحسن بن الأفشين يعلمه أنه عزل نوح بن أسد، وأنه قد ولاه الناحية، ووجه إليه بكتاب عزل نوح بن أسد.
فخرج الحسن بن الأفشين في قلة من أصحابه وسلاحه، حتى ورد على نوح بن أسد، وهو يظن أنه والي الناحية، فأخذه نوح بن اسد، وشده وثاقا.
ووجه به إلى عبد الله بن طاهر، فوجه به عبد الله إلى المعتصم وكان الحبس الذي بني للأفشين شبيها بالمنارة، وجعل في وسطها مقدار مجلسه، وكان الرجال ينوبون تحتها كما تدور وذكر عن هارون بن عيسى بن المنصور، أنه قال: شهدت دار المعتصم وفيها أحمد بن أبي دواد وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب ومحمد بن عبد الملك الزيات، فاتى بالافشين ولم يكن بعد في الحبس الشديد، فأحضر قوم من الوجوه لتبكيت الأفشين بما هو عليه ولم يترك في الدار أحد من أصحاب المراتب إلا ولد المنصور، وصرف الناس.
وكان المناظر له محمد بن عبد الملك الزيات، وكان الذين أحضروا المازيار صاحب طبرستان والموبذ والمرزبان بن تركش- وهو أحد ملوك السغد- ورجلان من أهل السغد، فدعا محمد بن عبد الملك بالرجلين، وعليهما ثياب رثة، فقال لهما محمد بن عبد الملك: ما شأنكما؟ فكشفا عن ظهورهما وهي عارية من اللحم، فقال له محمد: تعرف هذين؟ قال: نعم، هذا مؤذن، وهذا إمام، بنيا مسجدا بأشروسنة فضربت كل واحد منهما ألف سوط، وذلك أن بيني وبين ملوك السغد عهدا وشرطا، أن أترك كل قوم على دينهم وما هم عليه، فوثب هذان على بيت كان فيه أصنامهم- يعني أهل أشروسنة- فأخرجا الأصنام، واتخذاه مسجدا، فضربتهما على هذا ألفا ألفا لتعديهما، ومنعهما القوم من بيعتهم فقال له محمد: ما كتاب عندك قد زينته بالذهب والجواهر والديباج، فيه الكفر بالله؟ قال: هذا كتاب ورثته عن أبي، فيه أدب من آداب العجم، وما ذكرت من الكفر، فكنت أستمتع منه بالأدب، وأترك ما سوى ذلك، ووجدته محلى، فلم تضطرني الحاجة إلى
(9/107)
أخذ الحلية منه، فتركته على حاله، ككتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك في منزلك، فما ظننت أن هذا يخرج من الإسلام.
قال: ثم تقدم الموبذ، فقال: إن هذا كان يأكل المخنوقة، ويحملني على أكلها، ويزعم أنها أرطب لحما من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كل يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.
وقال لي يوما: إني قد دخلت لهؤلاء القوم في كل شيء أكرهه، حتى أكلت لهم الزيت وركبت الجمل، ولبست النعل، غير أني إلى هذه الغاية لم تسقط عني شعرة- يعني لم يطل ولم يختتن.
فقال الأفشين: خبروني عن هذا الذي يتكلم بهذا الكلام، ثقة هو في دينه؟
- وكان الموبذ مجوسيا أسلم بعد على يد المتوكل ونادمه- قالوا: لا، قال: فما معنى قبولكم شهادة من لا تثقون به ولا تعدلونه! ثم أقبل على الموبذ، فقال: هل كان بين منزلي ومنزلك باب أو كوة تطلع علي منها وتعرف أخباري منها؟
قال: لا، قال: أفليس كنت ادخلك الى وابثك سري وأخبرك بالأعجمية وميلي إليها وإلى أهلها؟ قال: نعم، قال: فلست بالثقة في دينك ولا بالكريم في عهدك، إذا أفشيت علي سرا أسررته إليك.
ثم تنحى الموبذ، وتقدم المرزبان بن تركش، فقالوا للأفشين: هل تعرف هذا؟ قال: لا، فقيل للمرزبان: هل تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، قالوا له: هذا المرزبان، فقال له المرزبان: يا ممخرق، كم تدافع وتموه! قال له الأفشين: يا طويل اللحية، ما تقول؟ قال: كيف يكتب إليك أهل مملكتك؟ قال: كما كانوا يكتبون إلى أبي وجدي قال:
فقل، قال: لا أقول، فقال المرزبان: أليس يكتبون إليك بكذا وكذا بالأشروسنية؟ قال: بلى، قال: أفليس تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة من
(9/108)
عبده فلان بن فلان، قال: بلى! قال محمد بن عبد الملك: والمسلمون يحتملون أن يقال لهم هذا! فما بقيت لفرعون حين قال لقومه: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ! قال: كانت هذه عادة القوم لأبي وجدي، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم فتفسد علي طاعتهم فقال له إسحاق بن ابراهيم بن مصعب: ويحك يا خيذر! كيف تحلف بالله لنا فنصدقك ونصدق يمينك ونجريك مجرى المسلمين، وأنت تدعي ما ادعى فرعون! قال: يا أبا الحسين، هذه سورة قرأها عجيف على علي بن هشام، وأنت تقرؤها علي، فانظر غدا من يقرؤها عليك! قال: ثم قدم مازيار صاحب طبرستان، فقالوا للأفشين: تعرف هذا؟
قال: لا، قالوا للمازيار: تعرف هذا؟ قال: نعم، هذا الأفشين، فقالوا له: هذا المازيار؟ قال: نعم، قد عرفته الآن، قالوا: هل كاتبته؟
قال: لا، قالوا للمازيار: هل كتب إليك؟ قال: نعم، كتب أخوه خاش إلى أخي قوهيار، أنه لم يكن ينصر هذا الدين الأبيض غيري وغيرك وغير بابك، فاما بابك فانه بحمقه قتيل نفسه ولقد جهدت أن أصرف عنه الموت فأبى حمقه إلا أن دلاه فيما وقع فيه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليه لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك، والعربي بمنزلة الكلب اطرح له كسرة ثم اضرب رأسه بالدبوس، وهؤلاء الذباب- يعني المغاربة- إنما هم أكلة رأس، وأولاد الشياطين- يعني الأتراك- فإنما هي ساعه حتى تنفذ سهامهم، ثم تجول الخيل عليهم جولة فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم فقال الأفشين: هذا يدعي على أخيه وأخي دعوى لا تجب علي، ولو كنت كتبت بهذا الكتاب إليه لأستميله إلي ويثق بناحيتي كان غير مستنكر، لأني إذا نصرت الخليفة بيدي، كنت بالحيلة أحرى أن أنصره لآخذ بقفاه، وآتي به الخليفة لأحظى به عنده، كما حظي
(9/109)
به عبد الله بن طاهر عند الخليفة ثم نحى المازيار.
ولما قال الأفشين للمرزبان التركشى ما قال، وقال لإسحاق بن إبراهيم ما قال، زجر ابن ابى دواد الأفشين، فقال له الأفشين: أنت يا أبا عبد الله ترفع طيلسانك بيدك، فلا تضعه على عاتقك حتى تقتل به جماعة، فقال له ابن ابى دواد: أمطهر أنت؟ قال: لا، قال: فما منعك من ذلك، وبه تمام الإسلام، والطهور من النجاسة! قال: أوليس في دين الإسلام استعمال التقية؟ قال: بلى، قال: خفت أن أقطع ذلك العضو من جسدي فأموت، قال: أنت تطعن بالرمح، وتضرب بالسيف، فلا يمنعك ذلك من أن تكون في الحرب وتجزع من قطع قلفة! قال: تلك ضرورة تعنيني فأصبر عليها إذا وقعت، وهذا شيء أستجلبه فلا آمن معه خروج نفسي، ولم أعلم أن في تركها الخروج من الإسلام، فقال ابن ابى دواد: قد بان لكم أمره يا بغا- لبغا الكبير أبي موسى التركي- عليك به! قال: فضرب بيده بغا على منطقته فجذبها، فقال قد كنت أتوقع هذا منكم قبل اليوم، فقلب بغا ذيل القباء على رأسه، ثم أخذ بمجامع القباء من عند عنقه، ثم اخرجه من باب الوزيري الى محبسه.
[أخبار متفرقة]
وفي هذه السنة حمل عبد الله بن طاهر الحسن بن الأفشين وأترنجة بنت أشناس إلى سامرا.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود
(9/110)
ثم دخلت
سنة ست وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
خبر وثوب على بن إسحاق برجاء بن ابى الضحاك
فمن ذلك ما كان فيها من وثوب علي بن إسحاق بن يحيى بن معاذ- وكان على المعونة بدمشق من قبل صول أرتكين- برجاء بن أبي الضحاك، وكان على الخراج، فقتله، وأظهر الوسواس، ثم تكلم أحمد بن أبي دواد فيه، فأطلق من محبسه، فكان الحسن بن رجاء يلقاه في طريق سامرا، فقال البحتري الطائي:
عفا علي بن إسحاق بفتكته ... على غرائب تيه كن في الحسن
أنسته تنقيعه في اللفظ نازلة ... لم تبق فيه سوى التسليم للزمن
فلم يكن كابن حجر حين ثار ولا ... أخي كليب ولا سيف بن ذي يزن
ولم يقل لك في وتر طلبت به ... تلك المكارم لا قعبان من لبن
وفيها مات محمد بن عبد الله بن طاهر بن الحسين، فصلى عليه المعتصم في دار محمد
. ذكر الخبر عن موت الافشين
وفيها مات الأفشين.
ذكر الخبر عن موته وما فعل به عند موته وبعده:
ذكر عن حمدون بن إسماعيل، أنه قال: لما جاءت الفاكهة الحديثة، جمع المعتصم من الفواكه الحديثة في طبق، وقال لابنه هارون الواثق: اذهب
(9/111)
بهذه الفاكهة بنفسك إلى الأفشين، فأدخلها إليه فحملت مع هارون الواثق حتى صعد بها اليه في البناء الذى بنى له الذى يسمى لؤلؤه، فحبس فيه، فنظر إليه الأفشين، فافتقد بعض الفاكهة، إما الإجاص وإما الشاهلوج، فقال للواثق: لا إله الا الله، ما أحسنه من طبق، ولكن ليس لي فيه إجاص ولا شاهلوج! فقال له الواثق: هو ذا، انصرف أوجه به إليك، ولم يمس من الفاكهة شيئا، فلما أراد الواثق الانصراف قال له الأفشين: أقرئ سيدي السلام، وقل له: أسألك أن توجه إلي ثقة من قبلك يؤدي عني ما أقول، فأمر المعتصم حمدون بن إسماعيل- وكان حمدون في أيام المتوكل في حبس سليمان بن وهب في حبس الأفشين هذا، فحدث بهذا الحديث وهو فيه:
قال حمدون: فبعث بي المعتصم إلى الأفشين، فقال لي: إنه سيطول عليك فلا تحتبس قال: فدخلت عليه، وطبق الفاكهة بين يديه لم يمس منه واحدة فما فوقها، فقال لي: اجلس، فجلست فاستمالني بالدهقنة، فقلت: لا تطول، فإن أمير المؤمنين قد تقدم إلي ألا أحتبس عندك، فأوجز.
فقال: قل لأمير المؤمنين، أحسنت إلي وشرفتني، وأوطأت الرجال عقبي، ثم قبلت في كلاما لم يتحقق عندك، ولم تتدبره بعقلك، كيف يكون هذا، وكيف يجوز لي أن أفعل هذا الذي بلغك! تخبر بأني دسست إلى منكجور أن يخرج، وتقبله، وتخبر أني قلت للقائد الذي وجهته إلى منكجور:
لا تحاربه، واعذر، وإن أحسست بأحد منا فانهزم من بين يديه، أنت رجل قد عرفت الحرب، وحاربت الرجال، وسست العساكر، هذا يمكن رأس عسكر يقول لجند يلقون قوما: افعلوا كذا وكذا، هذا ما لا يسوغ لأحد أن يفعله، ولو كان هذا يمكن ما كان ينبغي أن تقبله من عدو قد عرفت سببه، وأنت أولى بي، إنما أنا عبد من عبيدك، وصنيعك، ولكن مثلي ومثلك يا أمير المؤمنين مثل رجل ربى عجلا له حتى أسمنه وكبر، وحسنت
(9/112)
حاله، وكان له أصحاب اشتهوا أن يأكلوا من لحمه، فعرضوا له بذبح العجل فلم يجبهم إلى ذلك، فاتفقوا جميعا على أن قالوا له ذات يوم: ويحك! لم تربي هذا الأسد؟ هذا سبع، وقد كبر، والسبع إذا كبر يرجع إلى جنسه! فقال لهم: ويحك هذا عجل بقر، ما هو سبع، فقالوا: هذا سبع، سل من شئت عنه، وقد تقدموا إلى جميع من يعرفونه، فقالوا له: إن سألكم عن العجل، فقولوا له: هذا سبع، فكلما سأل الرجل إنسانا عنه، وقال له: أما ترى هذا العجل ما أحسنه! قال الآخر: هذا سبع، هذا أسد، ويحك! فأمر بالعجل فذبح، ولكني أنا ذلك العجل، كيف أقدر أن أكون أسدا! الله الله في امرى، اصطنعتنى وشرفتني وأنت سيدي ومولاي، أسأل الله أن يعطف بقلبك علي قال حمدون: فقمت فانصرفت، وتركت الطبق على.
حاله لم يمس منه شيئا، ثم ما لبثنا إلا قليلا، حتى قيل: إنه يموت أو قد مات، فقال المعتصم:
أروه ابنه، فأخرجوه فطرحوه بين يديه، فنتف لحيته وشعره، ثم أمر به فحمل إلى منزل إيتاخ.
قال: وكان أحمد بن أبي دواد دعا به في دار العامة من الحبس، فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين أنك يا خيدر، أقلف، قال: نعم، وإنما أراد ابن أبي دواد أن يشهد عليه، فإن تكشف نسب إلى الخرع، وإن لم يتكشف صح عليه أنه أقلف، فقال: نعم، أنا أقلف، وحضر الدار ذلك اليوم جميع القواد والناس، وكان ابن ابى دواد أخرجه إلى دار العامة قبل مصير الواثق إليه بالفاكهة، وقبل مصير حمدون بن إسماعيل إليه.
قال حمدون: فقلت له: أنت أقلف كما زعمت؟ فقال الأفشين:
أخرجني إلى مثل ذلك الموضع، وجميع القواد والناس قد اجتمعوا، فقال لي ما قال، وإنما أراد أن يفضحني، إن قلت له: نعم لم يقبل قولي، وقال لي: تكشف، فيفضحني بين الناس، فالموت كان أحب إلي من أن أتكشف
(9/113)
بين أيدي الناس، ولكن يا حمدون إن أحببت أن أتكشف بين يديك حتى تراني فعلت، قال حمدون: فقلت له: أنت عندي صدوق، وما أريد أن تكشف.
فلما انصرف حمدون فأبلغ المعتصم رسالته، أمر بمنع الطعام منه إلا القليل، فكان يدفع إليه في كل يوم رغيف حتى مات، فلما ذهب به بعد موته إلى دار إيتاخ، أخرجوه فصلبوه على باب العامة ليراه الناس، ثم طرح بباب العامة مع خشبته، فأحرق وحمل الرماد، وطرح في دجلة.
وكان المعتصم حين أمر بحبسه وجه سليمان بن وهب الكاتب يحصي جميع ما في دار الأفشين ويكتبه في ليلة من الليالي، وقصر الأفشين بالمطيرة، فوجد في داره بيت فيه تمثال إنسان من خشب، عليه حلية كثيرة وجوهر، وفي أذنيه حجران أبيضان مشتبكان، عليهما ذهب، فأخذ بعض من كان مع سليمان أحد الحجرين، وظن أنه جوهر له قيمة، وكان ذلك ليلا، فلما أصبح ونزع عنه شباك الذهب، وجده حجرا شبيها بالصدف الذي يسمى الحبرون، من جنس الصدف الذي يقال له البوق، من صدف اخرج من منزله صور السماجة وغيرها وأصنام وغير ذلك، والاطواف والخشب التي كان أعدها، وكان له متاع بالوزيرية، فوجد فيه أيضا صنم آخر، ووجدوا في كتبه كتابا من كتب المجوس يقال له زراوه وأشياء كثيرة من الكتب، فيها ديانته التي كان يدين بها ربه.
وكان موت الأفشين في شعبان من سنة ست وعشرين ومائتين.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود بأمر أشناس، وكان أشناس.
حاجا في هذه السنة، فولي كل بلدة يدخلها فدعي له على جميع المنابر التي
(9/114)
مر بها من سامرا إلى مكة والمدينة.
وكان الذي دعا له على منبر الكوفة محمد بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، وعلى منبر فيد هارون بن محمد بن أبي خالد المروروذي، وعلى منبر المدينة محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، وعلى منبر مكة محمد بن داود بن عيسى بن موسى، وسلم عليه في هذه الكور كلها بالإمارة، وكانت له ولايتها إلى أن رجع إلى سامرا.
(9/115)
ثم دخلت
سنة سبع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر خبر خروج ابى حرب المبرقع
فمن ذلك ما كان من خروج أبي حرب المبرقع اليماني بفلسطين وخلافه على السلطان.
ذكر الخبر عن سبب خروجه وما آل إليه أمره:
ذكر لي بعض أصحابي ممن ذكر أنه خبير بأمره، أن سبب خروجه على السلطان كان أن بعض الجند أراد النزول في داره وهو غائب عنها، وفيها إما زوجته وإما أخته، فمانعته ذلك، فضربها بسوط كان معه، فاتقته بذراعها، فأصاب السوط ذراعها، فأثر فيها، فلما رجع أبو حرب إلى منزله بكت وشكت إليه ما فعل بها، وأرته الأثر الذي بذراعها من ضربه، فأخذ أبو حرب سيفه ومشى إلى الجندي وهو غار، فضربه به حتى قتله، ثم هرب وألبس وجهه برقعا كي لا يعرف، فصار إلى جبل من جبال الأردن، فطلبه السلطان فلم يعرف له خبر، وكان أبو حرب يظهر بالنهار فيقعد على الجبل الذي أوى إليه متبرقعا، فيراه الرائي فيأتيه، فيذكره ويحرضه على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويذكر السلطان وما يأتي إلى الناس ويعيبه، فما زال ذلك دأبه حتى استجاب له قوم من حراثي أهل تلك الناحية وأهل القرى، وكان يزعم أنه أموي، فقال الذين استجابوا له: هذا هو السفياني، فلما كثرت غاشيته وتباعه من هذه الطبقة من الناس، دعا أهل البيوتات من أهل تلك الناحية، فاستجاب له منهم جماعة من رؤساء اليمانية، منهم رجل يقال له ابن بيهس، كان مطاعا في أهل اليمن ورجلان آخران من أهل دمشق، فاتصل الخبر
(9/116)
بالمعتصم وهو عليل، علته التي مات فيها، فبعث إليه رجاء بن أيوب الحضاري في زهاء الف من الجند، فلما صار رجاء إليه وجده في عالم من الناس.
فذكر الذي أخبرني بقصته أنه كان في زهاء مائة ألف، فكره رجاء مواقعته وعسكر بحذائه، وطاوله، حتى كان أول عمارة الناس الأرضين وحراثتهم، وانصرف من كان من الحراثين مع أبي حرب الى الحراثة وارباب الارضين الى ارضيهم، وبقي أبو حرب في نفر زهاء ألف أو ألفين، ناجزه رجاء الحرب، فالتقى العسكران: عسكر رجاء وعسكر المبرقع، فلما التقوا تأمل رجاء عسكر المبرقع، فقال لأصحابه: ما أرى في عسكره رجلا له فروسية غيره، وإنه سيظهر لأصحابه من نفسه بعض ما عنده من الرجلة، فلا تعجلوا عليه قال: وكان الأمر كما قال رجاء، فما لبث المبرقع أن حمل على عسكر رجاء، فقال رجاء لأصحابه: أفرجوا له، فأفرجوا له، حتى جاوزهم ثم كر راجعا، فأمر رجاء أصحابه أن يفرجوا له، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ورجع إلى عسكر نفسه، ثم أمهل رجاء، وقال لأصحابه: إنه سيحمل عليكم مرة أخرى، فأفرجوا له، فإذا أراد الرجوع فحولوا بينه وبين ذلك، وخذوه ففعل المبرقع ذلك، فحمل على أصحاب رجاء، فأفرجوا له حتى جاوزهم، ثم كر راجعا فأحاطوا به، فأخذوه فأنزلوه عن دابته.
قال: وقد كان قدم على رجاء حين ترك معاجلة المبرقع الحرب من قبل المعتصم مستحث، فأخذ الرسول فقيده إلى أن كان من أمره، وأمر أبي حرب ما كان مما ذكرنا، ثم أطلقه.
قال: فلما كان يوم قدوم رجاء بأبي حرب على المعتصم، عزله المعتصم على ما فعل برسوله، فقال له رجاء: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! وجهتني في ألف إلى مائة ألف، فكرهت أن أعاجله فأهلك ويهلك من معي، ولا نغني شيئا، فتمهلت حتى خف من معه، ووجدت فرصة،
(9/117)
ورأيت لحربه وجها وقياما، فناهضته وقد خف من معه وهو في ضعف، ونحن في قوة، وقد جئتك بالرجل أسيرا.
قال أبو جعفر: وأما غير من ذكرت أنه حدثني حديث أبي حرب على ما وصفت، فإنه زعم أن خروجه إنما كان في سنة ست وعشرين ومائتين بالرملة، فقالوا: إنه سفياني، فصار في خمسين ألفا من أهل اليمن وغيرهم، واعتقد ابن بيهس وآخران معه من أهل دمشق، فوجه إليهم، المعتصم رجاء الحضاري في جماعة كبيرة، فواقعهم بدمشق، فقتل من أصحاب ابن بيهس وصاحبيه نحوا من خمسة آلاف، وأخذ ابن بيهس أسيرا، وقتل صاحبيه، وواقع أبا حرب بالرملة، فقتل من أصحابه نحوا من عشرين ألفا، وأسر أبا حرب، فحمل إلى سامرا، فجعل وابن بيهس في المطبق وفي هذه السنة أظهر جعفر بن مهرجش الكردي الخلاف، فبعث إليه المعتصم في المحرم إيتاخ إلى جبال الموصل لحربه، فوثب بجعفر بعض أصحابه فقتله.
وفيها كانت وفاة بشر بن الحارث الحافي في شهر ربيع الأول وأصله من مرو
ذكر الخبر عن وفاه المعتصم والعله التي مات بها
وفيها كانت وفاة المعتصم وذلك- فيما ذكر- يوم الخميس، فقال بعضهم: لثماني عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ لساعتين مضتا من النهار.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت منها وفاته وقدر مدة عمره وصفته:
ذكر أن بدء علته أنه احتجم أول يوم من المحرم، واعتل عندها، فذكر عن محمد بن أحمد بن رشيد عن زنام الزامر، قال: قد وجد المعتصم في علته التي توفى فيها افاقه، فقال: هيئوا الى الزلال لاركب، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام، ازمر لي:
(9/118)
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشى لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمحزون أن يسلى
قال: فما زلت أزمر هذا الصوت حتى دعا برطلية، فشرب منها قدحا وجعلت أزمره وأكرره، وقد تناول منديلا بين يديه، فما زال يبكي ويمسح دموعه فيه وينتحب، حتى رجع إلى منزله، ولم يستتم شرب الرطلية.
وذكر عن علي بن الجعدانة، قال: لما احتضر المعتصم جعل يقول:
ذهبت الحيل ليست حيلة، حتى أصمت.
وذكر عن غيره أنه جعل يقول: إني أخذت من بين هذا الخلق.
وذكر عنه أنه قال: لو علمت أن عمري هكذا قصير ما فعلت.
ما فعلت فلما مات دفن بسامرا، فكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر ويومين.
وقيل: كان مولده سنة ثمانين ومائة في شعبان وقيل: كان في سنة تسع وسبعين ومائة، فإن كان مولده سنة ثمانين ومائة فإن عمره كله كان ستا وأربعين سنة وسبعة أشهر وثمانية عشر يوما.
وإن كان مولده سنة تسع وسبعين ومائة، فإن عمره كان سبعا وأربعين سنة وشهرين وثمانية عشر يوما وكان- فيما ذكر- أبيض أصهب اللحية طويلها، مربوعا مشرب اللون حمرة، حسن العينين.
وكان مولده بالخلد وقال بعضهم: ولد سنة ثمانين ومائة في الشهر الثامن.
وهو ثامن الخلفاء، والثامن من ولد العباس، وعمره كان ثمانيا وأربعين سنة.
ومات عن ثمانية بنين وثمان بنات، وملك ثمان سنين وثمانية أشهر، فقال محمد بن عبد الملك الزيات:
قد قلت إذ غيبوك واصطفقت ... عليك أيد بالترب والطين
اذهب فنعم الحفيظ كنت على ... الدنيا ونعم الظهير للدين
لا جبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
(9/119)
وقال مروان بن أبي الجنوب وهو ابن أبي حفصة:
أبو إسحاق مات ضحى فمتنا ... وأمسينا بهارون حيينا
لئن جاء الخميس بما كرهنا ... لقد جاء الخميس بما هوينا
ذكر الخبر عن بعض أخلاق المعتصم وسيره
ذكر عن ابن ابى دواد أنه ذكر المعتصم بالله، فأسهب في ذكره، وأكثر في وصفه، وأطنب في فضله، وذكر من سعة أخلاقه وكرم أعراقه وطيب مركبه ولين جانبه، وجميل عشرته، فقال: قال لي يوما ونحن بعمورية: ما تقول في البسر يا أبا عبد الله؟ قلت: يا أمير المؤمنين، نحن ببلاد الروم والبسر بالعراق، قال: صدقت قد وجهت إلى مدينة السلام، فجاءوا بكباستين، وعلمت أنك تشتهيه ثم قال: يا إيتاخ، هات إحدى الكباستين، فجاء بكباسة بسر، فمد ذراعه، وقبض عليها بيده، وقال:
كل بحياتي عليك من يدي، فقلت: جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين! بل تضعها فآكل كما أريد، قال: لا والله إلا من يدي، قال: فو الله ما زال حاسرا عن ذراعه، ومادا يده، وانا اجتنى من العذق، وآكل حتى رمى به خاليا ما فيه بسرة.
قال: وكنت كثيرا ما أزامله في سفره ذلك، إلى أن قلت له يوما: يا أمير المؤمنين، لو زاملك بعض مواليك وبطانتك فاسترحت مني إليهم مرة، ومنهم إلي مرة أخرى، كان ذلك أنشط لقلبك، وأطيب لنفسك، وأشد لراحتك، قال: فإن سيما الدمشقي يزاملني اليوم، فمن يزاملك أنت؟ قلت: الحسن ابن يونس، قال: فأنت وذاك قال: فدعوت الحسن فزاملني وتهيأ أن ركب المعتصم بغلا، فاختار أن يكون منفردا، قال: فجعل يسير بسير بعيري، فإذا أراد أن يكلمني رفع رأسه إلي، وإذا أردت أن أكلمه خفضت رأسي،
(9/120)
قال: فانتهينا الى واد ولم نعرف غوره، وقد خلفنا العسكر وراءنا، فقال لي: مكانك حتى أتقدم فأعرف غور الماء وأطلب قلته، واتبع أنت موضع سيري، قال: فتقدم فدخل الوادي.
وجعل يطلب قلة الماء، فمره ينحرف عن يمينه، ومره ينحرف عن شماله، وتارة يمشي لسننه، وأنا خلفه متبع لأثره حتى قطعنا الوادي قال: واستخرجت منه لأهل الشاش ألفي ألف درهم لكري نهر لهم اندفن في صدر الإسلام، فأضر ذلك بهم، فقال لي: يا أبا عبد الله، ما لي ولك، تأخذ مالي لأهل الشاش وفرغانة! قلت: هم رعيتك يا أمير المؤمنين، والأقصى والأدنى في حسن نظر الإمام سواء.
وقال غيره: إنه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل.
وذكر عن الفضل بن مروان أنه قال: لم يكن للمعتصم لذة في تزيين البناء، وكانت غايته فيه الأحكام قال: ولم يكن بالنفقة على شيء أسمح منه بالنفقة في الحرب.
وذكر محمد بن راشد، قال: قال لي أبو الحسين إسحاق بن إبراهيم:
دعاني أمير المؤمنين المعتصم يوما، فدخلت عليه وعليه صدرة وشي ومنطقة ذهب وخف أحمر، فقال لي: يا إسحاق، أحببت أن أضرب معك بالصوالجة، فبحياتي عليك إلا لبست مثل لباسي، فاستعفيته من ذلك فأبى، فلبست مثل لباسه، ثم قدم إليه فرس محلاة بحلية الذهب، ودخلنا الميدان، فلما ضرب ساعة، قال لي: أراك كسلان، وأحسبك تكره هذا الزي، فقلت:
هو ذاك يا أمير المؤمنين، فنزل وأخذ بيدي، ومضى يمشي وأنا معه إلى أن صار إلى حجرة الحمام، فقال: خذ ثيابي يا إسحاق، فأخذت ثيابه حتى تجرد، ثم أمرني بنزع ثيابي ففعلت، ثم دخلنا انا وهو الحمام، وليس معنا غلام، فقمت عليه ودلكته، وتولى أمير المؤمنين المعتصم مني مثل ذلك، وأنا في كل ذلك أستعفيه، فيأبى علي، ثم خرج من الحمام فأعطيته ثيابه، ولبست ثيابي، ثم أخذ بيدي ومضى يمشي، وأنا معه حتى صار إلى مجلسه فقال:
(9/121)
يا إسحاق، جئني بمصلى ومخدتين، فجئته بذلك، فوضع المخدتين، ونام على وجهه، ثم قال: هات مصلى ومخدتين، فجئت بهما، فقال: ألقه ونم عليه بحذائي، فحلفت ألا أفعل، فجلست عليه، ثم حضر إيتاخ التركي وأشناس، فقال لهما: امضيا إلى حيث إذا صحت سمعتما، ثم قال: يا إسحاق، في قلبي أمر أنا مفكر فيه منذ مدة طويلة، وإنما بسطتك في هذا الوقت لأفشيه إليك، فقلت: قل يا سيدي يا أمير المؤمنين، فإنما أنا عبدك وابن عبدك، قال: نظرت إلى أخي المأمون وقد اصطنع أربعة أنجبوا، واصطنعت أنا أربعة لم يفلح أحد منهم، قلت: ومن الذين اصطنعهم أخوك؟ قال: طاهر بن الحسين، فقد رأيت وسمعت، وعبد الله بن طاهر، فهو الرجل الذي لم ير مثله، وأنت، فأنت والله لا يعتاض السلطان منك أبدا، وأخوك محمد بن إبراهيم، وأين مثل محمد! وأنا فاصطنعت الأفشين فقد رأيت إلى ما صار أمره، وأشناس ففشل أيه وإيتاخ فلا شيء، ووصيف فلا مغنى فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداك! أجيب على أمان من غضبك، قال: قل، قلت: يا أمير المؤمنين أعزك الله نظر أخوك إلى الأصول، فاستعملها، فأنجبت فروعها، واستعمل أمير المؤمنين فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها، قال: يا إسحاق لمقاساة ما مر بي في طول هذه المدة أسهل علي من هذا الجواب.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أنه قال: أتيت أمير المؤمنين المعتصم بالله يوما وعنده قينة كان معجبا بها، وهي تغنيه، فلما سلمت وأخذت مجلسي، قال لها: خذي فيما كنت فيه، فغنت فقال لي: كيف تراها يا إسحاق؟ قلت: يا أمير المؤمنين، أراها تقهره بحذق وتختله برفق، ولا تخرج من شيء إلا إلى أحسن منه، وفي صوتها قطع شذور أحسن من نظم الدر على النحور، فقال: يا إسحاق، لصفتك لها احسن منها ومن غنائها، وقال لابنه هارون: اسمع هذا الكلام.
وذكر عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أنه قال: قلت للمعتصم في شيء، فقال لي: يا إسحاق، إذا نصر الهوى بطل الرأي، فقلت له: كنت أحب
(9/122)
يا أمير المؤمنين أن يكون معي شبابي، فأقوم من خدمتك بما أنويه، قال لي: أولست كنت تبلغ إذ ذاك جهدك؟ قلت: بلى، قال: فأنت الآن تبلغ جهدك فسيان إذا.
وذكر عن أبي حسان أنه قال: كانت أم أبي إسحاق المعتصم من مولدات الكوفة يقال لها ماردة.
وذكر عن الفضل بن مروان، أنه قال: كانت أم المعتصم ماردة سغدية، وكان أبوها نشأ بالسواد، قال: أحسبه بالبندنيجين.
وكان للرشيد من ماردة مع أبي إسحاق، أبو إسماعيل، وأم حبيب، وآخران لم يعرف اسماهما.
وذكر عن احمد بن ابى دواد أنه قال: تصدق المعتصم ووهب على يدي وبسببي بقيمة مائة ألف ألف درهم
. خلافة هارون الواثق أبي جعفر
وبويع في يوم توفى المعتصم ابنه هارون الواثق بن محمد المعتصم، وذلك في يوم الأربعاء لثمان ليال خلون من شهر ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين وكان يكنى أبا جعفر، وأمه أم ولد رومية تسمى قراطيس.
وهلك هذه السنة توفيل ملك الروم وكان ملكه اثنتي عشرة سنة وفيها ملكت بعده امرأته تذوره، وابنها ميخائيل بن توفيل صبي.
وحج بالناس فيها جعفر بن المعتصم، وكانت أم الواثق خرجت معه تريد الحج، فماتت بالحيرة لأربع خلون من ذي القعدة ودفنت بالكوفة في دار داود بن عيسى.
(9/123)
ثم دخلت
سنة ثمان وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من الواثق إلى أشناس أن توجه وألبسه وشاحين بالجوهر في شهر رمضان.
وفيها مات أبو الحسن المدائني في منزل إسحاق بن إبراهيم الموصلي وفيها مات حبيب بن أوس الطائي أبو تمام الشاعر.
وفيها حج سليمان بن عبد الله بن طاهر وفيها غلا السعر بطريق مكة، فبلغ رطل خبز بدرهم وراوية ماء بأربعين درهما وأصاب الناس في الموقف حر شديد ثم مطر شديد فيه برد، فأضر بهم شدة الحر، ثم شده البرد في ساعه واحده، ومطروا بمنى في يوم النحر مطرا شديدا لم يروا مثله، وسقطت قطعة من الجبل عند جمرة العقبة قتلت عدة من الحاج.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
(9/124)
ثم دخلت
سنة تسع وعشرين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن حبس الواثق الكتاب وإلزامهم الأموال
فمن ذلك ما كان من حبس الواثق بالله الكتاب وإلزامهم أموالا، فدفع أحمد بن إسرائيل إلى إسحاق بن يحيى بن معاذ صاحب الحرس، وأمر بضربه كل يوم عشرة أسواط، فضربه- فيما قيل- نحوا من ألف سوط، فأدى ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان بن وهب كاتب ايتاخ أربعمائة ألف دينار، ومن الحسن بن وهب أربعة عشر الف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكتابه ألف ألف دينار، ومن إبراهيم بن رباح وكتابه مائة ألف دينار، ومن نجاح ستين ألف دينار، ومن أبي الوزير صلحا مائة ألف وأربعين ألف دينار، وذلك سوى ما أخذ من العمال بسبب عمالاتهم ونصب محمد بن عبد الملك لابن ابى دواد وسائر أصحاب المظالم العداوة، فكشفوا وحبسوا، وأجلس إسحاق بن إبراهيم، فنظر في أمرهم وأقيموا للناس ولقوا كل جهد.
ذكر الخبر عن السبب الذي بعث الواثق على فعله ما ذكرت بالكتاب في هذه السنة:
ذكر عن عزون بن عبد العزيز الأنصاري، أنه قال: كنا ليلة في هذه السنة عند الواثق، فقال: لست أشتهي الليلة النبيذ، ولكن هلموا نتحدث الليلة، فجلس في رواقه الأوسط في الهاروني في البناء الأول الذي كان إبراهيم ابن رباح بناه، وقد كان في أحد شقي ذلك الرواق قبة مرتفعة في السماء بيضاء، كأنها بيضه الا قدر ذراع- فيما ترى العين- حولها في وسطها ساج منقوش مغشى باللازورد والذهب، وكانت تسمى قبة المنطقة، وكان ذلك الرواق يسمى رواق قبة المنطقة
(9/125)
قال: فتحدثنا عامة الليل، فقال الواثق: من منكم يعلم السبب الذي به وثب جدي الرشيد على البرامكة فأزال نعمتهم؟ قال عزون: فقلت: أنا والله أحدثك يا أمير المؤمنين، كان سبب ذلك أن الرشيد ذكرت له جارية لعون الخياط، فأرسل إليها فاعترضها، فرضي جمالها وعقلها وحسن أدبها، فقال لعون: ما تقول في ثمنها؟ قال: يا أمير المؤمنين، أمر ثمنها واضح مشهور، حلفت بعتقها وعتق رقيقي جميعا وصدقة مالي الأيمان المغلظة التي لا مخرج منها لي، وأشهدت علي بذلك العدول الا انقص ثمنها عن مائة ألف دينار، ولا أحتال في ذلك بشيء من الحيل، هذه قضيتها فقال أمير المؤمنين:
قد أخذتها منك بمائة ألف دينار، ثم أرسل إلى يحيى بن خالد يخبره بخبر الجارية، ويأمره أن يرسل إليه بمائة ألف دينار، فقال يحيى: هذا مفتاح سوء، إذا اجترأ في ثمن جارية واحدة على طلب مائة ألف دينار فهو أحرى أن يطلب المال على قدر ذلك، فأرسل يخبره أنه لا يقدر على ذلك، فغضب عليه الرشيد، وقال: ليس في بيت مالي مائة ألف دينار، فأعاد عليه: لا بد منها، فقال يحيى: اجعلوها دراهم، ليراها فيستكثرها، فلعله يردها، فأرسل بها دراهم، وقال: هذه قيمة مائة ألف دينار، وأمر أن توضع في رواقه الذي يمر فيه إذا أراد المتوضأ لصلاة الظهر قال: فخرج الرشيد في ذلك الوقت، فإذا جبل من بدر، فقال: ما هذا؟ قالوا: ثمن الجارية، لم تحضر دنانير، فأرسل قيمتها دراهم، فاستكثر الرشيد ذلك، ودعا خادما له، فقال: اضمم هذه إليك، واجعل لي بيت مال لاضم اليه ما أريده وسماه بيت مال العروس، وأمر برد الجارية إلى عون، وأخذ في التفتيش عن المال، فوجد البرامكة قد استهلكوه، فأقبل يهم بهم ويمسك، فكان يرسل إلى الصحابة وإلى قوم من أهل الأدب من غيرهم فيسامرهم، ويتعشى معهم، فكان فيمن يحضر إنسان كان معروفا بالأدب، وكان يعرف بكنيته يقال له أبو العود، فحضر ليلة فيمن حضره، فأعجبه حديثه، فأمر خادما له أن يأتي يحيى بن خالد
(9/126)
إذا أصبح، فيأمره أن يعطيه ثلاثين ألف درهم ففعل، فقال يحيى لأبي العود: أفعل، وليس بحضرتنا اليوم مال، غدا يجيء المال، ونعطيك إن شاء الله ثم دافعه حتى طالت به الأيام، قال: فأقبل أبو العود يحتال أن يجد من الرشيد وقتا يحرضه فيه على البرامكة- وقد كان شاع في الناس ما كان يهم به الرشيد في أمرهم- فدخل عليه ليلة، فتحدثوا، فلم يزل أبو العود يحتال للحديث حتى وصله بقول عمر بن أبي ربيعة:
وعدت هند وما كانت تعد ... ليت هندا أنجزتنا ما تعد
واستبدت مرة واحدة ... إنما العاجز من لا يستبد
فقال الرشيد: أجل والله، إنما العاجز من لا يستبد، حتى انقضى المجلس وكان يحيى قد اتخذ من خدم الرشيد خادما يأتيه بأخباره، وأصبح يحيى غاديا على الرشيد، فلما رآه قال: قد أردت البارحة أن أرسل إليك بشعر أنشدنيه بعض من كان عندي، ثم كرهت أن أزعجك، فأنشده البيتين، فقال:
ما أحسنهما يا أمير المؤمنين! وفطن لما أراد، فلما انصرف أرسل إلى ذلك الخادم، فسأله عن إنشاد ذلك الشعر، فقال: أبو العود أنشده، فدعا الوزير يحيى بأبي العود، فقال له: إنا كنا قد لويناك بمالك، وقد جاءنا مال، ثم قال لبعض خدمه: اذهب فأعطه ثلاثين ألف درهم من بيت مال أمير المؤمنين، وأعطه من عندي عشرين ألف درهم لمطلنا إياه، واذهب إلى الفضل وجعفر فقل لهما هذا رجل مستحق أن يبر، وقد كان أمير المؤمنين أمر له بمال فأطلت مطله، ثم حضر المال، فأمرت أن يعطى ووصلته من عندي صلة، وقد أحببت أن تصلاه، فسألا: بكم وصله قال: بعشرين ألف درهم، فوصله كل واحد منهما بعشرين ألف درهم، فانصرف بذلك المال كله إلى منزله وجد الرشيد في أمرهم حتى وثب عليهم، وأزال نعمتهم، وقتل جعفرا وصنع ما صنع
(9/127)
فقال الواثق: صدق والله جدي، إنما العاجز من لا يستبد! وأخذ في ذكر الخيانة وما يستحق أهلها.
قال عزون: أحسبه: سيوقع بكتابه، فما مضى أسبوع حتى أوقع بكتابه، وأخذ إبراهيم بن رباح وسليمان بن وهب وأبا الوزير وأحمد بن الخصيب وجماعتهم.
قال: وأمر الواثق بحبس سليمان بن وهب كاتب ايتاخ، واخذه بمائتي ألف درهم- وقيل دينار- فقيد وألبس مدرعة من مدارع الملاحين، فأدى مائة ألف درهم، وسال ان يؤخذ بالباقي عشرين شهرا، فأجابه الواثق إلى ذلك، وأمر بتخلية سبيله ورده إلى كتابة إيتاخ، وأمره بلبس السواد.
وفي هذه السنة ولي شارباميان لإيتاخ اليمن وشخص إليها في شهر ربيع الآخر.
وفيها ولي محمد بن صالح بن العباس المدينة.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
(9/128)
ثم دخلت
سنة ثلاثين ومائتين
(ذكر خبر الخبر عما كان فيها من الأحداث)
ذكر مسير بغا الى الاعراب بالمدينة
فمن ذلك ما كان من توجيه الواثق بغا الكبير إلى الأعراب الذين عاثوا بالمدينة وما حواليها.
ذكر الخبر عن ذلك: ذكر ان بدء ذلك كان أن بني سليم كانت تطاول على الناس حول المدينة بالشر، وكانوا إذا وردوا سوقا من أسواق الحجاز أخذوا سعرها كيف شاءوا، ثم ترقى بهم الأمر إلى ان أوقعوا بالحجاز بناس من بني كنانة وباهلة، فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثلاثين ومائتين، وكان رأسهم عزيزة بن قطاب السلمي فوجه إليهم محمد بن صالح بن العباس الهاشمي، وهو يومئذ عامل المدينة، مدينة الرسول ص حماد بن جرير الطبري- وكان الواثق وجه حمادا مسلحة للمدينة لئلا يتطرقها الأعراب، في مائتي فارس من الشاكرية- فتوجه إليهم حماد في جماعة من الجند ومن تطوع للخروج من قريش والأنصار ومواليهم وغيرهم من أهل المدينة، فسار إليهم فلقيته طلائعهم وكانت بنو سليم كارهة للقتال، فأمر حماد بن جرير بقتالهم، وحمل عليهم بموضع يقال له الرويثة من المدينة على ثلاث مراحل، وكانت بنو سليم يومئذ وامدادها جاءوا من البادية في ستمائه وخمسين، وعامة من لقيهم من بني عوف من بنى سليم، ومعهم اشهب
(9/129)
ابن دويكل بن يحيى بن حمير العوفي وعمه سلمه بن يحيى وعزيره بن قطاب اللبيدي من بني لبيد بن سليم، فكان هؤلاء قوادهم، وكانت خيلهم مائة وخمسين فرسا، فقاتلهم حماد واصحابه، ثم أتت بنى سليم امدادها خمسمائة من موضع فيه بدوهم، وهو موضع يسمى أعلى الرويثة، بينها وبين موضع القتال أربعة أميال، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت سودان المدينة بالناس، وثبت حماد وأصحابه وقريش والأنصار، فصلوا بالقتال حتى قتل حماد وعامة أصحابه، وقتل ممن ثبت من قريش والأنصار عدد صالح، وحازت بنو سليم الكراع والسلاح والثياب، وغلظ أمر بني سليم، فاستباحت القرى والمناهل، فيما بينها وبين مكة والمدينة، حتى لم يمكن أحدا أن يسلك ذلك الطريق، وتطرقوا من يليهم من قبائل العرب.
فوجه إليهم الواثق بغا الكبير أبا موسى التركي في الشاكرية والأتراك والمغاربة، فقدمها بغا في شعبان سنة ثلاثين ومائتين، وشخص إلى حرة بني سليم، لأيام بقين من شعبان، وعلى مقدمته طردوش التركي، فلقيهم ببعض مياه الحرة، وكانت الوقعة بشق الحرة من وراء السوارقية، وهي قريتهم التي كانوا يأوون إليها- والسوارقية حصون- وكان جل من لقيه منهم من بني عوف فيهم عزيزة بن قطاب والأشهب- وهما رأسا القواد يومئذ- فقتل بغا منهم نحوا من خمسين رجلا، وأسر مثلهم، فانهزم الباقون، وانكشف بنو سليم لذلك، ودعاهم بغا بعد الوقعة إلى الأمان على حكم أمير المؤمنين الواثق، واقام بالسوارقيه فاتوه، واجتمعوا إليه، وجمعهم من عشرة واثنين وخمسة وواحد، وأخذ من جمعت السوارقيه من غير بني سليم من أفناء الناس، وهربت خفاف بني سليم إلا أقلها، وهي التي كانت تؤذي الناس، وتطرق الطريق، وجل من صار في يده ممن ثبت من بني عوف، وكان آخر من أخذ منهم من بني حبشي من بني سليم، فاحتبس عنده من وصف بالشر
(9/130)
والفساد، وهم زهاء ألف رجل، وخلى سبيل سائرهم، ثم رحل عن السوارقية بمن صار في يده من أسارى بني سليم ومستأمنيهم إلى المدينة في ذي القعدة سنة ثلاثين ومائتين، فحبسهم فيها في الدار المعروفة بيزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة حاجا في ذي الحجة، فلما انقضى الموسم انصرف إلى ذات عرق، ووجه إلى بني هلال من عرض عليهم مثل الذي عرض على بني سليم فأقبلوا، فأخذ من مردتهم وعتاتهم نحوا من ثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ورجع من ذات عرق وهي على مرحلة من البستان، بينها وبين مكة مرحلتان
. ذكر الخبر عن وفاه عبد الله بن طاهر
وفي هذه السنة مات أبو العباس عبد الله بن طاهر بنيسابور يوم الاثنين لإحدى عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ بعد موت أشناس التركي بتسعة أيام.
ومات عبد الله بن طاهر وإليه الحرب والشرطة والسواد وخراسان وأعمالها والري وطبرستان وما يتصل بها وكرمان، وخراج هذه الأعمال كان يوم مات ثمانية وأربعين ألف ألف درهم، فولى الواثق أعمال عبد الله بن طاهر كلها ابنه طاهرا.
وحج في هذه السنة إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فولى أحداث الموسم.
وحج بالناس في هذه السنة محمد بْن داود.
(9/131)
ثم دخلت
سنة إحدى وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث) فمن ذلك ما كان من أمر الفداء الذي جرى على يد خاقان الخادم بين المسلمين والروم في المحرم منها، فبلغت عدة المسلمين- فيما قيل- اربعه آلاف وثلاثمائة واثنين وستين إنسانا.
ذكر الخبر عن امر بنى سليم وغيرهم من القبائل
وفيها قتل من قتل من بني سليم بالمدينة في حبس بغا.
ذكر الخبر عن سبب قتلهم وما كان من أمرهم:
ذكر أن بغا لما صار إليه بنو هلال بذات عرق، فأخذ منهم من ذكرت أنه أخذ منهم، شخص معتمرا عمرة المحرم، ثم انصرف الى المدينة، فجمع كل من أخذ من بني هلال واحتبسهم عنده مع الذين كان أخذ من بني سليم، وجمعهم جميعا في دار يزيد بن معاوية في الأغلال والأقياد وكانت بنو سليم حبست قبل ذلك بأشهر ثم سار بغا إلى بني مرة، وفي حبس المدينة نحو من الف وثلاثمائة رجل من بني سليم وهلال، فنقبوا الدار ليخرجوا، فرأت امرأة من أهل المدينة النقب، فاستصرخت أهل المدينة فجاءوا، فوجدوهم قد وثبوا على الموكلين بهم، فقتلوا منهم رجلا أو رجلين، وخرج بعضهم أو عامتهم، فأخذوا سلاح الموكلين بهم، واجتمع عليهم أهل المدينة، أحرارهم وعبيدهم- وعامل المدينة يومئذ عبد الله بن أحمد بن داود الهاشمي- فمنعوهم الخروج، وباتوا محاصريهم حول الدار حتى أصبحوا، وكان وثوبهم عشية الجمعة، وذلك أن عزيزة بن قطاب قال لهم: إني أتشاءم بيوم السبت،
(9/132)
ولم يزل اهل المدينة يعتقبون القتال، وقاتلتهم بنو سليم، فظهر أهل المدينة عليهم، فقتلوهم أجمعين، وكان عزيزة يرتجز، ويقول:
لا بد من زحم وإن ضاق الباب ... إني أنا عزيزة بن القطاب
للموت خير للفتى من العاب ... هذا وربي عمل للبواب
وقيده في يده قد فكه، فرمى به رجلا، فخر صريعا وقتلوا جميعا، وقتلت سودان المدينة من لقيت من الأعراب في أزقة المدينة ممن دخل يمتار، حتى لقوا أعرابيا خارجا من قبر النبي ص فقتلوه، وكان أحد بني أبي بكر بن كلاب من ولد عبد العزيز بن زرارة وكان بغا غائبا عنهم، فلما قدم فوجدهم قد قتلوا شق ذلك عليه، ووجد منه وجدا شديدا.
وذكر أن البواب كان قد ارتشى منهم، ووعدهم أن يفتح لهم الباب، فعجلوا قبل ميعاده، فكانوا يرتجزون ويقولون وهم يقاتلون:
الموت خير للفتى من العار ... قد أخذ البواب ألف دينار
وجعلوا يقولون حين أخذهم بغا:
يا بغية الخير وسيف المنتبه ... وجانب الجور البعيد المشتبه
من كان منا جانيا فلست به ... افعل هداك الله ما أمرت به
فقال: أمرت أن أقتلكم وكان عزيزة بن قطاب رأس بني سليم حين قتل أصحابه صار إلى بئر، فدخلها، فدخل عليه رجل من أهل المدينة فقتله، وصفت القتلى على باب مروان بن الحكم، بعضها فوق بعض.
وحدثني أحمد بن محمد أن مؤذن أهل المدينة أذن ليلة حراستهم بني سليم بليل ترهيبا لهم بطلوع الفجر، وأنهم قد أصبحوا، فجعل الأعراب يضحكون، ويقولون: يا شربة السويق، تعلموننا بالليل، ونحن أعلم به منكم! فقال رجل من بني سليم:
(9/133)
متى كان ابن عباس أميرا ... يصل لصقل نابيه صريف
يجور ولا يرد الجور منه ... ويسطو ما لوقعته ضعيف
وقد كنا نرد الجور عنا ... إذا انتضيت بأيدينا السيوف
أمير المؤمنين سما إلينا ... سمو الليث ثار من الغريف
فإن يمنن فعفو الله نرجو ... وإن يقتل فقاتلنا شريف
وكان سبب غيبة بغا عنهم أنه توجه إلى فدك لمحاربة من فيها ممن كان تغلب عليها من بني فزارة ومرة، فلما شارفهم وجه إليهم رجلا من فزارة يعرض عليهم الأمان، ويأتيه بأخبارهم، فلما قدم عليهم الفزاري حذرهم سطوته، وزين لهم الهرب، فهربوا ودخلوا في البر، ودخلوا فدك إلا نفرا بقوا فيها منهم، وكان قصدهم خيبر وجنفاء ونواحيها، فظفر ببعضهم، واستأمن بعضهم، وهرب الباقون مع رأس لهم يقال له الركاض إلى موضع من البلقاء من عمل دمشق، وأقام بغا بجنفاء وهي قرية من حد عمل الشام، مما يلي الحجاز نحوا من أربعين ليلة، ثم انصرف إلى المدينة بمن صار في يديه من بني مرة وفزارة.
وفي هذه السنة صار إلى بغا من بطون غطفان وفزارة وأشجع جماعة، وكان وجه إليهم وإلى بني ثعلبة، فلما صاروا إليه- فيما ذكر- امر محمد ابن يوسف الجعفري، فاستحلفهم الايمان المؤكدة ألا يتخلفوا عنه متى دعاهم فحلفوا، ثم شخص إلى ضرية لطلب بني كلاب، ووجه إليهم رسله، فاجتمع إليه منهم- فيما قيل- نحو من ثلاثة آلاف رجل، فاحتبس منهم من أهل الفساد نحوا من ألف رجل وثلاثمائة رجل، وخلى سائرهم، ثم قدم بهم المدينة في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، فحبسهم في دار يزيد بن معاوية، ثم شخص إلى مكة بغا، وأقام بها حتى شهد الموسم، فبقي
(9/134)
بنو كلاب في الحبس لا يجري عليهم شيء مدة غيبة بغا، حتى رجع إلى المدينة، فلما صار إلى المدينة أرسل إلى من كان استحلف من ثعلبة وأشجع وفزارة فلم يجيبوه، وتفرقوا في البلاد، فوجه في طلبهم فلم يلحق منهم كثير احد.
ذكر مقتل احمد بن نصر الخزاعي على يد الواثق
وفي هذه السنة تحرك ببغداد قوم في ربض عمرو بن عطاء، فأخذوا على أحمد بن نصر الخزاعي البيعة.
ذكر الخبر عن سبب حركة هؤلاء القوم وما آل إليه أمرهم وأمر أحمد بن نصر:
وكان السبب في ذلك أن أحمد بن نصر بن مالك بن الهيثم الخزاعي- ومالك بن الهيثم أحد نقباء بني العباس، وكان ابنه أحمد يغشاه أصحاب الحديث، كيحيى بن معين وابن الدورقى وابن خيثمة، وكان يظهر المباينة لمن يقول: القرآن مخلوق، مع منزلة أبيه كانت من السلطان في دولة بني العباس، ويبسط لسانه فيمن يقول ذلك، مع غلظة الواثق كانت على من يقول ذلك وامتحانه إياهم فيه، وغلبه أحمد بن ابى دواد عليه- فحدثني بعض أشياخنا، عمن ذكره، أنه دخل على أحمد بن نصر في بعض تلك الأيام وعنده جماعة من الناس، فذكر عنده الواثق، فجعل يقول: ألا فعل هذا الخنزير! أو قال: هذا الكافر، وفشا ذلك من أمره، فخوف بالسلطان، وقيل له: قد اتصل أمرك به، فخافه.
وكان فيمن يغشاه رجل- فيما ذكر- يعرف بأبي هارون السراج وآخر يقال له طالب، وآخر من أهل خراسان من أصحاب إسحاق بن إبراهيم بن
(9/135)
مصعب صاحب الشرطة ممن يظهر له القول بمقالته، فحرك المطيفون به- يعني أحمد بن نصر- من أصحاب الحديث، وممن ينكر القول بخلق القرآن من أهل بغداد- أحمد، وحملوه على الحركة لإنكار القول بخلق القرآن، وقصدوه بذلك دون غيره، لما كان لأبيه وجده في دولة بني العباس من الأثر، ولما كان له ببغداد، وأنه كان أحد من بايع له أهل الجانب الشرقي على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والسمع له في سنه احدى ومائتين، لما كثر الدعار بمدينة السلام، وظهر بها الفساد والمأمون بخراسان، وقد ذكرنا خبره فيما مضى وأنه لم يزل أمره على ذلك ثابتا إلى أن قدم المأمون بغداد في سنة أربع ومائتين، فرجوا استجابة العامة له إذا هو تحرك للأسباب التي ذكرت.
فذكر أنه أجاب من سأله ذلك، وأن الذي كان يسعى له في دعاء الناس له الرجلان اللذان ذكرت اسميهما قبل وأن أبا هارون السراج وطالبا فرقا في قوم مالا، فأعطيا كل رجل منهم دينارا دينارا، وواعداهم ليلة يضربون فيها الطبل للاجتماع في صبيحتها للوثوب بالسلطان، فكان طالب بالجانب الغربي من مدينة السلام فيمن عاقده على ذلك، وأبو هارون بالجانب الشرقي فيمن عاقده عليه، وكان طالب وأبو هارون أعطيا فيمن أعطيا رجلين من بني أشرس القائد دنانير يفرقانها في جيرانهم، فانتبذ بعضهم نبيذا، واجتمع عدة منهم على شربه، فلما ثملوا ضربوا بالطبل ليلة الأربعاء قبل الموعد بليلة، وكان الموعد لذلك ليلة الخميس في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، لثلاث تخلو منه، وهم يحسبونها ليلة الخميس التي اتعدوا لها، فأكثروا ضرب الطبل، فلم يجبهم أحد وكان إسحاق بن إبراهيم غائبا عن بغداد وخليفته بها أخوه محمد بن إبراهيم، فوجه إليهم محمد بن إبراهيم غلاما له يقال له رحش، فأتاهم فسألهم عن قصتهم، فلم يظهر له أحد ممن ذكر بضرب الطبل، فدل على رجل يكون في الحمامات مصاب بعينه، يقال له
(9/136)
عيسى الأعور، فهدده بالضرب، فأقر على ابني أشرس وعلى أحمد بن نصر بن مالك وعلى آخرين سماهم، فتتبع القوم من ليلتهم، فأخذ بعضهم، وأخذ طالبا ومنزله في الربض من الجانب الغربي، وأخذ أبا هارون السراج ومنزله في الجانب الشرقي، وتتبع من سماه عيسى الأعور في أيام وليال، فصيروا في الحبس في الجانب الشرقي والغربي، كل قوم في ناحيتهم التي أخذوا فيها، وقيد أبو هارون وطالب بسبعين رطلا من الحديد كل واحد منهما، وأصيب في منزل ابني أشرس علمان أخضران فيهما حمرة في بئر، فتولى إخراجهما رجل من أعوان محمد بن عياش- وهو عامل الجانب الغربي، وعامل الجانب الشرقي العباس بن محمد بن جبريل القائد الخراساني- ثم أخذ خصي لأحمد ابن نصر فتهدد، فأقر بما أقر به عيسى الأعور، فمضى إلى أحمد بن نصر وهو في الحمام، فقال لأعوان السلطان: هذا منزلي، فإن أصبتم فيه علما أو عدة أو سلاحا لفتنة فأنتم في حل منه ومن دمي، ففتش فلم يوجد فيه شيء، فحمل إلى محمد بن إبراهيم بن مصعب وأخذوا خصيين وابنين له ورجلا ممن كان يغشاه يقال له إسماعيل بن محمد بن معاوية بن بكر الباهلي، ومنزله بالجانب الشرقي، فحمل هؤلاء الستة إلى أمير المؤمنين الواثق وهو بسامرا على بغال باكف ليس تحتهم وطاء، فقيد أحمد بن نصر بزوج قيود، وأخرجوا من بغداد يوم الخميس لليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وكان الواثق قد أعلم بمكانهم، وأحضر ابن ابى دواد وأصحابه، وجلس لهم مجلسا عاما ليمتحنوا امتحانا مكشوفا، فحضر القوم واجتمعوا عنده.
وكان أحمد بن ابى دواد- فيما ذكر- كارها قتله في الظاهر، فلما أتي بأحمد بن نصر لم يناظره الواثق في الشغب ولا فيما رفع عليه من إرادته الخروج عليه، ولكنه قال له: يا أحمد، ما تقول في القرآن؟ قال: كلام الله- وأحمد بن نصر مستقتل قد تنور وتطيب، قال: أفمخلوق هو؟ قال: هو
(9/137)
كلام الله، قال: فما تقول في ربك، أتراه يوم القيامة؟ قال: يا أمير المؤمنين [جاءت الآثار عن رسول الله ص أنه قال: ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته،] فنحن على الخبر قال: [وحدثنى سفيان ابن عيينة بحديث يرفعه: أن قلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الله يقلبه،] وكان النبي ص يدعو: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، فقال له إسحاق بن إبراهيم: ويلك! انظر ماذا تقول! قال: أنت أمرتني بذلك، فأشفق إسحاق من كلامه، وقال: أنا أمرتك بذلك! قال: نعم، أمرتني أن أنصح له إذ كان أمير المؤمنين، ومن نصيحتي له الا يخالف حديث رسول الله ص فقال الواثق لمن حوله: ما تقولون فيه؟
فأكثروا، فقال عبد الرحمن بن إسحاق- وكان قاضيا على الجانب الغربي فعزل، وكان حاضرا وكان أحمد بن نصر ودا له-: يا أمير المؤمنين، هو حلال الدم، وقال أبو عبد الله الأرمني صاحب ابن أبي دواد: اسقني دمه يا أمير المؤمنين، فقال الواثق: القتل يأتي على ما تريد، وقال ابن ابى دواد:
يا أمير المؤمنين كافر يستتاب، لعل به عاهة أو تغير عقل- كأنه كره أن يقتل بسببه- فقال الواثق: إذا رأيتموني قد قمت إليه، فلا يقومن أحد معي، فإني أحتسب خطاي إليه ودعا بالصمصامة- سيف عمرو بن معديكرب الزبيدي وكان في الخزانة، كان أهدي إلى موسى الهادي، فأمر سلما الخاسر الشاعر أن يصفه له، فوصفه فأجازه- فأخذ الواثق الصمصامة- وهي صفيحة موصولة من أسفلها مسمورة بثلاثة مسامير تجمع بين الصفيحة والصلة- فمشى إليه وهو في وسط الدار، ودعا بنطع فصير في وسطه، وحبل فشد رأسه، ومد الحبل، فضربه الواثق ضربة، فوقعت على حبل العاتق، ثم ضربه أخرى على رأسه، ثم انتضى سيما الدمشقي سيفه، فضرب عنقه وحز رأسه.
وقد ذكر أن بغا الشرابي ضربه ضربة أخرى، وطعنه الواثق بطرف
(9/138)
الصمصامة في بطنه، فحمل معترضا حتى أتي به الحظيرة التي فيها بابك، فصلب فيها وفي رجله زوج قيود، وعليه سراويل وقميص، وحمل رأسه إلى بغداد، فنصب في الجانب الشرقي أياما، وفي الجانب الغربي أياما، ثم حول إلى الشرقي، وحظر على الرأس حظيرة، وضرب عليه فسطاط، وأقيم عليه الحرس، وعرف ذلك الموضع برأس أحمد بن نصر، وكتب في أذنه رقعة:
هذا رأس الكافر المشرك الضال، وهو أحمد بن نصر بن مالك، ممن قتله الله على يدي عبد الله هارون الإمام الواثق بالله أمير المؤمنين، بعد أن أقام عليه الحجة في خلق القرآن ونفي التشبيه، وعرض عليه التوبة، ومكنه من الرجوع إلى الحق، فأبى إلا المعاندة والتصريح، والحمد لله الذي عجل به إلى ناره وأليم عقابه وإن أمير المؤمنين سأله عن ذلك، فأقر بالتشبيه وتكلم بالكفر، فاستحل بذلك أمير المؤمنين دمه، ولعنه وأمر أن يتتبع من وسم بصحبة أحمد بن نصر، ممن ذكر انه كان متشايعا له، فوضعوا في الحبوس، ثم جعل نيف وعشرون رجلا وسموا في حبوس الظلمة، ومنعوا من أخذ الصدقة التي يعطاها أهل السجون، ومنعوا من الزوار، وثقلوا بالحديد وحمل أبو هارون السراج وآخر معه إلى سامرا، ثم ردوا إلى بغداد، فجعلوا في المحابس.
وكان سبب أخذ الذين أخذوا بسبب أحمد بن نصر، أن رجلا قصارا كان في الربض جاء إلى إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فقال: أنا أدلك على أصحاب أحمد بن نصر، فوجه معه من يتبعهم، فلما اجتمعوا وجدوا على القصار سببا حبسوه معهم، وكان له في المهرزار نخل، فقطع وانتهب منزله، وكان ممن حبس بسببه قوم من ولد عمرو بن اسفنديار، فماتوا في الحبس، فقال بعض الشعراء في احمد بن ابى دواد:
ما إن تحولت من إياد ... صرت عذابا على العباد
(9/139)
أنت كما قلت من اياد ... فارفق بهذا الخلق يا إيادي
وفي هذه السنة أراد الواثق الحج، فاستعد له، ووجه عمر بن فرج إلى الطريق لإصلاحه، فرجع فأخبره بقلة الماء فبدا له وحج بالناس فيها محمد بن داود بن عيسى وفيها ولى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فشخص إليها في شعبان وحج هو وبغا الكبير، وعلى أحداث الموسم بغا الكبير، وكان شخوص جعفر إلى اليمن في أربعة آلاف فارس وألفي راجل وأعطي رزق ستة أشهر وعقد محمد بن عبد الملك الزيات لإسحاق بن إبراهيم بن أبي خميصة مولى بني قشير من أهل أضاخ فيها على اليمامة والبحرين وطريق مكة، مما يلي البصرة في دار الخلافة، ولم يذكر أن أحدا عقد لأحد في دار الخلافة إلا الخليفة غير محمد بن عبد الملك الزيات وفي هذه السنة نقب قوم من اللصوص بيت المال الذي في دار العامة في جوف القصر، وأخذوا اثنين وأربعين ألفا من الدراهم، وشيئا من الدنانير يسيرا، فأخذوا بعد وتتبع أخذهم يزيد الحلواني، صاحب الشرطة خليفة إيتاخ وفيها خرج محمد بن عمرو الخارجي من بني زيد بن تغلب في ثلاثة عشر رجلا في ديار ربيعة، فخرج إليه غانم بن أبي مسلم بن حميد الطوسي، وكان على حرب الموصل في مثل عدته، فقتل من الخوارج اربعه، وأخذ محمد ابن عمرو أسيرا فبعث به إلى سامرا، فبعث به إلى مطبق بغداد، ونصبت رءوس أصحابه وأعلامه عند خشبة بابك وفي هذه السنة قدم وصيف التركي من ناحية أصبهان والجبال وفارس، وكان شخص في طلب الأكراد، لأنهم قد كانوا تطرقوا إلى هذه النواحي، وقدم معه منهم بنحو من خمسمائة نفس، فيهم غلمان صغار، جمعهم في قيود
(9/140)
وأغلال، فأمر بحبسهم، وأجيز وصيف بخمسة وسبعين الف دينار، وقلد سيفا وكسى.
خبر الفداء بين المسلمين والروم
وفي هذه السنة، تم الفداء بين المسلمين وصاحب الروم، واجتمع فيها المسلمون والروم على نهر يقال له.
اللمس على سلوقية على مسيرة يوم من طرسوس.
ذكر الخبر عن سبب هذا الفداء وكيف كان:
ذكر عن أحمد بن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان خادم الرشيد، وكان قد نشأ بالثغر- أن خاقان هذا قدم على الواثق، وقدم معه نفر من وجوه أهل طرسوس وغيرها يشكون صاحب مظالم كان عليهم، يكنى أبا وهب، فأحضر، فلم يزل محمد بن عبد الملك يجمع بينه وبينهم في دار العامة عند انصراف الناس يوم الاثنين والخميس، فيمكثون إلى وقت الظهر، وينصرف محمد بن عبد الملك وينصرفون، فعزل عنهم، وأمر الواثق بامتحان أهل الثغور في القرآن، فقالوا بخلقه جميعا، إلا أربعة نفر، فأمر الواثق بضرب أعناقهم إن لم يقولوه، وأمر لجميع أهل الثغور بجوائز على ما رأى خاقان، وتعجل أهل الثغور إلى ثغورهم، وتأخر خاقان بعدهم قليلا، فقدم على الواثق رسل صاحب الروم- وهو ميخائيل بن توفيل بن ميخائيل ابن اليون بن جورجس- يسأله أن يفادي بمن في يده من أسارى المسلمين، فوجه الواثق خاقان في ذلك، فخرج خاقان ومن معه في فداء أسارى المسلمين في آخر سنة ثلاثين ومائتين على موعد بين خاقان ورسل صاحب الروم للالتقاء للفداء في يوم عاشوراء، وذلك في العاشر من المحرم سنة إحدى وثلاثين
(9/141)
ومائتين ثم عقد الواثق لأحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي على الثغور والعواصم، وأمره بحضور الفداء، فخرج على سبعة عشر من البرد وكان الرسل الذين قدموا في طلب الفداء قد جرى بينهم وبين ابن الزيات اختلاف في الفداء، قالوا: لا نأخذ في الفداء امرأة عجوزا ولا شيخا كبيرا ولا صبيا، فلم يزل ذلك بينهم أياما حتى رضوا عن كل نفس بنفس.
فوجه الواثق إلى بغداد والرقة في شري من يباع من الرقيق من مماليك، فاشترى من قدر عليه منهم، فلم تتم العدة، فأخرج الواثق من قصره من النساء الروميات العجائز وغيرهن، حتى تمت العدة، ووجه ممن مع ابن أبي دواد رجلين، يقال لأحدهما يحيى بن آدم الكرخي، ويكنى أبا رملة، وجعفر بن احمد بن الحذاء، ووجه معهما كاتبا من كتاب العرض، يقال له طالب بن داود، وأمره بامتحانهم هو وجعفر، فمن قال: القرآن مخلوق فودي به، ومن أبى ذلك ترك في أيدي الروم، وأمر لطالب بخمسة آلاف درهم، وأمر أن يعطوا جميع من قال: إن القرآن مخلوق، ممن فودي به دينارا لكل إنسان من ماله حمل معهم، فمضى القوم.
فذكر عن أحمد بن الحارث أنه قال: سألت ابن أبي قحطبة صاحب خاقان الخادم- وكان السفير الموجه بين المسلمين والروم، وجه ليعرف عدة المسلمين في بلاد الروم فأتى ملك الروم وعرف عدتهم قبل الفداء- فذكر أنه بلغت عدتهم ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة، فأمر الواثق بفدائهم، وعجل أحمد بن سعيد على البريد ليكون الفداء على يديه، ووجه من يمتحن الأسراء من المسلمين، فمن قال منهم: إن القرآن مخلوق، وإن الله عز وجل لا يرى في الآخرة فودي به، ومن لم يقل ذلك ترك في أيدي الروم، ولم يكن فداء منذ أيام محمد بن زبيدة في سنة أربع أو خمس وتسعين ومائة
(9/142)
قال: فلما كان يوم عاشوراء، لعشر خلون من المحرم سنة إحدى وثلاثين ومائتين، اجتمع المسلمون ومن معهم من العلوج وقائدان من قواد الروم، يقال لأحدهما انقاس وللآخر لمسنوس، والمسلمون والمطوعة في أربعة آلاف بين فارس وراجل، فاجتمعوا بموضع يقال له اللمس، فذكر عن محمد بن أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة الباهلي أن كتاب أبيه أتاه، أن من فودي به من المسلمين ومن كان معهم من أهل ذمتهم اربعه آلاف وستمائه انسان، منهم صبيان ونساء ستمائه، ومنهم من اهل الذمة اقل من خمسمائة والباقون رجال من جميع الآفاق.
وذكر أبو قحطبة- وكان رسول خاقان الخادم إلى ملك الروم لينظركم عدد الأسرى، ويعلم صحة ما عزم عليه ميخائيل ملك الروم- أن عدد المسلمين قبل الفداء كان ثلاثة آلاف رجل وخمسمائة امرأة وصبي، ممن كان بالقسطنطينية وغيرها، إلا من أحضره الروم ومحمد بن عبد الله الطرسوسي- وكان عندهم- فأوفده أحمد بن سعيد بن سلم وخاقان مع نفر من وجوه الأسرى على الواثق، فحملهم الواثق على فرس فرس، وأعطى لكل رجل منهم ألف درهم.
وذكر محمد هذا أنه كان أسيرا في أيدي الروم ثلاثين سنة، وأنه كان أسر في غزاة رامية كان في العلافة فأسر، وكان فيمن فودي به في هذا الفداء، وقال: فودي بنا في يوم عاشوراء على نهر يقال له اللامس، على سلوقية قريبا من البحر، وأن عدتهم كانت أربعة آلاف وأربعمائة وستين نفسا، النساء وازواجهن وصبيانهن ثمانمائه وأهل ذمة المسلمين مائة أو أكثر، فوقع الفداء كل نفس عن نفس صغيرا أو كبيرا، فاستفرغ خاقان جميع من كان في بلد الروم من المسلمين ممن علم موضعه.
قال: فلما جمعوا للفداء، وقف المسلمون من جانب النهر الشرقي والروم من الجانب الغربي- وهو مخاضه- فكان هؤلاء يرسلون من هاهنا رجلا وهؤلاء
(9/143)
من هاهنا رجلا، فيلتقيان في وسط النهر، فإذا صار المسلم إلى المسلمين كبر وكبروا وإذا صار الرومي إلى الروم تكلم بكلامهم، وتكلموا شبيها بالتكبير.
وذكر عن السندي مولى حسين الخادم، أنه قال: عقد المسلمون جسرا على النهر، وعقد الروم جسرا، فكنا نرسل الرومي على جسرنا ويرسل الروم المسلم على جسرهم، فيصير هذا إلينا وذاك إليهم، وأنكر أن يكون مخاضة.
وذكر عن محمد بن كريم أنه قال: لما صرنا في أيدي المسلمين، امتحننا جعفر ويحيى، فقلنا، وأعطينا دينارين دينارين قال: وكان البطريقان اللذان قدما بالأسرى لا بأس بهما في معاشرتهما.
قال: وخاف الروم عدد المسلمين لقلتهم وكثرة المسلمين، فآمنهم خاقان من ذلك، وضرب بينهم وبين المسلمين أربعين يوما لا يغزون حتى يصلوا إلى بلادهم ومأمنهم، وكان الفداء في أربعة أيام، ففضل مع خاقان ممن كان أمير المؤمنين أعد لفداء المسلمين عدة كبيرة، وأعطى خاقان صاحب الروم ممن كان قد فضل في يده مائة نفس، ليكون عليهم الفضل استظهارا مكان من يخشى أن يأسروه من المسلمين إلى انقضاء المدة، ورد الباقين إلى طرسوس، فباعهم.
قال: وكان خرج معنا ممن كان تنصر ببلاد الروم من المسلمين نحو من ثلاثين رجلا فودي بهم.
قال محمد بن كريم: ولما انقضت المدة بين خاقان والروم الأربعون يوما، غزا أحمد بن سعيد بن سلم بن قتيبة، فأصاب الناس الثلج والمطر، فمات منهم قدر مائتي إنسان وغرق منهم في البدندون قوم كثير، وأسر منهم نحو من مائتين، فوجد أمير المؤمنين الواثق عليه لذلك، وحصل جميع من مات وغرق خمسمائة إنسان، وكان أقبل إلى أحمد بن سعيد وهو في سبعة آلاف
(9/144)
بطريق من عظمائهم فجبن عنه، فقال له وجوه الناس: إن عسكرا فيه سبعة آلاف لا يتخوف عليه، فإن كنت لا تواجه القوم فتطرق بلادهم.
فأخذ نحوا من ألف بقرة وعشرة آلاف شاة، وخرج فعزله الواثق، وعقد لنصر بن حمزة الخزاعي يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى من هذه السنة.
وفي هذه السنة مات الحسن بن الحسين، أخو طاهر بن الحسين بطبرستان في شهر رمضان.
وفيها مات الخطاب بن وجه الفلس وفيها مات ابو عبد الله الأعرابي الراوية يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من شعبان وهو ابن ثمانين سنة.
وفيها ماتت أم أبيها بنت موسى أخت علي بن موسى الرضى وفيها مات مخارق المغني، وأبو نصر أحمد بن حاتم راوية الأصمعي، وعمرو ابن أبي عمرو الشيباني ومحمد بن سعدان النحوي.
(9/145)
ثم دخلت
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين
(ذكر الخبر عما كَانَ فِيهَا من الأحداث)
ذكر الخبر عن مسير بغا الكبير الى حرب بنى نمير
فمن ذلك ما كان من مسير بغا الكبير إلى بني نمير حتى أوقع بهم.
ذكر الخبر عن سبب مسيره إليهم وكيف كان الأمر بينه وبينهم:
حدثني أحمد بن محمد بن مخلد بمعظم خبرهم، وذكر أنه كان مع بغا في ذلك السفر، وأما سياق الكلام فلغيره ذكر أن سبب شخوص بغا إلى بني نمير كان أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى امتدح الواثق بقصيدة، فدخل عليه فأنشده إياها، فامر له بثلاثين الف درهم، وبنزل فكلم عمارة الواثق في بني نمير، وأخبره بعبثهم وفسادهم في الأرض، وإغارتهم على الناس وعلى اليمامة وما قرب منها، فكتب الواثق إلى بغا يأمره بحربهم.
فذكر أحمد بن محمد أن بغا لما أراد الشخوص من المدينة إليهم حمل معه محمد بن يوسف الجعفري دليلا له على الطريق، فمضى نحو اليمامة يريدهم، فلقي منهم جماعة بموضع يقال له الشريف، فحاربوه، فقتل بغا منهم نيفا وخمسين رجلا، وأسر نحوا من أربعين، ثم سار إلى حظيان، ثم سار إلى قرية لبني تميم من عمل اليمامة تدعى مرأة، فنزل بها، ثم تابع إليهم رسله، يعرض عليهم الأمان، ودعاهم إلى السمع والطاعة، وهم في ذلك يمتنعون عليه، ويشتمون رسله، ويتفلتون إلى حربه، حتى كان آخر من وجه إليهم رجلين، أحدهما من بني عدي من تميم والآخر من بني نمير، فقتلوا التميمي وأثبتوا النميري جراحا، فسار بغا إليهم من مرأة وكان مسيره إليهم في أول صفر من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، فورد بطن نخل، وسار حتى دخل نخيلة، وأرسل
(9/146)
إليهم أن ائتوني، فاحتملت بنو ضبة من نمير، فركبت جبالها مياسر جبال السود- وهو جبل خلف اليمامة أكثر أهله باهلة- فأرسل إليهم فأبوا أن يأتوه، فأرسل إليهم سرية فلم تدركهم، فوجه سرايا، فأصابت فيهم وأسرت منهم.
ثم إنه أتبعهم بجماعة من معه وهم نحو من ألف رجل سوى من تخلف في العسكر من الضعفاء والأتباع، فلقيهم وقد جمعوا له، وحشدوا لحربه، وهم يومئذ نحو من ثلاثة آلاف، بموضع يقال له روضة الأبان وبطن السر من القرنين على مرحلتين، ومن أضاخ على مرحلة، فهزموا مقدمته، وكشفوا ميسرته، وقتلوا من أصحابه نحوا من مائة وعشرين أو مائة وثلاثين رجلا، وعقروا من ابل عسكره نحوا من سبعمائة بعير ومائة دابة، وانتهبوا الأثقال وبعض ما كان مع بغا من الأموال.
قال لي أحمد: لقيهم بغا وهجم عليهم، وغلبه الليل، فجعل بغا يناشدهم، ويدعوهم إلى الرجوع وإلى طاعه امير المؤمنين، ويكلمهم بذلك محمد ابن يوسف الجعفري، فجعلوا يقولون له: يا محمد بن يوسف، قد والله ولدناك فما رعيت حرمه الرحيم، ثم جئتنا بهؤلاء العبيد والعلوج تقاتلنا بهم! والله لنرينك العبر، ونحو ذلك من القول فلما دنا الصبح قال محمد بن يوسف لبغا: أوقع بهم من قبل أن يضيء الصبح، فيروا قلة عددنا، فيجترئوا علينا، فأبى بغا عليه، فلما أضاء الصبح ونظروا إلى عدد من مع بغا- وكانوا قد جعلوا رجالتهم أمامهم وفرسانهم وراءهم ونعمهم ومواشيهم من ورائهم- حملوا علينا، فهزمونا حتى بلغت هزيمتنا معسكرنا، وأيقنا بالهلكة.
قال: وكان قد بلغ بغا أن خيلا لهم بمكان من بلادهم، فوجه من أصحابه نحوا من مائتي فارس إليها قال: فبينا نحن فيما نحن فيه من الإشراف على العطب، وقد هزم بغا ومن معه إذ خرجت الجماعة التي كان بغا وجهها من الليل إلى تلك الخيل، وقد أقبلت منصرفة من الموضع الذي وجهت
(9/147)
إليه من العسكر في ظهور بني نمير، وقد فعلوا ما فعلوا ببغا وأصحابه، فنفخوا في صفاراتهم، فلما سمعوا نفخ الصفارات، ونظروا إلى من خرج عليهم في أدبارهم، قالوا: غدر والله العبد، وولوا هاربين، وأسلم فرسانهم رجالتهم بعد أن كانوا على غاية المحاماة عليهم.
قال لي أحمد بن محمد: فلم يفلت من رجالتهم كثير احد، حتى قتلوا عن آخرهم، وأما الفرسان فطاروا هرابا على ظهور الخيل.
وأما غير أحمد بن محمد فإنه قال: لم تزل الهزيمة على بغا وأصحابه منذ غدوة إلى انتصاف النهار، وذلك يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة سنة ثنتين وثلاثين ومائتين، ثم تشاغلوا بالنهب وعقر الإبل والدواب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه، واجتمع إليه من كان تفرق عنه، فكروا على بني نمير، فهزمهم وقتل منهم منذ زوال الشمس إلى وقت العصر زهاء ألف وخمسمائة رجل وأقام بغا بموضع الوقعة على الماء المعروف ببطن السر، حتى جمعت له رءوس من قتل من بني نمير، واستراح هو وأصحابه ثلاثة أيام.
فحدثني أحمد بن محمد أن من هرب من فرسان بني نمير من الوقعة أرسلوا إلى بغا يطلبون منه الأمان، فأعطاهم الأمان، فصاروا إليه، فقيدهم وأشخصهم معه.
وأما غيره فإنه قال: سار بغا من موضع الوقعة في طلب من شذ عنه منهم، فلم يدرك إلا الضعيف ممن لم يكن له نهوض منهم وبعض المواشي والنعم، ورجع إلى حصن باهلة قال: وإنما قاتل بغا من بني نمير بنو عبد الله بن نمير وبنو بسره وبلحجاج وبنو قطن وبنو سلاه وبنو شريح وبطون من الخوالف- وهم من بني عبد الله بن نمير، ولم يكن في القتال من بني عامر بن نمير إلا القليل- وبنو عامر بن نمير أصحاب نخل وشاء، وليسوا أصحاب خيل، وعبد الله بن نمير هي التي تحارب العرب- فقال عماره
(9/148)
ابن عقيل لبغا:
تركت الأعقفين وبطن قو ... وملأت السجون من القماش
فحدثني أحمد بن محمد أن الذين دخلوا إلى بغا بالأمان من بني نمير لما قيدهم وحبسهم وأشخصهم معه شغبوا في الطريق، وحاولوا كسر قيودهم والهرب، فأمر بإحضارهم واحدا بعد واحد، فكان إذا حضر الواحد يضربه ما بين الاربعمائه الى الخمسمائة وأقل من ذلك وأكثر، فزعم أحمد أنه حضر ضربهم ولم ينطق منهم ناطق يتوجع من الضرب، وأنه أحضر منهم شيخ قد علق في عنقه مصحفا، ومحمد بن يوسف جالس إلى جنب بغا، فضحك منه محمد بن يوسف، وقال لبغا: هذا أخبث ما كان- أصلحك الله- حين علق المصحف في عنقه! فضربه أربعمائة او خمسمائة، فما توجع وما استغاث.
وذكر أن فارسا من بني نمير لقي بغا في وقعتهم التي ذكرت امرها يدعى المجنون، فطعن بغا ورمى المجنون رجل من الأتراك فأفلت، وعاش أياما ثلاثة، ثم مات من رميته.
قال: ثم قدم عليه واجن الاشروسنى الصغدي في سبعمائة رجل مددا له من الأشروسنية الإشتيخنية، فوجهه بغا ومحمد بن يوسف الجعفري في أثرهم، فلم يزل يتبعهم حتى وغلوا في البلاد، وصاروا بتبالة وما يليها من حد عمل اليمن وفاتوه، فانصرف ولم يصر في يديه منهم إلا ستة نفر أو سبعة، وأقام بحصن باهلة، ووجه إلى جبال بني نمير وسهلها من هلان والسود وغيرها من عمل اليمامة سرايا في محاربه من امتنع ممن قبل الامان منهم، فقتلوا جماعة وأسروا جماعة، وأقبل عدة من ساداتهم، كلهم يطلب الامان لنفسه والبطن الذي هو منه، فقبل ذلك منهم وبسطهم وآنسهم، ولم يزل مقيما إلى أن جمع إليه كل من ظن أنه كان في هذه النواحي منهم، وأخذ منهم زهاء ثمانمائه رجل، فأثقلهم بالحديد وحملهم إلى البصرة، في ذي القعدة من سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وكتب إلى صالح العباسي بالمسير بمن قبله في المدينة
(9/149)
من بني كلاب وفزارة ومرة وثعلبة وغيرهم واللحاق به، فوافاه صالح العباسي ببغداد، وصاروا جميعا في المحرم إلى سامرا سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، وكانت عدة من قدم به بغا وصالح العباسي من الأعراب سوى من مات منهم وهرب وقتل في هذه الوقائع التي وصفناها الفى رجل ومائتي رجل من بني نمير ومن بني كلاب ومن مرة وفزارة ومن ثعلبة وطيئ وفي هذه السنة أصاب الحاج في المرجع عطش شديد في اربعه منازل الى الربذة، فبلغت الشربة عدة دنانير ومات خلق كثير من العطش.
وفيها ولي محمد بن إبراهيم بن مصعب فارس.
وفيها أمر الواثق بترك جباية أعشار سفن البحر.
وفيها اشتد البرد في نيسان حتى جمد الماء لخمس خلون منه.
ذكر خبر موت الواثق
وفيها مات الواثق.
ذكر الخبر عن العلة التي كانت بها وفاته:
ذكر لي جماعة من أصحابنا أن علته التي توفي منها كانت الاستسقاء، فعولج بالإقعاد في تنور مسخن، فوجد لذلك راحة وخفة مما كان به، فأمرهم من غد ذلك اليوم بزيادة في إسخان التنور، ففعل ذلك وقعد فيه أكثر من قعوده في اليوم الذي قبله، فحمي عليه، فأخرج منه، وصير في محفة، وحضره الفضل بن إسحاق الهاشمي وعمر بن فرج وغيرهم، ثم حضر ابن الزيات وابن أبي دواد، فلم يعلموا بموته حتى ضرب بوجهه المحفة، فعلموا أنه قد مات.
وقد قيل: إن احمد بن ابى دواد حضره وقد أغمي عليه، فقضي وهو
(9/150)
عنده فأقبل يغمضه ويصلح من شأنه وكانت وفاته لست بقين من ذي الحجة ودفن في قصره بالهاروني وكان الذي صلى عليه وأدخله قبره وتولى أمره أحمد بن أبي دواد، وكان الواثق امر احمد بن ابى دواد أن يصلي بالناس يوم الأضحى في المصلى، فصلى بهم العيد، لأن الواثق كان شديد العلة فلم يقدر على الحضور إلى المصلى، ومات من علته تلك.
ذكر الخبر عن صفه الواثق وسنه وقدر مده خلافته
ذكر من رآه وشاهده انه كان أبيض مشربا حمرة، جميلا ربعة، حسن الجسم، قائم العين اليسرى، وفيها نكتة بياض.
وتوفي- فيما زعم بعضهم- وهو ابن ست وثلاثين سنة، وفي قول بعضهم: وهو ابن اثنتين وثلاثين سنة، فقال الذين زعموا أنه كان ابن ست وثلاثين: كان مولده سنة ست وتسعين ومائة، وكانت خلافته خمس سنين وتسعة أشهر وخمسة أيام وقال بعضهم: وسبعة أيام واثنتي عشرة ساعة.
وكان ولد بطريق مكة، وأمه أم ولد رومية، يقال لها قراطيس.
واسمه هارون وكنيته أبو جعفر.
وذكر أنه لما اعتل علته التي مات فيها وسقي بطنه أمر بإحضار المنجمين، فأحضروا، وكان ممن حضر الحسن بن سهل، أخو الفضل بن سهل، والفضل بن إسحاق الهاشمي وإسماعيل بن نوبخت ومحمد بن موسى الخوارزمي المجوسي القطربلي وسند صاحب محمد بن الهيثم وعامة من ينظر في النجوم، فنظروا في علته ونجمه ومولده، فقالوا: يعيش دهرا طويلا، وقدروا له خمسين سنة مستقبلة، فلم يلبث إلا عشرة أيام حتى مات.
ذكر بعض أخباره
ذكر الحسين بن الضحاك أنه شهد الواثق بعد أن مات المعتصم بأيام،
(9/151)
وقد قعد مجلسا كان أول مجلس قعده، فكان أول ما تغني به من الغناء في ذلك المجلس، ان تغنت شاريه جارية إبراهيم بن المهدي:
ما درى الحاملون يوم استقلوا ... نعشه للثواء أم للفناء
فليقل فيك باكياتك ما شئن ... صباحا ووقت كل مساء
قال: فبكى والله وبكينا حتى شغلنا البكاء عن جميع ما كنا فيه، ثم اندفع بعض المغنيين فغنى:
ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل!
قال: فازداد والله في البكاء، وقال: ما سمعت كاليوم قط تعزيه باب ونعى نفس، ثم ارفض ذلك المجلس.
وذكر عن عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع أن علي بن الجهم قال في الواثق بعد أن ولي الخلافة:
قد فاز ذو الدنيا وذو الدين ... بدولة الواثق هارون
أفاض من عدل ومن نائل ... ما أحسن الدنيا مع الدين!
قد عم بالإحسان في فضله ... فالناس في خفض وفي لين
ما أكثر الداعي له بالبقا ... وأكثر التالي بآمين
وقال علي بن الجهم أيضا فيه:
وثقت بالملك الواثق ... بالله النفوس
ملك يشقى به المال ... ولا يشقى الجليس
أنس السيف به واستوحش ... العلق النفيس
أسد تضحك عن ... شداته الحرب العبوس
يا بني العباس يأبى الله إلا أن تسوسوا
(9/152)