يا بلوجر ربنا يهديك لدين الاسلام الرافض قطعا لسلوكك بالتعدي علي المدونين وسيدخل نار جهنم ان لم تتب

يا بلوجر متي يهدك ربنا وتتوب عن تدخلك السافر في روابط المدونات وتحويلها الي صفحة المشاركات في كل مدوناتك –اعلم ان جوجل لن يحاسبك عن هذه التجاوزات الخطيرة للمصالح المشتركة بينكما لكن لا اعلم اين غابت عنكم  ضمائركم ونخوات المروءة والشهامة والحفاظ علي الامانة عندكم فهذا الرابط موضوع في كلمة   .Bloggerدرافتك المشؤوم الملوث{المظهر: Awesome Inc.. يتم التشغيل بواسطة Blogger. } اوف لك ولفعلك

4 دقائق مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هود

دقائق4 مع الشيخ اسلام صبحي مقطع من سورة هو

الخميس، 27 أكتوبر 2022

ج5.وج6.علوم القران للزركشي{ج7.وج8.}

 

 

علوم القران للزركشي ج7.وج8. 

ج5كتاب : البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي

تاسعها: قصد الاختصار ومنه الكناية عن أفعال متعددة بلفظ فعل كقوله تعالى: {لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} أي: فإن لم تأتوا بسورة من مثله ولن تأتوا
عاشرها: أن يعمد إلى جملة ورد معناها على خلاف الظاهر فيأخذ الخلاصة منها من غير اعتبار مفرداتها بالحقيقة أو المجاز فتعبر بها عن مقصودك وهذه الكناية استنبطها الزمخشري وخرج عليها قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} فانه كناية عن الملك لأن الاستواء على السرير لا يحصل إلا مع الملك فجعلوه كناية عنه
وكقوله تعالى: {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الآية إنه كناية عن عظمته وجلالته من غير ذهاب بالقبض واليمين إلى جهتين: حقيقة ومجاز
وقد اعترض الإمام فخر الدين على ذلك بأنها تفتح باب تأويلات الباطنية فلهم أن يقولوا: المراد من قوله: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} الاستغراق في الخدمة من غير الذهاب إلى نعل وخلعه وكذا نظائره انتهى
وهذا مردود لأن الكناية إنما يصار إليها عند عدم إجراء اللفظ على ظاهره كما سبق من الأمثلة بخلاف خلع النعلين ونحوه

تنبيهان
الأول: في أنه هل يشترط في الكناية قرينة كالمجاز؟
هذا ينبني على الخلاف السابق أنها مجاز أم لا وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ} في سورة آل عمران إنه مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم تقول: فلان لاينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به وإحسانه إليه قال: وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداء والإحسان وإن لم يكن ثم نظر ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر انتهى
وهذا بناء منه على مذهبه الفاسد في نفي الرؤية وفيه تصريح بأن الكناية مجاز وبه صرح في قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}
وصرح الشيخ عبد القاهر الجرجاني في الدلائل بأن الكناية لا بد لها من قرينة
الثاني: قيل من عادة العرب أنها لا تكني عن الشيء بغيره إلا إذا كان يقبح

ذكره وذكروا احتمالين في قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}
أحدهما: أنه كنى بالإفضاء عن الإصابة
والثاني : أنه كنى عن الخلوة
ورجحوا الأول لأن العرب إنما تكنى عما يقبح ذكره في اللفظ ولا يقبح ذكر الخلوة وهذا حسن لكنه يصلح للترجيح
وأما دعوى كون العرب لا تكني إلا عما يقبح ذكره فغلط فكنوا عن القلب بالثوب كما في قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} وغير ذلك مما سبق
التعريض والتلويح
وأما التعريض فقيل: إنه الدلالة على المعنى من طريق المفهوم وسمي تعويضا لأن المعنى باعتباره يفهم من عرض اللفظ أي من جانبه ويسمى التلويح لأن المتكلم يلوح منه للسامع ما يريده كقوله تعالى: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} لأن غرضه بقوله: {فَاسْأَلُوهُمْ} على سبيل الاستهزاء وإقامة الحجة عليهم بما عرض لهم به من عجز كبير الأصنام عن الفعل مستدلا على ذلك بعدم إجابتهم إذا سئلوا ولم يرد بقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} نسبة الفعل الصادر عنه إلى الصنم فدلالة هذا الكلام عجز كبير الأصنام عن الفعل بطريق الحقيقة
ومن أقسامة أن يخاطب الشخص والمراد غيره سواء كان الخطاب مع نفسه أو مع

غيره كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}
{وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}
{فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} تعريضا بأن قومه أشركوا واتبعوا أهواءهم وزلوا فيما مضى من الزمان لأن الرسول لم يقع منه ذلك فأبرز غير الحاصل في معرض الحاصل ادعاءً
وقوله: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ} فإن الخطاب للمؤمنين والتعريض لأهل الكتاب لأن الزلل لهم لا للمؤمنين
فأما الآية الأولى ففيها ثلاثة: أمور مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمراد غيره وإخراج المحال عليه في صورة المشكوك والمراد غيره واستعمال المستقبل بصيغة الماضي وأمر رابع وهو "إن" الشرطية قد لا يراد بها إلا مجرد الملازمة التي هي لازمة الشرط والجزاء مع العلم باستحالة الشرط أو وجوبه أو وقوعه
وعلى هذا يحمل قول من لم ير من المفسرين حمل الخطاب على غيره إذ لا يلزم من فرض أمر لابد منه صحة وقوعه بل يكون في الممكن والواجب والمحال
ومنه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} إذا جُعلت شرطية لا نافية
ومنه : {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ}

ومنه قوله تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} المراد: مالكم لا تعبدون بدليل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ولولا التعريض لكان المناسب وإليه أرجع
وكذا قوله: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} والمراد: أتتخذون من دونه آلهة. {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ. إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} ولذلك قيل: {آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ } دون ربي واتبعه فاسمعوه
ووجه حسنه ظاهر لأنه يتضمن إعلام السامع على صورة لا تقتضي مواجهته بالخطاب المنكر كأنك لم تعنه وهو أعلى في محاسن الأخلاق وأقرب للقبول وأدعى للتواضع والكلام ممن هو رب العالمين نزله بلغتهم وتعليما للذين يعقلون
قيل: ومنه قوله تعالى: {قُلْ لا تُسْأَلونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فحصل المقصود في قالب التلطف وكان حق الحال من حيث الظاهر لولاه أن يقال: لا تسألون عما عملنا ولا نسأل عما تجرمون وكذا مثله: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} حيث ردد الضلال بينهم وبين أنفسهم والمراد: إنا على هدى وأنتم في ضلال وإنما لم يصرح به لئلا تصير هنا نكتة هو أنه خولف في هذا الخطاب بين "على" و"في" بدخول "على" على الحق و"في" على الباطل لأن صاحب الحق كأنه على فرس جواد يركض به حيث أراد وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام لا يدري أين يتوجه
قال السكاكي: ويسمى هذا النوع الخطاب المنصف أي لأنه يوجب أن

ينصف المخاطب إذا رجع إلى نفسه استدراجا استدراجه الخصم إلى الإذعان والتسليم وهو شبيه بالجدل لأنه تصرف في المغالطات الخطابية
ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} المقصود التعريض بذم من ليست له هذه الخشية وأن يعرف أنه لفرط عناده كأنه ليس له أذن تسمع ولا قلب يعقل وأن الإنذار له كلا إنذار وأنه قد أنذر من له هذه الصفة وليست له
وقوله: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} القصد التعريض وأنهم لغلبة هواهم في حكم من ليس له عقل
وقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} نزلت في أبي جهل لأنه قال: "ما بين أخشبيها -أي جبليها يعني مكة- أعز مني ولا أكرم" وقيل: بل خوطب بذلك استهزاء
التوجيه
وأما التوجيه وهو ما احتمل معنيين ويؤتى به عند فطنة المخاطب كقوله تعالى حكاية عن أخت موسى عليه السلام: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ} فإن الضمير في له يحتمل أن يكون لموسى وأن يكون لفرعون
قال ابن جريج: وبهذا تخلصت أخت موسى من قولهم: إنك عرفته فقالت: أردت ناصحون للملك واعترض عليه بأن هذا في لغة العرب لا في كلامها المحكي

وهذا مردود فإن الحكاية مطابقة لما قالته وإن كانت بلغة أخرى
ونظيره جواب ابن الجوزي لمن قال له: من كان أفضل عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو بكر أم علي؟ فقال: من كانت ابنته تحته
وجعل السكاكي من هذا القسم مشكلات القرآن

النوع الخامس والأربعون: في أقسام معنى الكلام

زعم قوم أن معاني القرآن لا تنحصر ولم يتعرضوا لحصرها وحكاية ابن السيد عن أكثر البصريين في زمانه
وقيل: قسمان: خبر وغير خبر
وقيل: عشرة: نداء ومسألة وأمر وتشفع وتعجب وقسم وشرط ووضع وشك واستفهام
وقيل: تسعة وأسقطوا الاستفهام لدخوله في المسألة
وقيل: ثمانية وأسقطوا التشفع لدخوله في المسألة
وقيل: سبعة وأسقطوا الشك لأنه في قسم الخبر
وكان أبو الحسن الأخفش يرى أنها ستة أيضا وهي عنده الخبر والاستخبار والأمر والنهي والنداء والتمني وقيل: خمسة الخبر والأمر والتصريح والطلب والنداء وقيل: غير ذلك

الأول: الخبر والقصد به إفادة المخاطب وقد يشرب مع ذلك معاني أخر
منها: التعجب قال ابن فارس: وهو تفضيل الشيء على أضرابه بوصف
وقال ابن الضائع: استعظام صفة خرج بها المتعجب منه عن نظائره نحو: ما أحسن زيدا! وأحسن به! استعظمت حسنه على حسن غيره
وقال الزمخشري في تفسير سورة الصف: معنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله
وقال الرماني: المطلوب في التعجب الإبهام لأن من شأن الناس أن يتعجبوا مما لا يعرف سببه وكلما استبهم السبب كان التعجب أحسن قال وأصل التعجب إنما هو للمعنى الخفي سببه والصيغة الدالة عليه تسمى تعجبا يعني مجازا قال: ومن أجل الإبهام لم تعمل نعم إلا في الجنس من أجل التفخيم ليقع التفسير على نحو التفخيم بالإضمار قبل الذكر
ثم قد وضعوا للتعجب صيغا من لفظه وهي: "ما أَفعَلَه" و"أَفْعِلْ بِهِ وصيغا

من غير لفظه نحو: "كَبُر" في نحو: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} {كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ} {كَيْفَ تَكْفُرُونَ }
واحتج الثمانيني على أنه خبر بقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تقديره: ما أسمعهم وأبصرهم! والله سبحانه لم يتعجب بهم ولكن دل المكلفين على أن هؤلاء قد نزلوا منزلة من يتعجب منه
وهنا مسألتان:
الأولى: قيل: لا يتعجب من فعل الله فلا يقال: ما أعظم الله! لأنه يؤول إلى: شيء عظم الله كما في غيره من صيغ التعجب وصفات الله تعالى قديمة وقيل: بجوازه باعتبار أنه يجب تعظيم الله بشيء من صفاته فهو يرجع لاعتقاد العباد عظمته وقدرته وقد قال الشاعر:
ما أَقْدَرَ اللهَ أن يُدْنَى على شَحَطٍ
مَنْ دَارُهُ الحُزْنُ مِمَنْ دَارُهُ صُولُ
والأولون قالوا: هذا أعرابي جاهل بصفات الله وقال بعض المحققين: التعجب إنما يقال لتعظيم الأمر المتعجب منه ولا يخطر بالبال أن شيئا صيره كذلك وخفي علينا فلا يمتنع حينئذ التعجب من فعل الله
والثانية: هل يجوز إطلاق التعجب في حق الله تعالى فقيل: بالمنع لأن التعجب استعظام ويصحبه الجهل والله سبحانه منزه عن ذلك وبه جزم ابن عصفور في المقرب

قال: فإن ورد ما ظاهره ذلك صرف إلى المخاطب كقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} أي: هؤلاء يجب أن يتعجب منهم وقيل: بالجواز لقوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} إن قلنا: "ما" تعجبيه لا استفهامية وقوله: {بَلْ عَجِبْتُ} في قراءة بعضهم بالضم
والمختار الأول وما وقع منه أول بالنظر إلى المخاطب أي: علمت أسباب ما يتعجب منه العباد فسمي العلم بالعجب عجبا
وأصل الخلاف في هذه المسألة يلتف على خلاف آخر وهو أن حقيقة التعجب هل يشترط فيه خفاء سببه فيتحيز فيه المتعجب منه أولا؟
ولم يقع في القرآن صيغة التعجب إلا قوله: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} وقوله : {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} و{يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا أَغَرَّكَ} في قراءة من زاد الهمزة
ثم قال المحققون: التعجب مصروف إلى المخاطب ولهذا تلطف الزمخشري فيعبر عنه بالتعجب ومجيء التعجب من الله كمجيء الدعاء منه والترجي وإنما هذا بالنظر إلى ما تفهمه العرب أي هؤلاء عندكم ممن يجب أن تقولوا لهم هذه وكذلك تفسير سيبويه

قوله تعالى: {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} قال: المعنى: اذهبا على رجائكما وطمعكما قال ابن الضائع: وهو حسن جدا
قلت: وذكر سيبويه أيضا قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} فقال: لا ينبغي أن تقول إنه دعاء ها هنا لأن الكلام بذلك واللفظ به قبيح ولكن العباد إنما كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون فكأنه -والله أعلم- قيل لهم: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و{وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} أي: هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم لأن هذا الكلام إنما يقال لصاحب الشر والهلكة فقيل: هؤلاء ممن دخل في الهلكة ووجب لهم هذا انتهى
ومنها: الأمر كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} {الْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ} فإن السياق يدل على أن الله تعالى أمر بذلك لا أنه خبر وإلا لزم الخلف في الخبر وسبق في المجاز

ومنها: النهي كقوله تعالى: {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}
ومنها: الوعد كقوله: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ}
ومنها: الوعيد كقوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
ومنها: الإنكار والتبكيت نحو: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ}
ومنها: الدعاء كقوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي : أعنا على عبادتك
وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرطا وجزاء كقوله: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} فظاهره خبر والمعنى: إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا
ومنه قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرحها بإحسان
ومنها: التمني وكلمته الموضوعة له "ليت" وقد تستعمل ثلاثة أحرف
أحدها: "هل" كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} حملت هل على إفادة التمني لعدم التصديق بوجود شفيع في ذلك المقام فيتولد التمني بمعونة قرينة الحال

والثاني: "لو" سواء كانت مع "وَدَّ " كقوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُوا} بالنصب أو لم تكن كقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} وقوله: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} {وْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ}
والثالث: "لعل" كقوله تعالى: {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ. أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ} في قراءة النصب واختلف: هل التمني خبر ومعناه النفي أو ليس بخبر ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب؟ قولان عن أهل العربية حكاهما ابن فارس في كتاب فقه العربية
والزمخشري بنى كلامه على أنه ليس بخبر واستشكل دخول التكذيب في جوابه وفي قوله تعالى: { لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ} إلى قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} وأجاب بتضمنه معنى العدة فدخله التكذيب

وقال ابن الضائع: التمني حقيقة لا يصح فيه الكذب وإنما يرد الكذب في التمني الذي يترجح عند صاحبه وقوعه فهو إذن وارد على ذلك الاعتقاد الذي هو ظن وهو خبر صحيح
قال: وليس المعنى في قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن ما تمنوا ليس بواقع لأنه ورد في معرض الذم لهم وليس في ذلك المعنى ذم بل التكذيب ورد على إخبارهم عن أنفسهم أنهم لا يكذبون وأنهم يؤمنون
ومنها: الترجي والفرق بينه وبين التمني أن الترجي لا يكون إلا في الممكنات والتمني يدخل المستحيلات
ومنها: النداء وهو طلب إقبال المدعو على الداعي بحرف مخصوص وإنما يصحب في الأكثر الأمر والنهي كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ}
وربما تقدمت جملة الأمر جملة النداء كقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}

وإذا جاءت جملة الخبر بعد النداء تتبعها جملة الأمر كما في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ}
وقد تجيء معه الجمل الاستفهامية والخبرية كقوله تعالى في الخبر: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ} وفي الاستفهام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ}
وهنا فائدتان:
إحداهما: قال الزمخشري رحمه الله: كل نداء في كتاب الله يعقبه فهم في الدين إما من ناحية الأوامر والنواهي التي عقدت بها سعادة الدارين وإما مواعظ وزواجر وقصص لهذا المعنى كل ذلك راجع إلى الدين الذي خلق الخلق لأجله وقامت السموات والأرض به فكان حق هذه أن تدرك بهذه الصيغة البليغة
الثانية: النداء إنما يكون للبعيد حقيقة أو حكما وفي قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً}
لطيفة : فإنه تعالى بين أنه كما ناداه ناجاه أيضا والنداء مخاطبة الأبعد والمناجاة مخاطبة الأقرب ولأجل هذه اللطيفة أخبر سبحانه عن مخاطبته لآدم وحواء بقوله: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ}

وفي موضع: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ} ثم لما حكى عنهما ملابسة المخالفة قال في وصف خطابه لهما: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} فأشعر هذا اللفظ بالبعد لأجل المخالفة كما أشعر اللفظ الأول بالقرب عند السلامة منها
وقد يستعمل النداء في غير معناه مجازا في مواضع:
الأول: الإغراء والتحذير وقد اجتمعا في قوله تعالى: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} والإغراء أمر معناه الترغيب والتحريض ولهذا خصوا به المخاطب
الثاني: الاختصاص وهوكالنداء إلا أنه لا حرف فيه
الثالث : التنبيه نحو: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} لأن حرف النداء يختص بالأسماء
وقال النحاس في قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَى} نداء مضاف والفائدة فيه أن معناه: هذا وقت حضور الويل وقال الفارسي في قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} معناه: أنه لو كانت الحسرة مما يصح نداه لكان هذا وقتها
وقد اختلف في أن النداء خبر أم لا قال أبو البقاء في شرح الإيضاح: ذهب الجميع إلى أن قولك: يا زيد ليس بخبر محتمل للتصديق والتكذيب إنما هو بمنزلة الإشارة والتصويت
واختلفوا في قولك: يا فاسق فالأكثرون على أنه ليس بخبر أيضا قال أبو علي

الفارسي: خبر لأنه تضمن نسبته للفسق
ومنها: الدعاء نحو: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}
قال سيبويه: هذا دعاء وأنكره ابن الطراوة لاستحالته هنا وجوابه أنه مصروف للخلق وإعلامهم بأنهم أهل لأن يدعى عليهم كما في الرجاء وغيره مما سبق
فائدة
ذكر الزمخشري أن الاستعطاف نحو تالله هل قام زيد قسم والصحيح أنه ليس بقسم لكونه خبرا
الاستخبار وهو الاستفهام
الثاني: الاستخبار وهو طلب خبر ما ليس عندك وهو بمعنى الاستفهام أي: طلب الفهم ومنهم من فرق بينهما بأن الاستخبار ما سبق أولا ولم يفهم حق الفهم فإذا سألت عنه ثانيا كان استفهاما حكاه ابن فارس في فقه العربية
ولكون الاستفهام طلب ما في الخارج أو تحصيله في الذهن لزم ألا يكون حقيقة

إلا إذا صدر من شاك مصدق بإمكان الإعلام فإن غير الشاك إذا استفهم يلزم تحصيل الحاصل وإذا لم يصدق بإمكان الإعلام انتفت فائدة الاستفهام
وفي الاستفهام فوائد
الأولى: قال بعض الأئمة: ما جاء على لفظ الاستفهام في القرآن فإنما يقع في خطاب الله تعالى على معنى أن المخاطب عنده علم ذلك الإثبات أو النفي حاصل فيستفهم عنه نفسه تخبره به إذ قد وضعه الله عندها فالإثبات كقوله تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً} والنفي كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ومعنى ذلك: أنه قد حصل لكم العلم بذلك تجدونه عندكم إذا استفهمتم أنفسكم عنه فإن الرب تعالى لا يستفهم خلقه عن شيء وإنما يستفهمهم ليقررهم ويذكرهم أنهم قد علموا حق ذلك الشيء فهذا أسلوب بديع انفرد به خطاب القرآن وهو في كلام البشر مختلف
الثانية: الاستفهام إذا بني عليه أمر قبل ذكر الجواب فهم ترتب ذلك الأمر على جوابه أي جواب كان لأن سبقه على الجواب يشعر بأن ذلك حال من يذكر في الجواب لئلا يكون إيراده قبله عبثا فيفيد حينئذ تعميما نحو: "من جاءك فأكرمَه" بالنصب فإنه لما قال قبل ذكر جواب الاستفهام "أكرمه" علم أنه يكرم من يقول المجيب: إنه جاء أي جاء كان وكذا حكم "من ذا جاءك أكرمْه" بالجزم

الثالثة: قد يخرج الاستفهام عن حقيقته بأن يقع ممن يعلم ويستغني عن طلب الإفهام
أقسام الاستفهام
وهو قسمان: بمعنى الخبر وبمعنى الإنشاء
الاستفهام بمعنى الخبر
الأول: بمعنى الخبر وهو ضربان: أحدهما: نفي والثاني: إثبات فالوارد للنفي يسمى استفهام إنكار والوارد للإثبات يسمى استفهام تقرير لأنه يطلب بالأول إنكار المخاطب وبالثاني إقراره به
استفهام الإنكار
فالأول: المعنى فيه على أن ما بعد الأداة منفي ولذلك تصحبه "إلا" كقوله تعالى: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} وقوله تعالى: {وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ}
ويعطف عليه المنفي كقوله تعالى: {فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ} أي: لا يهدي وهو كثير
ومنه: {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} أي: لست تنقذ من في النار
{أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}

{أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً}
وكقوله تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي: لا نؤمن
وقوله: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} أي: لا يكون هذا
وقوله تعالى: {أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا} أي: ما أنزل
وقوله تعالى: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي: ما شهدوا ذلك
وقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} أي: ليس ذلك إليك كما قال تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ}
وقوله تعالى: {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الأَوَّلِ} أي: لم نعي به
وهنا أمران
أحدهما: أن الإنكار قد يجيء لتعريف المخاطب أن ذلك المدعي ممتنع عليه وليس من قدرته كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} لأن إسماع الصم لا يدعيه أحد بل المعنى أن إسماعهم لا يمكن لأنهم بمنزلة الصم والعمي وإنما قدم الاسم في الآية ولم يقل: "أتسمع الصم" إشارة إلى إنكار موجه عن تقدير ظن منه عليه السلام أنه يختص بإسماع من به صمم وأنه ادعى القدرة على ذلك وهذا أبلغ من إنكار الفعل

وفيه دخول الاستفهام على المضارع فإذا قلت أتفعل أو أأنت تفعل احتمل وجهين:
أحدهما: إنكار وجود الفعل كقوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} والمعنى: لسنا بمثابة من يقع منه هذا الإلزام وإن عبرنا بفعل ذلك جل الله تعالى عن ذلك بل المعنى إنكار أصل الإلزام والثاني: قولك لمن يركب الخطر: أتذهب في غير طريق؟ انظر لنفسك واستبصر فإذا قدمت المفعول توجه الإنكار إلى كونه بمثابة أن يوقع به مثل ذلك الفعل كقوله: {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} وقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} المعنى: أغير الله بمثابة من يتخذ وليا
ومنه: {أَبَشَراً مِنَّا وَاحِداً نَتَّبِعُهُ} لأنهم بنوا كفرهم على أنه ليس بمثابة من يتبع صيغة المستقبل إما أن يكون للحال نحو: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا} أو للاستقبال نحو: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ}
الثاني: قد يصحب الإنكار التكذيب للتعريض بأن المخاطب ادعاه وقصد تكذيبه كقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنْثَى} {أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ}

وسواء كان زعمهم له صريحا مثل: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} أو التزاما مثل: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} فإنهم لما جزموا بذلك جزم من يشاهد خلق الملائكة كانوا كمن زعم أنه شهد خلقهم وتسمية هذا استفهام إنكار من أنكر إذا جحد وهو إما بمعنى: "لم يكن" كقوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} أو بمعنى: "لا يكون" نحو: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا}
والحاصل أن الإنكار قسمان إبطالي وحقيقي:
فالإبطالي: أن يكون ما بعدها غير واقع ومدعيه كاذب كما ذكرنا والحقيقي: يكون ما بعدها واقع وأن فاعله ملوم نحو: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} {غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} {أَإِفْكاً آلِهَةً} {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ} {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً}
استفهام التقرير
وأما الثاني: فهو استفهام التقرير والتقرير: حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر عنده قال أبو الفتح في الخاطريات: ولا يستعمل ذلك بـ "هل" وقال في قوله:

*جاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط*
و"هل" لا تقع تقريرا كما يقع غيرها مما هو للاستفهام
وقال الكندي: ذهب كثير من العلماء في قوله تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ} إلى أن "هل" تشارك الهمزة في معنى التقرير والتوبيخ إلا أني رأيت أبا علي أبى ذلك وهو معذور فإن ذلك من قبيل الإنكار ونقل الشيخ أبو حيان عن سيبويه أن استفهام التقرير لا يكون بـ "هل" إنما تستعمل فيه الهمزة ثم نقل عن بعضهم أن "هل" تأتي تقريرا في قوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ}
والكلام مع التقرير موجب ولذلك يعطف عليه صريح الموجب ويعطف على صريح الموجب فالأول: كقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى. وَوَجَدَكَ ضَالاً فَهَدَى} وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}

والثاني: كقوله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً} على ما قرره الجرجاني في النظم حيث جعلها مثل قوله: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ}
ويجب أن يلي الأداة الشيء الذي تقرر بها فتقول في تقرير الفعل: "أضربت زيدا" والفاعل نحو: "أأنت ضربت" أو المفعول "أزيدا ضربت" كما يجب في الاستفهام الحقيقي
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} يحتمل الاستفهام الحقيقي بأن يكونوا لم يعلموا أنه الفاعل والتقرير بأن يكونوا علموا ولا يكون استفهاما عن الفعل ولا تقريرا له لأنه لم يله ولأنه أجاب بالفاعل بقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ}
وجعل الزمخشري منه: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
وقيل: أراد التقرير بما بعد النفي لا التقرير بالنفي والأولى أن يجعل على الإنكار أي: ألم تعلم أيها المنكر للنسخ!
وحقيقة استفهام التقرير أنه استفهام إنكار والإنكار نفي وقد دخل على المنفي ونفي المنفي إثبات والذي يقرر عندك أن معنى التقرير الإثبات قول ابن السراج: فإذا أدخلت على "ليس" ألف الاستفهام كانت تقريرا ودخلها معنى الإيجاب فلم يحسن معها "أحد"

لأن أحدا إنما يجوز مع حقيقة النفي لا تقول: أليس أحد في الدار لأن المعنى يؤول إلى قولك: أحد في الدار وأحد لا تستعمل في الواجب
وأمثلته كثيرة كقوله تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} أي: أنا ربكم
وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى}
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}
{أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ}
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ} ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أينقص الرطب إذا جف" وقوله جرير:
*ألستم خير من ركب المطايا*
واعلم أن في جعلهم الآية الأولى من هذا النوع إشكالا لأنه لو خرج الكلام عن النفي لجاز أن يجاب بنعم وقد قيل: أنهم لو قالوا: "نعم" كفروا ولما حسن دخول الباء في الخبر ولو لم تفد لفظة الهمزة استفهاما لما استحق الجواب إذ لا سؤال حينئذ
والجواب يتوقف على مقدمه وهي أن الاستفهام إذا دخل على النفي يدخل بأحد وجهين:

إما أن يكون الاستفهام عن النفي هل وجد أم لا؟ فيبقى النفي على ما كان عليه أو للتقرير كقوله: ألم أحسن إليك وقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً}
فإن كان بالمعنى الأول لم يجز دخول نعم في جوابه إذا أردت إيجابه بل تدخل عليه بلى وإن كان بالمعنى الثاني وهو التقرير فللكلام حينئذ لفظ ومعنى فلفظه نفي داخل عليه الاستفهام ومعناه الإثبات فبالنظر إلى لفظه تجيبه ببلى وبالنظر إلى معناه وهو كونه إثباتا تجيبه بنعم
وقد أنكر عبد القاهر كون الهمزة للإيجاب لأن الاستفهام يخالف الواجب وقال: إنها إذا دخلت على "ما" أو "ليس" يكون تقريرا وتحقيقا فالتقرير: كقوله تعالى: {أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} {أَأَنْتَ فَعَلْتَ} واعلم أن هذا النوع يأتي على وجوه:
الأول: مجرد الإثبات كما ذكرنا
الثاني: الإثبات مع الافتخار كقوله تعالى عن فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ}

الثالث: الإثبات مع التوبيخ كقوله تعالى: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً} أي: هي واسعة فهلا هاجرتم فيها
الرابع: مع العتاب كقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قال ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين وما ألطف ما عاتب الله به خير خلقه بقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} ولم يتأدب الزمخشري بأدب الله تعالى في هذه الآية
الخامس: التبكيت كقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} هو تبكيت للنصارى فيما ادعوه كذا جعل السكاكي وغيره هذه الآية من نوع التقرير وفيه نظر لأن ذلك لم يقع منه السادس: التسوية وهي الداخلة على جملة يصح حلول المصدر محلها كقوله تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} أي: سواء عليهم الإنذار وعدمه مجردة للتسوية مضمحلا عنها معنى الاستفهام
ومعنى الاستواء فيه استواؤهما في علم المستفهم لأنه قد علم أنه أحد الأمرين كائن

إما الإنذار وإما عدمه ولكن لا يعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين
فإن قيل: الاستواء يعلم من لفظه سواء لا من الهمزة مع أنه لو علم منه لزم التكرار
قيل: هذا الاستواء غير ذلك الاستواء المستفاد من لفظة سواء وحاصله أنه كان الاستفهام عن مستويين فجرد عن الاستفهام وبقي الحديث عن المستويين ولا يكون ضرر في إدخال سواء عليه لتغايرهما لأن المعنى أن المستويين في العلم يستويان في عدم الإيمان وهذا -أعنى حذف مقدر واستعماله فيما بقي -كثير في كلام العرب كما في النداء فإنه لتخصيص المنادى وطلب إقباله فيحذف قيد الطلب ويستعمل في مطلق الاختصاص نحو: "اللهم اغفر لنا أيتها العصابة" فإنه ينسلخ عن معنى الكلمة لأن معناه مخصوص من بين سائر العصائب
ومنه قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا}
وقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ}
{أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ}
وتارة تكون التسوية مصرحا بها كما ذكرناه وتارة لا تكون كقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ}
السابع : التعظيم كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ}

الثامن: التهويل نحو: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}
وقوله: {مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} تفخيم للعذاب الذي يستعجلونه
التاسع: التسهيل والتخفيف كقوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ}
العاشر: التفجع نحو: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا}
الحادي عشر: التكثير نحو: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا}
الثاني عشر: الاسترشاد نحو: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} والظاهر أنهم استفهموا مسترشدين وإنما فرق بين العبارتين أدبا وقيلك هي هنا للتعجب
الاستفهام بمعنى الإنشاء
القسم الثاني : الاستفهام المراد به الإنشاء وهو على ضروب:

الأول: مجرد الطلب وهو الأمر كقوله تعالى: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: اذكروا
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ} أي: أسلموا
وقوله: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي: أحبوا
وقوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي: قاتلوا
وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}
وقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} انتهوا ولهذا قال عمر رضي الله عنه: "انتهينا"
وجعل بعضهم منه قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وقوله تعالى: {أَتَصْبِرُونَ} وقال ابن عطية والزمخشري: المعنى أتصبرون أم لا تصبرون؟ والجرجاني في النظم على حذف مضاف أي: لنعلم أتصبرون
الثاني : النهي كقوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} أي: لا يغرك
وقوله في سورة التوبة: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ} بدليل قوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ}
الثالث: التحذير كقوله: {أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ} أي: قدرنا عليهم فنقدر عليكم

الرابع: التذكير كقوله تعالى: {قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ}
وجعل بعضهم منه: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى} {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}
الخامس: التنبيه وهو من أقسام الأمر كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ}
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} والمعنى في كل ذلك: انظر بفكرك في هذه الأمور وتنبه
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} حكاه صاحب "الكافي" عن الخليل ولذلك رفع الفعل ولم ينصبه
وجعل منه بعضهم: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} للتنبيه على الضلال
وقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}

السادس: الترغيب كقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ}
السابع: التمني كقوله: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ}
{أََنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} قال العزيزي في تفسيره: أي كيف وما أعجب معاينة الإحياء!
الثامن: الدعاء وهو كالنهي إلا أنه من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ} وقوله: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} وهم لم يستفهموا لأن الله قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} وقيل: المعنى إنك ستجعل وشبهه أبو عبيدة بقول الرجل لغلامه وهو يضربه: ألست الفاعل كذا وقيل: بل هو تعجب وضُعِّف
وقال النحاس: الأولى ما قاله ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما ولا مخالف لهما:

أن الله تعالى لما قال: {نِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} قالوا: وما ذاك الخليفة! يكون له ذرية يفسدون ويقتل بعضهم بعضا!
وقيل: المعنى أتجعلهم فيها أم تجعلنا وقيل: المعنى تجعلهم وحالنا هذه أم يتغير
التاسع والعاشر: العرض والتحضيض والفرق بينهما: الأول طلب برفق والثاني بشق فالأول: كقوله تعالى: {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ} والثاني: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ}
ومن الثاني: {أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} المعنى: ائتهم وأمرهم بالاتقاء
الحادي عشر: الاستبطاء كقوله: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بدليل: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}
ومنه ما قال صاحب الإيضاح البياني: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}
وقال الجرجاني: في الآية تقديم وتأخير أي: "حتى يقول الرسول: ألا إن

نصر الله قريب والذين آمنوا: متى نصر الله" وهو حسن
الثاني عشر: الإياس {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}
الثالث عشر: الإيناس نحو: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}
وقال ابن فارس: المراد به الإفهام فإن الله تعالى قد علم أن لها أمرا قد خفي على موسى عليه السلام فأعلم من حالها ما لم يعلم
وقيل: هو للتقرير فيعرف ما في يده حتى لا ينفر إذا انقلبت حية
الرابع عشر: التهكم والاستهزاء {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} {أَلا تَأْكُلُونَ. مَا لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}
الخامس عشر: التحقير كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} ومنه ما حكى صاحب الكتاب: من أنت زيدا ؟على معنى من أنت تذكر زيدا!

السادس عشر: التعجب نحو: {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ}
{كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ}
ومنهم من جعله للتنبيه
السابع عشر: الاستبعاد كقوله: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} أي: يستبعد ذلك منهم بعد أن جاءهم الرسول ثم تولوا
الثامن عشر: التوبيخ كقوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ}
{لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ}
{أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ} ولا تدخل همزة التوبيخ إلا على فعل قبيح أو ما يترتب عليه فعل قبيح
الفائدة الرابعة: قد يجتمع الاستفهام الواحد للإنكار والتقرير كقوله: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ }أي: ليس الكفار آمنين والذين آمنوا أحق بالآمن ولما كان أكثر مواقع التقرير دون الإنكار قال: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}

وقد يحتملهما كقوله: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً}
ويحتمل أنه استفهام تقرير وأنه طلب منهم أن يقروا بما عندهم تقرير ذلك ولهذا قال مجاهد: التقدير "لا" فإنهم لما استفهموا استفهام تقرير بما لا جواب له إلا أن يقولوا "لا" جعلوا كأنهم قالوا وهو قول الفارسي والزمخشري
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التوبيخ على محبتهم لأكل لحم أخيهم فيكون ميتة والمراد محبتهم له غيبته على سبيل المجاز و{فَكَرِهْتُمُوهُ} بمعنى الأمر أي اكرهوه
ويحتمل أن يكون استفهام إنكار بمعنى التكذيب أنهم لما كانت حالهم حال من يدعي محبة أكل لحم أخيه نسب ذلك إليهم وكذبوا فيه فيكون فكرهتموه
الخامسة: إذا خرج الاستفهام عن حقيقته فإن أريد التقرير ونحوه لم يحتج إلى معادل كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فإن معناه التقرير
وقال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المحض والمعادل على قول جماعة أم يريدون وقيل أم منقطعة فالمعادل عندهم محذوف أي أم علمتم وهذا كله على أن القصد مخاطبة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخاطبة أمته وأما إن كان هو المخاطب وحده فالمعادل محذوف لا غير وكلا القولين مروي انتهى
وما قاله غير ظاهر والاستفهام هنا للتقرير فيستغنى عن المعادل أما إذا كان على حقيقته فلا بد من تقدير المعادل كقوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: كمن ينعم في الجنة؟

وقوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} أي: كمن هداه الله بدليل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} التقدير: ذهبت نفسك عليهم حسرات بدليل: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}
وقد جاء في التنزيل موضع صرح فيه بهذا الخبر وحذف المبتدأ على العكس مما نحن فيه وهو قوله تعالى: {أَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} أي: أكمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار كمن هو خالد في النار على أحد الأوجه
وجاء مصرحا بهما على الأصل في قوله تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ}
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ}
السادسة: استفهام الإنكار لا يكون إلا على ماض وخالف في ذلك صاحب الأقصى القريب وقال: قد يكون عن مستقبل كقوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وقوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} قال: أنكر أن حكم الجاهلية مما يبغى لحقارته وأنكر عليهم سلب العزة عن الله تعالى وهو منكر في الماضي والحال والاستقبال
وهذا الذي قاله مخالف لإجماع البيانيين ولا دليل فيما ذكره بل الاستفهام في الآيتين عن ماض ودخله الاستقبال تغليبا لعدم اختصاص المنكر بزمان ولا يشهد له قوله

تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} لأن الاستبدال وهو طلب البدل وقع ماضيا ولا: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} وإن كانت أن تخلص المضارع للاستقبال لأنه كلام ملموح به جانب المعنى وقد ذكر ابن جني في التنبيه أن الإعراب قد يرد على خلاف ما عليه المعنى
السابعة: هذه الأنواع من خروج الاستفهام عن حقيقته في النفي هل تقول: إن معنى الاستفهام فيه موجود وانضم إليه معنى أخر أو تجرد عن الاستفهام بالكلية؟ لا ينبغي أن يطلق أحد الأمرين بل منه ما تجرد كما في التسوية ومنه ما يبقى ومنه ما يحتمل ويحتمل ويعرف ذلك بالتأمل وكذلك الأنواع المذكورة في الإثبات وهل المراد بالتقرير الحكم بثبوته فيكون خبرا محضا أو أن المراد طلب إقرار المخاطب به مع كون السائل يعلم فهو استفهام تقرير المخاطب أي يطلب أن يكون مقررا به وفي كلام النحاة والبيانيين كل من القولين وقد سبق الإشارة إليه
الثامنة: الحروف الموضوعة للاستفهام ثلاثة: الهمزة وهل وأم وأما غيرها مما يستفهم به كمن وما ومتى وأين وأنى وكيف وكم وأيان فأسماء استفهام استفهم بها نيابة عن الهمزة وهي تنقسم إلى ما يختص بطلب التصديق باعتبار الواقع كهل وأم المنقطعة وما يختص بطلب التصور كأم المتصلة وما لا يختص كالهمزة
أحكام اختصت بها همزة الاستفهام
ولكون الهمزة أم الباب اختصت بأحكام لفظية ومعنوية

فمنها: كون الهمزة لا يستفهم بها حتى يهجس في النفس إثبات ما يستفهم عنه بخلاف "هل" فإنه لا ترجح عنده بنفي ولا إثبات حكاه الشيخ أبو حيان عن بعضهم
ومنها: اختصاصها باستفهام التقرير وقد سبق عن سيبويه وغيره أن التقرير لا يكون بـ "هل" والخلاف فيه
وقال الشيخ أبو حيان: إن طلب بالاستفهام تقرير أو توبيخ أو إنكار أو تعجب كان بالهمزة دون "هل" وإن أريد الجحد كان بهل ولا يكون بالهمزة
ومنها: أنها تستعمل لإنكار إثبات ما يقع بعدها كقولك: أتضرب زيدا وهو أخوك قال تعالى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} ولا تقع "هل" هذا الموقع وأما قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ} فليس منه لأن هذا نفي له من أصله والممنوع من إنكار إثبات ما وقع بعدها قاله ابن الحاجب
ومنها: أنها يقع الاسم منصوبا بعدها بتقدير ناصب أو مرفوعا بتقدير رافع يفسره ما بعده كقولك: أزيدا ضرب وأزيد قام ولا تقول: هل زيدا ضربت ولا هل زيد قام إلا على ضعف
وإن شئت فقل: ليس في أدوات الاستفهام ما إذا اجتمع بعده الاسم والفعل بليه الاسم في فصيح الكلام إلا الهمزة فتقول: أزيد قام ولا تقول: هل زيد قام إلا في ضرورة بل الفصيح هل قام زيد ومنها أنها تقع مع أم المتصلة ولا تقع مع هل وأما المنقطعة فتقع فيهما

جميعا فإذا قلت: أزيد عندك أم عمرو فهذا الموضع لا تقع فيه هل ما لم تقصد إلى المنقطعة ذكره ابن الحاجب
ومنها: أنها تدخل على الشرط تقول: أإن أكرمتني أكرمتك وأإن تخرج أخرج معك أإن تضرب أضرب؟ ولا تقول: هل إن تخرج أخرج معك؟
ومنها: جواز حذفها كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} وقوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} في أحد الأقوال وقراءة ابن محيصن: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ}
ومنها: زعم ابن الطراوة أنها لا تكون أبدا إلا معادلة أو في حكمها بخلاف غيرها فتقول: أقام زيد أم قعد؟ ويجوز ألا يذكر المعادل لأنه معلوم من ذكر الضد
ورد عليه الصفار وقال: لا فرق بينها وبين غيرها فإنك إذا قلت: هل قام زيد؟ فالمعنى هل قام أم لم يقم؟ لأن السائل إنما يطلب اليقين وذلك مطرد في جميع أدوات الاستفهام قال: وأما قوله: إنه عزيز في كلامهم لا يأتون لها بمعادل فخطأ بل هو أكثر من أن يحصر قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى} {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا} وهو كثير جدا

ومنها: تقديمها على الواو وغيرها من حروف العطف فتقول: أفلم أكرمك؟ أولم أحسن إليك؟ قال الله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} وقال تعالى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً} وقال تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} فتقدم الهمزة على حروف العطف الواو والفاء وثم وكان القياس تأخيرها عن العاطف فيقال: فألم أكرمك؟ وألم أحسن إليك؟ كما تقدم على سائر أدوات الاستفهام نحو قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} وقوله تعالى: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} وقوله تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} فلا يجوز أن يؤخر العاطف عن شيء من هذه الأدوات لأن أدوات الاستفهام جزء من جملة الاستفهام والعاطف لا يقدم عليه جزء من المعطوف وإنما خولف هذا في الهمزة لأنها أصل أدوات الاستفهام فأرادوا تقديمها تنبيها على أنها الأصل في الاستفهام لأن الاستفهام له صدر الكلام
والزمخشري اضطرب كلامه فتارة يجعل الهمزة في مثل هذا داخله على محذوف عطف عليه الجملة التي بعدها فيقدر بينهما فعلا محذوفا تعطف الفاء عليه ما بعدها وتارة يجعلها متقدمة على العاطف كما ذكرناه وهو الأولى
وقد رد عليه في الأول بأن ثم مواضع لا يمكن فيها تقدير فعل قبلها كقوله تعالى: {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ} {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ}

وقال ابن خطيب زَمَلُكا: الأوجه أن يقدر محذوف بعد الهمزة قبل الفاء تكون الفاء عاطفة عليه ففي مثل قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ } لو صرح به لقيل: "أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم فتخالفوا سنن اتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على ملك أنبيائهم بعد موتهم"؟ وهذا مذهب الزمخشري
فائدة
زعم ابن سيده في كلامه على إثبات الجمل أن كل فعل يستفهم عنه ولا يكون إلا مستقبلا
ورد عليه الأعلم وقال: هذا باطل ولم يمنع أحد: هل قام زيد أمس؟ وهل أنت قائم أمس؟ وقد قال تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} فهذا كله ماض غير آت
الشرط
الثالث: الشرط ويتعلق به قواعد
القاعدة الأولى : المجازاة إنما تنعقد بين جملتين:

أولاهما: فعلية لتلائم الشرط مثل قوله تعالى: {يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ} {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ} {استقر اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ} {رِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} {يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً}
وثانيهما: قد تكون اسمية وقد تكون فعلية جازمة وغير جازمة أو ظرفية أو شرطية كما يقال: {فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} {شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} {فَأْتِ بِآيَةٍ} {فَسَوْفَ تَرَانِي} {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ}
فإذا جمع بينهما وبين الشرط اتحدتا جملة واحدة نحو قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ} وقوله سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} وقوله: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا} وقوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} وقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} وقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} فالأولى من جملة المجازاة تسمى شرطا والثانية تسمى جزاء ويسمي المناطقة الأول مقدما والثاني تاليا
فإذا انحل الرباط الواصل بين طرفي المجازاة عادة الكلام جملتين كما كان

فإن قيل: فمن أي أنواع الكلام تكون هذه الجملة المنتظمة من الجملتين
قلنا: قال صاحب المستوفى: العبرة في هذا بالتالي إن كان التالي قبل الانتظام جازما كان هذه الشرطية جازمة -أعني خبرا محضا- ولذلك جاز أن توصل بها الموصولات كما في قوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} وإن لم يكن جازما لم تكن جازمة بل إن كان التالي أمرا فهي في عداد الأمر كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} وإن كانت رجاء فهي في عداد الرجاء كقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} أي: فهذا التسويف بالنسبة إلى المخاطب فإن جعلت سوف بمعنى أمكن كان الكلام خبرا صرفا فأما الفاء التي تلحق التالي معقبة فللاحتياج إليها حيث لا يمكن أن يرتبط التالي بذاته ارتباطا وذلك إن كان افتتح بغير الفعل كقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} وقوله سبحانه: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} لأن الاسم لا يدل على الزمان فيجازى به
وكذلك الحرف إن كان مفتتحا بالأمر كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لأن الأمر لا يناسب معناه الشرط فإن كان مفتتحا بفعل ماض أو مستقبل ارتبط بذاته نحو قولك: إن جئتني أكرمتك ونحو قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} وكذا قوله: {وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا} لأن

هذه كالجزء من الفعل وتخطاها العامل وليست كـ "إن" في قوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً}
فإن قيل: فما الوجه في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وقوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ}
قلنا الأظهر أن يكون كل واحد منهما محمولا على الاسم كما أن التقدير "فأنتما قد صغت قلوبكما" و"فهو ينتقم الله منه" يدلك على هذا أن صغت لو جعل نفسه الجزاء للزم أن يكتسب من الشرط معنى الاستقبال وهذا غير مسوغ هنا ولو جاز لجاز أن تقول: أنتما إن تتوبا إلى الله صغت أو فصغت قلوبكما لكن المعنى: إن تتوبا فبعد صغو من قلوبكما ليتصور فيه معنى الاستقبال مع بقاء دلالة الفعل على الممكن وأن ينتقم لو جعل وحده جزاء لم يدل على تكرار الفعل كما هو الآن والله أعلم بما أراد
الثانية: أصل الشرط والجزاء أن يتوقف الثاني على الأول بمعنى أن الشرط إنما يستحق جوابه بوقوعه هو في نفسه كقولك: إن زرتني أحسنت إليك فالإحسان إنما استحق بالزيارة وقولك: إن شكرتني زرتك فالزيارة إنما استحقت بالشكر هذا هو القاعدة
وقد أورد على هذا آيات كريمات
منها قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وهم عباده عذبهم أو رحمهم

وقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وهو العزيز الحكيم غفر لهم أو لم يغفر لهم وقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} وصغو القلوب هنا لأمر قد وقع فليس بمتوقف على ثبوته
والجواب أن هذه في الحقيقة ليست أجوبة وإنما جاءت عن الأجوبة المحذوفة لكونها أسبابا لها
فقوله: {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} الجواب في الحقيقة: فتحكم فيمن يحق لك التحكم فيه وذكر العبودية التي هي سبب القدرة
وقوله: {وَإِنْ تَغْفِرْ} فالجواب: فأنت متفضل عليهم بألا تجازيهم بذنوبهم فكمالك غي مفتقر إلى شيء فإنك أنت العزيز الحكيم
وقال صاحب المستوفى: اعلم أن المجازاة لا يجب فيها أن يكون الجزاء موقوفا على الشرط أبدا ولا أن يكون الشرط موقوفا على الجزاء أبدا بحيث يمكن وجوده ولا أن تكون نسبة الشرط دائما إلى الجزاء نسبة السبب إلى المسبب بل الواجب فيها أن يكون الشرط بحيث إذا فرض حاصلا لزم مع حصوله حصول الجزاء سواء كان الجزاء قد يقع لا من جهة وقوع الشرط كقول الطبيب من استحم بالماء البارد احتقنت الحرارة باطن حسده لأن احتقان الحرارة قد يكون لا عن ذلك أو لم يكن كذلك كقولك: إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجودا
وسواء كان الشرط ممكنا في نفسه كالأمثلة السابقة أو مستحيلا كما في قوله تعالى:

{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}
وسواء كان الشرط سببا في الجزاء ووصلة إليه كقوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} أو كان الأمر بالعكس كقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} أو كان لا هذا ولا ذاك فلا يقع إلا مجرد الدلالة على اقتران أحدهما بالآخر كقوله تعالى: {وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً} إذ لا يجوز أن تكون الدعوة سببا للضلال ومفضية إليه ولا أن يكون الضلال مفضيا إلى الدعوة وقد يمكن أن يحمل على هذا قوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} وعلى هذا ما يكون من باب قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} فإن التأويل: إن يمسسكم قرح فمع اعتبار قرح قد مسهم قبل والله أعلم بمراده
الثالثة: أنه لا يتعلق إلا بمستقبل فإن كان ماضي اللفظ كان مستقبل المعنى كقولك إن مت على اإسلام دخلت الجنة ثم للنحاة فيه تقديران:
أحدهما: أن الفعل يغير لفظا لا معنى فكأن الأصل إن تمت مسلما تدخل الجنة فغير لفظ المضارع إلى الماضي تنزيلا له منزلة المحقق
والثاني: أنه تغير معنى وإن حرف الشرط لما دخل عليه قلب معناه إلى الاستقبال وبقي لفظه على حاله

والأول أسهل لأن تغيير اللفظ أسهل من تغيير المعنى
وذهب المبرد إلى أن فعل الشرط إذا كان لفظ كان بقي على حاله من المضي لأن كان جردت عنده للدلالة على الزمن الماضي فلم تغيرها أدوات الشرط وقال إن كان مخالفة في هذا الحكم لسائر الأفعال وجعل منه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} والجمهور على المنع وتأولوا ذلك ثم اختلفوا
فقال ابن عصفور والشلوبين وغيرهما: إن حرف الشرط دخل على فعل مستقبل محذوف أي إن أكن كنت قلته أي إن أكن فيما يستقبل موصوفا بأني كنت قلته فقد علمته ففعل الشرط محذوف مع هذا وليست "كان" المذكورة بعدها هي فعل الشرط
قال ابن الضائع: وهذا تكلف لا يحتاج إليه بل {كُنْتُ} بعد {إِنْ} مقلوبة المعنى إلى الاستقبال ومعنى: {إِنْ كُنْتُ} إن أكن فهذه التي بعدها هي التي يراد بها الاستقبال لا أخرى محذوفة وأبطلوا مذهب المبرد بأن كان بعد أداة الشرط في غير هذا الموضع قد جاءت مرادا بها الاستقبال كقوله تعالى: {وإن وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا}
وقد نبه في "التسهيل" في باب الجوازم على أن فعل الشرط لا يكون إلا مستقبل المعنى واختار في كان مذهب الجمهور إذ قال ولا يكون الشرط غير مستقبل المعنى بلفظ كان أو غيرها إلا مؤولا

واستدرك عليه "لو" و"لما" الشرطيتين فإن الفعل بعدهما لا يكون إلا ماضيا فتعين استثناؤه من قوله: لا يكون إلا مستقبل المعنى
وأما قوله تعالى: {إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى {إِنْ وَهَبَتْ} فوقع فيها "أحللنا" المنطوق به أو المقدر على القولين جواب الشرط مع كون الإحلال قديما فهو ماض وجوابه أن المراد: "إن وهبت فقد حلت" فجواب الشرط حقيقة الحل المفهوم من الإحلال لا الإحلال نفسه وهذا كما أن الظرف من قولك: "قم غدا" ليس هو لفعل الأمر بل للقيام المفهوم منه
وقال البيانيون: يجيء فعل الشرط ماضي اللفظ لأسباب
منها: إيهام جعل غير الحاصل كالحاصل كقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً}
ومنها: إظهار الرغبة من المتكلم في وقوعه كقولهم: إن ظفرت بحسن العاقبة فذاك وعليه قوله تعالى: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} أي: امتناعا من الزنا جيء بلفظ الماضي ولم يقل يردن إظهارا لتوفير رضا الله ورغبة في إرادتهن التحصين
ومنها: التعريض بأن يخاطب واحدا ومراده غيره كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ}

الرابعة: جواب الشرط أصله الفعل المستقبل وقد يقع ماضيا لا على أنه جواب في الحقيقة نحو: إن أكرمتك فقد أكرمتني اكتفاء بالموجود عن المعدوم
ومثله قوله تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} ومس القرح قد وقع بهم والمعنى: إن يؤلمكم ما نزل بكم فيؤلمهم ما وقع فالمقصود ذكر الألم الواقع لجميعهم فوقع الشرط والجزاء على الألم وأما قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} فعلى وقوع الماضي موقع المستقبل فيهما دليله قوله تعالى: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} تكن قد علمته وهو عدول إلى الجواب إلى ما هو أبدع منه كما سبق
وأما قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} فالمعنى- والله أعلم-: ما أنت بمصدق لنا ولو ظهرت لك براءتنا بتفضيلك إياه علينا وقد أتوه بدلائل كاذبة ولم يصدقهم وقرّعوه بقولهم: {إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} وإجماعهم على إرادة قتله ثم رميهم له في الجب أكبر من قولهم: {وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} عندك
الخامسة: أدوات الشرط: حروف وهي إن وأسماء مضمّنة معناها ثم منها ما ليس بظرف كمن وما وأي ومهما وأسماء هي ظروف أين وأينما ومتى وحيثما وإذ ما

وأقواها دلالة على الشرط دلالة "إن" لبساطتها ولهذا كانت أم الباب
وما سواها فمركب من معنى "إن" وزيادة معه فمن معناه كل في حكم إن وما معناه كل شيء إن وأينما وحيثما يدلان على المكان وعلى إن وإذ ما ومتى يدلان على الشرط والزمان
وقد تدخل "ما" على "إن" وهي أبلغ في الشرط من "إن" ولذلك تتلقى بالنون المبني عليها المضارع نحو: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ} وقوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا}
ومما ضمن معنى الشرط "إذا" وهي كـ "إن" ويفترقان في أن "إن" تستعمل في المحتمل المشكوك فيه ولهذا يقبح: إن احْمَرّ البسر كان كذا وإن انتصف النهار آتك وتكون "إذا" للجزم فوقوعه إما تحقيقا نحو: إذا أطلعت الشمس كان كذا أو اعتبارا كنا سنذكره
قال ابن الضائع: ولذلك إذا قيل: "إذا احمر البسر فأنتِ طالق" وقع الطلاق في الحال عند مالك لأنه شيء لابد منه وإنما يتوقف على السبب الذي قد يكون وقد لا يكون وهذا هو الأصل فيهما
وقد تستعمل "إن" في مقام الجزم لأسباب:
منها: أن تأتي على طريقة وضع الشرطي المتصل الذي يوضع شرطه تقديرا لتبيين

مشروطه تحقيقا كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ} وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ} وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ}
ومنها: أن تأتي على طريق تبيين الحال على وجه يأنس به المخاطب وإظهارا للتناصف في الكلام كقوله تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي}
ومنها: تصوير أن المقام لا يصلح إلا بمجرد فرض الشرط كفرض الشيء المستحيل كقوله تعالى: {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} والضمير للأصنام ويحتمل منه ما سبق فيه قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ}
ومنها: لقصد التوبيخ والتجهيل في ارتكاب مدلول الشرط وانه واجب الانتفاء حقيق ألا يكون كقوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ} فيمن يكسر "إِنَّ" فاستعملت "إن" في مقام الجزم بكونهم "مسرفين" لتصور أن الإسراف ينبغي أن يكون منتفيا فأجراه لذلك مجرى المحتمل المشكوك
ومنها: تنبيه المخاطب وتهييجه كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} والمعنى: عبادتكم لله تستلزم شكركم له فإن كنتم ملتزمين عبادته فكلوا من رزقه واشكروه وهذا كثيرا ما يورد في الحجاج والإلزام تقول: "إن كان لقاء الله حقا فاستعد له"
وكذا قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ}

ومنها: التغليب كقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} فاستعمل "إن" مع تحقق الارتياب منهم لأن الكل لم يكونوا مرتابين فغلب غير المرتابين منهم على المرتابين لأن صدور الارتياب من غير الارتياب مشكوك في كونه فلذلك استعمل "إن" على حد قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ }
واعلم أن "إن" لأجل أنها لا تستعمل إلا في المعاني المحتملة كان جوابها معلقا على ما يحتمل أن يكون وألا يكون فيختار فيه أن يكون بلفظ المضارع المحتمل للوقوع وعدمه ليطابق اللفظ والمعنى فإن عدل عن المضارع إلى الماضي لم يعدل إلا لنكتة كقوله تعالى: {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} فأتى الجواب مضارعا وهو "يكونوا" وما عطف عليه وهو "يبسطوا" مضارعا أيضا وأنه قد عطف عليه "ودوا" بلفظ الماضي وكان قياسه المضارع لأن المعطوف على الجواب جواب ولكنه لما لم يحتمل ودادتهم لكفرهم من الشك فيها ما يحتمله أنهم إذا ثقفوهم صاروا لهم أعداء وبسطوا أيديهم إليهم بالقتل وألسنتهم بالشتم أتى فيه بلفظ الماضي لأن ودادتهم في ذلك مقطوع بها وكونهم أعداء وباسطي الأيدي والألسن بالسوء مشكوك لاحتمال أن يعرض ما يصدهم عنه فلم يتحقق وقوعه
وأما "إذا" فلما كانت في المعاني المحققة غلب لفظ الماضي معها لكونه أدل على الوقوع باعتبار لفظه في المضارع قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ

تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} بلفظ الماضي مع "إذا" في جواب الحسنة حيث أريد مطلق الحسنة لا نوع منها ولهذا عرفت تعريف العهد ولم تنكر كما نكر المراد به نوع منها في قوله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} وكما نكر الفعل حيث أريد به نوع في قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ} وبلفظ المضارع مع إن في جانب السيئة وتنكيرها بقصد النوع
وقال تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} لفظ الماضي مع "إذا" والمضارع مع "إن" إلا أنه نكرت الرحمة ليطابق معنى الإذاقة بقصد نوع منها والسيئة بقصد النوع أيضا
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} أتى بـ "إذا" لما كان مس الضر لهم في البحر محققا بخلاف قوله تعالى: {لا يَسْأَمُ الْأِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوطٌ} فإنه لم يقيد مس الشر ها هنا بل أطلقه
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً}فإن اليأس إنما حصل عند تحقق مس الضر له فكان الإتيان بإذا أدل على المقصود من إن بخلاف قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} فإنه لقلة صبره وضعف احتماله في موقع الشر أعرض والحال في الدعاء فإذا تحقق وقوعه كان يئوسا وأما قوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} مع أن الهلاك محقق لكن جهل وقته فلذلك جيء بإن

ومثله قوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ} فأتى بإن المقتضية للشك والموت أمر محقق ولكن وقته معلوم فأورد مورد المشكوك فيه المتردد بين الموت والقتل
وأما قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} مع أن مشيئة الله محققة فجاء على تعليم الناس كيف يقولون وهم يقولون في كل شيء على جهة الاتباع لقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً. إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} فيقول الرجل في كل شيء: إن شاء الله على مخبر به مقطوعا أو غير مقطوع وذلك سنة متبعة
ومثله قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" ويحتمل أن تكون للإبهام في وقت اللحوق متى يكون
تنبيه: سكت البيانيون عما عدا "إذا" و"إن" وألحق صاحب البسيط وابن الحاجب "متى" بأن قال: لا تقول: متى طلعت الشمس؟ مما علم أنه كائن بل تقول: متى تخرج أخرج وقال الزمخشري في الفصل بين "متى" و"إذ": إن متى للوقت المبهم وإذا للمعين لأنهما ظرفا زمان ولإبهام متى جزم بها دون إذا
السادسة: قد يعلق الشرط بفعل محال يستلزمه محال آخر وتصدق الشرطية دون

مفرديها أما صدقها فلاستلزام المحال وأما كذب مفرديها فلاستحالتهما
وعليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}
وقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}
وقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ} الآية
وفائدة الربط بالشرط في مثل هذا أمران: أحدهما: بيان استلزام إحدى القضيتين للأخرى والثاني: أن اللازم منتف فالملزوم كذلك
وقد تبين بهذا أن الشرط يعلق به المحقق الثبوت والممتنع الثبوت والممكن الثبوت
السابعة: الاستفهام إذا دخل على الشرط كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} وقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ونظائره فالهمزة في موضعها ودخولها على أداة الشرط والفعل الثاني الذي هو جزاء الشرط ليس جزاء للشرط وإنما هو المستفهم عنه والهمزة داخلة عليه تقديرا فينوى به التقديم وحينئذ فلا يكون جوابا بل الجواب محذوف والتقدير عنده: "أأنقلبتم على أعقابكم إن مات محمد"؟ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته
ويقول يونس: قال كثير من النحويين إنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها لأن الغرض إنما هو: "أتنقلبون إن مات محمد"
وقال أبو البقاء: قال يونس: الهمزة في مثل هذا أحقها أن تدخل على جواب

الشرط تقديره: "أتنقلبون على أعقابكم إن مات محمد" لأن الغرض التنبيه أو التوبيخ على هذا الفعل المشروط ومذهب سيبويه الحق لوجهين: أحدهما أنك لو قدمت الجواب لم يكن للفاء وجه إذ لا يصح أن تقول: أتزورني فإن زرتك ومنه قوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} والثاني : أن الهمزة لها صدر الكلام وإن لها صدر الكلام فقد وقعا في موضعهما والمعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجواب لأنهما كالشيء الواحد انتهى
وقد رد النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} لا يجوز في {فَهُمُ}أ ن ينوى به التقديم لأنه يصير التقدير: أفهم الخالدون فإن مت؟ وذلك لا يجوز لئلا يبقى الشرط بلا جواب إذ لا يتصور أن يكون الجواب محذوفا يدل عليه ما قبله لأن الفاء المتصلة بإن تمنعه من ذلك ولهذا يقولون: أنت ظالم إن فعلت ولا يقولون: أنت ظالم فإن فعلت فدل ذلك على أن أدوات الاستفهام إنما دخلت لفظا وتقديرا على جملة الشرط والجواب
الثامنة: إذا تقدم أداة الشرط جملة تصلح أن تكون جزاء ثم ذكر فعل الشرط ولم يذكر له جواب نحو: أقوم إن قمت وأنت طالق إن دخلت الدار فلا تقدير عند الكوفيين بل المقدم هو جواب وعند البصريين دليل الجواب
والصحيح هو الأول لأن الفاء لا تدخل عليه ولو كان جوابا لدخلت ولأنه لو كان مقدما من تأخير لما افترق المعنيان وهما مفترقان ففي التقدم بني الكلام على الخبر

ثم طرأ التوقف وفي التأخير بني الكلام من أوله على الشرط كذا قاله ابن السراج وتابعه ابن مالك وغيره ونوزعا في ذلك بل مع التقديم الكلام مبني على الشرط كما لو قال: له عليَّ عشرة إلا درهما فإنه لم يقر بالعشرة ثم أنكر منها درهما ولو كان كذلك لم ينفعه الاستثناء ثم زعم ابن السراج أن ذلك لا يقع إلا في الضرورة وهو مردود بوقوعه في القرآن كقوله: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}
التاسعة: إذا دخل على أداة الشرط واو الحال لم يحتج إلى جواب نحو: أحسن إلى زيد وإن كفرك واشكره وإن أساء إليك أي أحسن إليه كافرا لك واشكره مسيئا إليك
فإن أجيب الشرط كانت الواو عاطفة لا للحال نحو: أحسن إليه وإن كفرك فلا تدع الإحسان إليه واشكره وان أساء إليك فأقم على شكره ولو كانت الواو هنا للحال لم يكن هناك جواب
قال ابن جني: وإنما كان كذلك لأن الحال فضلة وأصل وضع الفضلة أن تكون مفردا كالظرف والمصدر والمفعول به فلما كان كذلك لم يجب الشرط إذا وقع موقع الحال لأنه لو أجيب لصار جملة والحال إنما هي فضلة فالمفرد أولى بها من الجملة والشرط وإن كان جملة فإنه يجري عندهم مجرى الآحاد من حيث كان محتاجا إلى جوابه احتياج المبتدأ إلى الخبر

العاشرة: الشرط والجزاء لابد أن يتغاير لفظا وقد يتحدان فيحتاج إلى التأويل كقوله: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ} والآية التي تليها: {مَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً} ثم قال: {فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} فقيل على حذف الفعل أي من أراد التوبة فإن التوبة معرضة له لا يحول بينه بينها حائل ومثله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي: أردت ويدل لهذا تأكيد التوبة بالمصدر
وأما قوله تعالى: {جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} فقال الزمخشري: يجوز أن يكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره على أقامة الظاهر مقام المضمر والأصل جزاؤه من وجد في رحلة فهو هو فوضع الجزاء موضع هو
وقوله: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي} قدره ابن عباس: "من يرد الله هدايته" فلا يتحد الشرط والجزاء ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} وقد سبق فيها أقوال كثيرة
وقد يتقاربان في المعنى كقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وقوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} وقوله: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ}

والنكتة في ذلك كله تفخيم الجزاء والمعنى أن الجزاء هو الكامل البالغ النهاية يعني من يبخل في أداء ربع العشر فقد بالغ في البخل وكان هو البخيل في الحقيقة
الحادية عشرة: في اعتراض الشرط على الشرط وقد عدوا من ذلك آيات شريفة بعضها مستقيم وبعضها بخلافه
الآية الأولى: قوله تعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} الآية
قال الفارسي: قد اجتمع هنا شرطان وجواب واحد فليس يخلو إما أن يكون جوابا لأما أو لإن ولا يجوز أن يكون جواب لهما لأنا لم نر شرطين لهما جواب واحد ولو كان هذا لجاز شرط واحد له جوابان ولا يجوز أن يكون جوابا لـ "إن" دون "أما" لأن "أما" لم تستعمل بغير جواب فجعل جوابا لأما فتجعل أما وما بعدها جوابا لإن
وتابعه ابن مالك في كون الجواب لأما
وقد سبقهما إليه إمام الصناعة سيبويه ونازع بعض المتأخرين في عد هذه الآية من هذا قال: وليس من الاعتراض أن يقرن الثاني بفاء الجواب لفظا نحو إن تكلم زيد فإن أجاد فأحسن إليه لأن الشرط الثاني وجوابه جواب الأول أو يقرن بفاء الجواب تقديرا كهذه الآية الشريفة لأن الأصل عند النجاة مهما يكن من شيء فإن كان المتوفى من المقربين فجزاؤه روح فحذف مهما وجملة شرطها وأنيب عنها "أما"

فصار "أما فإن كان" مفردا من ذلك لوجهين : أحدهما: أن الجواب لا يلي أداة الشرط بغير فاصل وثانيهما : أن الفاء في الأصل للعطف فحقها أن تقع بين سببين وهما المتعاطفان فلما أخرجوها من باب العطف حفظوا عليها المعنى الآخر وهو التوسط فوجب أن يقدم شيء مما في حيزها عليها إصلاحا للفظ فقدمت جملة الشرط الثاني لأنها كالجزاء الواحد كما قدم المفعول في قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} فصار {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ. فَرَوْحٌ} فحذفت الفاء التي في جواب إن لئلا يلتقي فاءان فتخلص أن جواب أما ليس محذوفا بل مقدما بعضه على الفاء فلا اعتراض
الآية الثانية: قوله تعالى عن نوح: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وإنما يكون من هذا لو كان {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} مؤخرا بعد الشرطين أو لازما أن يقدر كذلك وكلا الأمرين منتف
أما الأول فظاهر وأما الثاني فلأن {لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ} جملة تامة أما على مذهب الكوفيين فمن شرط مؤخر وجزاء مقدم وأما على مذهب البصريين فالمقدم دليل الجزاء والمدلول عليه محذوف فيقدر بعد شرطه فلم يقع الشرط الثاني معترضا لأن المراد بالمعترض ما اعترض بين الشرط وجوابه وهنا ليس كذلك فإن على مذهب الكوفيين لا حذف والجواب مقدم وعلى قول البصريين الحذف بين الشرطين

وهنا فائدة وهي أنه لِمَ عدل عن "إن نصحت" إلى {إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ} ؟ وكأنه -والله أعلم- أدب مع الله تعالى حيث أراد الإغواء
وقد أحسن الزمخشري فلم يأت بلفظ الاعتراض في الآية بل سماه مرادفا هو صحيح وقال: إن قوله تعالى: {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} جزاؤه ما دل عليه قوله: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي}
وجعل ابن مالك تقدير الآية: إن أردت أنصح لكم مرادا ذلك منكم لا ينفعكم نصحي وهو يجعله من باب الاعتراض وفيه ما ذكرنا
الآية الثالثة : قوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} الآية وهي كالتي قبلها لتقدم الجزاء أو دليله على الشرطين فالاحتمال فيها كما قدمنا
وقال الزمخشري: شرط في الإحلال هبتها نفسها وفي الهبة إرادة الاستنكاح كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت نفسها لك وأنت تريد أن تنكحها لأن إرادته هي قبول الهبة وما به تتم
وحاصله أن الشرط الثاني مقيد للأول
ويحتمل أن يكون من الاعتراض كأنه قال: إن وهبت نفسها إن أراد النبي أحللناها فيكون جوابا للأول ويقدر جواب الثاني محذوفا
الآية الرابعة: قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ

مُسْلِمِينَ} وغلط من جعلها من الاعتراض لأن الشرط الأول اقترن بجوابه ثم أتى بالثاني بعد ذلك وإذا ذكر جواب الثاني تاليا له فأي اعتراض هنا لهذا قال المجوزون لهذه المسألة: إن الجواب المذكور للأول وجواب الثاني محذوف لدلالة الأول وجوابه عليه والتقدير في الآية: "إن كنتم مسلمين فإن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا" فحذف الجواب لدلالة السابق عليه
الآية الخامسة: قوله تعالى: {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ. إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا} وكلام ابن مالك يقتضي أنها من الاعتراض وليس كذلك بل عطف هل الشرط على فعل آخر
الآية السادسة : قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {لَعَذَّبْنَا} وهذه الآية هي العمدة في هذا الباب فالشرطان وهما "لولا" و"لو" قد اعترضا وليس معهما إلا جواب واحد وهو متأخر عنهما وهو {لَعَذَّبْنَا}
الآية السابعة: قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ} وهذه تأتي على مذهب الأخفش فإنه يزعم أن قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ} على تقدير الفاء أي: فالوصية فعلى هذا يكون مما نحن فيه فأما إذا رفعت {الْوَصِيَّةُ} بـ {كُتِبَ} فهي كالآيات السابقة في حذف الجوابين

تنبيه في ضابط اعتراض الشرط على الشرط
ذكر بعضهم ضابطا في هذه المسألة فقال: إذا دخل الشرط على الشرط فإن كان الثاني بالفاء فالجواب المذكور جوابه وهو وجوابه جواب الشرط الأول كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ}
وإن كان بغير الفاء فإن كان الثاني متأخرا في الوجود عن الأول كان مقدر بالفاء وتكون الفاء جواب الأول والجواب المذكور جواب الثاني نحو: إن دخلت المسجد إن صليت فيه فلك أجر تقديره: فإن صليت فيه فحذفت الفاء لدلالة الكلام عليها
وإن كان الثاني متقدما في الوجود على الأول فهو في نية التقديم وما قبله جوابه والفاء مقدرة فيه كقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي} تقديره: إن أراد الله أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي
وأما إن لم يكن أحدهما متقدما في الوجود وكان كل واحد منهما صالحا لأن يكون هو المتقدم والآخر متأخرا كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ} كان الحكم راجعا إلى التقدير والنية فأيهما قدرته الشرط كان الآخر جوابا له
وإن كان مقدرا بالفاء كان المتقدم في اللفظ أو المتأخر فإن قدرنا الهبة شرطا كانت الإرادة جوابا له ويكون التقدير: إن وهبت نفسها للنبي فإن أراد النبي أن يستنكحها وإن قدرنا الإرادة شرطا كانت الهبة جزاء وكان التقدير: إن أراد النبي أن يستنكحها فإن وهبت نفسها للنبي

وعلى كلا التقديرين فجواب الشرط الذي هو الجواب محذوف والتقدير: فهي حلال لك وقس عليه ما يرد عليك من هذا الباب
فائدة
قد يسمى الشرط يمينا
قال ابن حني في كتاب "القد": يجوز أن يسمى الشرط يمينا لأن كل واحد منهما مذكور لما بعده وهو جملة مضمومة إلى أخرى وقد جرت الجملتان مجرى الجملة الواحدة فمن هنا يجوز أن يسمى الشرط يمينا ألا ترى أن كل واحد منهما مذكور لما بعده!
القسم وجوابه
وهما جملتان بمنزلة الشرط وجوابه وسنتكلم عليه في الأساليب إن شاء الله تعالى في باب التأكيد والقسم لفظه لفظ الخبر ومعناه الإنشاء والالتزام بفعل المحلوف عليه أو تركه وليس بإخبار عن شيء وقع أو لا يقع وإن كان لفظه المضي أو الاستقبال وفائدته تحقق الجواب عند السامع وتأكده ليزول عنه التردد فيه
الأمر
الأمر حيث وقع في القرآن كان بغير الحرف كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} {اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ} {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ}

وجاء بالحرف في مواضع يسيرة على قراءة بعضهم: {فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} ووجهه أنه من باب حمل المخاطب على الغائب إلى الخطاب فكأنه لا غائب ولا حاضر وذلك لأن قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا} فيه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع المؤمنين وخطاب الله تعالى مع النبي للمؤمنين كخطاب الله تعالى لهم فكأنهما اتحدا في الحكم ووجود الاستماع والاتباع فصار المؤمنون كأنهم مخاطبون في المعنى فأتى باللام كأنه يأمر قوما غيبا وبالتاء للخطاب كأنه يأمر حضورا ويؤيد هذا قوله تعالى في أول الآية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} الآية فصار المؤمنون مخاطبين ثم قال لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} فبذلك ينبغي أن يكون فرحهم فصاروا مخاطبين من وجه دون وجه
ونظيره: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} إلا أن ذلك جعل في كلمتين وحالتين وهذا في كلمة واحدة
ومنها قوله تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}
ومنها قوله تعالى: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
النفي
هو شطر الكلام كله لأن الكلام إما إثبات أو نفي وفيه قواعد:

الأولى: في الفرق بينه وبين الجحد قال ابن الشجري: إن كان النافي صادقا فيما قاله سمي كلامه نفيا وإن كان يعلم كذب ما نفاه كان جحدا فالنفي أعم لأن كل جحد نفي من غير عكس فيجوز أن يسمى الجحد نفيا لأن النفي أعم ولا يجوز أن يسمى النفي جحدا
فمن النفي: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
ومن الجحد نفي فرعون وقومه آيات موسى عليه السلام قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ. وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} أي: وهم يعلمون أنها من عند الله
وكذلك إخبار الله عمن كفر من أهل الكتاب: { مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}فأكذبهم الله بقوله: {انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}
وقوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} فأكذبهم الله بقوله: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ}
قال: ومن العلماء من لا يفرق بينهما والأصل ما ذكرته
الثانية: زعم بعضهم أن من شرط صحة النفي عن الشيء صحة اتصاف المنفي عنه بذلك

الشيء ومن ثم قال بعض الحنفية إن النهي عن الشيء يقتضي الصحة وذلك باطل بقوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} ونظائره
والصواب أن انتفاء الشيء عن الشيء قد يكون لكونه لا يمكن منه عقلا وقد يكون لكونه لا يقع منه مع إمكانه فنفي الشيء عن الشيء لا يستلزم إمكانه
الثالثة: المنفي ما ولي حرف النفي فإذا قلت: ما ضربت زيدا كنت نافيا للفعل الذي هو ضربك إياه وإذا قلت: ما أنا ضربته كنت نافيا لفاعليتك للضرب فإن قلت: الصورتان دلتا على نفي الضرب فما الفرق بينهما؟
قلت: من وجهين:
أحدهما: أن الأولى نفت ضربا خاص وهو ضربك إياه ولم تدل على وقوع ضرب غيرك ولا عدمه إذاً نفي الأخص لا يستلزم نفي الأعم ولا ثبوته والثانية نفت كونك ضربته ودلت على أن غيرك ضربه بالمفهوم
الثاني: أن الأولى دلت على نفي ضربك له بغير واسطة والثانية دلت على نفيه بواسطة وأما قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ}

الرابعة: إذا كان الكلام عاما ونفيته فإن تقدم حرف النفي أداة العموم كان نفيا للعموم وهو لا ينافي الإثبات الخاص فإذا قلت: لم أفعل كل ذا بل بعضه استقام وإن تقدم صيغة العموم على النفي فقلت: كل ذا لم أفعله كان النفي عاما ويناقضه الإثبات الخاص
وحكى الإمام في "نهاية الإيجاز" عن الشيخ عبد القاهر أن نفي العموم يقتضي خصوص الإثبات فقوله: لم أفعل كله يقتضي أنه فعل بعضه قال: وليس كذلك إلا عند من يقول بدليل الخطاب بل الحق أن نفي العموم كما لا يقتضي عموم النفي لا يقتضي خصوص الإثبات
الخامسة: أدواته كثيرة قال الخويي: وأصلها "لا" و"ما" لأن النفي إما في الماضي وإما في المستقبل والاستقبال أكثر من الماضي أبدا و"لا" أخف من "ما" فوضعوا الأخف للأكثر
ثم إن النفي في الماضي إما أن يكون نفيا واحدا مستمرا وإما أن يكون نفيا فيه أحكام متعددة وكذلك النفي في المستقبل فصار النفي على أربعة أقسام واختاروا له أربع كلمات: ما، لم، لن، لا
وأما "إن" و"لما" فليسا بأصليين

فـ "ما" و"لا" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم "و "لن" في الماضي والمستقبل متقابلان و"لم" كأنه مأخوذ من "لا" و"ما" لأن "لم" نفي للاستقبال لفظا فأخذ اللام من "لا" التي هي لنفي الأمر في المستقبل والميم من "ما" التي هي لنفي الأمر في الماضي وجمع بينهما إشارة إلى أن في "لم" المستقبل والماضي وقدم اللام على الميم إشارة إلى أن لا هو أصل النفي ولهذا ينفى بها في أثناء الكلام فيقال: لم يفعل زيد ولا عمرو ولن أضرب زيدا ولا عمرا
أما "لما" فتركيب بعد تركيب كأنه قال: "لم" و"ما" لتوكيد معنى النفي في الماضي وتفيد الاستقبال أيضا ولهذا تفيد لما الاستمرار كما قال الزمخشري: إذا قلت ندم زيد ولم ينفعه الندم أي حال الندم لم ينفعه وإذا قلت: ندم زيد ولما ينفعه الندم أي حال الندم واستمر عدم نفعه
قلت: وقال الفارسي: إذا نفي بها الفعل اختصت بنفي الحال ويجوز أن يتسع فيها فينفى بها الحاضر نحو: ما قام وما قعد
قال الخويي: والفرق بين النفي بلم وما أن النفي بما كقولك: ما قام زيد معناه أن وقت الإخبار هذا الوقت وهو إلى الآن ما فعل فيكون النفي في الماضي وأن النفي بلم كقولك: لم يقم تجعل المخبر نفسه بالعرض متكلما في الأزمنة الماضية ولأنه يقول في كل زمان في تلك الأزمنة أنا أخبرك بأنه لم يقم وعلى هذا فتأمل السر في قوله تعالى: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} وفي موضع آخر: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} لأن الأول في مقام طلب الذكر والتشريف به للثواب والثاني في مقام التعليم وهو لا يفيد إلا بالنفي عن جميع الأزمنة

وكذلك قوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} وقوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فإن مريم كأنها قالت: إني تفكرت في أزمنة وجودي ومثلتها في عيني: "لم أك بغيا" فهو أبلغ في التنزيه فلا يظن ظان أنها تنفي نفيا كليا مع أنها نسيت بعض أزمنة وجودها وأما هم لما قالوا: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} ما كان يمكنهم أن يقولوا نحن تصورنا كل زمان من أزمنة وجود أمك وننفي عن كل واحد منها كونها بغيا لأن أحد لا يلازم غيره فيعلم كل زمان من أزمنة وجوده وإنما قالوا لها إن أمك اشتهرت عند الكل حتى حكموا عليها حكما واحدا عاما أنها ما بغت في شيء من أزمنة وجودها وكذلك قوله تعالى: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً} فإنه سبحانه لما قال: {بِظُلْمٍ} كان سبب حسن الهلاك قائما وأما الظلم فكان يتوقع في كل زمن الهلاك سواء كانوا غافلين أم لا لكن الله برحمته يمسك عنهم في كل زمان وافقته غفلتهم وأما قوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} وإن جد الظلم لكن لم يبق سببا مع الإصلاح فبقي النفي العام بعدم تحقيق المقتضى في كل زمان
وكذلك قوله: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} لأنه لما لم يذكر الظلم لم يتوقع الهلاك فلم يبق متكررا في كل زمان
وكذلك قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} ذكر عند ذكر النعمة لم يكن إشارة

إلى الحكم في كل زمان تذكيرا بالنعمة قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ} نفيا واحدا عاما عند ذكر العذاب لئلا يتكرر ذكر العذاب ويتكرر ذكر النعمة لا للمنة بل للتنبيه على سعة الرحمة
وكذلك قال تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} وقال: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ} وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} وقال تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} وقال تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً} في جميع مواضع ما حصل المذكور أمورا لا يتوقع تجددها وفي جميع المواضع لم يحصل توقع تجدد المذكور
فاستمسك بما ذكرنا واجعله أصلا فإنه من المواهب الربانية

النوع السادس والأربعون: في أساليب القرآن وفنونه البليغة

وهو المقصود الأعظم من هذا الكتاب وهو بيت القصيدة وأول الجريدة وغرة الكتيبة وواسطة القلادة ودرة التاج وإنسان الحدقة على أنه قد تقدمت الإشارة للكثير من ذلك
اعلم أن هذا علم شريف المحل عظيم المكان قليل الطلاب ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه ولا ذوو بصيرة تستقصيه وهو أرق من الشعر وأهول من البحر وأعجب من السحر وكيف لا يكون وهو المطلع على أسرار القرآن العظيم الكافل بإبراز إعجاز النظم المبين ما أودع من حسن التأليف وبراعة التركيب وما تضمنه في الحلاوة وجلله في رونق الطلاوة مع سهولة كلمه وجزالتها وعذوبتها وسلاستها ولا فرق بين ما يرجع الحسن إلى اللفظ أو المعنى
وشذ بعضهم فزعم أن موضع صناعة البلاغة فيه إنما هو المعاني فلم يعد الأساليب البليغة والمحاسن اللفظية
والصحيح أن الموضوع مجموع المعاني والألفاظ إذ اللفظ مادة الكلام الذي منه يتألف ومتى أخرجت الألفاظ عن أن تكون موضوعا خرجت عن جملة الأقسام المعتبرة إذ لا يمكن أن توجد إلا بها

وها أنا ألقي إليك منه ما يقضي له البليغ عجبا ويهتز به الكاتب طربا
فمنه التوكيد بأقسامه والحذف بأقسامه الإيجاز التقديم والتأخير القلب المدرج الاقتصاص الترقي التغليب الالتفات التضمين وضع الخبر موضع الطلب وضع الطلب موضع الخبر وضع النداء موضع التعجب وضع جملة القلة موضع الكثرة تذكير المؤنث تأنيث المذكر التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي عكسه مشاكلة اللفظ للمعنى النحت الإبدال المحاذاة قواعد في النفي والصفات إخراج الكلام مخرج الشك في اللفظ دون الحقيقة الإعراض عن صريح الحكم الهدم التوسع الاستدراج التشبيه الاستعارة التورية التجريد التجنيس الطباق المقابلة إلجام الخصم بالحجة التقسيم التعديد مقابلة الجمع بالجمع قاعدة فيما ورد في القرآن مجموعا تارة ومفردا أخرى وحكمة ذلك قاعدة أخرى في الضمائر قاعدة في السؤال والجواب الخطاب بالشيء عن اعتقاد المخاطب التأدب في الخطاب تقديم ذكر الرحمة على العذاب الخطاب بالاسم الخطاب بالفعل قاعدة في ذكر الموصولات والظرف تارة وحذفها أخرى قاعدة في النهي ودفع التناقض عما يوهم ذلك وملاك ذلك الإيجاز والإطناب قال صاحب الكشاف كما أنه يجب على البليغ في مظان الإجمال والإيجاز أن يجمل ويوجز فكذلك الواجب عليه في موارد التفصيل أن يفصل ويشبع وأنشد الجاحظ:
يَرْمُوْنَ بالخُطَبِ الطِوال وتارة
وحيَ الملاحظ خيفةَ الرقباءِ

الأسلوب الأول: التأكيد
والقصد منه الحمل على ما لم يقع ليصير واقعا ولهذا لا يجوز تأكيد الماضي ولا الحاضر لئلا يلزم تحصيل الحاصل وإنما يؤكد المستقبل وفيه مسائل:
الأولى: جمهور الأمة على وقوعه في القرآن والسنة وقال قوم: ليس فيهما تأكيد ولا في اللغة بل لابد أن يفيد معنى زائدا على الأول واعترض الملحدون على القرآن والسنة بما فيهما من التأكيدات وأنه لا فائدة في ذكرها وأن من حق البلاغة في النظم إيجاز اللفظ واستيفاء المعنى وخير الكلام ما قل ودل ولا يمل والإفادة خير من الإعادة وظنوا أنه إنما يجيء لقصور النفس عن تأدية المراد بغير تأكيد ولهذا أنكروا وقوعه في القرآن
وأجاب الأصحاب بأن القرآن نزل على لسان القوم وفي لسانهم التأكيد والتكرار وخطابه أكثر بل هو عندهم معدود في الفصاحة والبراعة ومن أنكر وجوده في اللغة فهو مكابر إذ لولا وجوده لم يكن لتسميته تأكيدا فائدة فإن الاسم لا يوضع إلا لمسمى معلوم لا فائدة فيه بل فوائد كثيرة كما سنبينه
الثانية: حيث وقع فهو حقيقة وزعم قوم أنه مجاز لأنه لا يفيد إلا ما أفاده المذكور الأول حكاه الطرطوسي في العمدة ثم قال ومن سمى التأكيد مجازا فيقال له إذا كان

التاكيد بلفظ الأول نحو عجل عجل ونحوه فإن جاز أن يكون الثاني مجازا جاز في الأول لأنهما في لفظ واحد وإذا بطل حمل الأول على المجاز بطل حمل الثاني عليه لأنه قبل الأول
الثالثة: أنه خلاف الأصل فلا يحمل اللفظ على التأكيد إلا عند تعذر حمله على مدة محددة
الرابعة: يكتفى في تلك بأي معنى كان وشرط وما قاله ضعيف لأن المفهوم من دلالة اللفظ ليس من باب الألفاظ حتى يحذو به حذو الألفاظ
الخامسة: في تقسيمه وهو صناعي -يتعلق باصطلاح النحاة- ومعنوي وأقسامه كثيرة فلنذكر ما تيسر منها
القسم الأول: التوكيد الصناعي
وهو قسمان: لفظي ومعنوي فاللفظي: تقرير معنى الأول بلفظ أو مرادفه فمن المرادف: {فِجَاجاً سُبُلاً} {ضَيِّقاً حَرَِجاً} في قراءة كسر الراء {وَغَرَابِيبُ سُودٌ}

وجعل الصفار منه قوله تعالى: {فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} على القول بأن كلاهما للنفي
واللفظي يكون في الاسم النكرة بالإجماع نحو: {قَوَارِيرَا. قَوَارِيرَ} وجعل ابن مالك وابن عصفور منه: {دَكّاً دَكّاً} و{صَفّاً صَفّاً} وهو مردود لأنه جاء في التفسير أن معنى دكا دكا دكا بعد دك وأن الدك كرر عليها حتى صار هباء منثورا وأن معنى: {صَفّاً صَفّاً} أنه تنزل ملائكة كل سماء يصطفون صفا بعد صف محدقين بالإنس والجن وعلى هذا فليس الثاني منهما تكرارا للأول بل المراد به التكثير نحو: جاء القوم رجلا رجلا وعلمته الحساب بابا بابا
وقد ذكر ابن جني في قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} {إِذَا رُجَّتِ} أن {رُجَّتِ} بدل من {وَقَعَتِ} وكررت "إذا" تأكيدا لشدة امتزاج المضاف بالمضاف إليه
ويكون في اسم الفعل كقوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ}
وفي الجملة نحو: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} ولكون

الجملة الثانية للتوكيد سقطت من مصحف ابن مسعود ومن قراءته
والأكثر فصل الجملتين بثم كقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ} {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}
ويكون في المجرور كقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} والأكثر فيه اتصاله بالمذكور وزعم الكوفيون أنه لا يجوز الفصل بين التوكيد والمؤكد قال الصفار في شرح سيبويه: والسماع يرده قال تعالى: {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فإن "هم" الثانية تأكيد للأولى وقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا } وقوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} ألا ترى أن قبله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ} فأكد "لَمَّا" وبينهما كلام وأصله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} فكرر للطول الذي بين "لما" وجوابها وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} في أحد القولين لأنه أكد "أن" بعد ما فصل
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ}.
ريب أنهم اجتمعوا في الهلاك وأن قوم موسى اجتمعوا في النجاة
ومنه قوله تعالى حكاية عن يوسف: {وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ} فلم يرد بهذا أن يجتمعوا عنده وإن جاءوا واحدا بعد واحد وإنما أراد اجتماعهم في المعنى إليه وألا

يتخلف منهم أحد وهذا يعلم من السياق والقرينة
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا أن قوله: يتخلف منهم أحد وهذا يعلم من السياق والقرينة
ومن القرينة الدالة على ذلك في قصة الملائكة لفظا أن قوله: {كُلُّهُمْ} يفيد الشمول والإحاطة فلا بد أن يفيد: {أَجْمَعُونَ} قدرا زائدا على ذلك وهو اجتماعهم في السجود هذا في اللفظ وأما المعنى فلأن الملائكة لم تكن ليتخلف أحد منهم عن امتثال الأمر ولا يتأخر عنده ولاسيما وقد وقت لهم بوقت وحد لهم بحد وهو التسوية ونفخ الروح فلما حصل ذلك سجدوا كلهم عن آخرهم في آن واحد ولم يتخلف منهم أحد فعلى هذا يخرج كلام المبرد الزمخشري
وما نقل عن بعض المتكلمين أن السجود لم يستعمل على الكل بدليل قوله: {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} مردود بل العالون المتكبرون وفي رسائل إخوان الصفاء أن العالين هم العقول العاقة التي لم تسجد وهذا تحريف ولم يقم دليل على إثبات العقول التي تدعيها الفلاسفة
ووقع خلاف في أن إبليس من الملائكة أم لا؟ والتحقيق أنه ليس منهم عنصرا ففي صحيح مسلم: "خلقت الملائكة من نور وخلقت الجان من النار وخلق آدم مما وصف لكم" وهو منهم حكما لدخوله في الخطاب بالأمر بالسجود معهم ولو كان من غيرهم لم يدخل معهم
وأما قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} فلم يذكر قبله "كلهم" لما

لم يكن المراد كل واحد واحد من الآية لم تحسن الزيادة في التأكيد بدليل الاستثناء بعده من قوله: {إِلاَّ امْرَأَتَهُ}
ومنها: قصد تحقيق المخبر به كقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ} فأكد بإن وباسم الفاعل مع أنهم ليسوا بشاكين في الخبر
ومثله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}
وقال حاكيا عن نوح: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ}
ومنها: قصد إغاظة السامع بذلك الخبر كقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}
ومنها: الترغيب كقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} أكده بأربع تأكيدات وهي إن وضمير الفصل والمبالغتان مع الصفتين له ليدل على ترغيب الله العبد في التوبة فإنه إذا علم ذلك طمع في عفوه وقوله: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
ومنها: الإعلام بأن المخبر به كله من عند المتكلم كقوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} دون الاقتصار على "يأتينكم هدى" قال المفسرونك فيه إشارة إلى أن الخير كله منه
وعليه قوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ}

ومنها: التعريض بأمر آخر كقوله تعالى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي} وقول موسى: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وقوله تعالى: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} تعريضا سؤال قبولها فإنها كانت تطلب للنذر ذكرا
تنبيهان
الأول: قالوا: إنما يؤتى به للحاجة للتحرز عن ذكر مالا فائدة له فإن كان المخاطب ساذجا ألقي إليه الكلام خاليا عن التأكيد وإن كان مترددا فيه حسن تقويته بمؤكد وإن كان منكرا وجب تأكيده ويراعى في القوة والضعف بحسب حال المنكر كما في قوله تعالى عن رسل عيسى: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} الآية وذلك أن الكفار نفوا رسالتهم بثلاثة أشياء أحدها قولهم: {مَا أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} والثاني قولهم: {مَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} والثالث قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ} فقوبلوا على نظيره بثلاثة أشياء أحدها قولهم: {رَبُّنَا يَعْلَمُ} ووجه التأكيد فيه أنه في معنى قسم والثاني قوله: {إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} والثالث قوله تعالى: {وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}

وقد ينزل المنكر كغير المنكر وعكسه وقد اجتمعا في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أُكِّدت الإماتة تأكيدين وإن لم ينكروا لتنزيل المخاطبين لتماديهم في الغفلة منزلة من ينكر الموت وأكد إثبات البعث تأكيدا واحدا وإن كان أكثر لأنه لما كانت أدلته ظاهرة كان جديرا بألا يتكرر ويتردد فيه حثا لهم على النظر في أدلته الواضحة
الثاني: قال التنوخي في "أقصى القرب": إذا قصدوا مجرد الخبر أتوا بالجملة الفعلية وإن أكدوا فبالاسمية ثم بإن ثم بها وباللام وقد تؤكد الفعلية بقد وإن احتيج بأكثر جيء بالقسم مع كل من الجملتين وقد تؤكد الاسمية باللام فقط نحو: لزيد قائم وقد تجيء مع الفعلية مضمرة بعد اللام وحاصله أن الخطاب على درجات قام زيد ثم لقد قام -فإنه جعل الفعلية كأنها دون الاسمية- ثم إن زيدا قائم ولزيد قائم
ما يلتحق بالتأكيد الصناعي
ويلتحق بالتأكيد الصناعي أمور:
أحدها: تأكيد الفعل بالمصدر ومنه قوله تعالى: {جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُوراً} وقوله تعالى: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} {وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} وقوله تعالى: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} {وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ}

{فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} {فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً} وهو كثير
قالوا: وهو عوض عن تكرار الفعل مرتين فقولك ضربت ضربا بمنزلة قولك: ضربت ضربت ثم عدلوا عن ذلك واعتاضوا عن الجملة بالمفرد
وليس منه قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} بل هو جمع الظن وجمع لاختلاف أنواعه قاله ابن الدهان
ثم اختلفوا في فائدته فقيل: إنه يرفع المجاز عن الفاعل فإنك تقول: ضرب الأمير اللص ولا يكون باشر بل أمر به ضربا علم أنه باشر
وممن نص على ذلك ثعلب في أماليه وابن العصفور في شرح الجمل الصغير
والصواب أنه إنما يرفع الوهم عن الحديث لا عن المحدث عنه فإذا قلت: ضرب الأمير احتمل مجازين أحدهما: إطلاق الضرب على مقدماته والثاني: إطلاق الأمير على أمره فإذا أردت رفع الأول أتيت بالمصدر فقلت: ضربا وإن أردت الثاني قلت: نفسه أو عينه ومن هذا يعلم ضعف استدلال أصحابنا على المعتزلة في إثبات كلام الله لموسى في قوله

تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} فإنه لما أريد كلام الله نفسه قال: {تَكْلِيماً} ودل على وقوع الفعل حقيقة أما تأكيد فاعله فلم يتعرض له ولقد سخف عقل من تأوله على أنه كلمة بأظفار المحن من الكلم وهو الجرح لأن الآية مسوقة في بيان الوحي ويحكى أنه استدل بعض علماء السنة على بعض المعتزلة في إثبات التكليم حقيقة بالآية من جهة أن المجاز لا يؤكد فسلم المعتزلي له هذه القاعدة وأراد دفع الاستدلال من جهة أخرى فادعى أن اللفظ إنما هو {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى} بنصب لفظ الجلالة وجعل موسى فاعلا بـ كلم وأنكر القراءة المشهورة وكابر فقال السني: فماذا تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} فانقطع المعتزلي عند ذلك
قال ابن الدهان: ومما يدل على أن التأكيد لا يرفع المجاز قول الشاعر:
قرعتُ ظنابيب الهوى يوم عالجٍ
ويوم اللّوى حتى قسرتُ الهوى قسرًا
قلت: وكذا قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} وأما قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً} فمفعول {أَسْرَرْتُ} محذوف أي: الدعاء والإنذار ونحوه
فإن قلت: التأكيد ينافي الحذف فالجواب من وجهين:

أحدهما: أن المصدر لم يؤت به هنا للتأكيد وإن كان بصورته لأن المعنى ليس على ذلك وإنما أتى به لأجل الفواصل ولهذا لم يؤت بمصدر {أَعْلَنْتُ} وهو مثله
والثاني: أن "أسر" وإن كان متعديا في الأصل إلا أنه هنا قطع النظر عن مفعوله وجعل نسيا كما في قوله فلان يعطي ويمنع فصار لذلك كاللازم وحينئذ فلا منافاة بين المجيء به بالمصدر لو كان
ثم التأكيد بالمصدر تارة يجيء من لفظ الفعل كما سبق وتارة يجيء من مرادفه كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً} فإن الجهار أحد نوعي الدعاء وقوله: {لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ} فإنه منصوب بقوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} لأن {لَيّاً} نوع من التحريف
ويحتمل أن يكون منه: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً} لأن البهتان ظلم والأخذ على نوعين: ظلم وغيره
وزعم الزمخشري قوله: {نَافِلَةً لَكَ} وُضع {نَافِلَةً} موضع تهجدا لأن التهجد عبادة زائدة فكأن التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد

وقوله: {وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} قيل: كان الأصل تكرار الصدق بلفظه فاستثقل التكرار للتقارب فعدل إلى ما يجاريه خفة ولتجرى المصادر الثلاثة مجرى واحدا خفة ووزنا إحرازا للتناسب
وأما قوله: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً. ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً }ففائدة { إِخْرَاجاً } أن المعاد في الأرض هو الذي يخرجكم منها بعينه دفعا لتوهم من يتوهم أن المخرج منها أمثالهم وأن المبعوث الأرواح المجردة
فإن قيل: هذا يبطل بقوله تعالى: { نْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} فإنه أكد بالمصدر وليس المراد حقيقة النبات
قلت: لا جرم حيث لم يرد الحقيقة هنا لم يؤكده بالمصدر الحقيقي القياسي بل عدل به إلى غيره وذلك لأن مصدر أنبت الإنبات والنبات اسمه لا هو كما قيل في "الكلام" و"السلام": اسمان للمصدر الأصلي الذي هو التكليم والتسليم وأما قوله: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} وإن لم يكن جاريا على تبتل لكنه ضمن معنى: بتل نفسك تبتلا
ومثله قوله: { وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} قال أبو البقاء: هو موضع تعاليا لأنه مصدر قوله: {وَتَعَالَى} ويجوز أن يقع مصدرا في موضع آخر من معناه وكذا قال الراغب قال: وإنما عدل عنه لأن لفظ التفاعل من التكلف كما يكون من البشر

وأما قوله: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْراً. وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} فقال بعضهم: الجملة الفاعلية تحتمل المجاز في مفرديها جميعا وفي كل منهما مثاله ها هنا إنه يحتمل أن المجاز في: {تَمُورُ} وأنها ما تمور بل تكاد أو يخيل إلى الناظر أنها تمور ويحتمل أن المجاز في السماء وأن المور الحقيقي لكنها وأهلها لشدة الأمر وكذلك الكلام في {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْراً} فإذا رفع المجاز عن أحد جزأي الجملة نفي احتماله في الآخر فلم تحصل فائدة التأكيد وأجيب بهذه القاعدة وهي أن {مَوْراً} في تقدير "تمور" فكأنه قال: تمور السماء تمور السماء وتسير الجبال تسير الجبال فأكد كلا من الجزأين بنظيره وزال الإشكال
وأما قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً} فيحتمل أن يكون {شَيْئاً} من تأكيد الفعل بالمصدر كقوله: بعت بيعا ويجوز أن يكون الشيء بمنزلة الأمر والتبيان والمعنى: إلا أن يشاء ربي أمرا أو وضع موضع المصدر وانظر كيف ذكر مفعول المشيئة وقول البيانيين: إنه يجب حذفه إذا كان عاما وأما قوله تعالى: {دَكّاً دَكّاً} فالمراد به: التتابع أي دكا بعد دك وكذا قوله: {صَفّاً صَفّاً} أي: صفا يتلوه صف ولو اقتصر على الواحد لا يحتمل صفا واحدا
وأما قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} فإن إضافة الزلزال إليها يفيد معنى ذاتها وهو: زلزالها المختص بها المعروف منها المتوقع كما تقول غضب زيد غضبه وقاتل زيد قتاله أي غضبه الذي يعرف منه وقتاله المختص به كقوله:

*أنا أبو النجم وشعري شعري*
واعلم أن القاعدة في المصدر والمؤكدأن يجيء اتباعا لفعله نحو: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} وقد يخرج عنها نحو قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} وقوله تعالى: {فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً} وقوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} وقوله تعالى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} ولم يقل: "تبتلا" و"تعذيبا" و"إقراضا" و"إنباتا"
واختلف في ذلك على أقوال: أ
أحدها: أنه وضع الاسم منها موضع المصدر
والثاني: أنه منصوب بفعل مضمر يجرى عليه المصدر ويكون ذلك الفعل الظاهر دليلا على المضمر فالمعنى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} فنبتم نباتا وهو قول المبرد واختاره ابن خروف وزعم أنه مذهب سيبويه وكذا قال ابن يعيش ونازعه ابن عصفور

والثالث: أنها منصوبة بتلك الأفعال الظاهرة وإن لم تكن جارية عليها
والرابع: التفصيل بين أن يكون معنى الفعل غير معبر بمعنى مصدر ذلك الفعل الظاهر فهو منصوب بفعل مضمر يدل عليه ذلك الفعل الظاهر كقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً} أي: ونبتم أي وساغ إضماره لأنهم إذا أنبتوا فقد نبتوا ولا يجوز في غير ذلك أن ينصب بالظاهر لأن الغرض من المصدر تأكيد الفعل الذي نصبه أو تبيين معناه وإذا كان المصدر مغايرا لمعنى الفعل الظاهر لم يحصل بذلك الغرض المقصود لأن النبات ليس بمعنى الإنبات وإذا لم يكن بمعناه فكيف يؤكده أو يبينه وأما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} فإنما ذكر قوله: {بِدَيْنٍ} مع {تَدَايَنْتُمْ} يدل عليه لوجوه:
أحدها: ليعود الضمير في {فَاكْتُبُوهُ} عليه إذ لولم يذكره لقال: "فاكتبوا الدين" ذكره الزمخشري وهو ممنوع لأنه كان يمكن أن يعود على المصدر المفهوم من {تَدَايَنْتُمْ} لأنه يدل على الدين
الثاني: أن {تَدَايَنْتُمْ } مفاعلة من الدَِّين ومن الدِّين فاحتيج إلى قوله: {بِدَيْنٍ} ليبين أنه من الدَّين لا من الدِّين
وهذا أيضا فيه نظر لأن السياق يرشد إلى إرادة الدَّين
الثالث : أن قوله: {بِدَيْنٍ} إشارة إلى امتناع بيع الدين بالدين كما فسر قوله صلى الله

عليه وسلم هو بيع الكالئ بالكالئ ذكره الإمام فخر الدين
وبيانه أن قوله تعالى: {تَدَايَنْتُمْ} مفاعلة من الطرفين وهو يقتضي وجود الدين من الجهتين فلما قال: {بِدَيْنٍ} علم أنه دين واحد من الجهتين
الرابع: أنه أتي به ليفيد أن الإشهاد مطلوب سواء كان الدين صغيرا أو كبيرا كما سبق نظيره في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} ويدل على هذا هاهنا قوله بعد ذلك: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ}
الخامس: أن {تَدَايَنْتُمْ} مشترك بين الاقتراض والمبايعة والمجازاة وذكر الدين لتمييز المراد قال الحماسي:
ولم يبق سوى العدوا
ن دنّاهم كما دانوا
ونظير هذه الآية في التصريح بالمصدر مع ظهوره فيما قبله قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} وقوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} وقوله: {سَأَلَ سَائِلٌ} فيقال: ما الحكمة في التصريح بالمصدر فيهما أو بضميره مع أنه مستفاد مما قبله
وقد يجيء التأكيد به لمعنى الجملة كقوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ

كُلَّ شَيْءٍ} فإنه تأكيد لقوله تعالى: {تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} لأن ذلك صنع الله وقوله تعالى: {وَعْدَ اللَّهِ} تأكيد لقوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ. بِنَصْرِ اللَّهِ} لأن هذا وعد الله وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} انتصب {كِتَاباً} على المصدر بما دل عليه السياق تقديره: "وكتب الله" لأن قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} يدل على كتب
وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} تأكيد لقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} الآية لأن هذا مكتوب علينا وانتصب المصدر بما دل عليه سياق الآية فكأنه فعل تقديره: كتب الله عليكم
وقال الكسائي: انتصب بـ "عليكم" على الإغراء وقدم المنصوب والجمهور على منع التقدير وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ } تأكيد لقوله: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} لأن هذا دين الله وقيل: منصوبة على الأمر
وقوله تعالى: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} منصوبة على المصدر بما دل عليه الكلام لأن الزلفى مصدر كالرجعى و"يقربونا" يدل على "يزلفونا" فتقديره: يزلفونا زلفى

وقد يجيء التأكيد به مع حذف عاملة كقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} والمعنى : فإما تمنوا منا وإما أن تفادوا فداء فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر
وجعل سيبويه من المصدر المؤكد لنفسه قوله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } لأنه إذا أحسن كل شيء فقد خلقه خلقا حسنا فيكون {خَلَقَهُ} على معنى خلقه خلقا والضمير هو الله تعالى ويجوز أن يكون بدل اشتمال أي أحسن خلق كل شيء
قال الصفار: والذي قاله سيبويه أولى لأمرين: أن في هذا إضافة المصدر إلى المفعول وإضافته إلى الفاعل أكثر وأن المعنى الذي صار إليه أبلغ في الامتنان وذلك أنه إذا قال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ} فهو أبلغ من قولك: "أحسن خلق كل شيء" لأنه قد يحسن الخلق وهو المحاولة ولا يكون الشيء في نفسه حسنا وإذا قال أحسن كل شيء اقتضى أن كل شيء خلقه حسن بمعنى أنه وضع كل شيء موضعه فهو أبلغ في الامتنان
فائدتان
الأولى : هل الأولى التأكيد بالمصدر أو الفعل قال بعضهم المصدر أولى لأنه اسم وهو أخف من الفعل وأيضا فلأن الفعل يحتمل الضمير فيكون جملة فيزداد ثقلا ويحتمل أن الفعل أولى لدلالته على الاستمرار الثانية: حيث أكد المصدر النوعي فالأصل فيه أن ينعت بالوصف المراد منه نحو:

قمت قياما حسنا {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} وقوله: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}
وقد يضاف الوصف إلى المصدر فيعطى حكم المصدر قال تعالى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
الثاني: الحال المؤكدة وهي الآتية على حال واحدة عكس المبينة فإنها لا تكون إلا منتقلة وهي لتأكيد الفعل كما سبق في المصدر المؤكد لنفسه وسميت مؤكدة لأنها نعلم قبل ذكرها فيكون ذكرها توكيدا لأنها معلومة من ذكر صاحبها
كقوله تعالى: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً}
وقوله: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}
{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} لأن معنى تبسم: ضحك مسرورا
وقوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا}
{ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} وذكر الإعراض للدلالة على تناهي حالهم في الضلال ومثله: {أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} إذ معنى الإقرار أقرب من الشهادة ولأن الإعراض والشهادة حالان لهم عند التولي والإقرار

وقوله: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ}
وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ} فإنه حال مؤكدة لقوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} وبهذا يزول الإشكال في أن شرط الحال الانتقال ولا يمكن ذلك هنا فإنا نقول ذلك شرط في غير المؤكدة ولما لم يقف ابن جني على ذلك قدر محذوفا أي معتقدا خلودهم فيها لأن اعتقاد ذلك أمر ثابت عند غير المؤمنين فلهذا ساغ مجيئها غير منتقلة
ومنهم من نازع في التأكيد في بعض ما سبق لأن الحال المؤكدة مفهومها مفهوم عاملها وليس كذلك التبسم والضحك فإنه قد يكون من غير ضحك بدليل قوله: "تبسم تبسم الغضبان"
وكذلك التولية والإدبار في قوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً} {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} فإنهما بمعنيين مختلفين فالتولية أن يولي الشيء ظهره والإدبار أن يهرب منه فليس كل مول مدبرا ولا كل مدبر موليا ونظيره قوله تعالى: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} فلو كان أصم مقبلا لم يسمع فإذا ولي ظهره كان أبعد له من السماع فإذا أدبر مع ذلك كان أشد لبعده عن السماع ومن الدليل على أن التولي لا يتضمن الإدبار قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فإنه بمعنى الإقبال

وقوله: {وَلَمْ يُعَقِّبْ} إشارة إلى استمراره في الهروب وعدم رجوعه يقال: فلان ولى إذا رجع وكل راجع معقب وأهل التفسير يقولون: لم يقف ولم يلتفت وكذلك قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً} قيل: ليست بمؤكدة لأن الشيء المرسل قد لا يكون رسولا كما قال تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} وقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} جعلها كثير من المعربين مؤكدة لأن صفة الحق التصديق قيل ويحتمل أن يريدوا به تأكيد العامل وإن يريدوا به تأكيد ما تضمنته الجملة
ودعوى التأكيد غير ظاهرة لأنه يلزم من كون الشيء حقا في نفسه أن يكون مصدقا لغيره والفرض أن القرآن العزيز فيه الأمران وهو كونه حقا وكونه مصدقا لغيره من الكتب فالظاهر أن {مُصَدِّقاً} حال مبينة لا مؤكدة ويكون العامل فيها الحق لكونه بمعنى الثابت وصاحب الحال الضمير الذي تحمله الحق لتأوله بالمشتق
وقوله: {قَائِماً بِالْقِسْطِ} فـ "قائما" حال مؤكدة لأن الشاهد به لا إله إلا هو قائم بالقسط فهي لازمة مؤكدة وقد وقعت بعد الفعل والفاعل
قال ابن أبي الربيع: ويجوز أن يكون حالا على جهة أخرى على معنى شهد الله أنه منفرد بالربوبية وقائم بالقسط فإنه سبحانه بالصفتين لم ينتقل عنهما فهو متصف بكل واحدة منهما في حال الاتصاف بالأخرى وهو سبحانه لم يزل بهما لأن صفاته ذاتية قديمة

فائدة
عن صاحب المفصل في وقوع الحال بعد الجملة الاسمية
قال صاحب المفصل: لا تقع المؤكدة إلا بعد الجملة الاسمية وهو خلاف قول أبي علي أنها تكون بعد الجملتين محتجا بما سبق وكذا بقوله تعالى: {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} وقوله تعالى: {وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ} فمدبرين ومدبرا حال مؤكدة لفعل التولية
في أدوات التأكيد
مؤكدات الجمل الاسمية
الأول: التأكيد بـ "إن" قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} وقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} وهي أقوى من التأكيد باللام كما قاله عبد القاهر في دلائل الإعجاز قال: وأكثر مواقع إن بحكم الاستقراء هو الجواب لكن بشرط أن يكون للسائل فيه ظن بخلاف ما أنت تجيبه به فأما أن تجعل مرد الجواب أصلا فيها فلا لأنه يؤدي إلى قولك:

"صالح" في جواب: كيف زيد؟ حتى تقول: إنه صالح ولا قائل به بخلاف اللام فإنه لا يلحظ فيها غير أصل الجواب
وقد يجيء مع التأكيد في تقدير سؤال السائل إذا تقدمها من الكلام ما يلوح نفسه للنفس كقوله تعالى: {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} أمرهم بالتقوى ثم علل وجوبها مجيبا لسؤال مقدر بذكر الساعة واصفا لها بأهول وصف ليقرر عليه الوجوب
وكذا قوله تعالى: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي: لا تدعني في شأنهم واستدفاع العذاب عنهم بشفاعتك لأنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف به القلم فلا سبيل إلى كفه عنهم ومثله في النهي عن الدعاء لمن وجبت شقاوته قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ}
ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن قوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} أورث للمخاطب حيرة كيف لا ينزه نفسه مع كونها مطمئنة زكية فأزال حيرته بقوله تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ} في جميع الأشخاص{بِالسُّوءِ} إلا المعصوم وكذا قوله تعالى: {وصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ}
واعلم أن كل جملة صدرت بإن مفيدة للتعليل وجواب سؤال مقدر فإن الفاء

يصح أن تقوم فيها مقام إن مفيدة للتعليل حسن تجريدها عن كونها جوابا للسؤال المقدر كما سبق من الأمثلة
وإن صدرت لإظهار فائدة الأولى لم يصح قيام الفاء مقامها كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} بعد قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ}
ومن فوائدها: تحسين ضمير الشأن معها إذا فسر بالجملة الشرطية مالا يحسن بدونها كقوله: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} {أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ} {إنه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} وأما حسنه بدونها في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فلفوات الشرط
الثاني: "أن" المفتوحة نحو: علمت أن زيدا قائم وهي حرف مؤكد كالمكسورة نص عليه النحاة واستشكله بعضهم قال: لأنك لو صرحت بالمصدر المنسبك منها لم يفد توكيدا ويقال التوكيد للمصدر المنحل لأن محلها مع ما بعدها المفرد وبهذا يفرق بينها وبين إن المكسورة فإن التأكيد في المكسورة للإسناد وهذه لأحد الطرفين
الثالث: "كأن" وفيها التشبيه المؤكد إن كانت بسيطة وإن كانت مركبة من

كاف التشبيه وأن فهي متضمنة لأن فيها ما سبق وزيادة
قال الزمخشري: والفصل بينه وبين الأصل أي بين قولك: كأنه أسد وبين إنه كالأسد إنك مع كأن بانٍ على التشبيه من أول الأمر وثم بعد مضي صدره على الإثبات
وقال الإمام في نهاية الإيجاز: اشترك الكاف وكأن في الدلالة على التشبيه وكأن أبلغ وبذلك جزم حازم في منهج البلغاء وقال: وهي إنما تستعمل حيث يقوى الشبه حتى يكاد الرائي يشك في أن المشبه هو المشبه به أو غيره ولذلك قالت بلقيس: {كَأَنَّهُ هُوَ}
الرابع : "لكن" لتأكيد الجمل ذكره ابن عصفور والتنوخي في "الأقصى" وقيل: للتأكيد مع الاستدراك وقيل للاستدراك المجرد وهي أن يثبت لما بعدها حكم يخالف ما قبلها ومثلها "ليت" و"لعل" و"لعنَّ" في لغة بني تميم لأنهم يبدلون همزة أن المفتوحة عينا وممن ذكر أنها من المؤكدات التنوخي
الخامس: لام الابتداء نحو: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} وهي تفيد تأكيد مضمون الجملة ولهذا زحلقوها في باب إن عن صدر الجملة كراهية ابتداء الكلام المؤكدين ولأنها تدل بجهة التأكيد وإن تدل بجهتين العمل والتأكيد والدال بجهتين مقدم على الدال بجهة كنظيره في الإرث وغيره وإذا جاءت مع إن كان بمنزلة تكرار الجملة ثلاث مرات لأن إن أفادت التكرير مرتين فإذا دخلت اللام صارت ثلاثا

وعن الكسائي أن اللام لتوكيد الخبر وإن لتأكيد الاسم وفيه تجوز لأن لتأكيد إنما هو للنسبة لا للاسم والخبر
السادس: الفصل وهو من مؤكدات الجملة وقد نص سيبويه على أنه يفيد التأكيد وقال: في قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} {أَنَا} وصف للياء في {تَرَنِ} يزيد تأكيدا وهذا صحيح لأن المضمر يؤكد الضمير وأما تأكيد المظهر بالمضمر فلم يعهد ولهذا سماه بعضهم دعامة لأنه يدعم به الكلام أي يقوى ولهذا قالوا لا يجاء مع التوكيد فلا يقال: زيد نفسه هو الفاضل ووافق على ذلك ابن الحاجب في شرح المفصل وخالف في أماليه فقال: ضمير الفصل ليس توكيدا لأنه لو كان فإما لفظيا أو معنويا لا جائز أن يكون لفظيا لأن اللفظي إعادة اللفظ الأول كزيد زيد أو معناه كقمت أنا والفصل ليس هو المسند إليه ولا معناه لأنه ليس مكنيا عن المسند إليه ولا مفسرا ولا جائز أن يكون معنويا لأن ألفاظه محصورة كالنفس والعين وهذا منه نفي للتوكيد الصناعي ولبس للكلام
وفي البسيط للواحدي عند قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} قال سيبويه: دخل الفصل في قوله تعالى: {تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً} وفي قوله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً} وفي قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}

وفي قوله تعالى: {إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ} وذكر أن هذا بمنزلة "ما" في قوله تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ} انتهى
السابع: ضمير البيان للمذكر والقصة للمؤنث ويقدمونه قبل الجملة نظرا لدلالته على تعظيم الأمر في نفسه والإطناب فيه ومن ثم قيل له الشأن والقصة وعادتهم إذا أرادوا ذكر جملة قد يقدمون قبلها ضميرا يكون كناية عن تلك الجملة وتكون الجملة خبرا عنه ومفسرة له ويفعلون ذلك في مواضع التفخيم والغرض منه أن يتطلع السامع إلى الكشف عنه وطلب تفسيره وحينئذ تورد الجملة المفسرة له وقد يكون لمجرد التعظيم كقوله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا}
وقد يفيد معه الانفراد نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} أي: المنفرد بالأحدية
قال جماعة من النحاة: هو ضمير الشأن و"الله" مبتدأ ثان و"أحد" خبر المبتدأ الثاني والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ولم يفتقر إلى عائد لأن الجملة تفسير له ولكونها مفسرة لم يجب تقديمها عليه وقيل هو كناية عن الله لأنهم سألوه أن يصف ربه فنزلت
ومنه: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} ويجوز تأنيثه إذا كان في الكلام مؤنث كقوله تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ} فالهاء في {فَإِنَّهَا} ضمير القصة و{ تَعْمَى الأَبْصَارُ} في موضع رفع خبر إن وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ}

بقراءة الياء و"أن يعلمه" مبتدأ وآية الخبر والهاء ضمير القصة وأنث لوجود آية في الكلام
الثامن: تأكيد الضمير ويجب أن يؤكد المتصل بالمنفصل إذا عطف عليه كقوله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} وقوله تعالى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ}
وقيل: لا يجب التأكيد بل يشترط الفاصل بينهما بدليل قوله تعالى: {مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} فعطف {آبَاؤُنَا} على المضمر المرفوع وليس هنا تأكيد بل فاصل وهو "لا"
وهذا لا حجة فيه لأنها دخلت بعد واو العطف والذي يقوم مقام التأكيد إنما يأتي قبل واو العطف كالآيات المتقدمة بدليل قوله: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ}
ومنهم من لم يشترط فاصلا بدليل قوله: {إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ}فأكد السحر ضمير أنفسهم في الإلقاء دون ضمير موسى حيث لم يقولوا: إما أن تلقي أنت
وفيه دليل على أنهم أحبوا التقديم في الإلقاء لعلمهم بأنهم يأتون بسحر عظيم يقرر عظمته في أذهان الحاضرين فلا يرفعها ما يأتي بعدها على زعمهم وإنما ابتدءوا بموسى

فعرضوا عليه البداءة بالإلقاء على عادة العلماء والصناع في تأدبهم مع قرنائهم ومن ثم قيل تأدبوا تهذبوا وأجيب بأنه إنما لم يؤكد في الآية لأنه استغنى عن التأكيد بالتصريح بالأولية في قوله: {وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} وهذا جواب بياني لا نحوي
فإن قيل: ما وجه هذا الإطناب وهلا قالوا إما أن تلقي وإما أن نلقي فالجواب من وجهين:
أحدهما: لفظي وهو المزاوجة لرءوس الآي على سياق خواتمها من أول السورة إلى آخرها
والثاني: معنوي وهو أنه سبحانه أراد أن يخبر عن قوة أنفس السحرة واستطالتهم عند أنفسهم على موسى فجاء عنهم باللفظ أتم وأوفى منه في إسنادهم الفعل إليه
ذكر ذلك ابن جني في "خاطرياته" ثم أورد سؤالا وهو إنا نعلم أن السحرة لم يكونوا أهل لسان فيذهب بهم هذا المذهب من صيغة الكلام! وأجاب بأن جميع ما ورد في القرآن حكاية عن غير أهل اللسان من القرون الخالية إنما هو من معروف معانيهم وليست بحقيقة ألفاظهم ولهذا لا يشك في أن قوله تعالى: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى} أن هذه الفصاحة لم تجر على لغة العجم
التاسع: تصدير الجملة بضمير مبتدأ يفيد التأكيد ولهذا قيل بإفادة الحصر ذكره الزمخشري في مواضع من كشافه

قال في قوله تعالى: {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} معناه الحصر أي: لا يؤمن بالآخرة إلا هم
وقال في قوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} أن معناه: لا ينشر إلا هم وأن المنكر عليهم ما يلزمهم حصر الألوهية فيهم ثم خالف هذه القاعدة لما خالف مذهبه الفاسد في قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} فقال: هم هنا بمنزلتها في قوله:
*هم يفرشون اللِّبد كل طِمِرَّةٍ*
في دلالته على قوة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص انتهى
وبيانه أن مقتضى قاعدته في هذه الآية يدل على خروج المؤمنين الفساق من النار وليس هذا معتقده فعدل عن ذلك إلى التأويل للآية بفائدة تتم له فجعل الضمير المذكور يفيد تأكيد نسبة الخلود لهم لا اختصاصه بهم وهم عنده بهذه المثابة لأن عصاة المؤمنين وإن خلدوا في النار على زعمه إلا أن الكفار عنده أحق بالخلود وأدخل في استحقاقه من عصاة المؤمنين فتخيل في تخريج الآية على قاعدة مذهبه من غير خروج عن قاعدة أهل المعاني في اقتضاء تقديم الضمير الاختصاص والجواب عن هذا أن إفادة تقديم الضمير المبتدأ للاختصاص والحصر أقوى وأشهر عندهم من إفادة مجرد التمكن في الصفة وقد نص الجرجاني في دلائل الإعجاز على أن إفادة تقديم الفاعل على الفعل للاختصاص جليلة وأما إرادة تحقيق الأمر عند السامع أنهم بهذه الصفة وأنهم متمكنون منها فليست جليلة وإذا كان كذلك فلا يعدل عن المعنى الظاهر إلا بدليل وليس هنا ما يقتضي إخراج الكلام عن معناه الجلي كيف وقد صحت الأحاديث وتواترت على أن العصاة يخرجون من النار بشفاعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشفاعة غيره حتى لا يبقى فيها موحد أبدا فهذه

الآية فيها دليل لأهل السنة على انفراد الكفار بالخلود في النار واختصاصهم بذلك والسنة المتواترة موافقة ولا دليل للمخالف سوى قاعدة الحسن والقبيح العقليين وإلزامهم الله تعالى مما لا ينبغي لهم أن يلزموه من عدم العفو وتحقيق العقاب والخلود الأبدي للمؤمنين في النار نعوذ بالله من ذلك!
فائدة: مواضع إفادة الحصر
لا تخص إفادة الحصر بتقديم الضمير المبتدأ بل هو كذلك إذا تقدم الفاعل أو المفعول أو الجار أو المجرور المتعلقات بالفعل ومن أمثلته قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فإن الإيمان لما لم يكن منحصرا في الإيمان بالله بل لابد معه من رسله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وغيره مما يتوقف صحة الإيمان عليه بخلاف التوكل فإنه لا يكون إلا على الله وحده لتفرده بالقدرة والعلم القديمين الباقيين قدم الجار والمجرور فيه ليؤذن باختصاص التوكل من العبد على الله دون غيره لأن غيره لا يملك ضرا ولا نفعا فيتوكل عليه ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فِيهَا غَوْلٌ} ليفيد النفي عنها فقط واختصاصها بذلك بخلاف تأخيره في: {لا رَيْبَ فِيهِ} لأن نفي الريب لا يختص بالقرآن بل سائر الكتب المنزلة كذلك

العاشر: منها "هاء" التنبيه في النداء نحو: {يَا أَيُّهَا} قال سيبويه: وأما الألف والهاء اللتان لحقتا "أياً" توكيدا فكأنك كررت يا مرتين إذا قلت يأيها وصار الاسم تنبيها
هذا كلامه وهو حسن جدا وقد وقع عليه الزمخشري فقال: وكلمة التنبيه المقحمة بين الصفة وموصوفها لفائدة تبيين معاضدة حرف النداء ومكاتفته بتأكيد معناه ووقوعها عوضا مما يستحقه أي من الإضافة
الحادي عشر: "يا" الموضوعة للبعيد إذا نودي بها القريب الفطن قال الزمخشري: إنه للتأكيد المؤذن بأن الخطاب الذي يتلوه معتنى به جدا
الثاني عشر: الواو زعم الزمخشري أنها تدخل على الجملة الواقعة صفة لتأكيد ثبوت الصفة بالموصوف كما تدخل على الجملة الحالية كقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} والصحيح أن الجملة الموصوف بها لا تقترن بالواو لأن الاستثناء المفرغ لا يقع في الصفات بل الجملة حال من "قرية" لكونها عامة بتقديم إلا عليها
الثالث عشر: "إما" المكسورة كقوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} أصلها "إن" الشرطية زيدت "ما" تأكيدا وكلام الزجاج يقتضي أن سبب اللحاق نون التوكيد

وقال الفارسي: الأمر بالعكس لمشابهة فعل الشرط بدخول ما للتأكيد بالفعل المقسم عليه من جهة أنها كالعدم في القسم لما فيها من التأكيد وجميع ما في القرآن من الشرط بعد إما توكيده بالنون قال أبو البقاء: وهو القياس لأن زيادة ما مؤذنة بإرادة شدة التوكيد واختلف النحاة أتلزم النون المؤكدة فعل الشرط عند وصل إما أم لا فقال المبرد والزجاج: يلزم ولا تحذف إلا ضرورة وقال سيبويه وغيره: لا تلزم فيجوز إثباتها وحذفها والإثبات أحسن ويجوز حذف "ما" وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انتهى وجاء السماع بعدم النون بعد "إما" كقول الشاعر:
فإما تريني ولي لِمَّة
فإن الحوادث أَوْدَى بها
الرابع عشر: "أما" المفتوحة قال الزمخشري في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} إنها تفيد التأكيد
الخامس عشر : "ألا" الاستفتاحية كما صرح به الزمخشري في قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} ويدل عليه قولهم: إنها للتحقيق أي: تحقيق الجملة بعدها وهذا معنى التأكيد قال الزمخشري: ولكونها بهذا المنصب من التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم نحو: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}

السادس عشر: "ما" النافية نحو: ما زيد قائما أو قائم على لغة تميم جعل سيبويه فيها معنى التوكيد لأنه جعلها في النفي جوابا لقد في الإثبات كما أن قد فيها معنى التوكيد فكذلك ما جعل جوابا لها ذكره ابن الحاجب في شرح المفصل
السابع عشر: الباء في الخبر نحو ما زيد بمنطلق قال الزمخشري في كشافه: القديم هي عند البصريين لتأكيد النفي وقال الكوفيون: قولك: ما زيد بمنطلق جواب إن زيدا لمنطلق ما بإزاء إن والباء بإزاء اللام والمعنى راجع إلى أنها للتأكيد لأن اللام لتأكيد الإيجاب فإذا كانت بإزائها كانت لتأكيد النفي هذا كله في مؤكدات الجملة الاسمية
مؤكدات الجملة الفعلية
وأما مؤكدات الفعلية فأنواع:
أحدها: "قد" فإنها حرف تحقيق وهو معنى التأكيد وإليه أشار الزمخشري في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ م} معناه: حصل له الهدى لا محالة
وحكى الجوهري عن الخليل أنه لا يؤتى بها في شيء إلا إذا كان السامع متشوقا إلى سماعه كقولك لمن يتشوق سماع قدوم زيد قد قدم زيد فإن لم يكن لم يحسن المجيء بها بل تقول: قام زيد
وقال بعض النحاة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ

مَثَلٍ} وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ} قد في الجملة الفعلية المجاب بها القسم مثل إن واللام في الاسمية المجاب بها في إفادة التأكيد
وتدخل على الماضي نحو: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}
والمضارع نحو: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} قال الزمخشري: دخلت قد لتوكيد العلم
ويرجع ذلك لتوكيد الوعيد وبهذا يجاب عن قولهم إنما تفيد التعليل مع المضارع
وقال ابن أبان: تفيد مع المستقبل التعليل في وقوعه أو متعلقه فالأولى كقولك: زيد قد يفعل كذا وليس ذلك منه بالكثير والثاني كقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} المعنى -والله أعلم-: أقل معلوماته ما أنتم عليه
ثانيا: السين التي للتنفيس قال سيبويه في قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} معنى السين: أن ذلك كائن لا محالة وإن تأخر إلى حين
وجرى عليه الزمخشري فقال في قوله تعالى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السين تفيد وجود الرحمة لا محالة فهي تؤكد الوعد كما تؤكد الوعيد في قولك: "سأنتقم منك يوما" يعني: أنك لا تفوتني وإن تبطأت

ونحوه: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} لكن قال: في قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} معنى الجمع بين حرفي التأكيد والتأخير أن العطاء كائن لا محالة وإن تأخر
وقد اعترض عليه بأن وجود الرحمة مستفاد من الفعل "لا" من السين وبأن الوجوب المشار إليه بقوله لا محالة لا إشعار للسين به
وأجيب بوجهين:
أحدهما : أن السين موضوعه للدلالة على الوقوع مع التأخر فإذا كان المقام ليس مقام تأخير لكونه بشارة تمحضت لإفادة الوقوع وتحقيق الوقوع يصل إلى درجة الوجوب وفيه نظر لأن ذلك يستفاد من المقام لا من السين
والثاني : أن السين يحصل بها ترتيب الفائدة لأنها تفيد أمرين الوعيد والإخبار بطرقة وأنه متراخ فهو كالإخبار بالشيء مرتين ولا شك أن الإخبار بالشيء وتعيين طرقه مؤذن بتحققه عند المخبر به
ثالثها: النون الشديدة وهي بمنزلة ذكر الفعل ثلاث مرات وبالخفيفة فهي بمنزلة ذكره مرتين
قيل: وهذان النونان لتأكيد الفعل في مقابلة تأكيد الاسم بإن واللام ولم يقع

في القرآن التأكيد بالخفيفة إلا في موضعين: {وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ} وقوله تعالى: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} ولما لم يتجاوز الثلاثة في تأكيد الأسماء فكذلك لم يتجاوزها في تأكيد الأفعال قال تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} لم يزد على ثلاثة مهل وأمهل ورويدا كلها بمعنى واحد وهن فعلان واسم فعل
رابعا: "لن" لتأكيد النفي كإن في تأكيد الإثبات فتقول: لا أبرح فإذا أردت تأكيد النفي قلت: لن أبرح قال سيبويه: هي جواب لمن قال: سيفعل يعني والسين للتأكيد فجوابها كذلك وقال الزمخشري: لن تدل على استغراق النفي في الزمن المستقبل بخلاف "لا" وكذا قال في المفصل: "لن" لتأكيد ما تعطيه "لا" من نفي المستقبل وبنى على ذلك مذهب الاعتزال في قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} قال: هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين في الشامل عن المعتزلة ورد عليهم بقوله تعالى لليهود: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ. وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة فيقولون: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يعني: الموت
ومنهم من قال: لا تنفي الأبد ولكن إلى وقت بخلاف قول المعتزلة وأن النفي بلا أطول من النفي بلن لأن آخرها ألف وهو حرف يطول فيه النفس فناسب طول المدة بخلاف "لن"

ولذلك قال تعالى: {لَنْ تَرَانِي} وهو مخصص بدار الدنيا
وقال: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} وهو مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة وعلل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصت لا بزيادة مدة
وهذا ألطف من رأى المعتزلة ولهذا أشار ابن الزملكاني في التبيان بقوله: "لا" تنفي ما بعد و"لن" تنفي ما قرب وبحسب المذهبين أولوا الآيتين قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً}
ووجه القول الثاني أن: {لا يَتَمَنَّوْنَهُ} جاء بعد الشرط في قوله تعالى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا ليعمم ما هو جواب له أي زعموا ذلك في وقت ما قيل لهم تمنوا الموت وأما {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} فجاء بعد قوله: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً} أي: إن كانت لكم الدار الآخرة فتمنوا الموت الآن استعجالا للسكون في دار الكرامة التي أعدها الله لأوليائه وأحبائه وعلى وفق هذا القول جاء قوله: {لَنْ تَرَانِي}
قلت: والحق أن "لا" و"لن" لمجرد النفي عن الأفعال المستقبلة والتأبيد وعدمه يؤخذان من دليل خارج ومن احتج على التأبيد بقوله: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً} عورض بقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} ولو كانت للتأبيد لم يقيد منفيها باليوم وبقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ولو كانت

لتأبيد لكان ذكر الأبد تكريرا والأصل عدمه وبقوله: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} لا يقال: هي مقيدة فلم تفد التأبيد والكلام عند الإطلاق لأن الخصم يدعي أنها موضوعة لذلك فلم تستعمل في غيره وقد استعملت "لا" للاستغراق الأبدي في قوله تعالى: {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا } وقوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} وقوله: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} وغيره مما هو للتأبيد وقد استعملت فيه "لا" دون "لن" فهذا يدل على أنها لمجرد النفي والتأبيد يستفاد من دليل آخر
القسم الثاني: الصفة
وهي مخصصة إن وقعت صفة للنكرة وموضحة للمعرفة
الأسباب التي تأتي الصفة من أجلها
وتأتي لأسباب:
أحدها: لمجرد المدح والثناء ومنه صفات الله تعالى كقوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فليس ذكر الوصف هنا للتمييز لأنه ليس له مثل -تعالى الله عن ذلك-

حتى يوضح بالصفة وأخذ أبو الطيب هذا المعنى فذكر أسامي بعض ممدوحه ثم قال:
أساميا لم تزده معرفة
وإنما لذة ذكرناها
فقوله: لم تزده بيان أنها للإطناب والثناء لا للتعريف والتبيين
وقيل: إن الصفات الجارية على القديم سبحانه المراد بها التعريف فإن تلك الصفات حاصلة له لا لمجرد الثناء ولو كانت للثناء لكان الاختيار قطعها ومنه قوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} فهذا الوصف للمدح ليس غير لأنه ليس يمكن أن يكون ثمة نبيون غير مسلمين كذا قاله الزمخشري قال: وأريد بها التعريض باليهود وأنهم بعداء من ملة اإسلام التي هي دين الأنبياء كلهم في القديم والحديث وأن اليهود بمعزل عنها
والتحقيق أن هذه الصفة للتمييز وقد أطلق الله وصف اإسلام على الأنبياء وأتباعهم والأصل في المدح التمييز بين الممدوح وغيره بالأوصاف الخاصة والإسلام وصف عام فوصفهم بالإسلام إما باعتبار الثناء عليه أو الثناء عليهم بعد النبوة تعظيما وتشريفا له أو باعتبار أنهم بلغوا من هذا الوصف غايته لأن معنى ذلك يرجع إلى معنى الاستسلام والطاعة الراجعين إلى تحقيق معنى العبودية التي هي أشرف أوصاف العباد فكذلك يوصفون بها في أشرف حالاتهم وأكمل أوقاتهم وقوله تعالى حكاية عن إبراهيم

وإسماعيل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي: مستسلمين لأمرك لقضائك وكذا قول يوسف: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} وكذلك قوله: {النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا } تنويه بقدر الإسلام وتنبيه على عظم أمره فإن الصفة تعظم بعظم موصوفها كما وصفت الملائكة المقربون بالإيمان في قوله: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} تنويها بقدر الإيمان وحضا للبشر على التحلي به ليكونوا كالمقربين في وصف الإيمان حتى قيل أوصاف الأشراف أشرف الأوصاف
الثاني: لزيادة البيان كذا قاله ابن مالك ومثله بقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ} وليس ما قاله بواضح فإن رسول الله كما يستعمل في نبينا صلوات الله وسلامه عليه يستعمل في غيره بطريق الوضع وتعريفه إنما حصل بالإضافة
فإن قال: قد كثر استعماله في نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى إنه لم يبق الذهن يتبادر إلا إليه!
قلنا: ليس هذا من وضعه بل ذلك من الاستعمال وقد استعمل في غيره قال تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وفي موضع آخر: {رُسُلُ اللَّهِ} وفي حق عيسى: {وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ} وفي حق موسى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}

ثم إن الصفة إنما تكون مثل الموصوف أو دونه في التعريف وأما أن تكون فوقه فلا لأنها على كل حال تابعة والتابع دون المتبوع
فإن: قيل كيف يصح أن يزال إبهام الشيء بما هو أبهم منه؟
فالجواب أن التعريف لم يقع بمجرد الصفة وإنما حصل بمجموع الصفة والموصوف لأنهما كالشيء الواحد
الثالث: لتعيينه للجنسية كقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} لأن المعنى بدابة والذي سيق له الكلام الجنسية لا الإفراد بدليل قوله تعالى: {إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} فجمع {أُمَمٌ} محقق إرادة الجنس من الوصف اللازم للجنس المذكور وهو كون الدابة غير منفكة عن كونها في الأرض وكون الطائر غير منفك كونه طائرا بجناحيه لينتفي توهم الفردية هذا معنى ما أشار إليه السكاكي في المفتاح
وحمل بعضهم كلامه على أنه إنما ذكر الوصف ليعلم أن المراد ليس دابة مخصوصة وهو بعيد لأن ذلك معلوم قطعا بدون الوصف لأن النكرة المنفية -لاسيما مع "من" الاستغراقية- قطعية
وقال الزمخشري إن معنى زيادة: {فِي الأَرْضِ} و{ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} يفيد زيادة

التعميم والإحاطة حتى كأنه قيل: وما من دابة من جميع ما في الأرض وما من طائر في جو السماء من جميع ما يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم محفوظة أحوالها غير مهمل أمرها
ويحتمل أن يقال: إن الطيران لما كان يوصف به من يعقل كالجان والملائكة فلولم يقل: {بِجَنَاحَيْهِ} لتوهم الاقتصار على حبسها ممن يعقل فقيل: {بِجَنَاحَيْهِ} ليفيد إرادة هذا الطير المعتقد فيه عدم المعقولية بعينه
وقيل: إن الطيران يستعمل لغة في الخفة وشدة الإسراع في المشي كقول الحماسي:
*طاروا إليه زُرَافاتٍ ووُحْدانا*
فقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} رافع لاحتمال هذا المعنى
وقيل لو اقتصر على ذكر الطائر فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ} لكان ظاهر العطف يوهم ولا طائر في الأرض لأن المعطوف عليه إذا قيد بظرف أو حال يقيد به المعطوف وكان ذلك يوهم اختصاصه بطير الأرض الذي لا يطير بجناحيه كالدجاج والأوز والبط ونحوها فلما قال: { يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } زال هذا الوهم وعلم أنه ليس بطائر مقيد إنما تقيدت به الدابة
وأما قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ} مع أن المعلوم أن الفساد

لا يقع إلا في الأرض قيل في ذكرها تنبيه على أن المحل الذي فيه شأنكم وتصرفكم ومنه مادة حياتكم -وهي سترة أموالكم- جدير ألا يفسد فيه إذا محل الإصلاح لا ينبغي أن يجعل محل الإفساد
وهذا بخلاف قوله تعالى في سورة براءة: {وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} لأن المراد نفي النصير عنهم في جميع الأرض فلو لم يذكر لاحتمل أن يكون ذلك خاصا ببعضها
وأما قوله تعالى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} وقوله تعالى: {وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} ونحوها من المقيد -إذ القول لا يكون إلا بالفم والأكل إنما يكون في البطن- ففوائده مختلفة
فقيل: {بِأَفْوَاهِهِمْ} للتنبيه على أنه قول لا دليل عليه بل ليس فيه إلا مجرد اللسان أي لا يعضده حجة ولا برهان وإنما هو لفظ فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي هي أجراس ونغم لا تدل على شيء مؤثر لأن القول الدال على معنى قول بالفم ومؤثر في القلب وما لا معنى له مقول بالفم لا غير أو المراد بالقول المذهب أي هو مذهبهم بأفواههم لا بقلوبهم لأنه لا حجة عليه توجب اعتقاده بالقلب
وقيل: إنه رافع لتوهم إرادة حديث النفس كما في قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ}

وقيل: لأن القول يطلق على الاعتقاد فأفاد: {بِأَفْوَاهِهِمْ} التنصيص على أنه باللسان دون القلب ولو لم يقيد لم يستفد هذا المعنى ويشهد له: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ} الآية فلم يكذب ألسنتهم بل كذب ما انطوى عن ضمائرهم من خلافه
وإنما قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} لأنه يقال: أكل في بطنه إذا أمعن وفي بعض بطنه إذا اقتصر قال:
كلوا في بعض بطنكم تعفوا
فإن زمانكم زمن خميص
فكأنه قيل: يأكلون ما يجر -إذا امتلأت بطونهم- نارا
وإنما قال: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فإنه سبحانه لما دعاهم إلى التفكير والتعقل وسماع أخبار من مضى من الأمم وكيف أهلكهم بتكذيبهم رسله ومخالفتهم لهم قال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا}
قال ابن قتيبة: وهل شيء أبلغ في العظمة والعزة من هذه الآية لأن الله تعالى أراد: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالكفر والعتو فيروا بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها وبئرا يشرب أهلها فيها قد عطلت وقصرا بناه ملكه بالشيد خلا من السكن وتداعى بالخراب فيتعظوا بذلك ويخافوا من عقوبة الله مثل الذي نزل بهم!

ثم ذكر تعالى أن أبصارهم الظاهرة لم تعم عن النظر والرؤية وإن عميت قلوبهم التي في صدورهم
وقيل: لما كانت العين قد يعنى بها القلب في نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} جاز أن يعنى بالقلب العين فقيد القلوب بذكر محلها رفعا لتوهم إرادة غيرها
وقيل: ذكر محل العمى الحقيقي الذي هو أولى باسم العمى من عمى البصر كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" أي: هذا أولى بأن يكون شديدا منه فعمى القلب هو الحقيقي لا عمى البصر فأعمى القلب أولى أن يكون أعمى من أعمى العين فنبه بقوله: {الَّتِي فِي الصُّدُورِ} على أن العمى الباطن في العضو الذي عليه الصدر لا العمى الظاهر في العين التي محلها الوجه
فوائد تتعلق بالصفة
الأولى: الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة
اعلم أن الصفة العامة لا تأتي بعد الصفة الخاصة لا تقول: هذا رجل فصيح متكلم لأن المتكلم أعم من الفصيح إذ كل فصيح متكلم ولا عكس
وإذا تقرر هذا أشكل قوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ

الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} إذ لا يجوز أن يكون {نَبِيّاً} صفة لـ "رسول" لأن النبي أعم من الرسول إذ كل رسول من الآدميين نبي ولا عكس
والجواب أن يقال: إنه حال من الضمير في {رَسُولاً} والعامل في الحال ما في رسول من معنى يرسل أي كان إسماعيل مرسلا في حال نبوته وهي حال مؤكدة كقوله: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً}
الثانية: تأتي الصفة لازمة لا للتقييد
كقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} قال الزمخشري: هو كقوله: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وهي صفة لازمة نحو قوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} جيء بها للتوكيد لا أن يكون في الآلهة ما يجوز أن يقوم عليه برهان ويجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقولك من أحسن إلى زيد: لا أحق بالإحسان منه فالله مثيبه
وقال الماتريدي: هذا لبيان خاصة الإشراك بالله إلا تقوم على صحته حجة لا بيان أنه نوعان كما في قوله: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} هو بيان خاصة الطيران لا أنه نوعان

وقوله: {سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ} والسفه لا يكون إلا عن جهل وقيل: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} بمقدار قبحه وقوله: {وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} ولا يكون قتلهم إلا كذلك لأن معناه بغير الحق في اعتقادهم لأن التصريح بصفة فعلهم القبيح أبلغ في ذمهم وإن كانت تلك الصفة لازمة للفعل كما في عكسه: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} لزيادة معنى في التصريح بالصفة
وقال بعضهم: ولأن قتل النبي قد يكون بحق كقتل إبراهيم عليه السلام ولده ولو وجد لكان بحق وقال الزمخشري: إنما قيده لأنهم لم يقتلوا ولم يفسدوا في الأرض وإلا استوجبوا القتل بسبب كونه شبهة
وإنما نصحوهم ودعوهم إلى ما ينفعهم فقتلوهم ولو أنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجها يوجب عندهم القتل
وكقوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} مع أن ذلك منهي عنه في غير الحج أيضا لكن خصص بالذكر هنا لتأكيد الأمر وخطره في الحج وأنه لو قدر جواز مثل ذلك في غير الحج لم يجز في الحج كيف وهو لا يجوز مطلقا
وقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ولم يذكر مثل ذلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} لأن الرياء يقع في الحج كثيرا فاعتنى فيه بالأمر بالإخلاص
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} واتباع الهوى لا يكون إلا كذلك

وقيل بل يكون الهوى في الحق فلا يكون من هذا النوع
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} فإن حكمه تعالى حسن لمن يوقن ولمن لا يوقن لكن لما كان القصد ظهور حسنه والاطلاع عليه وصفه بذلك لأن المؤمن هو الذي يطلع على ذلك دون الجاهل
وقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ} والكتابة لا تكون إلا باليد ففائدته مباشرتهم ذلك التحريف بأنفسهم وذلك زيادة في تقبيح فعلهم فإنه يقال كتب فلان كذا وإن لم يباشره بل أمر به كما في قول علي: "كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم الحديبية".
الثالثة: قد تأتي الصفة بلفظ والمراد غيره
كقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} قيل: المراد سوداء ناصع وقيل: بل على بابها
ومنه قوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} قيل: كأنه أينق سود وسمي الأسود من الإبل أصفر لأنه سواد تعلوه صفرة
الرابعة: قد تجيء للتنبيه على التعميم
كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} مع أن المعلوم إنما يؤكل إذا أثمر

فقيل: فائدته نفي توهم توقف الإباحة على الإدراك والنضج بدلالته على الإباحه من أول إخراج الثمرة
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}
وقوله: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} فإن غير مال اليتيم كذلك لكن إنما خصه بالذكر لأن الطمع فيه أكثر لعجزه وقلة الناصر له بخلاف مال البالغ أو لأن التخصيص بمجموع الحكمين وهما النهي عن قربانه بغير الأحسن
وقوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} مع أن الفعل كذلك وقصد به ليعلم وجوب العدل في الفعل من باب أولى كقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}
الخامسة: قد يحتمل اللفظ كثيرا من الأسباب السابقة
وله أمثله منها قوله تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فإن ابن مالك وغيره من النحويين جعلوه نعتا قصد به مجرد التأكيد
ولقائل أن يقول: إن إلهين مثنى والاثنان للتثنية فما فائدة الصفة؟ وفيه وجوه:
أحدهما: قاله ابن الخباز: إن فائدتها توكيد نهي الإشراك بالله سبحانه وذلك

لأن العبرة في النهي عن اتخاذ الإلهين إنما هو لمحض كونهما اثنين فقط ولو وصف إلهين بغير ذلك من الصفات كقوله لا تتخذوا إلهين عاجزين لأشعر بأن القادرين يجوز أن يتخذا فمعنى التثنية شامل لجميع الصفات فسبحان من دقت حكمته في كل شيء!
ونظير هذا ما قال الأخفش في قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ}
الثاني: أن الوحدة تطلق ويراد بها النوعية ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنما نحن وبنو عبد المطلب شيء واحد" وتطلق ويراد بها العدد نحو: "إنما زيد رجل واحد" فالتثنية باعتبارها فلو قيل: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ} فقط لصح في موضوعه أن يكون نهيا عن اتخاذ جنسين آلهة وجاز أن يتخذ من نوع واحد أعداد آلهة لأنه يطلق عليهم أنهم واحد لاسيما وقد يتخيل أن الجنس الواحد لا تتضاد مطلوباته فيصح فلما قال: {اثْنَيْنِ} بين فيه قبح التعديد للإله وأنه منزه عن العددية وقد أومأ إليه الزمخشري بقوله: ألا ترى إنك لو قلت: إنما هو إله ولم تصفه بواحد لم يحسن وقيل لك إنك نفيت الإلهية لا الوحدانية الثالث: أنه لما كان النهي واقعا على التعدد والاثنينية دون الواحد أتى بلفظ الاثنين لأن قولك: لا تتخذ ثوبين يحتمل النهي عنهما جميعا ويحتمل النهي عن الاقتصار عليهما فإذا قلت: ثوبين اثنين علم المخاطب أنك نهيته عن التعدد والاثنينية دون الواحد وأنك إنما أردت منه الاقتصار على ثوب واحد فتوجه النفي إلى نفس التعدد والعدد

فأتى باللفظ الموضوع له الدال عليه فكأنه قال: لا تعدد الآلهة ولا تتخذ عددا تعبده إنما هو إله واحد
الرابع: أن "اتخذ" هي التي تتعدى إلى مفعولين ويكون: {اثْنَيْنِ} مفعولها الأول و{إِلَهَيْنِ} مفعولها الثاني وأصل الكلام لا تتخذوا اثنين إلهين ثم قدم المفعول الثاني على الأول ويدل على التقديم والتأخير أن إلهين أخص من اثنين واتخاذ اثنين يقع على ما يجوز وعلى مالا يجوز وأما اتخاذ اثنين إلهين فلا يقع إلا على ما يجوز وقدم إلهين على اثنين إذ المقصود بالنهي اتخاذهما إلهين فالنهي وقع على معنيين الآلهة المتخذة وعلى هذا فلا بد من ذكر الاثنين والإلهين إذ هما مفعولا الاتخاذ
قال صاحب البسيط: وهذا الوجه هو الجيد ليخرج بذلك على التأكيد وأما إذا جعل إلهين مفعول تتخذوا واثنين صفة فإنه أيضا لا يخرج عن الوصف إلى التأكيد لأنه لا يستفاد من اثنين ما استفيد من إلهين لأن الأول يدل على العدد والجنس والثاني على مجرد الاثنينية
قال: وهذا الحكم في قوله تعالى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} في دخول اثنين في حد الوصف إلا إن من قرأ بتنوين كلٍ فإنه حذف المضاف إليه وجعل التنوين عوضا عنه و{زَوْجَيْنِ} مفعول "احمل" أو "فاسلك" و"اثنين" نعت ومن يحتمل أنه متعلق بفعل الأمر ويحتمل أن يتعلق بمحذوف لكونه حالا من نكرة تقدم عليها والتقدير: احمل أو اسلك فيها زوجين اثنين من كل صنف ومن قرأ بإضافة كل احتمل وجهين: أحدهما: أن تجعل اثنين المفعول والجار والمجرور متعلق

فعل الأمر المحذوف كما تقدم والثاني: جعل من زائدة على رأي الأخفش وكل هي المفعول واثنين صفة
الخامس: أنه بدل وينوي بالأول الطرح واختاره النيلي في شرح الحاجبية قال لما فيه من حسم مادة التأويل ونظير السؤال في الآية قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ} فإن مروان بن سعد المهلبي سأل أبا الحسن الأخفش فقال: ما الفائدة في هذا الخبر؟ أراد مروان أن لفظ كانتا تفيد التثنية فما فائدة تفسيره الضمير المسمى باثنتين مع أنه لا يجوز فإن كانتا ثلاثا ولا فوق ذلك فلم يفصل الخبر الاسم في شيء ؟ فأجاب أبو الحسن بأنه أفاد العدد المحض مجردا عن الصفة أي قد كان يجوز أن يقال: فإن كانتا صغيرتين فلهما كذا أو كبيرتين فلهما كذا أو صالحتين أو غير ذلك من الصفات فلما قال: {اثْنَتَيْنِ} أفهم أن فرض الثلثين للأختين تعلق بمجرد كونهما اثنتين فقط على أي صفة وهي فائدة لا تحصل من ضمير المثنى ومعناه أنهم كانوا في الجاهلية يورثون البنين دون البنات وكانوا يقولون لا نورث إلا من يحمل الكل وينكئ العدو فلما جاء الإسلام بتوريث البنات أعلمت الآية أن العبرة في أخذ الثلثين من الميراث منوط بوجود اثنتين من الأخوات من غير اعتبار أمر زائد على العدد
قال الحريري: ولعمري لقد أبدع مروان في استنباطه وسؤاله وأحسن أبو الحسن في كشف إشكاله! ولقد نقل ابن الحاجب في أماليه هذا الجواب عن أبي علي الفارسي- وقد بينا

أنه من كلام الأخفش- ثم اعترض عليه بأن اللفظ وإن كان صالحا لإطلاقه على المثنى مجردا عن الصفات لا يصح إطلاقه خبرا دالا على التجريد من الصفات وإنما يعنى باللفظ ذاته الموضوعة له ألا ترى أنك إذا قلت: جاءني رجل لا يفهم إلا ذات من غير أن يدل على تجريد عن مرض أو جنون أو عقل فكذلك اثنتين لا تدل إلا على مسمى اثنتين فقط فلم يستفد منه شيء زائد على المستفاد من ضمير التثنية ثم لو سلم صحة إطلاق اللفظ كذلك فلا يصح هاهنا إذ لو صح لجاز أن يقال: فإن كانتا على أي صفة حصل ولو قيل ذلك لم يصح لأن تثنية الضمير في كانتا عائد على الكلالة والكلالة تكون واحدا واثنين وجماعة فإذا أخبر باثنتين حصلت به فائدة
ثم لما كان الضمير الذي في كانتا العائد على الكلالة هو في معنى اثنين صح أن تثنية لأن تثنيته فرع عن الإخبار باثنين إذ لولاه لم يصح أنه لم تستفد التثنية إلا من اثنين
وقد أورد على ذلك اعتراض آخر وهو أن هذه الآية مماثلة لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} ثم قال: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً} {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً} ولو كان على ما ذكرتم لوجب أن يصح إطلاق الأولاد على الواحد كما في الكلالة وإلا لكان الضمير لغير مذكور
والجواب بشيء يشمل الجميع وهو أن الضمير قد يعود على الشيء باعتبار المعنى الذي سيق إليه ونسب إلى صاحبه فإذا قلت إذا جاءك رجال فإن كان واحدا فافعل به كذا وإن كان اثنين فكذا صح إعادة الضمير باعتبار المعنيين لأن المقصود الجائي وكأنك قلت: وإن كان الجائي من الرجال لأنه علم من قولك: إذا جاءك والآية سيقت لبيان

الوارثين الأولاد فكأنه قيل: فإن كان الوارث من الأولاد لأنه المعنى الذي سيق له الكلام فقد دخلت الاثنان باعتبار هذا المعنى
ويجوز أن تبقى الآية الأولى على ما ذكرنا ويختص هذا الجواب بهذه
قلت: وفي هذه الآية ثلاثة أجوبة أخر:
أحدها: أنه كلام محمول على المعنى أي فإن كان من ترك اثنتين وهذا مفيد فأضمره على ما بعد و"مَن" يسوغ معها ذكر الاثنين لأنه لفظ مفرد يعبر به عن الواحد والاثنين والجمع فإذا وقع الضمير موقع "مَن" جرى مجراها في جواز الإخبار عنها بالاثنين
الثاني: أن يكون من الأشياء التي جاءت على أصولها المرفوضة كقوله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} وذلك أن حكم الأعداد فيما دون العشرة أن تضاف إلى المعدود كثلاثة رجال وأربعة أبواب فكان القياس أن يقول اثنين رجل وواحد رجل ولكنهم رفضوا ذلك لأنك تجد لفظة تجمع العدد والمعدود فتغنيك عن إضافة أحدهما إلى الآخر وهو قولك: رجلان ورجل وليس كذلك ما فوق الاثنتين ألا ترى أنك إذا قلت: ثلاثة لم يعلم المعدود ما هو؟ وإذا قلت: رجال لم يعلم عددهم ما هو فأنت مضطر إلى ذكر العدد والمعدود فلذلك قيل: كان الرجال ثلاثة ولم يقل: كان الرجلان اثنتين ولا الرجلان كانا اثنين فإذا استعمل شيء من ذلك كان استعمالا للشيء المرفوض كقوله:
*ظرف عجوز فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ*

فإن قيل: كيف يحمل القرآن عليه وإنما هو في الشعر؟
قيل: إنا وجدنا في القرآن أشياء جاءت على الأصول المرفوضة كاستحوذ ونظائرها
الثالث: أن المراد فإن كانتا اثنتين فصاعدا فعبر بالأدنى عنه وعما فوقه قاله ابن الضائع النحوي
قلت: ونظائرها قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} فإن الرجولية المثناة فهمت من الضمير بدليل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} فالظاهر أن قوله: {رَجُلَيْنِ} حال لا خبر فكأن المعنى: فإن لم يوجدا حال كونهما رجلين
ومثله قوله تعالى: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى} فإن الأنوثة فهمت من قوله: {وَضَعْتُهَا}
وأورد بعضهم السؤال في الأول فقال: الضمير في {يَكُونَا} للرجلين لأن "الشهيدين" قيدا بأنهما من الرجال فكأن الكلام: فإن لم يكن الرجلان رجلين وهذا محال
وأجاب بعضهم بما أجاب به الأخفش في آية المواريث: إن الخبر هنا أفاد العدد المجرد عن الصفة وهذا ضعيف إذ وضع فيه "الرجلين" موضع الاثنين وهو تجوز بعيد والذي ذكره الفارسي المجرد منهما الرجولية أو الأنوثية أو غيرها من الصفات فكيف يكون لفظ موضوع لصفة ما دالا على نفيها!

على أن في جواب الفارسي هناك نظرا فإنه لم يرد على أن جعل نفس السؤال جوابا كأنه قيل لم ذكر العدد وهو متضمن للضمير فقال لأنه يفيد العدد المجرد فلم يزد الألفاظ تجردا
قال: وأما من أجاب بأن {رَجُلَيْنِ} منصوب على الحال المبينة وكان تامة فهو أظرف من الأول فإنه سئل عن وجه النظم وأسلوب البلاغة ونفي مالا يليق بها من الحشو فأجاب بالإعراب ولم يجب عن السؤال بشيء والذي يرد عليه وهو خبر يرد عليه وهو حال وما زادنا إلا التكلف في جعله حالا والذي يظهر في جواب السؤال هو أن {شَهِيدَيْنِ} لما صح أن يطلق على المرأتين بمعنى شخصين شهيدين قيده بقوله تعالى: {مِنْ رِجَالِكُمْ} ثم أعاد الضمير في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا} على الشهيدين المطلقين وكان عوده عليهما أبلغ ليكون نفي الصفة عنهما كما كان إثباتها لهما فيكون الشرط موجبا ونفيا على الشاهدين المطلقين لأن قوله: {مِنْ رِجَالِكُمْ} كالشرط كأنه قال: إن كانا رجلين وفي النظم على هذا الأسلوب من الارتباط وجرى الكلام على نسق واحد مالا خفاء به وأما في آية المواريث فالظاهر أن الضمير وضع موضع الظاهر اختصارا لبيان المعنى بدليل أنه لم يتقدمه ما يدل عليه لفظا فكأنه قال: فإن كان الوارث اثنين ثم وضع ضمير الاثنين موضع الوارث الذي هو جنس لما كان المراد به منه الاثنان وأيضا فإن الإخبار عن الوارث -وإن كان جمعا- باثنين ففيه تفاوت ما لكونه مفرد اللفظ فكان الأليق بحسن النظم وضع المضمر موضع الظاهر ثم يجري الخبر على من حدث عنه -وهو الوارث- فيجري الكلام في طريقه مع الإيجاز في وضع المضمر الظاهر والسلامة من تفاوت اللفظ في الإخبار عن لفظ مفرد بمثنى

ونظير هذا مما وقع فيه اسم موضع غيره إيجازا ثم جرى الكلام مجراه في الحديث عمن هو له وإن لم يذكر قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} فعاد هذا الضمير والخبر على أهل القرية الذين أقيمت القرية في الذكر مقامهم فجرى الكلام مجراه مع حصول الإيجاز في وضع القرية موضع أهلها وفهم المعنى بغير كلفة وهذه الغاية في البيان يقصد عن مداها الإنسان
ومنها قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} قال ابن عمرون: لما فهم منها التأكيد ظن بعضهم أنها ليست بصفة وليس بجيد لأنها دلالة على بعض أحوال الذات وليس في {وَاحِدَةٌ} دلالة على نفخ فدل على أنها ليست تأكيدا
وفي فائدة {وَاحِدَةٌ} خمسة أقوال:
أحدها: التوكيد مثل قولهم: "أمس الدابر"
الثاني : وصفها ليصح أن تقوم مقام الفاعل لأنها مصدر والمصدر لا يقوم مقام الفاعل إلا إذا وصف ورد بأن تحديدها بتاء التأنيث مصحح لقيامها مقام الفاعل
الثالث: أن الوحدة لم تعلم من نفخة إلا ضمنا وتبعا لأن قولك نفخة يفهم منه أمران النفخ والوحدة فليست نفخة موضوعة للوحدة فلذلك صح وصفها
الرابع: وصفه النفخة بواحدة لأجل نفي توهم الكثرة كقوله تعالى: {إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} فالنعمة في اللفظ واحدة وقد علق عدم الإحصاء بعدها

الخامس: أتى بالوحدة ليدل على أن النفخة لا اختلاف في حقيقتها فهي واحدة بالنوع كقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ} أي: لا اختلاف في حقيقته
ومنها قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} قيل: ما فائدة {إِلَهَ} وهلا جاء وإلهكم واحد وهو أوجز قيل: لو قال: وإلهكم واحد لكان ظاهره إخبارا عن كونه واحدا في إلهيته يعني لا إله غيره ولم يكن إخبارا عن توحده في ذاته بخلاف ما إذا كرر ذكر الإله والآية إنما سيقت لإثبات أحديته في ذاته ونفي ما يقوله النصارى أنه إله واحد والأقانيم ثلاثة أي الأصول كما أن زيدا واحدا وأعضاؤه متعددة فلما قال: {إِلَهٌ وَاحِدٌ} دل على أحدية الذات والصفة
ولقائل أن يقول: قوله: {وَاحِدٌ} يحتمل الأحدية في الذات والأحدية في الصفات سواء ذكر الإله أولا فلا يتم الجواب
ومنها قوله: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ومعلوم بقوله: {الثَّالِثَةَ} أنها {الأُخْرَى} وفائدته التأكيد ومثله على رأي الفارسي: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأُولَى}
وأما قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} قيل: بمعنى "عن" أي: خر عن كفرهم بالله كما تقول: اشتكى فلان عن دواء شربه أي من أجل كفرهم أو بمعنى اللام أي فخر لهم وقيل لأن العرب لا تستعمل لفظة "على" في مثل هذا الموضع إلا في الشر والأمر المكروه تقول خربت على فلان ضيعته كقوله: {وَاتَّبَعُوا

مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وقيل: لأنه يقال: سقط عليه موضع كذا إذا كان يملكه وإن لم يكن من فوقه بل تحته فدل قوله تعالى: {مِنْ فَوْقِهِمْ} على الفوقية الحقيقية وما أحسن هذه المقابلة بالفوقية بما تقدم من قوله: {فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ} كما تقول: أخذ برجله فسقط على رأسه
السادسة: إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل
إذا اجتمع مختلفان في الصراحة والتأويل قدم الاسم المفرد ثم الظرف أو عديله ثم الجملة كقوله تعالى: {اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ} فقوله: {وَجِيهاً} حال وكذلك {مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وقوله: {يُكَلِّمُ} وقوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} فهذه أربعة أحوال انتصبت عن قوله "كلمة" والحال الأولى جيء بها على الأصل اسما صريحا والثانية في تأويله جار ومجرور وجيء بها هكذا لوقوعها فاصلة في الكلام ولو جيء بها اسما صريحا لناسبت الفواصل والثالثة جملة فعلية والرابعة جار ومجرور
ومنه قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} {قَالَ

رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا} ولما كان الظرف فيه شبه من المفرد وشبه من الجملة جعل بينهما
وقد أوجب ابن عصفور وليس كما قال فقد قال تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} ولا يقال: إن {أَذِلَّةٍ} بدل لأنه مشتق والبدل إنما يكون في الجوامد كما نص عليه هو وغيره
وأما قوله تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} فقيل: إنه من تقديم الجملة على المفرد ويحتمل أن يكون {مُبَارَكٌ} خبرا لمحذوف فلا يكون من هذا الباب
السابعة: في اجتماع التابع والمتبوع
في اجتماع التابع والمتبوع أنهم يقدمون المتبوع فيقولون: أبيض ناصع وأصفر فاقع وأحمر قان وأسود غربيب قال الله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا} والمعنى: أن التبع فيه زيادة الوصف فلو قدم لكان ذكر الموصوف بعده عيبا إلا أن يكون لمعنى أوجب تقديمه
وقد أشكل على هذه القاعدة قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} وهي من الآيات التي صدئت فيها الأذهان الصقيلة وعادت بها أسنة الألسنة مفلولة ومن جملة العجائب أن شيخا أراد أن يحتج على مدرس لما ذكر له هذا السؤال فقال: إنما ذكر السواد لأنه قد يكون في الغربان ما فيه بياض وقد رأيته ببلاد المشرق فلم يفهم من الآية إلا أن الغرابيب هو الغراب ولا قوة إلا بالله!

والذي يظهر في ذلك أن الموجب لتقديم "الغرابيب" هو تناسب الكلم وجريانها على نمط متساوي التركيب وذلك أنه لما تقدم البيض والحمر دون إتباع كان الأليق بحسن النسق وترتيب النظام أني يكون السود كذلك ولكنه لما كان في السود هنا زيادة الوصف كان الأليق في المعنى أن يتبع بما يقتضي ذلك وهو الغرابيب فيقابل حظ اللفظ وحظ المعنى فوفى الخطاب وكمل الغرضان جميعا ولم يطرح أحدهما الآخر فيقع النقص من جهة الطرح وذلك بتقديم الغرابيب على السود فوقع في لفظ الغرابيب حظ المعنى في زيادة الوصف وفي ذكر السود مفردا من الإتباع حظ اللفظ إذا جاء مجردا عن صورة البيض والحمر فاتسقت الألفاظ كما ينبغي وتم المعنى كما يجب ولم يخل بواحدة من الوجهين ولم يقتصر على الغرابيب وإن كانت متضمنة لمعنى السود لئلا تتنافر الألفاظ فإن ضم الغرابيب إلى البيض والحمر ولزها في قرن واحد:
*كابن اللبون إذا ما لزَّ في قرن*
غير مناسب لتلاؤم الألفاظ وتشاكلها وبذكر السود وقع الالتئام واتسق نسق النظام وجاء اللفظ والمعنى في درجة التمام وهذا لعمر الله من العجائب التي تكل دونها العقول وتعيا بها الألسن لا تدري ما تقول! والحمد لله

ثم رأيت أبا القاسم السهيلي أشار إلى معنى غريب فنقل عن أبي حنيفة الدينوري أن الغربيب اسم لنوع من العنب وليس بنعت قال: ومن هذا يفهم معنى الآية وسود عندي بدل لا نعت وإن كان الغربيب إذا أطلق لفظه ولم يقيد بذكر شيء موصوف قلما يفهم منه العنب الذي هو اسمه خاصة فمن ثم حسن التقييد
الثامنة: عند تكرار النعوت لواحد
إذا تكررت النعوت لواحدة فتارة يترك العطف كقوله ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم وتارة تشترك بالعطف كقوله: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} ويشترط في ذلك اختلاف معانيها قال الزمخشري وأبو البقاء: دخول العاطف يؤذن بأن كل صفة مستقلة
والعطف أحسن إن تباعد معنى الصفات نحو: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} وإلا فلا
التاسعة: فصل الجمل في مقام المدح والذم أبلغ من جعلها نمط واحدا
قال أبو على الفارسي: إذا ذكرت صفات في معرض المدح والذم فالأحسن أن يخالف في إعرابها لأن المقام يقتضي الإطناب فإذا خولف في الإعراب كان المقصود أكمل لأن المعاني عند الاختلاف تتنوع وتتفتن وعند الإيجاز تكون نوعا واحدا

ومثله في المدح قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} فانتصب {وَالْمُقِيمِينَ} على القطع وهو من صفة المرفوع الذي هو {الْمُؤْمِنُونَ} وقيل: بل انتصب بالعطف على قوله: {بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} وهو مجرور وكأنه قال: يؤمنون بالذي أنزل إليك وبالمقيمين أي بإجابة المقيمين والأول أولى لأن الموضع للتفخيم فالأليق به إضمار الفعل حتى يكون الكلام جملة لا مفردا
ومثله قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} إلى قوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ} نص عليه سيبويه
وجوز السيرافي أن يحمل على قوله: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى} إلى أن قال: {وَالصَّابِرِينَ} ورده الصفار بأنه لا يعطف على الموصول قبل تمام الصلة وإن كان {وَالصَّابِرِينَ} معطوفا على {وَالسَّائِلِينَ} فهو من صلة " من " فكذلك المعطوف عليه
والصواب أن يكون المعطوف " من " صلة من وتكون الصلة كَمٌلت

عند قوله تعالى: {وَآتَى الزَّكَاةَ} ثم أخذ في القطع
ومثاله في الذم: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} بنصب {حَمَّالَةَ}
تنبيهان
الأول: إنما يحسن القطع بشرطين أحدهما أن يكون الموصوف معلوما أو منزلا منزلة المخاطب لا يتصور عنده البناء على مجهول وقولنا " أو منزلا منزلة المعلوم " لابد منه
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} رفع على الإبدال من {الَّذِي نَزَّلَ} أو رفع على المدح أو نصب عليه
قال الطيبي: والإبدال أولى لأن من حق صلة الموصول أن تكون معلومة عند المخاطب وكونه تعالى {نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} لم يكن معلوما للعالمين فأبدل بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} بيانا وتفسيرا وتبين لك المدح
وجوابه ما ذكرنا أن المنزل بمنزلة المعلوم منزلة المعلوم وها هنا لقوة دليله أجرى مجرى المعلوم وجعلت صلة نص عليه سيبويه والجمهور
وثانيهما: أن يكون الصفة للثناء والتعظيم
واشرط بعضهم ثالثا وهو تقدم الإتباع حكاه ابن بابشاذ

وزيفه الأستاذ أبو جعفر بن الزبير وقال: إنما يتم ذلك إذا كان الموصوف يفتقر إلى زيادة بيان فحينئذ يتقدم الإتباع ليستحكم العلم بالموصوف أما إذا كان معلوما فلا يفتقر إلى زيادة بيان قال: والأصل -فيما الصفة فيه مدح أو ذم والموصوف معلوم- قطع الضمير وهو الأفصح ولا يشترط غير ذلك وقد أورد على دعوى أفصحية القطع عند ذلك إجماع القراء السبعة على الإتباع في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} فضعفوا قراءة النصب على القطع مع حصول شرطي القطع
وأجاب ابن الزبير بأن اختيار القطع مطرد ما لم تكن الصفة خاصة بمن جرت عليه لا يليق ولا يتصف بها سواه ولا شك أن هذا الضرب قليل جدا فكذلك لم يفصح سيبويه باشتراطه فإذا كانت الصف ممن لا يشارك فيها الموصوف غيره وكانت مختصة بمن جرت عليه فالوجه فيها الإتباع
ونظير ذلك في صفات الله سبحانه وتعالى مما يتصف به غيره فلذلك لم يقطع وعليه ورد السماع لهذه الآيات الشريفة
وكذلك قوله تعالى: {حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} لما كان وصفه تعالى بـ {غَافِرِ الذَّنْبِ} وما بعده لا يليق بغيره لم يكن فيه إلا الإتباع والإتباع لا يكون إلا بعد القطع ويلزم الإتباع في الكل
وهذا مع تكرر الصفات وذلك من مسوغات القطع على صفة ما وعند بعضهم من غير تقييد بصفة

وأما الإتباع فيما لم يقع فيه الاختصاص من صفته تعالى فكثير فهذا هو السماع وله وجه في القياس وهو شبيه بالوارد في سورة والنجم في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} ثم قال بعد: {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى. وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} فورد في هذه الجمل الأربع الفصل بالضمير المرفوع بين اسم إن وخبرها ليتحدد بمفهومه نفي الاتصاف عن غيره تعالى بهذه الأخبار وكان الكلام في قوة أن لو قيل: " وأنه هو لا غيره " ولم يرد هذا الضمير في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} لأن ذلك مما لا يتعاطاه أحد لا حقيقة ولا مجازا ولا ادعاء بخلاف الإحياء والإماتة فيما حكاه الله تعالى عن نمروذ
قلت: وما ذكره في الجواب يرد عليه قوله تعالى: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية وقوله تعالى: {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} الآيات
ومما يرد عليه بالنسبة لأوصاف الذم قوله: {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ. هَمَّازٍ} الآية قد جرت كلها على ما قبلها بالإتباع ولم يجئ فيها القطع
وقرأ الحسن: {عُتُلٌ} بالرفع على الذم قال الزمخشري: وهذه القراءة تقوية لما يدل عليه بعد ذلك الثاني قد يلتبس المنصوب على المدح بالاختصاص وقد فرق سيبويه بينهما فيما بين

والفرق أن المنصوب على المدح أن يكون المنتصب لفظا يتضمن نفسه مدحا نحو " هذا زيد عاقل قومه " وفي الاختصاص لا يقتضي اللفظ ذلك كقوله تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} فيمن نصب {أَهْلَ}
العاشرة: في وصف الجمع بالمفرد
يوصف الجمع بالمفرد قال تعالى: {مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى} فوصف الجمع بالمفرد وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} فوصف الأسماء وهي جمع اسم بالحسنى وهو مفرد تأنيث الأحسن
وكذلك قوله تعالى: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} فإن الأولى تأنيث الأول وهو صفة لمفرد
وإنما حسن وصف الجمع بالمفرد لأن اللفظ المؤنث يجوز إطلاقه على جماعة المؤنث بخلاف لفظ المذكر وأما قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} والبور الفاسد فقال الرماني: هو بمعنى الجمع إلا أنه ترك جمعه في اللفظ لأنه مصدر وصف
وقد يوصف الجمع بالجمع ولا يوصف مفرد كل منهما بالمفرد ومنه: {فَوَجَدَ فِيهَا

رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} فثنى الضمير ولا يقال في الواحد يقتتل
ومنه: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } ولا يقال وأخرى متشابهة
الحادية عشر: قد تدخل الواو على الجملة الواقعة صفة تأكيدا
ذكره الزمخشري وجعل منه قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} قال: الجملة صفة لقرية والقياس عدم دخول الواو فيها كما في قوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنْذِرُونَ} وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف
وقد أنكره عليه ابن مالك والشيخ أبو حيان وغيرهما والقياس مع الزمخشري لأن الصفة كالحال في المعنى وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بالواو في الصفات إلا إذا تكررت النعوت وليس كذلك ومنه قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وقوله تعالى: {آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} وتقول: جاءني زيد والعالم

الثانية عشرة: الصفة لا تقوم مقام الموصوف إلا على استكراه
لأنها إنما يؤتى بها للبيان والتخصيص أو المدح والذم وهذا في موضع الإطالة لا الاختصار فصار من باب نقص الغرض
وقال ابن عمرون: عندي أن البيان حصل بالصفة والموصوف معا فحذف الموصوف ينقص الغرض ولأنه ربما أوقع لبسا ألا ترى أن قولك: مررت بطويل يحتمل أنه رجل أو قوس أو غير ذلك إلا إذا ظهر أمره ظهورا يستغنى به عن ذكره كقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ}
قال السخاوي: ولا فرق في صفة النكرة بين أن يذكر معها أولا
قال ابن عمرون: وليس قوله بشيء
القسم الثالث: البدل
والقصد به الإيضاح بعد الإبهام وهو يفيد البيان والتأكيد أما البيان فإنك إذا قلت: رأيت زيدا أخاك بينت أنك تريد بزيد الأخ لا غير وأما التأكيد فلأنه

على نية تكرار العامل ألا ترى أنك إذا قلت ضربت زيدا جاز أن تكون ضربت رأسه أو يده أو جميع بدنه فإذا قلت " يده " فقد رفعت ذلك الإبهام فالبدل جار مجرى التأكيد الدلالة الأولى عليه أو المطابقة كما بدل الكل أو التضمن كما في بدل البعض أو الالتزام كما في بدل الاشتمال فإذا قلت: ضربت زيدا رأسه فكأنك قد ذكرت الرأس مرتين مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة وإذا قلت: شربت ماء البحر بعضه فإنه مفهوم من قولك: شربت ماء البحر أنك لم تشربه كله فجئت بالبعض تأكيدا
وهذا معنى قول سيبويه: ولكنه بني الاسم تأكيدا وجرى مجرى الصفة في الإيضاح لأنك إذا قلت: رأيت أبا عمرو زيدا ورأيت غلامك زيدا ومررت برجل صالح زيد فمن الناس من يعرفه بأنه غلامك أو بأنه رجل صالح ولا يعرف أنه زيد وعلى العكس فلما ذكرتهما أثبت باجتماعهما المقصود
وهذا معنى قول الزمخشري: وإنما يذكر الأولى لتجوز التوطئة وليفاد بمجموعهما فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإفراد
وقال ابن السيد: ليس كل بدل يقصد به رفع الإشكال الذي يعرض في المبدل منه بل من البدل ما يراد به التأكيد وإن كان ما قبله غنيا عنه كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} ألا ترى أنه لو لم يذكر الصراط الثاني لم يشك أجد أن الصراط المستقيم هو صراط الله وقد نص سيبويه على أن من البدل ما الغرض منه التأكيد ولهذا جوزوا بدل المضمر من المضمر كلقيته أباه انتهى

والفرق بينه وبين الصفة أن البدل في تقدير تكرار العامل وكأنه في التقدير من جملتين بدليل تكرر حرف الجر في قوله: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} وبدليل بدل النكرة من المعرفة والمظهر من المضمر وهذا مما يمتنع في الصفة فكما أعيدت اللام الجارة في الاسم فكذلك تكرار العامل الرافع أو الناصب في تقدير التكرار وهو إن كان كذلك فلا يخرج عن أن يكون فيه تبيين للأول كالصفة
وقيل لأبي علي: كيف يكون البدل إيضاحا للمبدل منه وهو من غير جملته؟ فقال: لما لم يظهر العامل في البدل وإنما دل عليه العامل في المبدل منه واتصل البدل بالمبدل منه في اللفظ جاز أن يوضحه
ومن فوائد البدل التبيين على وجه المدح فقولك: هل أدلك على أكرم الناس وأفضلهم فلان أبلغ من قولك: فلان الأكرم والأفضل بذكره مجملا ثم مفصلا
وقال الأخفش والواحدي في بدل البعض من الكل نحو: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} يسمى هذا بدل البيان لأن الأول يدل على العموم ثم يؤتى بالبدل إن أريد البعض
واعلم أن في كلام البدلين أعني بدل البعض وبدل الاشتمال بيانا وتخصيصا للمبدل منه وفائدة البدل أن ذلك الشيء يصير مذكورا مرتين إحداهما بالعموم والثانية بالخصوص ومن أمثلته قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ}

{آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}
وقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} وفائدة الجمع بينهما أن الأولى ذكرت للتخيص على ناصية والثانية على علة السفع ليشمل بذلك ظاهر كل ناصية هذه صفتها
ويجوز بدل المعرفة من المعرفة نحو: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ}
وبدل النكرة من المعرفة نحو: {بِالنَّاصِيَةِ. نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} قال ابن يعيش: ولا يحسن بدل النكرة من المعرفة حتى توصف كالآية لأن البيان مرتبط بهما جميعا
والنكرة من النكرة كقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً. حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً. وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً. وَكَأْساً دِهَاقاً} فحدائق وما بعدها بدل من " مفازا "
ومنه قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} فإن سود بدل من غرابيب لأن الأصل سود غرابيب فغرابيب في الأصل صفة لسود ونزع الضمير منها وأقيمت مقام الموصوف ثم أبدل منها الذي كان موصوفا بها كقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً} وقوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} فهذا بدل نكرة موصوفة من أخرى موصوفة فيها بيان الأولى
ومثل إبدال النكرة المجردة من مثلها مجردة وبدل المعرفة من النكرة: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ} لأن " صراط الله " مبين إلى الصراط

المستقيم فإن مجيء الخاص والأخص بعد العام والأعم كثير ولهذا المعنى قال الحذاق في قوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} إنه لو عكس فقيل " ما يقول من لفظ " لم يجز لأن القول أخص من اللفظ لاختصاصه بالمستعمل واللفظ يشمل المهمل الذي لا معنى له
وقد يجيء للاشتمال والفرق بينه وبين بدل البعض أن البدل في البعض جر في الاشتمال وصفا كقوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} فإن أذكره بمعنى " ذكره " وهو بدل من الهاء في {أَنْسَانِيهُ} العائدة إلى الحوت وتقديره: " وما أنساني ذكره إلا الشيطان "
وقوله: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} فـ {قِتَالٍ} بدل من "الشهر " بدل الاشتمال لأن الشهر يشتمل على القتال وعلى غيره كما كان زيد يشتمل على العقل وغيره وهو مؤكد لأنهم لم يسألوا عن الشهر الحرام فإنهم يعلمونه وإنما سألوا عن القتال فيه فجاء به تأكيدا
وقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ. النَّارِ} فالنار بدل من " الأخدود " بدل اشتمال لأنه يشتمل على النار وغيرها والعائد محذوف تقديره " الموقدة فيه"
ومن بدل البعض قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فالمستطيعون بعض الناس لا كلهم
وقال ابن برهان: بل هذه بدل كل من كل واحتج بأن الله لم يكلف الحج من لا يستطيعه فيكون المراد بالناس بعضهم على حد قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا

لَكُمْ} في أنه لفظ عام أريد به خاص لأن {النَّاسُ} في اللفظ الأول لو كان المراد به الاستغراق لما انتظم قوله بعده: {إِنَّ النَّاسَ} فعلى هذا هو عنده مطابق لعدة المستطيعين في كميتهم وهم بعض الناس لا جميعهم
والصحيح ما صار عليه الجمهور لأن باب البدل أن يكون في الثاني بيان ليس في الأول بأن يذكر الخاص بعد العام مبينا وموضحا
ولا بد في إبدال البعض من ضمير كقوله: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} {وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ}
وقد يحذف لدليل كقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ} " منهم " وهو مراد بدليل ظهوره في الآية الأخرى وهي قوله: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} فـ {مَنْ آمَنَ} بدل من {أَهْلَهُ} وهم بعضهم
وقد يأتي البدل لنقل الحكم عن مبدله نحو: جاء القوم أكثرهم وأعجبني زيد ثوبه وقال ابن عصفور: ولا يصح "غلمانه "
وعدل عن البدل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} لأنه أريد الإخبار عنهم كلهم في الحال الثاني وهو {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} فلو أبدل لأوهم بخلاف " إنك أن تقوم خير لك " البدل أرجح
والبدل في تقدير تكرير العامل وليس كالصفة ولكنه في تقدير جملتين بدليل تكرير حرف الجر

قد يكرر عامله إذا كان حرف جر كقوله: {وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ} فـ {طَلْعِهَا} بدل اشتمال من {النَّخْلِ} وكرر العامل فيه وهو "من"
وقوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} {لِمَنْ آمَنَ} بدل بعض من كل من {الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} لأن المؤمنين بعض المستضعفين وقد كرر اللام
وقوله: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} فقوله {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله: {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} وجعل ابن عطية اللام الأولى للملك والثانية للاختصاص فعلى هذا يمتنع البدل لاختلاف معنى الحرفين
وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} فـ {لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} بدل من الضمير في {لَنَا} وقد أعيد معه العامل مقصودا به التفصيل
ومنه قراءة يعقوب: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} قال أبو الفتح: جاز إبدال الثانية من الأولى لأن في الثانية ذكر سبب الجثو
قيل: ولم يظهر عامل البدل إذا كان حرف جر إيذانا بافتقار الثاني إلى الأول فإن حروف الجر مفتقرة ولم يظهروا الفعل إذا لو أظهروه لانقطع الثاني عن الأول بالكلية لأن الكلام مع الفعل قائم بنفسه

واعلم أنه لا خلاف في جواز إظهار العامل في البدل إذا كان حرف جر كالآيات السابقة فإن كان رافعا أو ناصبا ففيه خلاف والمجوزون احتجوا بقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ } يجوز أن يكون {أَمَدَّكُمْ} الثاني بدلا من {أَمَدَّكُمْ} الأول وقد يكون من إبدال الجملة من الجملة وتكون الثانية صلة " الذي " كالأولى ويجوز أن تكون الثانية شارحة للأولى كقولك ضربت رأس زيد قذفته بالحجر ثم قوله تعالى: { ياقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ} أبدل قوله: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ} من قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} لأنه أكثر تلطفا في اقتضاء اتباعهم وقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فـ {يَلْقَ} مجزوم بحذف الألف لأنه جواب الشرط ثم أبدل منه {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} فبين بها الأثام ما هو
تقسيم البدل باعتبار آخر
وينقسم البدل باعتبار آخر إلى بدل مفرد من مفرد وجملة من جملة وقد سبقا وجملة من مفرد كقوله تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} وقوله: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} وجاز إسناد {يُقَالُ} إلى ما عملت فيه كما جاز إسناد {قِيلَ} في {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} ومن إبدال الجملة من المفرد قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا

إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} قال الزمخشري: هذا الكلام كله في محل نصب بدلا من {النَّجْوَى}
ويبدل الفعل من الفعل الموافق له في المعنى مع زيادة بيان كقوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الآية
والرابع: بدل المفرد من الجملة كقوله: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} فـ {أَنَّهُمْ} بدل لأن الإهلاك وعدم الرجوع بمعنى واحد
فإن قلت: لو كان بدلا لكان معه الاستفهام؟
قيل: هو بدل معنوي
تنبيه في تكرار البدل
وقد يكرر البدل كقوله: {إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} فقوله: {إِذْ هُمَا} بدل من قوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} وقوله: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ} بدل من {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ}

تنبيه
في إعراب كلمة "آزر" في سورة الأنعام
أعربوا { آزَرَ } من قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} بدلا
قال ابن عبد السلام: والبدل لا يكون إلا للبيان والأب لا يلتبس بغيره فكيف حسن البدل؟ والجواب أن الأب يطلق على الجد بدليل قوله: {آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} فقال " آزر " لدفع توهم المجاز
هذا كله إذا قلنا: إن "آزر" اسم أبيه لكن في المعرب للجواليقي عن الزجاج لا خلاف أن اسم أبي إبراهيم "تارح" والذي في القرآن يدل على أن اسمه آزر وقيل: آزر ذم في لغتهم وكأنه يا مخطئ وهو من العجمي الذي وافق لفظه لفظ العربي نحو الإزار والإزرة قال تعالى: {أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ} وعلى هذا فالوجه الرفع في قراءة { آزَرُ }
القسم الرابع: عطف البيان
وهو كالنعت في الإيضاح وإزالة الاشتراك الكائن فيه
وشرط صاحب الكشاف فيه أن يكون وضوحه زائدا على وضوح متبوعه

ورد ما قاله بأن الشرط حصول زيادة الوضوح بسبب انضمام عطف البيان مع متبوعه لا أن الشرط كونه أوضح وأشهر من الأول لأن من الجائز أن يحصل باجتماع الثاني مع الأول زيادة وضوح لا تحصل حال انفراد كل واحد منهما كما في " خالي أبو عبد الله زيد " مع أن اللقب أشهر فيكون في كل واحد منهما خفاء بانفراده ويرفع بالانضمام
وقال سيبويه: جعل " يا هذا الحمد " عطف بيان مع أن اسم الإشارة أعرف من المضاف إلى ذي اللام وقيل: يشترط أن يكون عطف البيان معرفة والصحيح أنه ليس بشرط كقولك: لبست ثوبا جبة وقد أعرب الفارسي: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} وكذا: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} وكذلك صاحب المفتاح في: {لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين الصفة؟
قلت: عطف البيان وضع ليدل على الإيضاح باسم يختص به وإن استعمل في غير الإيضاح كالمدح في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} فإن {الْبَيْتَ الْحَرَامَ} عطف بيان جيء به للمدح لا للإيضاح وأما الصفة فوضعت لتدل على معنى حاصل في متبوعه وإن كانت في بعض الصور مفيدة للإيضاح للعلم بمتبوعها من غيرها
وكقوله تعالى: {إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ} وقوله تعالى: {آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}

وزعم الزمخشري في قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أن {مِنْ وُجْدِكُمْ} عطف بيان
وهو مردود فإن العامل إنما يعاد في البدل لا في عطف البيان
فإن قلت: ما الفرق بينه وبين البدل؟
قلت: قال أبو جعفر النحاس: ما علمت أحدا فرق بينهما إلا ابن كيسان فإن الفرق بينهما أن البدل يقرر الثاني في موضع الأول وكأنك لم تذكر الأول وعطف البيان أن تقدر أنك أن ذكرت الاسم الأول لم يعرف إلا بالثاني وإن ذكرت الثاني لم يعرف إلا بالأول فجئت بالثاني مبينا للأول قائما له مقام النعت والتوكيد
قال: وتظهر فائدة هذا في النداء تقول: يا أخانا زيد أقبل على البدل كأنك رفعت الأول وقلت: يا زيد أقبل فإن أردت عطف البيان قلت: يا أخانا زيد أقبل
القسم الخامس: ذكر الخاص بعدم العام
فيؤتى به معطوفا عليه بالواو وللتنبيه على فضله حتى كأنه ليس من جنس العام تنزيلا للتغاير في الوصف منزلة التغاير في الذات وعلى هذا بني المتنبي قوله:
فإن تَفُقِ الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال

وابن الرومي أيضا حيث قال:
كم من أب قد علا بابن ذرا شرف
كما علت برسول الله عدنان
وحكى الشيخ أثير الدين عن شيخه أبي جعفر بن الزبير أنه كان يقول: إن هذا العطف يسمى بالتجريد كأنه جرد من الجملة وأفرد بالذكر تفصيلا
وله شرطان ذكرهما ابن مالك: أحدهما كون العطف بالواو والثاني كون المعطوف ذا مزية وحكي قولين في العام المذكور: هل يتناول الخاص المعطوف عليه أولا يتناوله؟ فعلى القول الأول يكون هذا نظير مسألة "نِعم الرجل زيد" على المشهور فيه وهو الظاهر من لفظ العام وعلى الثاني يكون عطف الخاص قرينة دالة على إرادة التخصيص في العام وأنه لم يتناوله وهو نظير بحث الاستثناء في نحو قولك: قام القوم إلا زيدا من أن زيدا لم يدخل في القوم وقد يتقوى هذا بقوله
يا حب ليلى لا تغير وازدد وانم كما ينمو الخضاب في اليد
وإن كان هذا ليس من العطف العام
وقد أشار الزمخشري إلى القولين في سورة الشعراء في قوله: {جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}

وقد يقال: آية الشعراء إنما جاز فيها الاحتمالان من جهة أن لفظ "جنات" وقع بلفظ التنكير ولم يعم الجنس وأما الآية السابقة فالإضافة تعم ولا ينبغي أن يجعل من هذا قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} أما على قول أبي حنيفة ومحمد فواضح لأنهما يقولان: إن النخل والرمان ليسا بفاكهة وأما على قول أبي يوسف فقوله: " فاكهة " مطلق وليس بعام
ومن أمثلته قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} على القول بأنها إحدى الصلوات الخمس
قلنا: إن المراد غيرها كالوتر والضحى والعيد فليس من هذا الباب
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} مع أن التمسك بالكتاب يشمل كل عبادة ومنها الصلاة لكن خصها بالذكر إظهارا لمرتبتها لكونها عماد الدين
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} فإن عداوة الله راجعه إلى عداوة حزبه فيكون جبريل كالمذكور أربع مرات فإنه اندرج تحت عموم ملائكته وتحت عموم رسله ثم عموم حزبه ثم خصوصه بالتنصيص عليه
ويجوز أن يكون عومل معاملة العدد فيكون الذكر ثلاثا وذكرهما بعد الملائكة -مع كونهما من الجنس- دليل على قصد التنويه بشرفهما على أن التفصيل

إن كان بسبب الإفراد فقد عدل للملائكة مثله بسبب الإضافة وقد يلحظ شرفهما على غيرهما وأيضا فالخلاف السابق في أن ذكر بعض أفراد العام بعد العام هل يدل على أنه لم يدخل في العام فرارا من التكرار أو يدخل
وفائدته التوكيد وحكاه الروياني في "البحر" من كتاب الوصية وخرج عليه ما إذا أوصى رجل لزيد بدينار وبثلث ماله للفقراء وزيد فقير فهل يجمع له بين ما أوصى لديه وبين شيء من الثلث على ما أراد الوصي وجهان والأصح أنه لا يعطى غير الدينار لأنه بالتقدير قطع اجتهاد الوصي
قلت: والقول بعدم دخوله تحت اللفظ هو قول أبي علي الفارسي وتلميذه ابن جني وعلى هذا القول فلا يحسن عد هذه الآية من هذا النوع
وأيضا فإذا اجتمع في الكلام معطوفان هل يجعل الآخر معطوفا على الأول أو على ما يليه وقع في كلام الزمخشري في مواضع من الكشاف تجويز الأمرين
فذكر في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ} أن " مخرجا " معطوف على {فَالِقُ} لا على { يُخْرِجُ} فرارا من عطف الاسم على الفعل وخالفه ابن مالك وأوله
وذكر أيضا في قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ

وَقُضِيَ الأَمْرُ} على هذه القراءة أنه معطوف على {اللَّهُ} لأن قضاءه قديم
وذكر أيضا في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً} حاصله أن قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} إذا أريد به العموم كان قوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} عطفا على مقدر أي أنشأها وأوجدها {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً} يعني خلقكم من نفس هذه صفتها وإن أريد به المخاطبون بمكة كان قوله: {خَلَقَ} عطفا على { خَلَقَكُمْ} وموجب ذلك الفرار من التكرار
وعلى هذا فيجوز أن يكون "جبريل" معطوفا على لفظ الجلالة فلا تكون الآية من هذا النوع ولو سلمنا بعطفه على رسله فكذلك لكن الظاهر أن المراد بالرسل من بني آدم لعطفهم على الملائكة فليسوا منه وفي الآية سؤالان
أحدهما: لم خص جبريل وميكائيل بالذكر؟ الثاني : لم قدم جبريل عليه؟
والجواب عن الأول أنه سبحانه وتعالى خصهما بالحياة فجبريل بالوحي الذي هو حياة القلوب وميكائيل بالرزق الذي هو حياة الأبدان ولأنهما كانا سبب النزول في تصريح اليهود بعداوتهما
وعن الثاني أن حياة القلوب أعظم من حياة الأبدان ومن ثم قيل

عليك بالنفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان
ومنه قوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وغلط بعضهم من عد هذه الآية من هذا النوع من جهة أن فاكهة نكرة في سياق الإثبات فلا عموم لها
وهو غلط لأمرين:
أحدهما: أنها في سياق الإثبات وهو مقتضى العموم كما ذكره القاضي أبو الطيب الطبري
والثاني: أنه ليس المراد بالخاص والعام هاهنا المصطلح عليه في الأصول بل كل ما كان الأول فيه شاملا للثاني
وهذا الجواب أحسن من الأول لعمومه بالنسبة إلى كل مجموع يشتمل على متعدد ولما لمح أبو حنيفة معنى العطف وهو المغايرة لم يحنث الحالف على أكل الفاكهة بأكل الرمان
ومنه قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} إذ الأمر والنهي من جملة الدعاء إلى الخير
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} والقصد تفضيل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما نزل عليه إذ لا يتم الإيمان إلا به
وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ}

وقوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} ففائدة قوله: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا} مع دخولهم في عموم الناس أن حرصهم على الحياة أشد لأنهم كانوا لا يؤمنون بالبعث
وقوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} فهذا عام {وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} وإن كان الإيمان بالغيب يشملها ولكن خصها لإنكار المشركين لها في قولهم: {مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا} فكان في تخصيصهم بذلك مدح لهم
وقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} فعم بقوله: {خَلَقَ} جميع مخلوقاته ثم خص فقال: {خَلَقَ الإِِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} وقوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} فإنه عطف "اللحم" على "الميتة" مع دخوله في عموم الميتة لأن الميتة كل ما ليس له ذكاة شرعية والقصد به التنبيه على شدة التحريم فيه
تنبيه
ظاهر كلام الكثيرين تخصيص هذا العطف بالواو وقد سبق عن ابن مالك وآخرين مجيئه في "أو" في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} مع أن ظلم النفس

من عمل السوء فقيل: هو بمعنى الواو والمعنى: يظلم نفسه بذلك السوء حيث دساها بالمعصية
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ} فإن الوحي مخصوص بمزيد قبح من بين أنواع الافتراء خص بالذكر تنبيها على مزيد العقاب فيه والإثم
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} مع أن فعل الفاحشة داخل فيه قيل أريد به نوع من أنواع ظلم النفس وهو الربا أو كل كبيرة فخص بهذا الاسم تنبيها على زيادة قبحه وأريد بظلم النفس ما وراء ذلك من الذنوب
القسم السادس: ذكر العام بعد الخاص
وهذا أنكر بعض الناس وجوده وليس بصحيح
والفائدة في هذا القسم واضحة والاحتمالان المذكوران في العام قبله ثابتان هنا أيضا ومنه قوله: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} والنسك العبادة فهو أعم من الصلاة
وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}
وقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ}
وقوله إخبارا عن نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}

وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ}
وجعل الزمخشري منه قوله تعالى: {وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ} بعد قوله: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ}
واعلم أن هذين النوعين يقعان في الأفعال والأسماء لكن وقوعهما في الأفعال لا يأتي إلا في النفي وأما في الإثبات فليس من هذا الباب بل من عطف المطلق على المقيد أو المقيد على المطلق
القسم السابع: عطف أحد المترادفين على الآخر أو ما هو قريب منه في المعنى والقصد منه التأكيد
وهذا إنما يجيء عند اختلاف اللفظ وإنما يحسن بالواو ويكون في الجمل كقوله: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى. ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}
ويكثر في المفردات كقوله: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا}
وقوله: {فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً} {لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى}

وقوله: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}
وقوله: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ}
وقوله : {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}
وقوله: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
وقوله: {لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} قال الخليل: العوج والأمت بمعنى واحد وقيل: الأمت أن يغلظ مكان ويرق مكان قاله ابن فارس في "المقاييس" وهو راجع لما قاله الخليل
وقوله: {أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ}
وقوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً}
وقوله: {إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً}
وفرق الراغب بين النداء والدعاء بأن النداء قد يقال إذا قيل "يا" أو "أيا" ونحوه من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو: يا فلان
وقوله: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا}
وقوله: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ}

وقوله: {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} فإن "نصب" مثل "لغب" وزنا ومعنى ومصدرا وقوله: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} على قول من فسر الصلاة بالرحمة والأحسن خلافه وأن الصلاة للاعتناء وإظهار الشرف كما قاله الغزالي وغيره وهو قدر مشترك بين الرحمة والدعاء والاستغفار وعلى هذا فهو من عطف المتغايرين
وقال الزمخشري في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} إنهم هم المذكورون أولا وهو من عطف الصفة على الصفة
واعترض عليه بأن شرط عطف الصفة على الصفة تغاير الصفتين في المعنى تقول: جاء زيد العالم والجواد والشجاع أي الجامع لهذه المعاني الثلاثة المتغايرة ولا تقول: زيد العالم والعالم فإنه تكرار والآية من ذلك لأن المعطوف عليه قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} والمعطوف قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} والمنزل هو الغيب بعينه
ويحتمل أن يقال المعطوف عليه مطلق الغيب والمعطوف غيب خاص فيكون من عطف الخاص على العام
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} فإن المراد بالكتاب المنير

هو الزبور ونقله على إجماع المفسرين لما تضمنه من النعت كما تعطف النعوت بعضها على بعض وهذا يرده تكرار الباء فإنه يشعر بالفصل لأن فائدة تكرار العامل بعد حرف العطف إشعار بقوة الفصل من الأول والثاني وعدم التجوز في العطف الشيء على نفسه
والذي يظهر أنه للتأسيس وبيانه وجوه:
أحدها: أن قوله تعالى: {جَاءَتْهُمُ} يعود الضمير فيه على المكذبين للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الذين من قبلهم فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخلا في المرسلين المذكورين والكتاب المنير هو القرآن وقوله تعالى: {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} معطوف على قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي: كذبوا ثم أخذتهم بقيام الحجة عليهم {بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} وجاء تقديم قيام الحجة عليهم قبل العطف اعتراضا للاهتمام به وهو من أدق وجوه البلاغة ومثله في آية آل عمران قوله تعالى: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} وقوله: {جَاءُوا} انصراف من الخطاب إلى الغيبة كأنه قال: جاء هؤلاء المذكورون فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ داخلا في الضمير وهو في موضع جئتم بالبينات فأقام الإخبار عن الغائب مقام المخاطب كقوله تعالى: {جَرَيْنَ بِهِمْ} وفيه وجه من التعجب كأن المخاطب إذا استعظم الأمر رجع إلى الغيبة ليعم الإخبار به جميع الناس وهذا موجود في الآيتين والثاني: أن يكون على حذف مضاف كأنه قيل: الكتاب المنير يعني القرآن

فيكون مثل قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}
وهذا وجه حسن
تنبيهات
الأول: أنكر المبرد هذا النوع ومنع عطف الشيء على مثله إذ لا فائدة فيه وأوَّل ما سبق باختلاف المعنيين ولعله ممن ينكر أصل الترادف في اللغة كالعسكري وغيره
الثاني: ما ذكرناه من تخصيص هذا النوع بالواو هو المشهور وقال ابن مالك: وقد أنيبت " أو " عنها كما في قوله تعالى: {نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً} {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً}
قال شيخنا: وفيه نظر لإمكان أن يراد بالخطيئة ما وقع خطأ وبالإثم ما وقع عمدا قلت ويدل له قوله تعالى قبل ذلك: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}
وجعل منه بعضهم قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك"
قلت: ما ذكره ابن مالك قد سبقه به ثعلب فيما حكاه ابن سيده في المحكم فقال ثعلب في قوله تعالى: {عُذْراً أَوْ نُذْراً} العذر والنذر واحد

قال اللحياني: وبعضهم يثقل
وعن الفراء أنه يجري في العطف بثم وجعل منه قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} قال: معناه: "وتوبوا إليه لأن التوبة الاستغفار" وذكر بعضهم أنه قد تجرد عن العطف وجعل منه قوله تعالى: {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} والغرابيب هي السود {سُبُلاً فِجَاجاً} {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} وغير ذلك الثالث: مما يدفع وهم التكرار في مثل هذا النوع أن يعتقد أن مجموع المترادفين يحصل معنى لا يوجد عند انفراد أحدهما فإن التركيب يحدث معنى زائدا وإذا كانت كثرة الحروف تفيد زيادة المعنى فكذلك كثرة الألفاظ
القسم الثامن: الإيضاح بعد الإبهام
لِيُرَى المعنى في صورتين أو ليكون بيانه بعد التشوف إليه لأنه يكون ألذ للنفس وأشرف عندها وأقوى لحفظها وذكرها كقوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ}

وقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فإن وضع الضمير موضع الظاهر معناه البيان أو الحديث أو الأمر لله أحد مكفوا بها ثم فسر وكان أو قع في النفس من الإتيان به مفسرا من أول الأمر ولذلك وجب تقديمه وتفيد به الجملة المراد تعظيما له
وسيأتي عكسه في وضع الظاهر موضع المضمر
ومثله التفصيل بعد الإجمال كقوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}
وعكسه كقوله تعالى: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}
وقوله تعالى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وأعاد قوله: {أَرْبَعِينَ} وإن كان معلوما من الثلاثين والعشر أنها أربعون لنفي اللبس لأن العشر لما أتت بعد الثلاثين التي هي نص في المواعدة دخلها الاحتمال أن تكون من غير المواعدة فأعاد ذكر الأربعين نفيا لهذا الاحتمال وليعلم أن جميع العدد للمواعدة
وهكذا قوله تعالى: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} أعاد ذكر العشرة لما كانت الواو تجيء في بعض المواضع للإباحة وقوله: {كَامِلَةٌ} تحقيق لذلك وتأكيد له فإن قلت: فإذا كان زمن المواعدة أربعين فلم كانت ثلاثين ثم عشرا؟

أجاب ابن عساكر في "التكميل والإفهام" بأن العشر إنما فصل من أولئك ليتحدد قرب انقضاء المواعدة ويكون فيه متأهبا مجتمع الرأي حاضر الذهن لأنه لو ذكر الأربعين أولا لكانت متساوية فإذا جعل العشر فيها إتماما لها استشعرت النفس قرب التمام وتجدد بذلك عزم لم يتقدم
قال: وهذا شبيه بالتلوم الذي جعله الفقهاء في الآجال المضروبة في الأحكام ويفصلونه من أيام الأجل ولا يجعلونها شيئا واحدا ولعلهم استنبطوه من هذا
فإن قلت: فلم ذكر في هذه السورة أعني الأعراف الثلاثين ثم العشر وقال في البقرة: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} ولم يفصل العشر منها
والجواب -والله أعلم-: أنه قصد في الأعراف ذكر صفة المواعدة والإخبار عن كيفية وقوعها فذكر على صفتها وفي البقرة إنما ذكر الامتنان على بني إسرائيل بما أنعم به عليهم فذكر نعمة عليهم مجملة فقال: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ}
واعلم أنه يخرج لنا مما سبق جوابان في ذكر العشرة بعد الثلاثة والسبعة إما الإجمال بعد التفصيل وإما رفع الالتباس ويضاف إلى ذلك أجوبه:

ثالثها: أنه قصد رفع ما قد يهجس في النفوس من أن المتمتع إنما عليه صوم سبعة أيام لا أكثر ثلاثة منها في الحج ويكمل سبعا إذا رجع
رابعها: أن قاعدة الشريعة أن الجنسين في الكفارة لا يجب على المكفر الجمع بينهما فلا يلزم الحالف أن يطعم المساكين ويكسوهم ولا المظاهر العتق والصوم فلما اختلف محل هذين الصومين فكانت ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجع صارا باختلاف المحلين كالجنسين والجنسان لا يجمع بينهما وأفادت هذه الزيادة -وهي قوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} -رفع ما قد يهجس في النفوس من أنه إنما عليه أحد النوعين: إما الثلاثة وإما السبع
الخامس: أن المقصود ذكر كمال لا ذكر العشرة فليست العشرة مقصودة بالذات لأنها لم تذكر إلا للإعلام بأن التفصيل المتقدم عشرة لأن ذلك من المعلوم بالضرورة وإنما ذكر لتوصف بالكامل الذي هو مطلوب في القصة
السادس: أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير: فصيام عشرة أيام: ثلاثة في الحج وسبعة إذا رجعتم وهذا وإن كان خلاف الأصل لكن الإشكال ألجأنا إليه
السابع: أن الكفارات في الغالب إنما تجب متتابعة ككفارات الجنايات ولما فصل هاهنا بين صوم هذه الكفارة بالإفطار قبل صومها بذكر الفدية ليعلم أنها وإنما كانت منفصلة فهي كالمتصلة
فإن قلت: فكفارة اليمين لا تجب متتابعة ومن جنس هذه الكفارة ما يجب على

المحرم إذا حلق ثلاث شعرات ومن عجز عن الفدية فإنه يصوم ثلاثة أيام ولا يشترط التتابع
قلت: هي في حكم المتتابعة بالنسبة إلى الثواب إلا أن الشرع خفف بالتفريق
ثامنها: أن السبع قد تذكر والمراد به الكثرة لا العدد والذي فوق الستة ودون الثمانية وروى أبو عمرو بن العلاء وابن الأعرابي عن العرب: سبع الله لك الأجر أي أكثر ذلك يريدون التضعيف
وقال الأزهري في قوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} هو جمع السبع الذي يستعمل للكثرة وإذا كان كذلك فاحتمل أن يتوهم أن المراد بالسبع ما هو أكثر من السبع ولفظها معطوف على الثلاثة بآلة الجمع فيفضي إلى الزيادة في الكفارة على العدد المشروع فيجب حينئذ رفع هذا الاحتمال بذكر الفذلكة وللعرب مستند قوي في إطلاق السبع والسبعة وهي تريد الكثرة ليس هذا موضع ذكره تاسعها: أن الثلاثة لما عطف عليها السبعة احتمل أن يأتي بعدها ثلاثة أو غيرها من الأعداد فقيد بالعشرة ليعلم أن المراد كمل وقطع الزيادة المفضية للتسلسل
عاشرها: أن السبعة المذكورة عقب الثلاثة يحتمل أن تكون الثلاثة داخله فيها كما في قوله: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} أي مع اليومين اللذين خلق الأرض

فيهما فلا بد من اعتقاد هذا التأويل ليندفع ظاهر التناقض فجاء التقييد بالعشرة لرفع توهم التداخل وهذا الجواب أشار إليه الزمخشري ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام ترجيحه وردده ابن أبي الإصبع بأن احتمال التداخل لا يظن إلا بعددين منفصلين لم يأت بهما جملة فلو اقتصر على التفصيل احتمل ذلك فالتقييد مانع من هذا الاحتمال
وهذا أعجب منه فإن مجيء الجملة رافع لذلك الاحتمال
الحادي عش: ر أن حروف السبعة والتسعة مشتبهة فأزيل الإشكال بقوله: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} لئلا يقرءوها تسعة فيصير العدد اثني عشر ونظير هذا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا"
فائدة في التأكيد بمائة إلا واحدا
التأكيد بمائة إلا واحدا لإزالة إلباس التسعة والتسعين بالسبعة والسبعين لكن مثل هذا مأمون في القرآن لأن الله حفظه
القسم التاسع وضع الظاهر موضع المضمر
لزيادة التقرير والعجب أن البيانيين لم يذكروه في أقسام الإطناب

ومنه بيت الكتاب:
إذا الوحش ضم الوحشَ في ظُلَلاتها
سواقطُ من حَرٍّ وقد كان أظهرا
ولو أتى على وجهة لقال: "إذا الوحش ضمها"
وإنما يسأل عن حكمته إذا وقع في الجملة الواحدة فإن كان في جملتين مستقلتين كالبيت سهل الأمر لكن الجملتين فيه كالجملة الواحدة لأن الرافع للوحش الأول فعل محذوف كما يقول البصريون والفعل المذكور ساد مسد الفعل المحذوف حتى كأنه هو ولهذا لا يجتمعان وإن قدر رفع الوحش بالابتداء فالكلام جملة واحدة
ويسهل عند اختلاف اللفظين كقوله:
إذا المرء لم يغش الكريهة أوشكت
حبال الْهُوَيْنَى بالفتى أن تَقَطَّعَا
فاختلاف لفظين ظاهرين أشبها لفظي الظاهر والمضمر في اختلاف اللفظ وعليه قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} ثم قال: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ} ولم يقل: يؤذونه مع ما في ذلك من التعظيم فالجمع بين الوصفين كقوله في الحديث: "نبيك الذي أرسلت" وقوله: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الآية فإنه قد تكرر اسم الله ظاهرا في هذه الجمل الثلاث ولم يضمر لدلالته على استقلال كل جملة منها وأنها لم تحصل مرتبطة ببعضها ارتباط ما يحتاج فيه إلى إضمار
وقوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ}

وفيه دلالة على أن الطاغوت هو الشيطان وحسن ذلك هنا تنبيها على تفسيره
وقال ابن السيد: إن كان في جملتين حسن الإظهار والإضمار لأن كل جملة تقوم بنفسها كقولك: جاء زيد وزيد رجل فاضل وإن شئت قلت: وهو رجل فاضل
وقوله: {مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ}
وإن كان في جملة واحدة قبح الإظهار ولم يكد يوجد إلا في الشعر كقوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
قال: وإذا اقترن بالاسم الثاني حرف الاستفهام بمعنى التعظيم والتعجب كان المناسب الإظهار كقوله: تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} و{الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ} والإضمار جائز كقوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ}
الخروج على خلاف الأصل وأسبابه
واعلم أن الأصل في الأسماء أن تكون ظاهرة وأصل المحدث عنه كذلك والأصل أنه إذا ذكر ثانيا أن يذكر مضمرا للاستغناء عنه بالظاهر السابق كما أن الأصل في الأسماء الإعراب وفي الأفعال البناء وإذا جرى المضارع مجرى الاسم أعرب كقوله تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}

وقوله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً}
وللخروج على خلاف الأصل أسباب:
أحدها: قصد التعظيم
كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
وقوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} فأعاد ذكر الرب لما فيه من التعظيم ولهضم للخضم
وقوله تعالى: {اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ}
{وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}
{هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً}
{كُلاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}
{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً}

{وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} وقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} {الْقَارِعَةُ. مَا الْقَارِعَةُ} كان القياس ـ لولا ما أريد به من التعظيم والتفخيم ـ " الحاقة ما هي "
ومثله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} تفخيما لما ينال الفريقين من جزيل الثواب وأليم العقاب
الثاني: قصد الإهانة والتحقير
كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ }
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ}
وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}
وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ}

وقول الشاعر:
فما للنوى لا بارك الله في النوى
وعهد النوى عند الفراق ذميم
وسمع الأصمعي من ينشد:
فما للنوى جد النوى قطع النوى
كذاك النوى قطاعة للقرائن
فقال: لو قيض لهذا البيت شاة لآتت عليه
الثالث: الاستلذاذ بذكره
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ} إن كان الحق الثاني هو الأول
وقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً}
وقوله تعالى: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} ولم يقل: "منها" ولهذا عدل عن ذكر الأرض إلى الجنة وإن كان المراد بالأرض الجنة ولله در القائل:
كَرِّر على السمع منى أيها الحادي
ذكر المنازل والأطلال والنادي
وقوله:
يا مطربي بحديث من سكن الغضى
هجت الهوى وقدحت فيَّ حراق
إن كررت حديثك يا مهيج لوعتي
إن الحديث عن الحبيب تلاق

الرابع: زيادة التقدير
كقوله تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}
وقوله: {اللَّهُ الصَّمَدُ} بعد قوله: {اللَّهُ أَحَدٌ} ويدل على إرادة التقدير سبب نزولها وهو ما نقل عن ابن عباس أن قريشا قالت: يا محمد صف لنا ربك الذي تدعوننا إليه فنزل: {اللَّهُ أَحَدٌ} معناه: أن الذي سألتموني وصفه هو الله ثم لما أريد تقدير كونه الله أعيد بلفظ الظاهر دون ضميره
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ}
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
{يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ }
الخامس: إزالة اللبس حيث يكون الضمير يوهم أنه غير المراد
كقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} لو قال: "تؤتيه" لأوهم أنه الأول، قاله ابن الخشاب
وقوله تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} كرر السوء

لأنه لو قال: "عليهم دائرته" لالتبس بأن يكون الضمير عائدا إلى الله تعالى قاله الوزير المغربي في تفسيره ونظيره: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} وتبيينه: الأول النطفة أو التراب والثاني الوجود في الجنين أو الطفل والثالث الذي بعد الشيخوخة وهو أرذل العمر والقوة الأولى التي تجعل للطفل التحرك والاهتداء للثدي والثانية بعد البلوغ قاله ابن الحاجب ويؤيد الغيرية التنكير
ونحوه قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} الآية لو قال: "إنه" لأوهم عود الضمير إلى الفجر
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} فلم يقل: "عنها" لئلا يتحد الضميران فاعلا ومفعولا مع إن المظهر السابق لفظ النفس فهذا أبلغ من ضرب زيد نفسه
وكقوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} وإنما حسن إظهار الوعاء مع أن الأصل فاستخرجها منه لتقدم ذكره لأنه لو قيل ذلك لأوهم عود الضمير على الأخ فيصير كأن الأخ مباشر لطلب خروج الوعاء وليس كذلك لما في المباشر من الأذى الذي تأباه النفوس الأبية فأعيد لفظ الظاهر لنفي هذا

الله تبارك وتعالى الرب عز وجل وإنما لم يضمر الآخ فيقال ثم استخرجها من وعائه لأمرين
احدهما أن ضمير الفاعل في { استخرجها } ليوسف عليه السلام فلو قال من وعائه لتوهم أنه يوسف لأنه أقرب مذكور فأظهر لذلك
والثاني أن لأخ مذكور مضاف إليه ولم يذكر فيما تقدم مقصودا بالنسبة الإخبارية فلما احتيج إلى إعادة ما وأضيف إليه أظهره ايضا
وقوله تعالى { يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال }
{ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله }
السادس
أن يكون القصد تربية المهابة وإدخال الروعة في ضمير السامع بذكر الاسم المقتضى لذلك كما يقول الخليفة لمن يأمره بأمر أمير المؤمنين يأمرك بكذا مكان أنا أمرك بكذا
ومنه قوله تعالى { الحاقة ما الحاقة }
وقوله { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } { إن الله يأمر بالعدل والإحسان }
وقوله { وقال الذين في النار لخزنة جهنم } ولم يقل لخزنتها

السابع: قصد تقوية داعية المأمور
كقوله تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} ولم يقل "علىّ" وحين قال { عَلَى اللَّهِ} لم يقل: "إنه يحب" أو "إني أحب" تقوية لداعية المأمور بالتوكل بالتصريح باسم المتوكل عليه
وقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
الثامن: تعظيم الأمر
كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}
وقوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً. إِنَّا خَلَقْنَا الإِِنْسَانَ} ولم يقل: "خلقناه" للتنبيه على عظم خلقه للإنسان
وقوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَهِيلاً} فإنما أعيد لفظ {الْجِبَالُ} والقياس الإضمار لتقدم ذكرها مثل ما ذكرنا في "آلم السجدة" في أحد القولين

وهو قوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} وهو أن الآيتين سيقتا للتخويف والتنبيه على عظم الأمر فإعادة الظاهر أبلغ وأيضا فلو لم يذكر {الْجِبَالُ} لاحتمل عود الضمير إلى الأرض
التاسع: أن يقصد التوصل بالظاهر إلى الوصف
كقوله تعالى: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ} بعد قوله في صدر الآية: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} دون "فآمنوا بالله وبي" ليتمكن من إجراء الصفات التي ذكرها من النبي الأمي الذي يؤمن بالله فإنه لو قال وبي لم يتمكن من ذلك لأن الضمير لا يوصف ليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو من وصف بهذه الصفات كائنا من كان أنا أو غيري إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه
العاشر: التنبيه على علة الحكم
كقوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} أعلمنا أنه من كان عدوا لهؤلاء فهو كافر هذا إن خيف الإلباس لعوده للمذكورين وكذا قوله: { فَإِنَّ اللَّهَ} دون " فإنه "

وكقوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ} ولم يقل: "عليهم" لأنه ليس في الضمير ما في قوله: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} من ذكر الظلم المستحق به العذاب
وجعل منه الزمخشري قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
وقوله تعالى: {فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} والأصل "عليهم" لدلالة على أن اللعنة لحقتهم لكفرهم وليس من ذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فإن العلة قد تقدمت في الشرط وإنما فائدة ذلك إثبات صفة أخرى زائدة وقال الزمخشري: فائدته اشتماله على المتقين والصابرين
ومنه قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ} لأن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان عظيم
وقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} والقياس "أنهم لا يفلحون" ولو ذكر الظاهر لقال: "لا يفلح المفترون" أو "الكاذبون" لكن صرح بالظلم تنبيها على أن علة عدم الفلاح الظلم
وقوله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} ولم يقل: "أجرهم" تنبيها على أن صلاحهم علة لنجاتهم
وقوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ولم يقل: "لنا" لينبه

على أنه أهل لأن يصلى له لأنه ربه الذي خلقه وأبدعه ورباه بنعمته
وكقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} قال الزمخشري: أراد عدوا لهم فجاء بالظاهر ليدل على أن الله إنما عاداهم لكفرهم وأن عداوة الملائكة كفر وإذا كانت عداوة الأنبياء كفرا فما بال الملائكة وهم أشرف والمعنى ومن عاداهم عاداه الله وعاقبه اشد العقاب المهين
وقد أدمج في هذا الكلام مذهبه في تفضيل الملك على النبي وإن لم يكن مقصودا فهو كما قيل:
وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى
إلى حيث يهوى القلب تهوى به الرجل
ومثله قول مطيع:
أمي الضريح الذي أسمى
ثم استهل على الضريح
ألا ترى أنه لم يقل "عليه" لأنه باك بذكر الضريح الذي من عادته أن يبكي عليه ويحزن لذكراه
الحادي عشر: قصد العموم
كقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا} ولم يقل: "استطعمهم" للإشعار بتأكيد العموم وأنهما لم يتركا أحدا من أهلها إلا استطعماه وأبى ومع ذلك قابلهم

بأحسن الجزاء وفيه التنبيه على محاسن الأخلاق ودفع السيئة بالحسنة
وقوله تعالى: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} فإنه لو قيل: "إنها لأمارة" لاقتضى تخصيص ذلك فأتى بالظاهر ليدل على أن المراد التعميم مع أنه بريء من ذلك بقوله بعده: {إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي وقوله: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يقل: "إنه" إما للتعظيم وإما للاستلذاذ
وقوله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}
وقوله تعالى: {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} ثم قال: {فَإِنَّ الإِِنْسَانَ كَفُورٌ} ولم يقل " فإنه" مبالغة في إثبات أن هذا الجنس شأنه كفران النعم
الثاني عشر: قصد الخصوص
كقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} ولم يقل: "لك" لأنه لو أتى بالضمير لأخذ جوازه لغيره كما في قوله تعالى: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ} فعدل عنه إلى الظاهر للتنبيه على الخصوصية وأنه ليس لغيره ذلك

الثالث عشر: مراعاة التجنيس
ومنه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} السورة ذكره الشيخ عز الدين ابن عبد السلام رحمه الله
الرابع عشر: أن يتحمل ضميرا لا بد منه
كقوله: {أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}
الخامس عشر: كونه أهم من الضمير
كقوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وقال بعضهم: إنما أعيد {إِحْدَاهُمَا} لتعادل الكلم وتوازن الألفاظ في التركيب وهو المعنى في الترصيع البديعي بل هذا أبلغ من الترصيع فإن الترصيع توازن الألفاظ من حيث صيغها وهذا من حيث تركيبها فكأنه ترصيع معنوي وقلما يوجد إلا في نادر من الكلام وقد استغرب أبو الفتح ما حكى عن المتنبي في قوله:
وقد جادت الأجفان قَرْحَى من البكا
وعادت بَهَارًا في الخُدود الشقائق

قال: سألته: هل هو "قرحى" أو "قرحًا منون ؟ فقال لي: قرحا منون ألا ترى أن بعدها "وعادت بهارا" قال: يعني أن بهارا جمع بهار وقرحى جمع قرحة ثم أطنب في الثناء على المتنبي واستغرب فطنته لأجل هذا وبيان ما ذكرت في الآية أنها متضمنة لقسمين قسم الضلال وقسم التذكير فأسند الفعل الثاني إلى ظاهر حيث أسند الأول ولم يوصل بضمير مفصول لكون الأول لازما فأتى بالثاني على صورته من التجرد عن المفعول ثم أتى به خبرا بعد اعتدال الكلام وحصول التماثل في تركيبه
ولو قيل: إن المرفوع حرف لكان أبلغ في المعنى المذكور ويكون الأخير بدلا أو نعتا على وجه البيان كأنه قال: إن كان ضلال من إحداهما كان تذكير من الأخرى وقدم على "الأخرى" لفظ "إحداهما" ليسند الفعل الثاني إلى مثل ما أسند إليه الأول لفظا ومعنى والله أعلم
السادس عشر: كون ما يصلح للعود ولم يسق الكلام له
كقوله: {رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ} وكقول الشاعر:
تبكي على زيد ولا زيد مثله
برئ من الحمَّى سليم الجوانح

السابع عشر: الإشارة إلى عدم دخول الجملة في حكم الأولى
كقوله تعالى: {فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} في سورة الشورى فإن {يَمْحُ} استئناف وليس على الجواب لأن المعلق على الشرط عدم قبل وجوده وهذا صحيح في {يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وليس صحيحا في {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} لأن محو الباطل ثابت فلذلك أعيد الظاهر وأما حذف الواو من الخط فللفظ وأما حذفها في الوقف كقوله تعالى: { يَدْعُ الدَّاعِ} و{سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فللوقف ويؤكد ذلك وقوف يعقوب عليها بالواو
وهذا ملخص كلام عبد العزيز في كلامه على البزدوي وفيما ذكره نزاع وهذا أنا لا نسلم أن المعلق ها هنا بالشرط هو موجود قبل الشرط لأن الشرط هنا المشيئة وليس المحو ثابتا قبل المشيئة فإن قيل إن الشرط هنا مشيئة خاصة وهي مشيئة الختم وهذا وإن كان محذوفا فهو مذكور بالقوة شائع في كثير من الأماكن كقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} المعنى: "ولو شاء الله جمعهم لجمعهم" "ولو شاء الله عدم إيمانهم ما أشركوا" "ولو شاء الله عدم قتالهم ما اقتتلوا"

قيل: لا يكاد يثبت مفعول المشيئة إلا نادرا كما سيأتي في الحذف إن شاء الله تعالى وإذا ثبت هذا صح ما ادعيناه فإن محو الله ثابت قبل مشيئة الله الختم
فإن قلت: سلمنا أن الشرط مشيئة خاصة لكنها إنما تختص بقرينة الجواب
والجواب هنا شيئان فالمعنى إن يشأ الله الختم ومحو الباطل يختم على قلبك ويمح الباطل وحينئذ لا يتم ما ادعاه
وجوابه أن الشرط لا بد أن يكون غير ثابت وغير ممتنع ويمحو الباطل كان ثابتا فلا يصح دخوله في جواب الشرط وهذا أحسن جدا
بقي أن يقال: إن الجواب ليس كلاّ من الجملتين بل مجموع الجملتين والمجموع معدوم قبل وجود الشرط وإن كان أحدهما ثابتا
الأول
قد سبق أنه لا يشترط في وضع الظاهر موضع المضمر أن يكون بلفظ الأول ليشمل مثل قوله تعالى: {إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
وقوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} لأن إنزال الخير هنا سبب للربوبية وأعاده بلفظ " الله " لأن تخصيص الناس بالخير دون غيرهم مناسب للإلهية لأن دائرة الربوبية أوسع
ومثله: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} كما سبق

ومن فوائده: التلذذ بذكره وتعظيم المنة بالنعمة
ومن فوائده: قصد الذم وجعل الزمخشري قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ} فقال: المرء هو الكافر وهو ظاهر وضع موضع الضمير لزيادة الذم
وقال ابن عبد السلام في قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} إن "الفاسقين" يراد بهم المنافقون ويكون قد أقام الظاهر مقام المضمر والتصريح بصفة الفسق سبب لهم ويجوز أن يكون المراد العموم لكل فاسق ويدخل فيه المنافقون دخولا أوليا وكذا سائر هذه النظائر
وليس من هذا الباب قوله تعالى: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ} أي: في معاملة الأبوين {فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً}
وقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} إلى قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ}
وكذلك كل ما فيه شرط فإن الشروط أسباب ولا يكون الإحسان للوالدين سببا لغفران الله لكل تائب لأنه يلزم أن يثاب غير الفاعل بفعل غيره وهو خلاف الواقع وكذلك معاداة بعض الكفرة لا يكون سببا لمعاداة كل كافر فتعين في هذه المواضع أن يكون من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ليس إلا

الثاني
قد مرّ أن سؤال وضع الظاهر موضع المضمر حقه أن يكون في الجملة الواحدة نحو: {الْحَاقَّةُ. مَا الْحَاقَّةُ} فأما إذا وقع في جملتين فأمره سهل وهو أفصح من وقوعه في الجملة الواحدة لأن الكلام جملتان فحسن فيهما ما مالا يحسن في الجملة الواحدة ألا ترى إلى قوله:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فتكرار الموت في عجز البيت أوسع من تكراره في صدره لأنا إذا عللنا هذا إنما نقول أعاد الظاهر موضع المضمر لما أراد من تعظيم الموت وتهويل أمره فإذا عللها مكررة في عجزه عللناه بهذا وبأن الكلام جملتان
إذا علمت هذا فمثاله في الجملتين كقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} وقوله: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}
وقد أشكل الإظهار هاهنا والإضمار في المثل قوله: {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} وأجيب بأنه لما كان المراد في مدائن لوط إهلاك القرى صرح في الموضعين بذكر القرية التي يحل بها الهلاك كأنها اكتسبت الظلم معهم واستحقت الهلاك معهم إذ للبقاع تأثير في الطباع ولما كان المراد في قوم فرعون إهلاكهم بصفاتهم حيث كانوا ولم يهلك بلدهم أتى بالضمير العائد على ذواتهم من حيث هي من غير تعرض للمكان

واعلم أنه متى طال الكلام حسن إيقاع الظاهر موضع المضمر كيلا يبقى الذهن متشاغلا بسبب ما يعود عليه اللفظ فيفوته ما شرع فيه كما إذا كان ذلك في ابتداء آية أخرى كقوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ} الآية
وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ}
وقوله: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ}
وقوله: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ}
القسم العاشر
تجيء اللفظة الدالة على التكثير والمبالغة بصيغ من صيغ المبالغة
كفعال وفعيل وفعلان فإنه أبلغ من فاعل ويجوز أن يعد هذا من أنواع الاختصار فإن أصله وضع لذلك فإن ضروبا ناب عن قولك ضارب وضارب وضارب ما جاء على فعلان
أما فعلان فهو أبلغ من فعيل ومن ثم قيل الرحمن أبلغ من الرحيم وإن كانت صيغة فعيل من جهة أن فعلان من أبنية المبالغة كغضبان للممتلئ غضبا ولهذا لا يحوز التسمية به وحكاه الزجاج في تأليفه المفرد على البسملة

وأما قول الشاعر اليمامة:
* وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا *
فهو من كفرهم وتعنتهم كذا أجاب به الزمخشري
ورده بعضهم بأن النعت لا يدفع وقوع إطلاقهم وغايته أنه ذكر السبب الحامل لهم على الإطلاق وإنما الجواب أنهم لم يستعملوا الرحمن المعرف بالألف واللام وإنما استعملوه مضافا ومنكرا وكلامنا إنما هو في المعرف باللام
وأجاب ابن مالك بأن الشاعر أراد " لا زلت ذا رحمة " ولم يرد بالاسم المستعمل بالغلبة
ويدل على أن العرب كانت تعرف هذا الاسم قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيّاً مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} وأما قوله: {وَمَا الرَّحْمَنُ} فقال ابن العربي: إنما جهلوا الصفة دون الموصوف ولذلك لم يقولوا "ومن الرحمن"
وذكر البرزاباذاني أنهم غلطوا في تفسير الرحمن حيث جعلوه بمعنى المتصف بالرحمة
قال: وإنما معناه الملك العظيم العادل لدليل: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} إذ الملك يستدعي العظمة والقدرة والرحمة لخلقه لا أنه يتوقف عليها {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ} وإنما يصلح السجود لمن له العظمة والقدرة و{إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ} ولا يعاذ إلا بالعظيم القادر على الحفظ والذب

{وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً} أي: وما ينبغي للعظيم القادر على كل شيء المستغني عن معاونة الوالد وغيره أن يتخذ ولدا
{الرَّحْمَنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً} {وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ}
{قُلْ مَنْ يَكْلأُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ} ولا يحتاج الناس إلى حافظ يحفظهم من ذي الرحمة الواسعة
{إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً}
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ}
{وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ}
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ}
ولا مناسبة لمعنى الرحمة في شيء من هذه المواضع وأما "رحيم" فهو من صفات الذات كقولهم: "كريم" وما ذكرناه من أن الرحمن أبلغ ذهب إليه أبو عبيد والزمخشري وغيرهما وحكاه ابن عساكر في التكميل والإفهام عن الأكثرين

وفي كلام ابن جرير ما يفهم حكاية الاتفاق عليه ونصره السهيلي بأنه ورد على لفظ التنبيه والتنبيه تضعيف وكأن البناء تضاعفت فيه الصفة
وقال قطرب: المعنى فيهما واحد وإنما جمع بينهما في الآية للتوكيد
وكذلك قال ابن فورك قال وليس قول من زعم أن رحيما أبلغ من رحمن يجيد إذ لا فرق بينهما في المبالغة ولو قيل فعلان اشد مبالغة كان أولى ولهذا خص بالله فلا يوصف به غيره ولذلك قال بعض التابعين: الرحمن اسم ممنوع وأراد به منع الخلق أن يتسموا به ولا وجه لهذا الكلام إلا التوكيد وإتباع الأول ما هو في معنى الثاني
وقال ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر
وعن الخطابي استشكال هذا وقال لعله أرفق كما جاء في الحديث: "إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله"
وقال ابن الأنباري في الزاهر: الرحيم أبلغ من الرحمن
ورجحه ابن عساكر بوجوه منها أن الرحمن جاء متقدما على الرحيم ولو كان أبلغ لكان متأخرا عنه لأنهم في كلامهم إنما يخرجون من الأدنى إلى الأعلى فيقولون فقيه عالم وشجاع باسل وجواد فياض ولا يعكسون هذا لفساد المعنى لأنه لو تقدم الأبلغ لكان الثاني داخلا تحته فلم يكن لذكره معنى
وهذا قدر ذكره الزمخشري وأجاب عنه بأنه من باب الإرداف وأنه أردف الرحمن الذي يتناول جلائل النعم وأصولها بالرحيم ليكون كالتتمة والرديف ليتناول مارق منها ولطف

وفيه ضعف لاسيما إذا قلنا: إن الرحمن علم لا صفة وهو قول الأعلم وابن مالك وأجاب الواحدي في البسيط بأنه لما كان الرحمن كالعلم إذ لا يوصف به إلا الله قدم لأن حكم الأعلام وغيرها من المعارف أن يبدأ بها ثم يتبع الأنكر وما كان التعريف انقص
قال: وهذا مذهب سيبويه وغيره من النحويين فجاء هذا على منهاج كلام العرب
وأجاب الجويني بأن الرحمن للخلق والرحيم لهم بالرزق والخلق قبل الزرق
ومنها: أن أسماء الله تعالى إنما يقصد بها المبالغة في حقه والنهاية في صفاته وأكثر صفاته سبحانه جارية على فعيل كرحيم وقدير وعليم وحكيم وحليم وكريم ولم يأت على فعلان إلا قليل ولو كان فعلان أبلغ لكان صفات الباري تعالى عليه أكثر
قلت: وجواب هذا أن ورود فعلان بصيغة التكثير كان في عدم تكرار الوصف به بخلاف فعيل فإنه لما لم يرق في الكثرة رقته كثر في مجيء الوصف
ومنها: أنه إن كانت المبالغة في فعلان من جهة موافقة لفظ التثنية كما زعم السهيلي ففعيل من أبنية جمع الكثرة كعبيد وكليب ولا شك أن الجمع أكثر من التثنية وهذا أحسنها
قال: وقول قطرب إنهما بمعنى واحد فاسد لأنه لو كان كذلك لتساويا في التقديم والتأخير وهو ممتنع

تنبيهات
الأول
نقل عن الشيخ برهان الدين الرشيدي أن صفات الله التي هي صيغة المبالغة كغفار ورحيم وغفور ومنان كلها مجاز إذ هي موضوعة للمبالغة ولا مبالغة فيها لأن المبالغة هي أن تثبت للشيء أكثر مما له وصفات الله متناهية في الكمال لا يمكن المبالغة فيها والمبالغة أيضا تكون في صفات تقبل الزيادة والنقصان وصفات الله تعالى منزهة عن ذلك انتهى
وذكر هذا للشيخ ابن الحسن السبكي فاستحسنه وقال: إنه صحيح إذا قلنا: إنها صفات
فإن قلنا: أعلام زال ذلك
قلت: والتحقيق أن صيغ المبالغة على قسمين:
أحدهما: ما تحصل المبالغة فيه بحسب زيادة الفعل
والثاني: بحسب تعدد المفعولات
ولا شك أن تعددها لا يوجب للفعل زيادة إذ الفعل الواحد قد يقع على جماعة متعددين
وعلى هذا التقسيم يحب تنزيل جميع أسماء الله تعالى التي وردت على صيغة المبالغة كالرحمن والغفور والتواب ونحوها ولا يبقى إشكال حينئذ لهذا قال بعض المفسرين في حكم معنى المبالغة فيه تكرار حكمه بالنسبة إلى الشرائع
وقال الزمخشري في سورة الحجرات: المبالغة في التواب للدلالة على كثرة من

يتوب إليه من عباده أو لأنه ما من ذنب يقترفه المقترف إلا كان معفوا عنه بالتوبة أو لأنه بليغ في قبول التوبة نزل صاحبها منزلة من لم يذنب قط لسعة كرمه
وقد أورد بعض الفضلاء سؤالا في قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو أن قديرا من صيغ المبالغة يستلزم الزيادة على معنى قادر والزيادة على معنى قادر محال إذ الإتحاد من واحد لا يمكن فيه التفاضل باعتبار كل فرد فرد
وأجيب عنه بأن المبالغة لما لم يقدر حملها على كل فرد وجب صرفها إلى مجموع الأفراد التي دل السياق عليها والمبالغة إذن بالنسبة إلى تكثير التعلق لا بالنسبة إلى تكثير الوصف
وكذلك قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} يستحيل عود المبالغة إلى نفس الوصف إذ العلم بالشيء لا يصح التفاوت فيه فيجب صرف المبالغة فيه إلى المتعلق إما لعموم كل أفراده وإما لأن يكون المراد الشيء ولواحقه فيكون من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل
الثاني
سئل أبو علي الفارسي هل تدخل المبالغة في صفات الله تعالى فيقال: علامة؟ فأجاب بالمنع لأن الله تعالى ذم من نسب إليه الإناث لما فيه من النقص فلا يجوز إطلاق اللفظ المشعر بذلك
حكاه الجرجاني في شرح الإيضاح

================

ج6. كتاب : البرهان في علوم القرآن بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي

الثالث
أنه لو جرد عن الألف واللام لم يصرف لزيادة الألف والنون في آخره مع العلمية أو الصفة
وأورد الزمخشري بأنه لا يمنع فعلان صفة من الصرف إلا إذا كان مؤنثه فَعْلى كغضبان وغضبى وما لم يكن مؤنثه فعلى ينصرف كندمان وندمانة وتبعه ابن عساكر بأن رحمن وإن لم يكن له مؤنث على فعلى فليس له مؤنث فعلانة لأنه اسم مختص بالله تعالى فلا مؤنث له من لفظه ف إذا عدم ذلك رجع فيه إلى القياس وكل ألف ونون زائدتان فهما محمولتان على منع الصرف
قال الجويني: وهذا فيه ضعف في الظاهر وإن كان حسنا في الحقيقة لأنه إذا لم يشبه غضبان ولم يشبه ندمان من جهة التأنيث فلماذا ترك صرفه مع أن الأصل الصرف بل كان ينبغي أن يقال ليس هو كغضبان فلا يكون غير منصرف ولا يصح أن يقال ليس هو كندمان فلا يكون منصرفا لأن الصرف ليس بالشبه إنما هو بالأصل وعدم الصرف بالشبه ولم يوجد
قلت: والتقدير الذي نقلناه عن ابن عساكر يدفع هذا عن الزمخشري نعم أنكر ابن مالك على ابن الحاجب تمثيله بـ "الرحمن" لزيادة الألف والنون في منع الصرف وقال لم يمثل به غيره ولا ينبغي التمثيل به فإنه اسم علم بالغلبة لله مختص به وما كان كذلك لم يجرد من " ال " ولم يسمع مجردا إلا في النداء قليلا مثل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة

قال وقد أُنْكِر على الشاطبي
*تبارك رحمانا رحيما وموئلا*
لأنه أراد الاسم المستعمل بالغلبة
ولم يحضر الزمخشري هذا الجواب فذكر أنه من تعنتهم في كفرهم كما سبق
ما جاء على فعيل
وأما "فعيل" فعند النحاة أنه من صيغ المبالغة والتكرار كرحيم وسميع وقدير وخبير وحفيظ وحكيم وحليم وعليم فإنه محول عن "فاعل" بالنسبة وهو إنما يكون كذلك للفاعل لا للمفعول به بدليل قولهم قتيل وجريح والقتل لا يتفاوت
وقد يجيء في معنى الجمع كقوله تعالى: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} وقوله: {خَلَصُوا نَجِيّاً} وغير ذلك
ومن المشكل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} فإن النفي متوجه على الخبر وهو صيغة مبالغة ولا يلزم من نفي المبالغة نفي أصل الفعل فلا يلزم نفي أصل النسيان وهو كالسؤال الآتي في {ظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}
ويجاب عنه بما سيأتي من الأجوبة ويختص هذا بجواب آخر وهو مناسبة رؤوس الآي قبله

ما جاء على فعّال
وأما "فعال" فنحو غفار ومنان وتواب ووهاب {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} {عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} ونحو: {لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ونحو: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}
ومن المشكل قوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} وتقريره: أنه لا يلزم من نفي الظلم بصيغة المبالغة نفي أصل الظلم والواقع نفيه قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً} {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
وقد أجيب عنه باثني عشر جوابا:
أحدهما : أن "ظلاما" وإن كان يراد به الكثرة لكنه جاء في مقابلة العبيد وهو جمع كثرة إذا قوبل بهم الظلم كان كثيرا
ويرشح هذا الجواب أنه سبحانه وتعالى قال في موضع آخر: {عَلاَّ مُ الْغُيُوبِ} فقابل صيغة "فَعَّال" بالجمع وقال في موضع آخر: { عَالِمُ الْغَيْبِ} فقابل صيغة "فاعل" الدالة على أصل الفعل بالواحد وهذا قريب من الجواب عن قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} حيث احتج به المعتزلة على تفضيل الملائكة على الأنبياء

وجوابه أنه قابل عيسى بمفرده بمجموع الملائكة وليس النزاع في تفضيل الجمع على الواحد
الثاني: أنه نفى الظلم الكثير فينتفي القليل ضرورة لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة ظلمه في حق من يجوز عليه النفع كان الظلم القليل في المنفعة أكثر
الثالث: أنه على النسب واختاره ابن مالك وحكاه في شرح الكافية عن المحققين أي: "ذا ظلم" كقوله: "وليس بنبال" أي: بذي نبل أي: لا ينسب إلي الظلم فيكون من باب بزاز وعطار
الرابع: أن فعالا قد جاء غير مراد به الكثرة كقوله طرفة:
ولست بِحَلاَّلِ التَّلاع مخافةً
ولكن متى يَسْتَرْفِدِ القوم أَرْفِدِ
لا يريد أنه يحل التلاع قليلا لأن ذلك يدفعه قوله: "يسترفد القوم أرفد" هذا يدل على نفي الحال في كل حال لأن تمام المدح لا يحصل بإيراد الكثرة
الخامس: أن أقل القليل لو ورد منه سبحانه وقد جل عنه لكان كثيرا لاستغنائه عنه كما يقال زلة العالم كبيرة
ذكره الحريري في الدرة قال: وإليه أشار المخزومي في قوله:
كفوفة الظفر تخَفْىَ من حقارتها
ومثلها في سواد العين مشهور

السادس: أن نفي المجموع يصدق بنفي واحد ويصدق بنفي كل واحد ويعيَّن الثاني في الآية للدليل الخارجي وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ}
السابع: أنه أراد ليس بظالم ليس بظالم ليس بظالم فجعل في مقابلة ذلك {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ}
الثامن: أنه جواب لمن قال ظلام والتكرار إذا ورد جوابا لكلام خاص لم يكن له مفهوم كما إذا خرج مخرج الغالب
التاسع : أنه قال: "بظلام" لأنه قد يظن أن من يعذب غيره عذابا شديدا ظلام قبل الفحص عن جرم الذنب
العاشر: أنه لما كان صفات الله تعالى صيغة المبالغة فيها وغير المبالغة سواء في الإثبات جرى النفي على ذلك
الحادي عشر: أنه قصد التعريض بأن ثمة ظلاما للعبيد من ولاة الجور
وأما "فُعَال" بالتخفيف والتشديد نحو عجاب وكبار قال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} وقال : {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} قال المعري في "اللامع العزيزي": "فَعيل" إذا أريد به المبالغة نقل به إلى "فُعال" وإذا أريد به الزيادة شدوا فقال "فُعَّال" ذلك من عجيب وعُجَاب وعُجَّاب وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي

{إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَّابٌ} بالتشديد وقالوا طَويل وطُوّال ويقال نسب قريب وقُراب وهو أبلغ قال الحارث بن ظالم:
وكنت إذا رأيت بني لُؤَي
عرفت الودَّ والنسب القُرابا
ما جاء على فَعُول
وأما "فَعُول" كغفور وشكور وودود فمنه قوله تعالى: {إِنَّ الإِِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
وقوله تعالى في نوح: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً}
وقد أطربني قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} فقلت: الحمد لله الذي ما قال "الشاكر" فإن قيل: قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } كيف غاير بين الصفتين وجعل المبالغة من جانب الكفران؟
قلت: هذا سأله الصاحب بن عباد للقاضي عبد الجبار بن أحمد المعتزلي فأجاب بأن نعم الله على عباده كثيرة وكل شكر يأتي في مقابلتها قليل وكل كفر يأتي في مقابلتها عظيم فجاء شكور بلفظ "فاعل" وجاء كفور "فَعول" على وجه المبالغة فتهلل وجه الصاحب
ما جاء على فَعِل
وأما "فَعِل" فقوله تعالى: {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}

وقوله تعالى: {كَذَّابٌ أَشِرٌ} قرن "فَعِلا" بفَعَّال
ما جاء على فَعُل
وأما "فَعُل" فيكون صفة كقوله تعالى: {أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً} اللبد الكثير وقوله تعالى: {إِنَّهَا َلإِحْدَى الْكُبَرِ}
ويكون مصدر كهُدى وتُقى ويكون معدولا عن "أَفْعَل" من كذا كقوله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} وقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} كما قال: {أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى}
ما جاء على فُعْلى
وأما فُعْلى فيكون اسما كالشورى والرجعى قال الله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} وقال تعالى: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا}
ويكون صفة كالحسنى في تأنيث الأحسن والسوأى في تأنيث الأسوأ قال تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ}
قال الفارسي: يحتمل السوءى تأويلين:
أحدهما: أن يكون تأنيث "الأسوأ" والمعنى كان عاقبتهم لخلة السوءى فتكون

السوءى على هذا خارجة من الصلة فتنصب على الموضع وموضع "أن" نصب فإنه مفعول له أي كان عاقبتهم الخصلة السوءى لتكذيبهم
الثاني: أن يكون السوأى مصدرا مثل الرُجعَى وعلى هذا فهي داخلة في الصلة ومنتصبة بأساءوا كقوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} ويكون {أَنْ كَذَّبُوا} نصبا لأنه خبر كان
ويجوز في إعراب {السُّوأَى}وجه ثالث وهو: أن يكون في موضع رفع صفة "العاقبة" وتقديرها: ثم كان عاقبتهم المذمومة التكذيب
و"الفُعْلى" في هذا الباب وإن كانت في الأصل صفة بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى} وقوله تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى} فجرت صفة على موصوفها فإنها في كثير من الأمور تجري مجرى الأسماء كالأبطح والأجرع والأدهم

المجلد الثالث

تابع النوع السادس والأربعون

...
القسم الحادي عشر: المثنى وإرادة الواحد .
كقوله تعالى: {يخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} ونظيره قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} وإنما تخرج الحلية من الملح وقد غلط في هذا المعنى أبو ذؤيب الهذلي حيث قال يذكر الدرة:
فجاء بها ما شئت من لطمية ... يدوم الفرات فوقها ويموج
والفرات لا يدوم فوقها وإنما يدوم الأجاج.
وقال أبو علي في قوله تعالى: {عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} إن ظاهر اللفظ يقتضي أن يكون من مكة والطائف جميعا ولما لم يمكن أن يكون منهما دل المعنى على تقدير"رجل من إحدى القريتين".
وقوله تعالى: {وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً} أي في إحداهن.

وقوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} والناسي كان يوشع بدليل قوله لموسى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ} ولكن أضيف النسيان لهما جميعا لسكوت موسى عنه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} والتعجيل يكون في اليوم الثاني وقوله: {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} قيل إنه من هذا أيضا وإن موضع الإثم والتعجيل يجعل المتأخر الذي لم يقصر مثل ما جعل للمقصر ويحتمل أن يراد:لا يقولن أحدهما لصاحبه أنت مقصر فيكون المعنى لا يؤثم أحدهما صاحبه.
وقوله تعالى: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} وقوله تعالى: {جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ} أي أحدهما على أحد القولين.
وقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فالجناح على الزوج لأنه أخذ ما أعطى قال أبو بكر الصيرفي: المعنى: فإن خيف من ذلك جازت الفدية وليس الشرط أن يجتمعا على عدم الإقامة.
وقوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} قيل هو خطاب للملك وقال المبرد: ثناه على"ألق"والمعنى: ألق ألق وكذلك القول في"قفا"وخالفه أبو إسحاق وقال بل هو مخاطبة للملكين.

وقال الفراء في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قال: يخاطب الإنسان مخاطبه بالتثنية.
وجعل منه قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} وقوله تعالى: {جَنَّتَيْنِ} فقيل: جنة واحدة بدليل قوله تعالى آخر الآية: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} فأفرد بعد ما ثنى.
وقوله: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} فإنه ما ثنى هنا إلا للإشعار بأن لها وجهين وأنك إذا نظرت عن يمينك ويسارك رأيت في كلتا الناحيتين ما يملآ عينيك قرة وصدرك مسرة.
وقوله تعالى: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} وإنما المتخذ إلها عيسى دون مريم فهو من باب"والنجوم الطوالع" قاله أبو الحسن وحكاه عنه ابن جني في كتاب "القد" وعليه حمل ابن جني وغيره قول امرئ القيس:
*قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل*
.

ويؤيده قوله بعده:
أصاح ترى برقا أريك وميضه
وقول الفرزدق:
عشية سال المربدان كلاهما ... سحابة موت بالسيوف الصوارم
وإنما هو مربد البصرة فقط.
وقوله: "ودار لها بالرقمتين".
وقوله: "ببطن المكتين".
وقول جرير:
لما مررت بالديرين ارقني ... صوت الدجاج وقرع بالنواقيس
قالوا: أراد "دير الوليد" فثناه باعتبار ما حوله.
القسم الثاني عشر. إطلاق الجمع وإرادة الواحد.
كقوله: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} إلى قوله: {فَذَرْهُمْ.

فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} قال أبو بكر الصيرفي: فهذا خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إذ لا نبي معه ولا بعده.
ومثله: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الآية وهذا مما لا شريك فيه والحكمة في التعبير بصيغة الجمع أنه لما كانت تصاريف أقضيته سبحانه وتعالى تجري على أيدي خلقه نزلت أفعالهم منزلة قبول القول بمورد الجمع.
وجعل منه ابن فارس قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} والرسول كان واحدا بدليل قوله تعالى: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}.
وفيه نظر من جهة أنه يحتمل مخاطبة رئيسهم فإن العادة جارية لاسيما من الملوك ألا يرسلوا واحدا.
ومنه: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} وغير ذلك وقد تقدم في وجوه المخاطبات.
ومنه: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} والمراد جبريل.
وقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} والمراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} والمراد بهم ابن مسعود الثقفي وإنما.

جاز إطلاق لفظ "الناس" على الواحد لأنه إذا قال الواحد قولا وله أتباع يقولون مثل قوله حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل قال الله تعالى: {إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} والقائل ذلك رءوسهم وقيل: المراد بالناس ركب من عبد القيس دسهم أبو سفيان إلى المسلمين وضمن لهم عليه جعلا قاله ابن عباس وابن إسحاق وغيرهما.
القسم الثالث عشر: إطلاق لفظ التثنية والمراد الجمع.
كقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} فإنه وإن كان لفظه لفظ التثنية فهو جمع والمعنى "كرات" لأن البصر لا يحسر إلا بالجمع.
وجعل منه بعضهم قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}.
القسم الرابع عشر: التكرار على وجه التأكيد.
وهو مصدر كرر إذا ردد وأعاد هو "تَفْعال" بفتح التاء وليس بقياس بخلاف التفعيل.

وقال الكوفيون: هو مصدر "فَعَّل" والألف عوض من الياء في التفعيل والأول مذهب سيبويه.
وقد غلط من أنكر كونه من أساليب الفصاحة ظنا أنه لا فائدة له وليس كذلك بل هو من محاسنها لاسيما إذا تعلق بعضه ببعض وذلك أن عادة العرب في خطاباتها إذ أبهمت بشيء إرادة لتحقيقه وقرب وقوعه أو قصدت الدعاء عليه كررته توكيدا وكأنها تقيم تكراره مقام المقسم عليه أو الاجتهاد في الدعاء عليه حيث تقصد الدعاء وإنما نزل القرآن بلسانهم وكانت مخاطباته جارية فيما بين بعضهم وبعض وبهذا المسلك تستحكم الحجة عليهم في عجزهم عن المعارضة وعلى ذلك يحتمل ما ورد من تكرار المواعظ والوعد والوعيد لأن الإنسان مجبول من الطبائع المختلفة وكلها داعية إلى الشهوات ولا يقمع ذلك إلا تكرار المواعظ والقوارع قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} قال في "الكشاف" أي سهلناه للادكار والاتعاظ بأن نسجناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد.
ثم تارة يكون التكرار مرتين كقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}.
وقوله: {أََوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
وقوله: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}.
وقوله: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}.

وقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}.
وقوله: {فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ}.
وفائدته العظمى التقرير وقد قيل الكلام إذا تكرر تقرر.
وقد أخبر الله سبحانه بالسبب الذي لأجله كرر الأقاصيص والأخبار في القرآن فقال: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}.
وقال: {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً}.
وحقيقته إعادة اللفظ أو مرادفه لتقرير معنى خشية تناسي الأول لطول العهد به.
فإن أعيد لا لتقرير المعنى السابق لم يكن منه كقوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ}.
فأعاد قوله: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} قوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} لا لتقرير الأول بل لغرض آخر لأن معنى الأول الأمر بالإخبار أنه مأمور بالعبادة لله والإخلاص له فيها ومعنى الثاني أنه يخص الله وحده دون غيره بالعبادة والإخلاص ولذلك قدم المفعول على فعل العبادة في الثاني.

وأخر في الأول لأن الكلام أولا في الفعل وثانيا فيمن فعل لأجله الفعل.
واعلم أنه إنما يحسن سؤال الحكمة عن التكرار إذا خرج عن الأصل أما إذا وافق الأصل فلا ولهذا لا يتجه سؤالهم لم كرر "إياك" في قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
فقيل إنما كررت للتأكيد كما تقول "بين زبد وبين عمرو مال".
وقيل إنما كررت لارتفاع أن يتوهم إذا حذفت أن مفعول "نستعين" ضمير متصل واقع بعد الفعل فتفوت إذ ذاك الدلالة على المعنى المقصود بتقديم المعمول على عامله.
والتحقيق أن السؤال غير متجه لأن هنا عاملين متغايرين كل منهما يقتضي معمولا فإذا ذكر معمول كل واحد منهما بعده فقد جاء الكلام على أصله والحذف خلاف الأصل فلا وجه للسؤال عن سبب ذكر ما الأصل ذكره ولا حاجة إلى تكلف الجواب عنه وقس بذلك نظائره.
فوائد التكرير.
وله فوائد:.
أحدها: التأكيد،واعلم أن التكرير أبلغ من التأكيد لأنه وقع في تكرار التأسيس وهو أبلغ من التأكيد فإن التأكيد يقرر إرادة معنى الأول وعدم التجوز فلهذا قال الزمخشري في قوله تعالى: {كَلاَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} إن الثانية تأسيس لا تأكيد لأنه جعل الثانية أبلغ في الإنشاء فقال: وفي {ثُمَّ} تنبيه على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول.

وكذا قوله: {مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} وقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} يحتمل أن يكون منه وأن يكون من المتماثلين.
والحاصل أنه:هل هو إنذار تأكيد أو إنذاران؟ إن قلت":سوف تعلم ثم سوف تعلم "كان أجود منه بغير عطف لتجريه على غالب استعمال التأكيد ولعدم احتماله لتعدد المخبر به.
وأطلق بدر الدين بن مالك في شرح" الخلاصة "أن الجملة التأكيدية قد توصل بعاطف ولم تختص بثم وإن كان ظاهر كلام والده التخصيص وليس كذلك فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ} فإن المأمور فيهما واحد كما قاله النحاس والزمخشري والإمام فخر الدين والشيخ عز الدين ورجحوا ذلك على احتمال أن تكون" التقوى "الأولى مصروفة لشيء غير" التقوى "الثانية مع شأن إرادته.
وقولهم:إنه تأكيد فمرادهم تأكيد المأمور به بتكرير الإنشاء لا أنه تأكيد لفظي ولو كان تأكيدا لفظيا لما فصل بالعطف ولما فصل بينه وبين غيره: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ}.
فإن قلت:"اتقوا" الثانية معطوفة على "ولتنظر".

أجيب بأنهم قد اتفقوا على أن: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} قولوا للناس حسنا معطوف على: {لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ} لا على قوله: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} وهو نظير ما نحن فيه.
وقوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ} وقوله: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} ويحتمل أن يكون "اصطفاءين" و"ذكرين" وهو الأقرب في الذكر لأنه محل طلب فيه تكرار الذكر.
وكقوله تعالى حكاية عن موسى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ} كرر "أولئك".
وكذلك قوله: {أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
وكذا قوله: {فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي} إلى قوله: {مِنَ الْمُصْلِحِينَ} كررت "أن" في أربع مواضيع تأكيدا.
وقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ}.
الثاني: زيادة التنبيه على ما ينفى التهمة ليكمل تلقي الكلام بالقبول ومنه قوله.

تعالى: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} فإنه كرر فيه النداء لذلك.
الثالث: إذا طال الكلام وخشى تناسى الأول أعيد ثانيا تطرية له وتجديدا لعهده كقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وقوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا} الآية.
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} ثم قال: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} فهذا تكرار للأول ألا ترى أن لما لا تجيء بالفاء!.
ومثله: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ} ثم قال: {فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ}.
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا}.
ومنه قوله: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ}.
وقوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَاباً وَعِظَاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} فقوله: {أَنَّكُمْ} الثاني بناء على الأول إذ كارا به خشية تناسيه.
وقوله: {وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.

وكذلك قوله: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} إلى قوله: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
بغير {إِنَّا} وفي غيره من مواضع ذكر {إِنَّا كَذَلِكَ} لأنه يبنى على ما سبقه في هذه القصة من قوله {إِنَّا كَذَلِكَ} فكأنه طرح فيما اكتفى بذكره أولا عن ذكره ثانيا ولأن التأكيد بالنسبة فاعتبر اللفظ من حيث هو دون توكيده.
ويحتمل أن يكون من باب الاكتفاء وهذا أسلوب غريب وقل في القرآن وجوده وأكثر ما يكون عند تقدم مقتضيات الألفاظ كالمبتدأ وحروف الشرطين الواقعين في الماضي والمضارع ويستغنى عنه عند أمر محذور التناسي.
وقد يرد منه شيء يكون بناؤه بطريق الإجمال والتفصيل بأن تتقدم التفاصيل والجزئيات في القرآن فإذا خشى عليها التناسي لطول العهد بها بنى على ما سبق بها بالذكر الجملي كقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ} إلى قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فقوله "فبظلم" بيان لذكر الجملي على ما سبق في القول من التفصيل وذلك أن الظلم جملى على ما سبق من التفاصيل من النقض والكفر وقتل الانبياء {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} والقول على مريم بالبهتان ودعوى قتل المسيح عليه السلام إلى ما تخلل ذلك من أسلوب الاعتراض بها موضعين وهما قوله: {بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} وقوله: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ} إلى قوله: {شَهِيداً} وأنه لما ذكر بالبناء جملى الظلم من قوله "فبظلم" لأنه يعم على كل ما تقدم وينطوى عليه ذكر حينئد متعلق الجملى من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} عقب الباء لأن العامل في الأصل حقه أن بلى معموله فقال: {فَبِظُلْمٍ مِنَ

الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا} هو متعلق بقوله: {فَبِظُلْمٍ} وقد اشتمل الظلم على كل ما تقدم قبله كما أنه أيضا اشتمل على كل ما تأخر من المحرمات الآخر التي عددت بعد ما اشتملت على ذكر الشيء بالعموم والخصوص فذكرت الجزئيات الأولى بخصوص كل واحد ثم ذكر العام المنطوي عليها فهذا تعميم بعد تخصيص ثم ذكرت جزئيات آخر بخصوصها فتركيب الأساليب من وجوه كثيرة في الآية وهو التعميم بعد التخصيص ثم التخصيص بعد التعميم ثم البناء بعد الاعتراض.
ومنه قوله تعالى: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} إلى قوله: {عَذَاباً أَلِيماً} فقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} إلى قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} هو المقتضى الاول المتقدم وقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} هو المقتضى الثاني وهو البناء لأنه المذكر بالمقتضى الأول الذي هو "لولا" خشية تناسيه فهو مبنى على الأول ثم أورد مقتضاها من الجواب بقوله: {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ} ورودا واحدا من حيث أخذا معا كأنهما مقتضى منفرد من حيث هما واحد بالنوع وهو الشرط الماضي فقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} بناء على قوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ} نظر في المضارعة وأما قوله: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فيجوز أن يكون تكريرا ويجوز أن يكون الكلام عند قوله: {وَأَصْلَحُوا} ويكون الثاني بيانا لمجمل لا تكريرا.
وقد جعل ابن المنير من هذا القسم قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ} ثم قال: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً}.

وقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} ثم قال: {لَوْ تَزَيَّلُوا} ونازعه العراق لأن المعاد فيهما أخص من الأول وهذا يجيء في كثير مما ذكرنا ولا بد أن يكون وراء التكرير شيء أخص منه كما بينا.
الرابع: في مقام التعظيم والتهويل كقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ِ}.
وقوله: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ}.
وقوله: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ}.
وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
الخامس: في مقام الوعيد والتهديد كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} وذكر "ثم" في المكرر دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وفيه تنبيه على تكرر ذلك مرة بعد أخرى وإن تعاقبت عليه الأزمنة لا يتطرق إليه تغيير بل هو مستمر دائما.

السادس: التعجب كقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} فأعيد تعجبا من تقديره وإصابته الغرض على حد قاتله الله ما أشجعه!.
السابع: لتعدد المتعلق كما في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} فإنها وأن تعددت فكل واحد منها متعلق بما قبله وإن الله تعالى خاطب بها الثقلين من الإنس والجن وعدد عليهم نعمه التي خلقها لهم فكلما ذكر فصلا من فصول النعم طلب إقرارهم واقتضاهم الشكر عليه وهي أنواع مختلفة وصور شتى.
فإن قيل فإذا كان المعنى في تكريرها عد النعم واقتضاء الشكر عليها فما معنى قوله: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ} وأي نعمة هنا! وإنما هو وعيد.
قيل: إن نعم الله فيما أنذر به وحذر من عقوباته على معاصيه ليحذروها فيرتدعوا عنها نظير أنعمه على ما وعده وبشر من ثوابه على طاعته ليرغبوا فيها ويحرصوا عليها وإنما تتحقق معرفة الشيء بأن تعتبره بضده والوعد والوعيد وإن تقابلا في ذواتهما فإنهما متقاربان في موضع النعم بالتوقيت على ملاك الأمر منها وعليه قول بعض حكماء الشعراء:
والحادثات وإن أصابك بؤسها فهو الذي أنباك كيف نعيمها
وإنما ذكرنا هذا لتعلم الحكمة في كونها زادت على ثلاثة ولو كان عائدا لشيء واحد لما زاد على ثلاثة لأن التأكيد لا يقع به أكثر من ثلاثة.
فإن قيل: فإذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب بل هي ألفاظ أريد بها غير ما أريد بالآخر.

قلت: إن قلنا: العبرة بعموم اللفظ فكل واحد أريد به غير ما أريد بالآخر.
وقد تكلف لتوجيه العدة التي جاءت عليها هذه الآية مكررة قال الكرماني جاءت آية واحدة في هذه السورة كررت نيفا وثلاثين مرة لأن ست عشرة راجعة إلى الجنان لأن لها ثمانية أبواب وأربعة عشر منها راجعة إلى النعم والنقم فأعظم النقم جهنم ولها سبعة أبواب وجاءت سبعة في مقابلة تلك الأبواب وسبعة عقب كل نعمة ذكرها للثقلين.
وقال غيره: نبه في سبع منها على ما خلقه الله للعباد من نعم الدنيا المختلفة على عدة أمهات النعم وأفرد سبعا منها للتخويف وإنذارا على عدة أبواب المخوف منه وفصل بين الأول والسبع الثواني بواحدة سوى فيها بين الخلق كلهم فيما كتبه عليهم من الفناء حيث اتصلت بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} فكانت خمس عشرة أتبعت بثمانية في وصف الجنان وأهلها على عدة أبوابها ثم بثمانية أخر في وصف الجنتين اللتين من دون الأوليين لذلك ايضا فاستكملت إحدى وثلاثين.
ومن هذا النوع قوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} في سورة المراسلات عشر مرات لأنه سبحانه ذكر قصصا مختلفة وأتبع كل قصة بهذا القول فصار كأنه قال عقب كل قصة ويل للمكذبين بهذه القصة وكل قصة مخالفة لصحابتها فأثبت الويل لمن كذب بها.
ويحتمل أنه لما كان جزاء الحسنة بعشر أمثالها وجعل للكفار في مقابلة كل مثل من الثواب ويل ومنها في سورة الشعراء قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ

وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} في ثمانية مواضع لأجل الوعظ فإنه قد يتأثر بالتكرار من لا يتأثر بالمرة الواحد.
وأما قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً} فذلك لظهور آيات الأنبياء عليهم السلام والعجب من تخلف من لا يتأملها مع ظهورها.
وأما مناسبة قوله :{الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} فإنه تعالى نفى الإيمان عن الأكثر، فدل بالمفهوم على إيمان الأقل فكانت العزة على من لم يؤمن والرحمة لمن آمن وهما مرتبتان كترتيب الفريقين. ويحتمل أن يكون من هذا النوع قوله تعالى :{كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} الآية، لأن علمهم يقع أولا وثانيا على نوعين مختلفين بحسب المقام وهذا أقرب للحقيقة الوضعية وحال المعبر عنه فإن المعاملات الإلهية للطائع والعاصي متغيرة الأنواع الدنيوية البرزخية ثم الحشرية كما أن أحوال الاستقرار بعد الجميع في الغايقة بل كل مقام من هذه أنواع مختلفة وفي [ثم] دلالة على الترقي إن لم يجعل الزمان مرتبا في الإنذار على التكرار وفي المنذر به على التنويع.
ومنه تكرار :{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} قال الزمخشري: كرر ليجدوا عند سماع كل نبإ منها اتعاظا وتنبيها وأن كلا من تلك الانباء مستحق باعتبار يختص به وأن يتنبهوا كيلا يغلبهم السرور والغفلة ومنه قوله تعالى قل يأيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون إلى آخرها.

يحكى أن بعض الزنادقة سأل الحسن بن علي رضي الله عنه عن هذه الآية فقال: إني أجد في القرآن تكرارا وذكر له ذلك فأجابه الحسن بما حاصله: إن الكفار قالوا: نعبد إلهك شهرا ونعبك آلهتنا شهرا فجاء النفي متوجها إلى ذلك والمقصود أن هذه ليست من التكرار في شيء بل هي بالحذف والاختصار أليق وذلك لأن قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} ، أي لا أعبد في المستقبل ما تعبدون في المستقبل وقوله :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} ،أي ولا أنا عابد في الحال ما عبدتم في المستقبل {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ} في الحال ما أعبد في المستقبل.
والحاصل أن القصد نفى عبادته لآلهتهم في الآزمنة الثلاثة الحال والماضي والاستقبال والمذكور في الآية النفي في الحال والاستقبال وحذف الماضي من جهته ومن جهتهم ولا بد من نفيه لكنه حذف لدلالة الأولين عليه.
وفيه تقدير آخر وهو أن الجملة الأولى فعلية والثانية أسمية وقولك: لا أفعله، ولا أنا فاعله، أحسن من قولك لا أفعله، ولا أفعله. فالجملة الفعلية نفي لإمكانه والاسمية لانصافه كما في قوله تعالى :{وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}.{وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ}. والمعنى أنه تبرأ من فعله ومن الاتصاف به وهو أبلغ في النفي وأما المشركون فلم ينتف عنهم الا بصيغة واحدة، وهي قوله :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} في الموضعين.
وفرق آخر وهو أنه قال في نفيه الجملة الاسمية :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} وقال في النفي عنهم :{وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} عائد في حقه بين الجملتين وقال لا أعبد ما تعبدون بالمضارع وفي الثاني :{وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} بالماضي فإن المضارع يدل على الدوام بخلاف الماضي فأفاد ذلك أن ما عبدتموه ولو مرة ما أنا عابد له البتة ففيه كمال.

براءته ودوامها مما عبدوه ولو مرة بخلاف قوله :{لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} فإن النفي من جنس الاثبات وكلاهما مضارع يظهران جملة ومنفردا.
ومنه تكرير الأمر بالتوجه إلى البيت الحرام في ثلاث آيات من سورة البقرة1 لن المنكرين لتحويل القبلة كانوا ثلاثة أصناف من الناس اليهود لأنهم لا يقولون بالنسخ في أصل مذهبهم وأهل النفاق أشد إنكارا له لأنه كان أول نسخ نزل وكفارة قريش قالوا ندم محمد على فراق ديننا فيرجع إليه كما رجع إلى قبلتناوكانوا قبل ذلك يحتجون عليه فيقولون يزعم محمد أنه يدعونا إلى ملة إبراهيم وإسماعيل وقد فارق قبلتهما وآثر عليها قبلة اليهود وقال الله تعالى حين أمره بالصلاة إلى الكعبة :{لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} والاستثناء منقطع، أي لكن الذين ظلموا منهم لا يرجعون ولا يهتدون. وقال سبحانه :{الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي الذين أشركوا فلا تمتر في ذلك وقال تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ، أي يكتمون ما علموا أن الكعبة هي قبلة الأنبياء.
ومنه قوله تعالى: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ. وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ}.
وقال صاحب [الينبوع]:لم يبلغني عن المفسرين فيه شيء.

وقال المفسرون في غريب القرآن: هما في المعنى كالآيتين المتقدمتين فكرر للتأكيد وتشديد الوعيد.
ويحتمل أن يكون [الحين] في الأوليين يوم بدر، و[الحين] في هاتين يوم فتح مكة.
ومن فوائد قوله تعال في الأوليين :{ وَأَبْصِرْهُمْ } وفي هاتين { وَأَبْصِرْ } أن الأولى بنزول العذاب بهم يوم بدر قتلا وأسرا وهزيمة ورعبا فما تضمنت التشفي بهم قيل له :{وَأَبْصِرْهُمْ} ،وأما يوم الفتح فإنه اقترن بالظهور عليهم الإنعام بتأمينهم والهداية إلى إيمانهم فلم يكن وفقا للتشفي بهم بل كان في استسلامهم وإسلامهم لعينه قرة ولقلبه مسرة فقيل له :{ أَبْصِرْ }.
ويحتمل على هذا إن شاء الله أن يكون من فوائد قوله تعالى في هذه :{فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي يبصرون منك عليهم بالأمان ومننا عليهم بالإيمان.
ومنه قوله تعالى :{لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}.
وللتكرار [هنا] فائدتان:.
إحداهما: أن التحريم قد يكون في الطرفين ولكن يكون المانع من إحداهما كما لو ارتدت الزوجية قبل الدخول يحرم النكاح من الطرفين والمانع من جهتهما فذكر الله سبحانه الثانية ليدل على أن التحريم كما هو ثابت في الطرفين كذلك المانع منهما.
والثانية: أن الأولى دلت على ثبوت التحريم في الماضي ولهذا أتى فيها بالاسم الدال على الثبوت والثانية في المستقبل ولهذا أتى فيها بالفعل المستقبل.

ومنه تكرار الإضراب.
واعلم أن بل إذا ذكرت بعد كلام موجب فمعناها الإضراب.
وهو أما أن يقع في كلام الخلق ومعناه إبطال ما سبق على طريق الغلط من المتكلم أو أن الثاني أولى.
وإما أن يقع في كلام الله تعالى وهو ضربان:.
أحدهما: أن يكون ما فيها من الرد راجعا إلى العباد كقوله تعالى :{قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ}.
والثاني: أن يكون إبطالا ولكنه على أنه قد انقضى وقته وأن الذي بعده أولى بالذكر كقوله تعالى :{بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الآخِرَةِ}.{بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ}.
وزعم ابن مالك في شرح [الكافية ] أن [بل] حيث وقعت في القرآن فإنها للاستئناف لغرض آخر لإبطال وهو مردود بما سبق وبقوله :{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} ،فأضرب بها عن قولهم، وأبطل كذبهم.
وقوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} أضرب بها عن حقيقة إتيانهم الذكور وترك الازواج.
ومنه قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}، .

فالأول للمطلقين والثاني للشهود، نحو: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} ،أولها للأزواج وآخرها للأولياء .
ومنه تكرار الأمثال، كقوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ}.
وكذلك ضرب مثل المنافقين أول البقرة ثناه الله تعالى.
قال الزمخشري:" والثاني أبلغ من الأول لأنه أدل على فرط الحيرة وشدة الأمر وفظاعته"، قال:" ولذلك أخر وهم يتدرجون في نحو هذا من الأهون إلى الأغلظ".
ومنه تكرار القصص في القرآن كقصة إبليس في السجود لآدم وقصة موسى وغيره من الأنبياء، قال بعضهم: ذكر الله موسى في مائة وعشرين موضعا من كتابه، قال ابن العربي في القواصم:" ذكر الله قصة نوح في خمسة وعشرين آية، وقصة موسى في سبعين آية". انتهى.
وإنما كررها لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر وهي أمور:

أحدها: أنه إذا كرر القصة زاد فيها شيئا ألا ترى أنه ذكر الحية1 في عصا موسى عليه السلام وذكرها في موضع آخر ثعبانا ففائدته أن ليس كل حية ثعبانا وهذه عادة البلغاء أن يكرر أحدهم في آخر خطبته أو قصيدته كلمة لصفة زائدة.
الثانية: أن الرجل كان يسمع القصة من القرآن ثم يعود إلى أهله ثم يهاجر بعده آخرون يحكمون عنه ما نزل بعد صدور الاولين وكان أكثر من آمن به مهاجريا فلولا تكرر القصة لوقعت قصة موسى إلى قوم وقصة عيسى إلى آخرين وكذلك سائر القصص فأراد الله سبحانه وتعالى اشتراك الجميع فيها فيكون فيه إفادة القوم وزيادة [تأكيد وتبصرة]، لآخرين وهم الحاضرون وعبر عن هذا ابن الجوزي وغيره.
الثالثة: تسليته لقلب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مما اتفق للأنبياء مثله مع أممهم قال تعالى :{وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}.
الرابعة: أن إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة وأساليب مختلفة لا يخفى ما فيه من الفصاحة.
الخامسة: أن الدواعي لا تتوفر على نقلها كتوفرها على نقل الاحكام فلهذا كررت القصص دون الأحكام.

السادسة: أن الله تعالى أنزل هذا القرآن وعجز القوم عن الإتيان بمثل آية لصحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم بين وأوضح الأمر في عجزهم بأن كرر ذكر القصة في مواضع إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله بأي نظم جاءوا بأي عبارة عبروا، قال ابن فارس:" وهذا هو الصحيح".
السابعة: أنه لما سخر العرب بالقرآن قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} وقال في موضع آخر: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ} ،فلو ذكر قصة آدم مثلا في موضع واحد واكتفى بها لقال العربي بما قال الله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ}إيتونا أنتم بسورة من مثله فأنزلها سبحانه في تعداد السور دفعا لحجتهم من كل وجه.
الثامنة: أن القصة الواحدة من هذه القصص كقصة موسى مع فرعون وإن ظن أنها لا تغاير الأخرى فقد يوجد في ألفاظها زيادة ونقصان وتقديم وتأخير وتلك حال المعاني الواقعة بحسب تلك الألفاظ فأن كل واحدة لا بد وأن تخالف نظيرتها من نوع معنى زائد فيه لا يوقف عليه إلا منها دون غيرها فكأن الله تعالى فرق ذكر ما دار بينهما وجعله أجزاء ثم قسم تلك الاجزاء على تارات التكرار لتوجد متفرقة فيها ولو جمعت تلك القصص في موضع واحد لأشبهت ما وجد الأمر عليه من الكتب المتقدمة من انفراد كل قصة منها بموضع كما وقع في القرآن بالنسبة ليوسف عليه السلام خاصة فاجتمعت في هذه الخاصية من نظم القرآن عدة معان عجيبة:.
منها: أن التكرار فيها مع سائر الألفاظ لم يوقع في اللفظ هجنة ولا أحدث مللا فباين بذلك كلام المخلوقين.
ومنها: أنه ألبسها زيادة ونقصانا وتقديما وتأخيرا ليخرج بذلك الكلام أن.

تكون ألفاظه واحدة بأعيانها فيكون شيئا معادا فنزهه عن ذلك بهذه التغييرات.
ومنها: أن المعاني التي اشتملت عليها القصة الواحدة من هذه القصص صارت متفرقة في تارات التكرير فيجد البليغ - لما فيها من التغيير- ميلا إلى سماعها لما جبلت عليه النفوس من حب التنقل في الأشياء المتجددة التي لكل منها حصة من الالتذاذ به مستأنفة.
ومنها: ظهور الأمر العجيب في أخراج صور متباينة في النظم بمعنى واحد وقد كان المشركون في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعجبون من اتساع الأمر في تكرير هذه القصص والأنباء مع تغاير أنواع النظم وبيان وجوه التأليف فعرفهم الله سبحانه أن الأمر بما يتعجبون منه مردود إلى قدرة من لا يلحقه نهاية ولا يقع على كلامه عدد، لقوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } وكقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ} الآية.
وقال القفال في تفسيره: ذكر الله في أقاصيص بني اسرئيل وجوها من المقاصد:.
أحدها: الدلالة على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه أخبر عنها من غير تعلم وذلك لا يمكن إلا بالوحي.
الثاني: تعديد النعم على بني إسرائيل وما من الله على أسلافهم من الكرامة والفضل كالنجاة من آل فرعون وفرق البحر لهم وما أنزل عليه في التيه من المن والسلوى وتفجر الحجر وتظليل الغمام.

الثالث إخبار الله نبيه بتقديم كفرهم وخلافهم وشقاوتهم وتعنتهم على الأنبياء فكأنه تعالى يقول إذا كانت هذه معاملتهم مع نبيهم الذي أعزهم الله به وأنقذهم من العذاب بسببه فغير بدع ما يعامله أخلافهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الرابع تحذير أهل الكتاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نزول العذاب بهم كما نزل بأسلافهم
وهنا سؤالان
أحدهما ما الحكمة في عدم تكرر قصة يوسف عليه السلام وسوقها مساقا واحدا في موضع واحد دون غيرها من القصص
والجواب من وجوه
الأول فيها من تشبيب النسوة به وتضمن الإخبار عن حال امرأة ونسوة افتتن بأبدع الناس جمالا وأرفعهم مثالا فناسب عدم تكرارها لما فيها من الإعضاء والستر عن ذلك وقد صحح الحاكم في مستدركه حديثا مرفوعا النهي عن تعليم النساء سورة يوسف
الثاني أنها اختصت بحصول الفرج بعد الشدة بخلاف غيرها من القصص فإن مآلها إلى الوبال كقصة إبليس وقوم نوح وقوم هود وقوم صالح وغيرهم فلما اختصت هذه القصة في سائر القصص بذلك اتفقت الدواعي على نقلها لخروجها عن سمت القصص
الثالث قاله الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني إنما كرر الله قصص الأنبياء وساق قصة يوسف مساقا واحدا إشارة إلى عجز العرب كأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهم

إن كان من تلقاء نفسي تصديره على الفصاحة فافعلوا في قصة يوسف ما فعلت في قصص سائر الأنبيا.
السؤال الثاني : أنه سبحانه وتعالى ذكر قصة قوم نوح وهود وصالح وشعيب ولوط وموسى في سورة الأعراف وهود والشعراء ولم يذكر معهم قصة إبراهيم وإنما ذكرها في سورة الأنبياء ومريم والعنكبوت والصافات.
والسر في ذلك أن تلك السور الأول ذكر الله فيها نصر رسله بإهلاك قومهم ونجاء الرسل وأتباعهم وهذه السور لم يقتصر فيها على ذكر من أهلك من الأمم بل كان المقصود ذكر الأنبياء وإن لم يذكر قومهم ولهذا سميت سورة الأنبياء فذكر فيها إكرامه للأنبياء وبدأ بقصة إبراهيم إذ كان المقصود ذكر كرامته الأنبياء قبل محمد وإبراهيم أكرمهم على الله وهو خير البرية وهو أب أكثرهم وليس هو أب نوح ولوط لكن لوط من أتباعه وأيوب من ذريته بدليل قوله تعالى في سورةالأنعام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ}.
وأما سورة العنكبوت فإنه سبحانه وتعالى ذكر فيها امتحانه للمؤمنين نصره لهم وحاجتهم إلى الجهاد وذكر فيها حسن العاقبة لمن صبر وعاقبة من كذب الرسل فذكر قصة إبراهيم لأنها من النمط الأول.
وكذلك في سورة الصافات قال فيها: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأَوَّلِينَ. وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} ،وهذا يقتضي أنها عاقبة رديئة، إما بكونهم غلبوا وذلوا وإما بكونهم أهلكوا ولهذا ذكر قصة إلياس دون غيرها ولم يذكر إهلاك قومه بل قال: {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}.

وقد روى أن الله رفع إلياس وهذا يقتضي عذابهم في الآخرة فإن إلياس لم يقم بينهم وإلياس المعروف بعد موسى من بني إسرائيل وبعد موسى لم يهلك المكذبين بعذاب الاستئصال وبعد نوح لم يهلك جميع النوع وقد بعث الله في كل أمة نذيرا والله سبحانه لم يذكر عن قوم إبراهيم أنهم أهلكوا كما ذكر ذلك عن غيرهم بل ذكر أنهم ألقوه في النار فجعلها بردا وسلاما وفي هذا ظهور برهانه وآياته حيث أذلهم ونصره {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} وهذا من جنس المجاهد [الذي يعرض عدوه والقصص الأول من جنس المجاهد الذي] قتل عدوه، وإبراهيم بعد هذا لم يقم بينهم بل هاجر وتركهم وأولئك الرسل لم يزالوا مقيمين بين أظهرهم حتى هلكوا ولم يوجد في حق إبراهيم سبب الهلاك وهو إقامته فيهم وانتظار العذاب النازل وهكذا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع قومه لم يقم فيهم بل خرج عنهم حتى أظهره الله عليهم بعد ذلك ومحمد وإبراهيم أفصل الرسل فإنهم إذا علموا حصل المقصود وقد يتوب منهم من تاب كما جرى لقوم يونس فهذا والله أعلم هو السر في أنه سبحانه لم يذكر قصة إبراهيم مع هؤلاء لأنها ليست من جنس واقعتهم.
فإن قيل: فما وجه الخصوصية بمحمد وإبراهيم بذلك؟.
فالجواب: أما حالة إبراهيم فكانت إلى الرحمة أميل فلم يسع في هلاك قومه لا بالدعاء ولا بالمقام ودوام إقامة الحجة عليهم وقد قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} ،وكان كل قوم يطلبون هلاك نبيهم فعوقبوا وقوم إبراهيم وإن أوصلوه إلى العذاب لكن جعله الله عليه بردا وسلاما،.

ولم يفعلوا بعد ذلك ما يستحقون به العذاب إذ الدنيا ليس دار الجزاء العام وإنما فيها من الجزاء ما تحصل به الحكمة والمصلحة كما في العقوبات الشرعية فمن أرادوا عداوة أحد من أتباع الأنبياء ليهلكوه فعصمه الله وجعل صورة الهلاك نعمة في حقه ولم يهلك أعداءه بل أخزاهم ونصره فهو أشبه بإبراهيم عليه السلام إذ عصمه الله من كيدهم وأظهره حتى صارت الحرب بينهم وبينه سجالا ثم كانت له العاقبة فهو أشبه بحال محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن محمدا سيد الجميع وهو خليل الله كما أن إبراهيم عليه السلام خليله والخليلان هما أفضل الجميع وفي طريقهما من الرأفة والرحمة ما ليس في طريق غيرهما ولم يذكر الله عن قوم إبراهيم ذنبا غير الشرك وكذلك عن قوم نوح وأما عاد فذكر عنهم التجبر وعمارة الدنيا وقوم صالح ذكر عنهم الاشتغال بالدنيا عن الأنبياء وأهل مدين الظلم في الاموال مع الشرك وقوم لوط استحلال الفاحشة ولم يذكر أنهم أقروا بالتوحيد بخلاف سائر الامم وهذا يدل على أنهم لم يكونوا مشركين وإنما كان دينهم استحلال الفاحشة وتوابع ذلك، وكانت عقوبتهم أشد.
وهذه الأمور تدل على حكمة الرب وعقوبته لكل قوم بما يناسبهم ولما لم يكن في قوم نوح خير يرجى غرق الجميع. والله المستعان.
فتأمل هذا الفصل وعظم فوائده وتدبر حكمته فإنه سر عظيم من أسرار القرآن العظيم كقوله تعالى: { أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} ، فأعاد ذكر الأنهار مع كل صنف، وكان يكفي أن يقال فيها: أنهار من ماء، ومن لبن، ومن خمر، ومن.

عسل. لكن لما كانت الأنهار من الماء حقيقة وفيما عدا الماء مجازا للتشبيه فلو اقتصر على ذكرها مع الماء وعطف الباقي عليه لجمع بين الحقيقة والمجاز.
فإن قلت: فهلا أفرد ذكر الماء وجمع الباقي صيغة واحدة ؟قيل: لو فعل ذلك لجمع بين محامل من المجاز مختلفة في صيغة واحدة وهو قريب في المنع من الذي قبله.
فائدة في صنيعهم عند استثقال تكرار اللفظ.
قد يستثقلون تكرار اللفظ فيعدلون لمعناه، كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} فإنه لما أعيد اللفظ غير فعّل إلى أفعل فلما ثلث ترك اللفظ أصلا، فقال: "رويدا".
وقوله تعالى: { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً}ثم قال:{إِمْرًا}.
قال الكسائي:" معناه شيئا منكرا كثير الدهاء من جهة الإنكار، من قولهم: أمر القوم إذا كثروا".
قال الفارسي:" وأنا أستحسن قوله هذا ".
وقوله تعالى: {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} ، قال الفارسي:" { وَرَاءَكُمْ } في موضع فعل الأمر أي تأخروا والمعنى ارجعوا تأخروا فهو تأكيد وليست ظرفا لأن الظروف لا يؤكد بها".
وإذا تكرر اللفظ بمرادفة جازت الإضافة كقوله تعالى: {عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ

أَلِيمٌ} والقصد المبالغة أي عذاب مضاعف وبالعطف كقوله تعالى :{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} وقوله :{فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا}.
القسم الخامس عشر: الزيادة في بنية الكلمة.
واعلم أن اللفظ إذا كان على وزن من الأوزان ثم نقل إلى وزن آخر أعلى منه فلا بد أن يتضمن من المعنى أكثر مما تضمنه أولا لأن الألفاظ أدلة على المعاني فإذا زيدت في الإلفاظ وجب زيادة المعاني ضرورة.
ومنه قوله تعالى :{فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} ،فهو أبلغ من [قادر] لدلالته على أنه قادر متمكن القدرة لا يرد شيء عن اقتضاء قدرته ويسمى هذا قوة اللفظ لقوة المعنى.
وكقوله تعالى :{وَاصْطَبِرْ} فإنه أبلغ من الأمر بالصبر من[ أصبر ].
وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لأنه لما كانت السيئة ثقيلة وفيها تكلف زيد في لفظ فعلها.
وقوله تعالى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا} ،فإنه أبلغ من [ يتصارخون ].
وقوله تعالى: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا} ولم يقل:[ وكبوا ] قال الزمخشري: والكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى

في جهنم [ ينكب ] كبة مرة بعد أخرى حتى يستقر في قعرها اللهم أجرنا منها خير مستجار!.
وقريب من هذا قول الخليل في قول العرب: صر الجندب وصرصر البازي كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة فقالوا: صر صريرا فمدوا وتوهموا في صوت البازي تقطيعا فقالوا: صرصر.
ومنه الزيادة بالتشديد أيضا، فإن[ ستارا ]و [ غفارا ] أبلغ من [ ساتر ] [ وغافر ]ولهذا قال تعالى :{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } ،ومن هذا رجح بعضهم معنى [الرحمن] على معنى [الرحيم] لما فيه من زيادة البناء وهو الألف والنون وقد سبق في السادس.
ويقرب منه التضعيف - ويقال التكثير - وهو أن يؤتى بالصيغة دالة على وقوع الفعل مرة بعد مرة. وشرطه أن يكون في الأفعال المتعدية قبل التضعيف وإنما جعله متعديا تضعيفه ولهذا رد على الزمخشري في قوله تعالى :{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} حيث جعل [نزلنا] هنا للتضعيف.
وقد جاء التضعيف دالا على الكثرة في اللازم قليلا نحو موت المال.
وجاء حيث لا يمكن فيه التكثير، كقوله تعالى :{لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}.{لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً}.
فإن قلت :{فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} مشكل على هذه القاعدة لأنه إذا كان [فعّل] للتكثير، فكيف جاء [قليلا] نعتا لمصدر [متّع] وهذا وصف كثير بقليل وإنه ممنوع.

قلت: وصفت بالقلة من حيث صيرورته إلى نفاد ونقص وفناء.
واعلم أن زيادة المعنى في هذا القسم مقيد بنقل صيغة الرباعي غير موضوعة لمعنى فإنه لا يراد به ما أريد من نقل الثلاثي إلى مثل تلك الصيغة، فقوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} ،لا يدل على كثرة صدور الكلام منه لأنه غير منقول عن ثلاثي.
وكذا قوله {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} يدل على كثرة القراءة على هيئة التأني والتدبر.
وكذا قوله تعالى :{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ} ،ليس النفي للمبالغة بل نفي أصل الفعل.
القسم السادس عشر: التفسير
وتفعله العرب في مواضع التعظيم كقوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} قال البيهقي في شرح الأسماء الحسنى:" قرأت في تفسير الجنيدي أن قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} ، تفسير للقيوم.
وقوله تعالى :{إِِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً} .
وقوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} فإن هذا تفسير للوعد.

وقوله تعالى :{وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} تفسير للوعد وتبيين له لا مفعول ثان فلم يتعد الفعل منها إلا إلى واحد.
وقوله تعالى :{إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} خلقه تفسير للمثل.
وقوله تعالى :{يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ} ،في [يُذَبِّحُونَ] وما بعده تفسير للسوم وهو في القرآن كثير.
قال أبو الفتح بن جنى: ومتى كانت الجملة تفسيرا لم يحسن الوقف على ما قبلها دونها لأن تفسير الشيء لاحق به ومتمم له وجار مجرى بعض أجزائه كالصلة من الموصول والصفة من الموصوف وقد يجيء لبيان العلة والسبب كقوله تعالى :{فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} ،وليس هذا من قولهم وإلا لما حزن الرسول وإنما يجيء به لبيان السبب في أنه لا يحزنه قولهم.
وكذلك قوله: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً}.
ولو جاءت الايتان على حد ما جاء قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ،لكانت [ أن ] مفتوحة، لكنها جاءت على حد قوله .....

فائدة.
قيل: الجملة التفسيرية لا موضع لها من الإعراب. وقيل: يكون لها موضع، إذا كان للمفسر موضع ويقرب منها ذكره تفصيلا، كما سبق في قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً}.
ومثل: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}.
القسم السابع عشر: خروج اللفظ مخرج الغالب.
كقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ} ،فإن الحجر ليس بقيد عند العلماء، لكن فائدة التقييد تأكيد الحكم في هذه الصورة مع ثبوته عند عدمها، ولهذا قال بعده: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ولم يكن في حجوركم] فدل على أن الحجر خرج مخرج العادة.
واعترض بأن الحرمة إذا كانت بالمجموع فالحل يثبت بانتفاء المجموع والمجموع ينتفي بانتفاء جزئه كما ينتفي بانتفاء كل فرد من المجموع.
وأجيب بأنه إذا نفي أحد شطري العلة كان جزء العلة ثابتا فيعمل عملها.
فإن قيل: لما قال :{مِنْ نِسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} قال في الآية بعدها:.

{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} علم من مجموع ذلك أن الربيبة لا تحرم إذا لم يدخل بأمها، فما فائدة قوله تعالى :{فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ؟ .
قيل: فائدته: ألا يتوهم أن قيد الدخول خرج مخرج الغالب لا مخرج الشرط كما في الحجر المفهوم إذا خرج مخرج الغالب فلا تقييد فيه عند الجمهور خلافا لإمام الحرمين والشيخ عز الدين بن عبد السلام والعراقي حيث قالوا: إنه ينبغي أن يكون حجة بلا خلاف إذا لم تغلب لأن الصفة إذا كانت غالبة دلت العادة عليها فاستغنى المتكلم بالعادة عن ذكرها فلما ذكرها مع استغنائه عنها دل ذلك على أنه لم يرد الإخبار بوقوعها للحقيقة بل ليترتب عليها نفي الحكم من المسكوت أما إذا لم تكن غالبة أمكن أن يقال: إنما ذكرها ليعرف السامع أن هذه الصفة تعرض لهذه الحقيقة.
ومنه قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ}.
وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}، وجوزوا أن الرهن لا يختص بالسفر لكن ذكر لأن فقد الكاتب يكون فيه غالبا فلما كان السفر مظنة إعواز الكاتب والشاهد الموثوق بهما أمر على سبيل الإرشاد بحفظ مال المسافرين بأخذ الوثيقة الأخرى، وهي الرهن.
وقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ} ، والقصر جائز مع أمن السفر لأن ذلك خرج مخرج الغالب لا الشرط وغالب أسفار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه لم تخل من خوف العدو.
ومنهم من جعل الخوف هنا شرطا إن حمل القصر على ترك الركوع والسجود والنزول.

عن الدابة والاستقبال ونحوه لا في عدد الركعات لكن ذلك شدة خوف لا خوف وسبب النزول لا يساعده.
وكقوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}
القسم الثامن عشر: القسم
وهو عند النحويين جملة يؤكد بها الخبر، حتى إنهم جعلوا قوله تعالى :{وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} قسما وإن كان فيه إخبار إلا أنه لما جاء توكيدا للخبر سمى قسما.
ولا يكون إلا باسم معظم كقوله: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ}.
وقوله: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ}.
وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
وقوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ}.
وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ}.
فهذه سبعة مواضع أقسم الله فيها بنفسه والباقي كله أقسم بمخلوقاته.

كقوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}.
{فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ. الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}.
وإنما يحسن في مقام الإنكار.
فإن قيل: ما معنى القسم منه سبحانه ؟ فإنه إن كان لأجل المؤمن فالمؤمن يصدق مجرد الاخبار، وإن كان لأجل الكافر فلا يفيده.
فالجواب: قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: إن الله ذكر القسم لكمال الحجة وتأكيدها وذلك أن الحكم يفصل باثنين: إما بالشهادة وإما بالقسم، فذكر تعالى النوعين حتى يبقى لهم حجة.
وقوله: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وعن بعض الأعراب أنه لما سمع قوله تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} صاح وقال: من الذي أغضب الجليل حتى ألجأه إلى اليمين؟ قالها ثلاثا ثم مات.
فإن قيل: كيف أقسم بمخلوقاته وقد ورد النهي علينا ألا نقسم بمخلوق؟ قيل: فيه ثلاثة أجوبة:.
أحدها: أنه حذف مضاف أي ورب الفجر ورب التين وكذلك الباقي.
والثاني: أن العرب كانت تعظم هذه الاشياء وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون.

والثالث: أن الاقسام إنما تجب بأن يقسم الرجل بما يعظمه أو بمن يجله وهو فوقه والله تعالى ليس شيء فوقه فأقسم تارة بنفسه وتارة بمصنوعاته لأنها تدل على بارىء وصانع واستحسنه ابن خالويه.
وقسمه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {لَعَمْرُكَ} ليعرف الناس عظمته عند الله، ومكانته لديه قال الأستاذ أبو القاسم القشيري: في[ كنز اليواقيت ]: والقسم بالشيء لايخرج عن وجهين: إما لفضيلة أو لمنعفة، فالفضيلة كقوله تعالى: {وَطُورِ سِينِينَ. وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} والمنفعة نحو: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}.
وأقسم سبحانه بثلاثة أشياء:.
أحداها : بذاته، كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}. {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}.
والثاني: بفعله، نحو: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا. وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا. وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}.
والثالث: مفعوله، نحو: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}.{وَالطُّورِ وَكِتَابٍ. مَسْطُورٍ}.
وهو ينقسم باعتبار آخر إلى مظهر ومضمر:
فالمظهر : كقوله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} ونحوه

والمضمر: على قسمين: قسم دلت عليه لام القسم، كقوله: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} وقسم دل عليه المعنى، كقوله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} تقديره:[والله].
وقد أقسم تعالى بطوائف الملائكة في أول سورة الصافات والمرسلات والنازعات.
فوائد.
الأولى: أكثر الأقسام المحذوفة الفعل في القرآن لا تكون إلا بالواو فإذا ذكرت الباء أتى بالفعل كقوله تعالى :{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ}{يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ}. ولا تجيء الباء والفعل محذوف إلا قليلا وعليه حمل بعضهم قوله :{يَا بُنَيَّ

لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} وقال: الباء باء القسم، وليست متعلقه بـ [تشرك] وكأنه يقول: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ} ثم ابتدأ فقال: {بِاللَّهِ} لا تشرك وحذف {لا تُشْرِكْ} لدلالة الكلام عليه: وكذلك قوله: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} قيل: إن قوله: [بما عهد] قسم والاولى أن يقال: إنه سؤال لا قسم.
وقوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ} فتقف على [لي] وتبتدىء بحق فتجعله قسما.
هذا مع قول النحويين: إن الواو فرع الباء، لكنه قد يكثر الفرع في الاستعمال ويقل الأصل.
الثانية: قد علمت أن القسم إنما جيء به لتوكيد المقسم عليه فتارة يزيدون فيه للمبالغة في التوكيد وتارة يحذفون منه للاختصار وللعلم بالمحذوف.
فما زادوه لفظ [إي] بمعنى [نعم] كقوله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي}
ومما يحذفونه فعل القسم وحرف الجر ويكون الجواب مذكورا كقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ} أي [والله].
وقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ} { لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ} {لَيُسْجَنَنَّ وَلِيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ}.
وقد يحذفون الجواب ويبقون القسم للعلم به كقوله تعالى: {ص وَالْقُرْآنِ

ذِي الذِّكْرِ} على أحد الأقوال أن الجواب حذف لطول الكلام وتقديره: "لأعذبنهم على كفرهم".
وقيل: الجواب إن ذلك لحق.
ومما حذف فيه المقسم به قوله تعالى : {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} أي نحلف إنك لرسول الله لأن الشهادة بمعنى اليمين بدليل قوله: {أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً}
وأما قوله تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} ، فالأول قسم بمنزلة، [والحق] وجوابه: [لأملأن]، وقوله :{وَالْحَقَّ أَقُولُ} توكيد للقسم.
وأما قوله: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} ، ثم قال :{قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} قالوا: وهو جواب القسم وأصله: [لقد قتل] ثم حذف اللام وقد.
الثالثة: قال الفارسي في الحجة الألفاظ: الجارية مجرى القسم ضربان:.
أحدهما: ما تكون جارية كغيرها من الأخبار التي ليست بقسم فلا تجاب بجوابه، كقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}،{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}،{فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ}، فهذا ونحوه يجوز أن يكون قسما وأن يكون حالا لخلوه من الجواب.
والثاني: ما يتعلق بجواب القسم، كقوله تعالى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا

الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ} {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ }.
الرابعة: القسم والشرط، يدخل كل منهما على الآخر، فإن تقدم القسم ودخل الشرط بينه وبين الجواب كان الجواب للقسم وأغنى عن جواب الشرط وإن عكس فبالعكس وأيهما تصدر كان الاعتماد عليه والجواب له.
ومن تقدم القسم قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} ، تقديره: [والله لئن لم تنته] فاللام الداخلة على الشرط ليس بلام القسم ولكنها زائدة وتسمى الموطئة للقسم ويعنون بذلك أنها مؤذنة بأن جواب القسم منتظر أي الشرط لا يصلح أن يكون جوابا لأن الجواب لا يكون إلا خبرا.
وليس دخولها على الشرط بواجب بدليل حذفها في قوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والذي يدل على الجواب للقسم لا للشرط دخول اللام فيه وأنه ليس بمجزوم بدليل قوله تعالى :{لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ} ولو كان جواب الشرط لكان مجزوما.
وأما قوله تعالى: {وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ} ،فاللام في [ولئن] هي الموطئة للقسم واللام في {لإِلَى اللَّهِ} هي لام القسم ولم تدخل نون التوكيد على الفعل للفصل بينه وبين اللام بالجار والمجرور. والأصل:[ لئن متم أو قتلتم لتحشرون إلى الله ] فلما قدم معمول الفعل عليه حذف منه.

القسم التاسع عشر:إبراز الكلام في صورة المستحيل على طريق المبالغة ليدل على بقية جمله.
كقول العرب: لا أكلمك حتى يبيض القار وحتى يشيب الغراب وكقوله تعالى :{وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، يعنى والجمل لا يلج في السم، فهؤلاء لا يدخلون فهو في المعنى متعلق بالحال فالمعنى أنهم لا يدخلون الجنة أصلا وليس للغاية هنا مفهوم ووجه التأكيد فيه كدعوى الشيء ببينه لأنه جعل ولوج الجمل في السم غاية لنفي دخولهم الجنة وتلك غاية لا توجد فلا يزال دخولهم الجنة منتفيا.
وغالي بعض الشعراء في وصف جسمه بالنحول فجاء بما يزيد على الآية فقال ولو أن ما بي من جوى و